الاعتراف والذّاكرة: تعرّف الماضي واستشراف المستقبل


فئة :  مقالات

الاعتراف والذّاكرة: تعرّف الماضي واستشراف المستقبل

الاعتراف والذّاكرة: تعرّف الماضي واستشراف المستقبل*


تمهيد:

يأخذ السؤال الكانطي: "ما الإنسان"؟ وراء ما هو سياسي وإيديولوجي وفكري، بعداً استراتيجياً عميقاً كلّما كانت هناك أزمة اعتراف بين الذات والآخر ناتجة عن ظروف سياسية وتاريخية واجتماعية، لكأنّ هذا السؤال لم يغب بغياب صاحبه، بل ظلّ موجوداً لكن بلا جواب نهائي وفاصل.

في هذا السياق، يعتقد الفيلسوف الفرنسي بول ريكور أنّ المهمة التي ينبغي على الفلسفة أن تضطلع بها هي: فهم وتفهّم الإنسان كمشروع يتناغم فيه الجانب العقلي مع الجانب العملي مع الجانب العاطفي، لأنه إذا كان الإنسان بسيطاً في حيويته؛ حيث استطاعت البيولوجيا والعلوم الطبية أن تفك أغلب أسرار هذا الجانب، فإنّه معقد ومستشكل في نفسيته وإنسانيته، لذلك سلّطت فلسفة ريكور الضوء على جوانب مظلمة وهشة في تكوين الإنسان، ولم تهمل حتى الحديث عن الجانب الثيولوجي والميثولوجي فيه. وفعلاً استطاع أن يقدّم إلى حد بعيد بعض التجارب العميقة عن الإنسان ضمن فلسفة الإرادة، من قبيل: العبودية والإثم والاغتراب، هذا بلغة دينية. أما من زاوية أنثربولوجية وبلغة فينومينولوجية، فقد استعاض عن الكوجيطو المفكر بكوجيطو مجروح، وعن الكوجيطو المجروح بكوجيطو قادر، تتحدّد هذه القدرة أساساً في القول والفعل والسرد والتذكر.

تشكل القدرة الأخيرة ـ الذاكرة ـ إلى جانب قدرة الاعتراف إشكالية قصوى ضمن فسيفساء الخطاب الفلسفي والتاريخي والسياسي والثقافي ككل، وإن كان كلّ خطاب يقارب هذه المسألة بأدوات معرفية مختلفة، لاسيما وأنّ الدارس لمشكلة الاعتراف كقيمة خلقية في الفكر الإنساني عامة، والفكر الفلسفي بصفة خاصّة يلاحظ أنّ هذا الفكر يفتقد تصوّراً نظرياً لسؤال الاعتراف مقارنة بالسؤال المعرفي، إذ لا يعثر إلا على إجابة واحدة حصر مجالها في القالب البراكسيسي للإنسان.

وإذ تنبثق أهميّة البحث في هذه المشكلة من حجم الصراع الفكري والدموي بين الإنسان والإنسان، فإنّ ثقافة الاعتراف تمثل يقظة متأخرة لمراجعة التاريخ الإنساني، وما اكتظّ به من فظائع وآلام، انطلاقاً من أنّ الاعتراف بنيّة فكريّة للذات من شأنها قلب تكوين الذات نفسه، فتجعل من تقدير الذات لذاتها صورة من صور الاعتراف بالآخر، باعتباره الخارج الذي يقيم داخل ثنايا الأنا، وباعتبار الأنا هي التي تشكل جغرافية الأنت.

وحيث تبلغ إشكالية الاعتراف ذروتها مرتين: مرّة مع الذاكرة، ومرّة مع الوعد؛ الأولى بما هي تراجع نحو الماضي؛ والثانية بما هي ترقب واستباق نحو المستقبل، فإنّ السؤال الذي يفرض نفسه منهجياً وفلسفياً لا يخرج عن فحوى العلاقة بين الذاكرة والاعتراف: إذ كيف يسهم تعرّف صور الماضي في الاعتراف بالذات أولاً؛ فالاعتراف بالآخر ثانياً؟ ثمّ كيف يسهم الاعتراف الذي بني على صور الماضي في رسم واشتراع المستقبل؟

أولا- الاعتراف والتعرّف:

يجزم ريكور بما لا يدع مجالاً للشكّ، أنه لا وجود لنظرية في الاعتراف توازي تلك التي نلتقي بها في المعرفة، لذلك يتحدّث عن مسار وليس عن نظرية، وهو ما أوجزه عنوان آخر كتبه "مسارات الاعتراف" الذي مثل باكورة أعماله، بل اجتمع له في هذا العمل ما قد تفرّق في شتات الأعمال السابقة.

