الإنسان المعاصر ونزعة الاستهلاك التنافسي


فئة :  مقالات

الإنسان المعاصر ونزعة الاستهلاك التنافسي

الإنسان المعاصر ونزعة الاستهلاك التنافسي

يوسف هريمة

يحق لنا أن نتساءل، كيف تحول الإنسان المعاصر في جزء كبير منه إلى أداة استهلاكية لا قيمة لها إلا بمقدار ما تستهلكه وليس ما تنتجه؟.

لا بد ونحن نلتمس الإجابة عن هذا السؤال، أن نؤكد أن ثقافة الاستهلاك كانت ولا زالت مؤشّرا على قدرتنا على التبادل وتطوير معاملاتنا وتنمية أشكال اقتصاداتنا. ولكن هذا المصطلح أخذ أبعادا جديدة في ظل النظام العالمي المعاصر، وفي ظل أنساق فكرية يسميها العالم والفيلسوف البولندي زيجمونت باومان بالحياة السائلة والثقافة السائلة والحداثة السائلة والمراقبة السائلة، وغيرها من الكتابات التي تناقش وضع الإنسان المعاصر، وموقعته في سياقات جديدة، وبعيدة كل البعد عن الأنماط السابقة. حسب هذا الطرح الفكري، تمثل الحداثة وضعية أو مرحلة الصلابة، في حين أن هذه المرحلة تم تجاوزها في مرحلة ما بعد الحداثة، لتبدأ مرحلة جديدة من السيولة. مرحلة تذيب كل الصلابة التي ميزت المرحلة السابقة، كما أنها مرحلة يقف فيها الإنسان المعاصر وقفة مختلفة في سعيه الحثيث إلى التحديث، والتطوير، والتقدم، مما أفقد الأشياء صورتها وطبيعتها ورونقها وجمالها فلم تعد تحتفظ بأي شكل يذكر لها بما في ذلك شكل ثقافاتنا وأفكارنا ومعتقداتنا.

فالثقافة نفسها في زمن السيولة لم تعد الثقافة في صلابتها وفي صورتها الأولى، حيث بدأت الثقافة السائلة تتبنى سياسة الإغراء والإغواء والشهرة بدلًا من أن تركز حمولاتها على قيم التنوير، والاستنارة، والعقلانية، وتطوير الذات إلى حيث يرتقي الإنسان بفكره وعقله وأنماط تفكيره. كما أن الثقافة في هذه الحالة تتحول إلى نشاطً مفتوح لا نهاية له لا يشبع الحاجات القائمة، ولا يحقق الأهداف يمنع الفرد والجماعات من أي شعور يمكنهم من الرضا على أنفسهم وذواتهم أو وجودهم الذاتي والجماعي فيتحولون بذلك إلى جماعات رافضة شاكية لا يملأ عقلها شيء.

لنعد إلى موضوعنا الرئيس، ونطرح التساؤل التالي سبق أن طرحه جوليث شور في مقالة له بعنوان. يقول الكاتب ما هو الخطأ الذي حدث في المجتمع الاستهلاكي؟ فعلى الرغم من أن بيانات استطلاع الرأي التي تم إجراؤها تشير إلى أن هناك استياء قويا من جانب الرأي العام فيما يخص الاستهلاك المتزايد للمجتمع الأمريكي، باعتباره أحد المجتمعات المجسدة للمجتمع الاستهلاكي، إلا أن جميع المناقشات ضد المجتمع الاستهلاكي قد فشلت في الحصول على تأييد شعبي ضد هذا المجتمع. بالنسبة إلى رجال الاقتصاد الجواب عن سؤال مثل: ماذا حدث في المجتمع الاستهلاكي؟ يكون دوما هو لا شيء. فالاستهلاك ليس مشكلة في حد ذاتها، بل على العكس تماما فالاستهلاك وسيلة لتحقيق الرضا والرفاهية والمتعة، وهو اتجاه في معظمه يؤكد على الخصائص الوظيفية والنفعية للسلع والخدمات.