غير أنّ الفراغ الذي خلّفه السؤال الفلسفي حول الاعتراف يسدّه الاتساق المعجمي رغم كثرة معاني اللفظة؛ معانٍ تبتدئ بالاعتراف من زاوية التعريف الذي يتعلّق بالهويّة، لتنتقل هذه الدّلالات بعد ذلك من الاعتراف بالذات الذي مرجعه الذات ذاتها، إلى الاعتراف المتبادل الذي مرجعه الذات والآخر، وأخيراً تبلغ هذه المعاني ذروتها في معنى العرفان الذي يحمل دلالات الامتنان والشكر.

وفي مقارنة يعقدها ريكوربين معجمين يفصل بينهما قرن من الزمن هما: "قاموس اللسان الفرنسي" dictionnaire de la langue française لإميل ليتريÉmile Littré و"روبار الكبير للسان الفرنسي" Grand Robert de la langue française، يحاول أن يستشفّ دلالات الاعتراف، لعلّ أولى هذه الدلالات التي تحظى بالسبق هي تلك التي تصدّرها اشتقاق تعرّف انطلاقاً من عرف وذلك عبر الحرف "re" الذي يفيد التكرار. وتعرّف بمعنى استحضر بالفكر أحداً أو شيئاً كان يعرفه، كأنّ الاعتراف هو معرفة تكراريّة للشخص أو للشيء[1]. يتراءى في حفريات هذه الكلمة أنّ القفز واقع من حال إلى حال من عرف connaître إلى اعترف reconnaître الذي يحمل دلالة القبول، ومن معرفة connaissance إلى اعتراف reconnaissance ومن تعارف إلى عرفان الذي يحمل دلالة الامتنان.

إنّ هذه الدلالات العائمة سرعان ما تتحدّد في برنامج ليتري في ثلاثة وعشرين معنى يوجزها ريكور في خمسة معانٍ:

-المعنى الذي يشير إلى الاستحضار.

-المعنى الذي يفيد التصديق.

-المعنى المتعلّق بالإقرار.

-المعنى الذي يوحي بالعرفان والامتنان.

-المعنى الذي لم يدركه قاموس ليتري هو الصراع la lutte، وهو المعنى الذي ذهب إليه هيغل Hegel. إذا كان هذا هو حال اللفظة عند ليتري، فإنّ روبار يحيل إلى معاني التحديد والتّعيين والرّبط، وإلى عمليات التذكر والحلم والفعل.[2]

بين استعمالات ليتري واستعمالات روبار تتحدّد معاني الاعتراف، وهذه المعاني لا تكاد تختلف عن تلك التي أوردها لالاند Lalande في موسوعته، إذا نحن استثنينا بعض التفاصيل، يشير لالاند إلى كلمتين للدلالة على الاعتراف:

- المصطلح الأول: recognition، والذي يترجم بالتعرّف أو الاعتراف، قد يحمل معنى الفكر الذي يجري من خلاله افتراض تمثل ما، أو معنى التوليف المعرفي، ويمكن أن يكون التعرّف هو ذاكرة ضمنيّة طالما أنّ موضوع الذكرى لا يمثلّ للوعي كتمثل حر.

- المصطلح الثاني: reconnaissance، ويترجم بالاعتراف أو العرفان ويحيل إلى معانٍ منها: الامتنان، أو الفعل الذي نقرّ من خلاله بحقّ ما، كما يوحي على مستوى الذاكرة بالتفرقة بين معاودة إنتاج الذكرى والاعتراف بها.[3]

أما من النّاحية الاصطلاحية، فيمكن التمييز في الاعتراف بين مستويين:

ـ المستوى المعرفي: حيث يشير الاعتراف إلى الفعل المعرفي الذي يربط بين تصوّر راهن وبين تصوّر آخر كان راهناً في الماضي من جهة، ومن جهة أخرى يفيد التحديد والتّعيين، واضح أنّ المعنى الأول يشير إلى الذاكرة، في حين يومئ المعنى الثاني إلى الهويّة.