هذا فقط جزء من المشهد والصورة، ولكن ما نريد التأكيد عليه أيضا وله علاقة وطيدة بقضية الاستهلاك، هو أن هذا الاستهلاك لم يعد يعكس فقط التفاوت في البنية الاجتماعية فقط، لكنه أيضا يعيد وبشكل حثيث التأكيد عليها مرة أخرى. فمثلا الظهور بمظهر أنيق، وشراء أحدث الموضات من سيارات وعطور وحلي كلها وسائل للانتماء لمجموعة اجتماعية تحظى بقيمة اعتبارية ورمزية داخل المجتمع، لكن هذه الأمور كلها أيضا سعي لاشعوري نحو المحافظة على هذا الشكل أو تلك الصورة. معنى هذا الكلام أن الإنفاق والاستهلاك في المجتمعات المعاصرة أصبح محددا لنوع الطبقة التي ينتمي إليها الإنسان المعاصر. لم يكن هذا الهاجس مطروحا بشكل كبير في المجتمعات القديمة، فقد كانت الوضعية الاجتماعية، والمكانة الاعتبارية تتحدد بمواصفات أخرى لا دخل للإنفاق فيها، كالتاريخ، ومكان الولادة، والأسرة، والقبيلة. أما في المجتمعات الحديثة، ونحن جزء منها بسبب العولمة، وانفتاح العالم على إمكانات أخرى، فقد أصبح للإنفاق دورا مركزيا في تحديد المكانة الاجتماعية وتحديد الهوية الذاتية للأشخاص. لهذا نجد الإنسان يركز دوما على كل مظاهر الإنفاق في أشكالها الحديثة كالإنفاق على التعلم الحديث، وشراء كل ما يستجد في عالم الموضة. لأن الإنسان المعاصر أصبح يدرك بشكل كبير، وهي قيم اكتسبها من مجتمعه، أو المجتمعات التي تفاعل معها وتواصل معها، أن ما ترتدي أو ما لا ترتدي يحدد من أنت، ويحدد مكان وجودك على الخريطة الاجتماعية. ما يهم هنا كما أن في هذه الحياة من الأشياء ما يمكن السعي إلى اكتسابه، أو اكتشافه والاستمتاع به، فإن فيها ما يمكن الاستغناء عنه كذلك، وهذا هو الغنى. لكن ما الذي يجعلنا نركز على السعي ونهمل الاستغناء؟. يجيبنا آلان دو بوتون أن بيت القصيد في هذه الحياة هو مَن أنت؟، أمّا ماذا تفعل فنادرًا ما يُلتفت إليه.

هكذا أصبح الانتماء إلى طبقة معينة، أو إلى مكانة اجتماعية معينة يعني استهلاك مجموعة من السلع، والخدمات التي قد تكون ضرورية وقد لا تكون. والذي يجب الانتباه إليه هنا هو أن في العالم المعاصر هناك عملية دينامية يتم داخلها تحديث هذه المجموعة وتوسيعها وتعديلها من السلع والخدمات، ويشار إلى هذه العملية في الاقتصاد باستهلاك الوضع، أو استهلاك المكانة، أو الاستهلاك النسبي، أو بتعبير جوليث شور بالاستهلاك التنافسي؛ معنى ذلك أن تحقيق الاستهلاك لمبدأ الرفاهية والرضا لا يتم هنا على أساس مستواه المطلق، فعلى العكس من ذلك تتغير المعايير والمقاييس في عالم اليوم، فيصبح الاستهلاك يحقق ذلك من خلال المستوى الذي حققه الآخرون، وهنا خطورة الأمر. فيتحول هنا الآخر أو الآخرون بشكل عام فيما يسميه علماء الاجتماع بالنقطة المرجعية. فمثلا حينما يحصل صديقي العمل على سيارة من النوع الرفيع، فإنني أشعر بأن مستوى رفاهيتي قد انخفضت وأنا أركب على سيارة أقل بكثير من هذا النوع. وأدخل هنا حالة من التنافس الشرس، وهو لكي أجعل مستوى رفاهيتي يرتفع نسبيا ليعادل شعور الآخرين فيجب علي أن أشتري نفس المنتوج في أحسن الأحوال، وربما قد أتجاوز كل ذلك، وأشتري أحسن منه كي يشعر هو الآخر بنفس ما شعرت به. وبشكل عام يصبح امتلاك المنتجات شيئا عاما عندما يحاول الناس تغيير الانخفاض في مستوى رفاهيتهم الذي نشأ عن فشلهم في امتلاك منتجات جديدة إلى الاتجاه العكسي. وهكذا تكثر المنتجات وتنتشر بشكل أكبر وأوسع بين جميع فئات المجتمع.

وفي بداية الثمانينيات من القرن الماضي، أخذت الأمور تتوسع بشكل آخر وظهر نوع آخر من التنافس، وهو ما يسمى بالنزعة الاستهلاكية الجديدة، وهو وضع استهلاكي عدواني أكثر منه دفاعي وهنا يكمن خطره؛ أي داخل هذا النسق الاستهلاكي أصبح الناس هنا يتطلعون إلى مواكبة والتشبه بالطبقة الأعلى في التسلسل الهرمي الاقتصادي، فأصبح مثلا بيل غيتس هو الشخصية الأكثر تطلعا لمحاكاتها. ومن الأسباب الرئيسة لهذا الوضع، هو تراجع دور الجيران كمجموعة مرجعية لدى الفئات المتوسطة، ولأن الناس لم يعودوا يزورون جيرانهم، أو على الأقل انخفضت نسبة تواصلهم مع محيطهم القريب حل التلفزيون بديلا عن ذلك، وأصبحت النماذج تؤخذ من هذا الفيلم أو ذاك البرنامج، من هذا الفنان، أو تلك الفنانة.