ـ المستوى الأخلاقي: وله أبعاد سياسية واجتماعية، حيث يحيل إلى التّرابط والاتصال، فيكون حينها قوام الاعتراف التبادل، وهو المعنى الذي أصّل له هيغل.

ثانيا- الذاكرة والّتذكر:

يرجع ريكور اهتمامه بالذاكرة إلى ثلاثة اعتبارات: منها ما هو خاصّ متعلق بالإهمال الذي تركه كتاب "الزمان والسرد" وأيضا كتاب "الذاكرة، التاريخ والنسيان" حول موضوع الذاكرة؛ ومنها ما هو مهنيّ خاصّ بالأعمال والمؤتمرات المنعقدة حول التّاريخ والذاكرة؛ ومنها ما هو عامّ يعود إلى القلق الدائر حول الفائض من الذاكرة والنّسيان وحول إساءة استعمالهما، من هنا استوحى ريكور فكرة سياسة تقوم على ذاكرة عادلة[4]. وفي إطار تأسيسه لما أسماه فينومينولوجيا الذاكرة ميّز ريكور من البداية بين منهجين لدراسة مفهوم الذاكرة: الأول لغويّ تداوليّ يعتمد المعاجم والموسوعات؛ والثاني فلسفيّ معرفيّ يستند إلى التاريخ وممارسته، ولا يغني أحد المنهجين عن الآخر.

تدور فينومينولوجيا الذاكرة حول دلالة الأسئلة: ماذا؟ ومن؟ وكيف؟ لماذا هناك ذكرى؟ لمن هي الذاكرة؟ كيف لتكرر الذكريات أن يضمن ديناميكيّة التّذكر؟ وإنّ إعطاء الأولوية للسؤال ماذا؟ عن السؤال من؟ ليس اعتباطياً، بل هو مقصود، ذلك أنّ أسبقيّة السّؤال من؟ على السّؤال ماذا؟ سيجرّ الذاكرة إلى استعصاء عند الحديث عن مفهوم الذاكرة الجماعية، وبالفعل كما يقول ريكور: "الأولويّة التي أعطيت لفترة طويلة للسؤال من؟ كان من نتائجها السلبية جرّ الظاهرات الذاكرية إلى طريق مسدود، إن كان علينا إدخال مفهوم الذاكرة الجماعية، إن نحن قلنا سريعاً بأنّ موضوع الذاكرة هو الأنا بصيغة المتكلّم المفرد، فإنّ مفهوم الذاكرة الجّماعية لا يمكن أن يكون سوى ضمن مفهوم تماثليّ، بل ضمن جسم غريب في فينومينولوجيا الذاكرة".[5]

وتجنّباً للوقوع في مثل هذا الاستعصاء، يقترح ريكور البدء بالسؤال ماذا؟ بدلاً من السؤال من؟. ولتوضيح ذلك يعود إلى الإرث اليوناني، فيميّز بين الذكرى والذاكرة والتذكّر؛ فالكلمة mnémé* تعني لديّ ذكرى، أمّا الكلمة anamnésies، فتعني أنّي أبحث عن الذكرى. فما هي العلاقة بين الذكرى وممارسة البحث عنها؟ ما العلاقة بين السؤالين: ما معنى يتذكر؟ وما هي الذاكرة؟ في الواقع لديّ ذكرى أو أتذكر بمعنى أنّ الذاكرة تتبادر إلى الذهن، في هذه الحالة نحن نواجه الجانب المعرفي للذاكرة. أما البحث عن الذكرى، فهو الجانب العمليّ؛ أي إمكانية استخدام الذاكرة.[6]

إنّ الذكرى أقرب إلى الانفعال من جهة، ومن أخرى، هي موضوع لعملية الاستذكار والاسترجاع. وعليه تكون الذاكرة هي الموجود، وهي المفقود، لها جوانب دلاليّة وأخرى تداوليّة، فأن يتذكر المرء هو أن يمتلك ذكرى، وأن يضع نفسه في البحث عن الذكرى، إنّ تداوليّة الذاكرة لا تدلّ إلا على تذكر شيء معيّن هو ممارسته.

من السؤال "ماذا؟" إلى السؤال "من؟" مروراً بالسؤال "كيف؟" تتميّز الذكرى التي هي الصورة المسترجعة عن الذاكرة التفكريّة التي تقوم بعملية الاسترجاع، عن التذكر الذي هو الآليّة والعمليّة التي تسترجع الذاكرة من خلالها الذكرى. هذا من الناحية اللغويّة التداوليّة، أما من الزاوية الفلسفية المعرفيّة، فقد أحال ريكور إلى التراث اليوناني مع نظرية أفلاطون وأرسطو، وإلى القدّيس أوغسطين Augustin في العصور الوسطى، وإلى لوك Locke وبرغسون Bergson وهوسرل Husserl في العصر الحديث.

إذا كان السؤال ما الذي؟ يوحي منذ القديم بحضور في الذهن لصور من الماضي انفعالاً، فقد حاولت محاورة تياتيثوس إعطاء فكرة الطابع قوّة تفسيرية من خلال نموذج الشمع. يقول أفلاطون على لسان سقراط: "لنفرض إذن على سبيل الجدل أنه يوجد في نفوسنا طبقة من الشمع، وأنها تكون عند أحدنا تارة أغزر أو أخفّ منها عند الآخر... إنها هبة من الذاكرة أو من ربّات الفنون، وكلّ ما ينبغي الاحتفاظ به في ذاكرتنا مما قد رأيناه أو سمعناه أو تصورناه، يأتي إلى هذا الشمع الذي نفترض وجوده، فيتقبّله بما فيه من الإحساسات والتصوّرات، ليحفر عليه ببروز كعلامات ننقشها عليه وما ينطبع فيه يكون لنا منه ذاكرة".[7]

أما إذا كان السؤال كيف؟ يحيل إلى علاقة المخيلة بالذاكرة التي عالجها سبينوزا Spinoza في "كتاب الأخلاق"، فحيث يتأثر الجسم البشري بجسمين أو أكثر، وإذا تخيلت النفس بعض هذه الأجسام مستقبلاً، فإنها ستذكر حالاً باقي الأجسام، يقول سبينوزا: "من العلامات أن نتذكر بعض الأشياء عند سماعنا أو قراءتنا لبعض الكلمات، فنكوّن عنها أفكاراً مماثلة لتلك التي نتخيّل بفضلها الأشياء"[8]. إنّ إثارة التخيل تعني إثارة التذكر على سبيل تداعي المعاني؛ فالذاكرة وقد ردت إلى التذكير تعمل بهذه الطريقة في نطاق المخيلة[9]، "لكن لا بدّ من ملاحظة أنّ تلك المعاني لا يكوّنها الجميع بالطريقة نفسها، فهي تتنّوع عند كلّ واحد بحسب الشيء الذي تأثرّ به الجسم في الغالب، أو الذي تتخيله النفس وتتذكره بسهولة أكثر".[10]

مع السؤال من؟ تحدث المطابقة بين الاعتراف بالذات، وتعرّف الصور بما أنّ التعرّف هو تذكر، يقول ريكور: "سيكون للحظة البرغسونية أن تتوّج سلسلة من التحليلات التي تنطلق من السؤال ما؟ - ما الذي أذكر؟ ومن السؤال كيف؟ - كيف لتعاود الذكريات أن يضمن ديناميكية التذكر؟ مع السؤال من يتذكر؟ يتساوى التعرّف إلى الذكرى مع الاعتراف بالذات"[11]. فكيف ترتسم ملامح هذه العلاقة بين التذكر والتعرّف عند برغسون؟

ثالثا- بين تذكر صورة الماضي وتعرّف الحاضر والمستقبل:

قبل الحديث عن اللحظة البرغسونية وكيف يكون تعرّف الماضي بمثابة اعتراف، يعود ريكور إلى أوغسطين، لبيان الطابع الشخصي للذاكرة الذي لا ينفصل عن الزمن، يتحدث أوغسطين بشيء من الشك عن وجود الزمن ولا وجوده، فيقول: "وعليه فإننا كما قلت نقيس الزمن في أثناء مروره، ولو سئلت من أين لك هذا؟ لأجبت (من قياسنا لأننا لا نقيس إلا الموجود، والمستقبل كالماضي لا وجود لهما الآن).

ولكن كيف لا نستطيع أن نقيس الحاضر طالماً ليس له امتداد؟ لا يقاس إلا أثناء مروره، وحين يمرّ يستحيل قياسه، لأنه لا يعود قابلاً للوجود"[12]. يقرر ريكور أنّ أوغسطين بتساؤلاته عن الزمن وإمكانية قياسه إنما أضفى التباساً وغموضاً عليه من حيث وجود الزمن وعدم وجوده، لأنّ "ظاهراتية الزمن تنبثق من سؤال أنطولوجي ما الزمن إذن؟... ما إن يطرح هذا السؤال حتى تتدافع المصاعب القديمة بخصوص وجود الزمن ولا وجوده".[13]

يطرح هذا الالتباس عدّة مفارقات أهمّها مفارقة النفس، فإذا كان الزمان عند أوغسطين هو انتفاخ الروح، فكيف ينتفخ ويتمدّد، وهو غير موجود؟ كيف نقيس ما لا يوجد بما يوجد؟ وعلى هذا الأساس، يعرّف ريكور الزمان بأنه: "النسق الوسيط المتجانس في الوقت نفسه مع المحسوس الذي فيه يكون أسلوب التبعثر والتمدّد"[14]. فبين الزمن الكوسمولوجي والزمن السيكولوجي، ينشأ زمن وسيط يجمع بينهما هو الزمن السرديّ، لذلك عندما يطرح سؤال السرد، إنما في سياق التصور عبر الصياغة التصورية التي تقول بوجود بنية سردية عبر إعادة التصوير التي هي حركة زمنية.[15]

فكلّ ما نحكيه يحدث في الزّمن ويستغرق زمناً ويجري زمنّياً. وكلّ سيرورة زمنية غير معترف بها إلا بقدر ما هي قابلة للسرد[16].علماً أنّ الزمن عند أوغسطين وليد الانقطاع المتواصل بين ثلاثة مظاهر للحاضر، وهذا ما نستشفه في قول أوغسطين: "خطأ أن نقول بوجود ثلاثة أزمنة: الماضي والحاضر والمستقبل، وقد يكون الأصح أن نقول: في الكون أزمنة ثلاثة، حاضر الماضي وحاضر الحاضر وحاضر المستقبل؛ فحاضر الأشياء الماضية هو الذاكرة، وحاضر الأشياء الحاضرة هو الرؤية المباشرة، وحاضر الأشياء المستقبلية هو الترقّب"[17] فالسرد الحقيقي هو القادر على خلق وإبداع لحظة زمنية حاضرة، أما السرد الآخر فهو لا يظهر لحظة الحاضر، على العكس من ذلك يعمل على تهديمها[18].هنا بالذات، تبرز علاقة الذاكرة بالاعتراف من خلال وساطة السرد؛ فالسرد هو القالب الذي تعرف به الذات ذاتها، وحتى تتعرف على هويتها يجب أن تحوّل مسروداتها إلى حكاية، مما يعني أنّ علاقة السرد بالزمان هي علاقة جوهرية، وليست مجرّد إطار يحصر التجربة السردية بالحدث الماضي، إنما هي تأليف بين صيغتي الرّاهن والمستقبل.

بهذا المعنى، وجود الذات باعتبارها منغرسة في الزمن هي كيان يتخذ شكل رواية، وإنّ فهم الذاتية لا ينفصل عن الطريقة التي يتمّ بها رواية قصص ذوات أخرى[19].ضمن هذا السياق التحاوري، يمكننا الوقوف على الأهمية البالغة لدور الذاكرة التي تعمل على فهم الذات وفق حضورها الزمني لحظة سردها لذاتها ولغيرها.

يصف أوغسطين الذاكرة بأنها قصر واسع تودع فيه الأشياء، فتستجمعها لتثيرها عندما تستدعي الحاجة إلى ذلك؛ فالتذكير يكون بإرادة الذات وقوتها وليس خارجاً عنها، ولكن مع ذلك فقد تصدم هذه الذاكرة بالنسيان، يعتبر ريكور أن الإشارة هنا إلى النسيان هي استخدام تلقائي لفعل تعرّف، لأنّ الذاكرة لحظة تعرف الأمر المنسي هي التي تشهد بالنسيان، وإلا فإننا لن نعرف أننا قد نسينا.

تتموضع اللحظة البرغسونية في تعرفها على الصور بين لحظتين: لحظة كانط للمعرفة ولحظة هيغل للتعارف، وبين اللحظتين تسهم الذاكرة في الاعتراف بالذات. لتوضيح ذلك يعود ريكور إلى كتاب برغسون "المادة والذاكرة" خاصة إلى الفصلين الموسومين بـ: "في تعرف الصور: الذاكرة والدماغ" و"في بقاء الصور: الذاكرة والروح"، كما يعود إلى كتاب "الطاقة الروحية" في المقال المخصّص للجهد الفكري الذي يحتلّ فيه جهد الذاكرة مكانة مميزة. لماذا هذه العودة إلى برغسون تحديداً؟ لأنه كما يقول ريكور: "يظل في نظري أفضل فيلسوف فهم العلاقة الوثيقة الموجودة بين ما يدعوه بقاء الصور حيّة، وبين الظاهرة المفتاح للتعرّف".[20]

إنّ ما يسميه ريكور بالتعرّف الذاكري الذي يقوم على وضع الصورة في النفس فوق الأثر النفسي، الذي هو أيضاً الصورة التي تركها الانطباع الأول يقدّم الحلّ الفعليّ للغز الكلاسيكي الخاص بالتمثيل الحاضر لشيء ماضٍ أو التمثيل الحاضر لشيء غائب، وهو ما يعتبره ريكور معجزة صغرى للاعتراف تجاه الذاكرة، الأمر الذي يجعل التعرّف أكثر الأفعال تكويناً للذاكرة، أو هو الفعل الذاكري بامتياز، والتعرّف كفعل من أفعال الذاكرة "يقوم على شعور يعترينا إزاء بعض الصور بأننا شاهدناها من قبل، ولا يستلزم التعرف تعيين موقع الذكريات، فهذا بالطبع أمر أشد وضوحاً، وقد يحدث أن يكون الشعور بالتعرّف، وهما في حالة اعتلال الذاكرة أو التعرّف المزيّف".[21]

إذا كانت مشكلة حضور الغائب قد حلّت على مستوى تنفيذ الفعل الذاكري، وأيضاً على مستوى اليقين الذي يصاحب هذا التنفيذ، لأنّ سعادتنا في التعرف الذي نحتفظ به في داخلنا أمر لا يمكن الارتياب فيه، فإنّ هذا الحل للغز الذاكرة لم يزده إلا غموضاً إذا نظرنا إليه من زاوية تأملية؛ إذ كيف يمكننا أن نعرف أن الانطباع الذي يبقى هو الذي يمكن التعرّف إليه؟

لا يتعلق الأمر حسب ريكور سوى بترتيب معكوس ارتدادي استدلاله كالتالي: "كان يجب أن يبقى شيء ما من الانطباع الأول حتى أتذكره الآن، فإذا عادت الذكرى فذلك لأني لم أكن قد فقدتها، ولكن رغم كل شيء إذا وجدتها وتعرفت عليها فذلك لأن صورتها قد استمرت في البقاء".[22]

تتضح التفرقة بين الماضي والحاضر في التعرّف بعينه، حيث تتكرر الأحداث نفسها، يقول برغسون: "الذكرى التلقائية تامة مباشرة ولا يستطيع الزمان أن يضيف شيئاً إلى صورتها من دون أن يشوهها، إنه يحفظ للذاكرة مكانها وتاريخها"[23]. معنى ذلك، أنّ التعرّف أو التذكّر هو الفعل الذي بواسطته نتعرّف إلى الماضي في الحاضر، ثم إنّ الذاكرة كما يؤكد برغسون: "تبقى متصلة بالماضي في جذورها العميقة، فإذا ما تحققت ولم تشعر بقوة انتمائها الأصلي... فإننا لن نتعرّف أبداً إليها بما هي ذكرى".[24]

إنّ التعرف على ذكرى يعني إيجادها، وإيجادها يعني الظنّ بأنها جاهزة مبدئياً؛ أي في انتظار التذكر، فمن طبيعة تجربة التعرّف أن تحيل على حالة من كمون ذكرى الانطباع الأول، والتي كان على صورتها أن تتشكل من أجل التأثر الأصلي، وإلا كيف يصبح الماضي ماضياً لو لم يكن حاضراً، إنّ فكرة الكمون هذه تستدعي فكرة اللاوعي، لأنّه "يمكننا إذا شئنا أن نعطي للذكريات التي لم تبلغ بعد نور الوعي عن طريق تذكر الوجود نفسه الذي ننسبه إلى الأشياء التي تحيط بنا حين لا ندركها حسياً".[25]

الماضي معاصر للحاضر الذي كأنه البقاء فلا ندركه حسياً، إننا نفترضه مسبقاً كفرضية أو مسلمة نعتقد بها، والتعرف هو الذي يسمح لنا أن نعتقد بها، ذلك هو معنى الكمون واللاوعي في الذكريات المحفوظة للماضي.

وهنا، يتّفق برغسون مع فرويد، بالنسبة إلى ريكور إذا كان هذا الظنّ في الماضي قد امتدّ للحاضر، فإنّ هذا يغنينا عن البحث عن مكان الذاكرة أو محل لحفظ الذكرى، لأنها تحفظ نفسها بنفسها وهذا الحفظ الذاتي هو الديمومة نفسها، حيث الانخراط في حياة حالمة يشكل ذاكرة متأملة يتطابق فيها التعرّف إلى صور الماضي مع التعرّف إلى الذات عينها[26]. الاعتراف في هذا السياق البرغسوني هو التذكر، لأنّ الذاكرة بوصفها آلية الاعتراف هي أقرب ما تكون "حوض الكائن الذي تتجمّع فيه كلّ الصور العقلية والفعلية الماضية، والحاضرة، فهي عصب التاريخ الذي يحضر فيه الغياب أو يتمّ استحضاره عبر قراءة الوثائق وتفسير الوقائع".[27]

إذا كانت الذاكرة مطبوعة بالطابع الشخصي أو الخاص، فإنّ التعرف على الذكرى الحاضرة هي عينها الانطباع الأول المستهدف كآخر؛ لأنّ ظاهرة التعرف تعيدنا إلى لغز الذكرى بما هي حضور الغائب الذي التقيناه سابقاً، نتعرّف إليه على أنّه هو عينه بوصف آخر. إنّ المعجزة الصغيرة للتعرّف تظهر أنها تربط الغيرية الماضية بالحضور، بهذا المعنى الذكرى هي تمثل من جديد: العودة إلى الوراء والتطلع إلى المستقبل الذي لا يكون إلا من خلال الوعد.

إذا كانت الذاكرة هي التعرّف على الأنا من خلال استحضار الماضي، فإنّ الوعد هو تذكير بالمستقبل يعطي الاعتراف مدى زمنياً قائماً على التزامات مستقبلية قريبة أو بعيدة، ثم إذا كانت الذاكرة قد ارتبطت بالهوية العينية، لأنها شخصية، فإنّ الوعد مرتبط أكثر بالهوية السردية، لأنّ له طابعاً غيرياً باعتباره حركة من الذات تجاه الآخر، علاوة على ذلك تواجه الذاكرة مشكل النسيان الذي يحيل إلى الاعتراف، ويواجه الوعد مشكل الخيانة الذي يحيل على الشهادة.

يعتبر ريكور أنّ الآية على عظمة الوعد هي صدقه، لاسيما الصدق المعتاد قبل الوعد، فهو الذي يستمدّ منه كلّ وعد مشروعيته الوثوقية. من هذه الزاوية، يشترك الوعد والشهادة من جهة أنّ الشهادة هي تعيين ذاتي للذات الشاهدة على الوعد. وبالتالي، فهي منخرطة في علاقة حوارية، لأنّ الشاهد يشهد أو يعترف بوقوع مشهد أمام الآخر، وهذه البنية الحوارية هي التي تستظهر بعد الاعتراف.

خلاصة:

بين القدرة على التذكر التي تتجه نحو الماضي، والقدرة على الوعد التي تستشرف المستقبل، تتراءى القدرة على الاعتراف في الحاضر من خلال التعرّف، لذلك يظهر الاعتراف أكثر غنى وثراء في صلته بالذاكرة والوعد، وحيث تعمل الأولى على الاعتراف بالذات من خلال تعرّف صورة الماضي، يعمل الثاني على الاعتراف بالآخر من خلال الشهادة التي، وإن اختلفت مع الوعد، فإنها تلجأ إليه، لأنّ الشاهد هو الذي وعد أيضاً.

وعليه يمكن القول إنّ الاعتراف هو الفعل المعرفي الذي يربط بين تصوّر حاضر وتذكّر ماضٍ ووعد مستقبلي.


*- مجلة يتفكرون، العدد الثالث، شتاء 2014

[1] محمد شوقي الزين، الإزاحة والاحتمال (صفائح نقدية في الفلسفة الغربية)، منشورات الاختلاف/ الدار العربية للعلوم ناشرون، الجزائر، بيروت، 2008، ص 126

[2]Paul Ricœur, Parcours de la reconnaissance (trois études), Editions Gallimard France, 2004, p. 30

[3] أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، خليل أحمد خليل، المجلد الثاني، منشورات عويدات، بيروت/ باريس، ط.2، 2001، ص ص 1180- 1181

[4]Jeffrey Andrew Barach, Qu'est la mémoire collective? (réflexions sur l'interprétation de la mémoire chez Paul Ricœur), dans, revue de Métaphysique et Morale, éditions, CAIRN, PUF, n° 50, 2006, P. 186

[5] بول ريكور، الذاكرة التاريخ النسيان، ترجمة جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2009، ص 31

* هي مشتقة من الكلمة منيموسين إحدى الشقيقات التي أثمرها جماع الفضاء مع الأرض، وهن: تيا، ريا، تيميس منيموسين، فويبيه، تيتيس ويقابلهن الجبابرة، وهم: أوقيانوس، كويووس، كريوس، هيبريون، جابت، كرونوس، في حين ارتبط كل أخ بأخته حافظت تيميس ومنيموسين على وحدتهما فلم ترتبطا، بل حجزتا لزوس كبير الآلهة، الأولى هي قوة النظام والقانون؛ والثانية هي قوة الفكر والذاكرة، من هنا أخذت كلمة mnémé، من الملاحظ أن القوة التي تكون فيها الفكر ذات طبيعة أنثوية. وأن الربط بين الفكر والذاكرة في قوة واحدة يعني أن الذاكرة بالأساس هي ظاهرة عقلية.

- بيار غريمال، الميثولوجيا اليونانية، ترجمة هنري زغيب، منشورات عويدات، بيروت/باريس، 1982،ص ص 23-25

[6] Jervolino Domenico, Paul Ricœur une herméneutique de la condition humaine (avec un inédit de Paul Ricœur), Editions Ellipses, Paris, 2002, P. 52

[7] أفلاطون، محاورة تياثيثوس أو عن العلم، ترجمة أميرة حلمي مطر، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2000، ص ص 102ـ 103

[8] باروخ سبينوزا، علم الأخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد، مركز دراسات الوحدة العربية/ المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2009، ص 125

[9] بول ريكور، سيرة الاعتراف، ترجمة، فتحي إنقزو، دار سيناترا، تونس، 2010، ص 157

[10] باروخ سبينوزا، علم الأخلاق، ص 125

[11] بول ريكور، سيرة الاعتراف، ص 154

[12] أوغسطين، اعترافات أوغسطينوس، ترجمة الخوري يوحنا الحلو، دار المشرق، بيروت، 1986، ص 252

[13] بول ريكور، الزمان والسرد (الحبكة والسرد التاريخي)، ج.1، ترجمة سعيد الغانمي / فلاح رحيم، دار الكتاب الجديد المتحدة / دار أويا، بيروت / طرابلس، 2006، ص 26

[14] بول ريكور، الإنسان الخطاء، ترجمة عدنان نجيب الدين، المركز الثقافي العربي، بيروت/ الدار البيضاء، 2003، ص 78

[15] Don Ihde, Text and the new hermeneutics, in, On Paul Ricœur narrative and interpretation, Editions Routledge, London\ New York, 1991, P. 127

[16] Paul Ricœur, Du texte à l’action (Essai d’herméneutique II), Editions du Seuil, Paris 1986, P. 12

[17] أوغسطين، اعترافات أوغسطينوس، ص 254

[18] Parente André, Cinéma narrativité, Editions L'harmattan, France, 2005. P. 50

[19]Venn Couze, Occidentalism (Modernity and subjectivity), Editions Sage London, 2000.P.24

[20] بول ريكور، الذاكرة التاريخ النسيان، ص 624

[21] ديديه جوليا، قاموس الفلسفة، ترجمة فرنسوا أيوب وآخرون، مكتبة أنطون/ دار لاروس، بيروت/ باريس، 1992، ص 813

[22] بول ريكور، سيرة الاعتراف، ص 168

[23]Henri Bergson, Matière et Mémoire (Essai sur la relation du corps à l'esprit), PUF, 1886, P. 229

[24]ibid, p. 227

[25] بول ريكور، الذاكرة التاريخ النسيان، ص 629

[26] بول ريكور، سيرة الاعتراف، ص 154

[27] محمد شوقي الزين، الإزاحة والاحتمال، ص 128