البغيّ لا تولد بغيًّا


فئة :  مقالات

البغيّ لا تولد بغيًّا

البغيّ لا تولد بغيًّا

أسماء أحمد معيكل

لا بد من الإقرار بداية بحقيقة مفادها: أن البغي، وغير البغي، من النساء قد ولدن متساويات في الخلق، ولا يمكن لأحد أن يدّعي أن البغيّ ولدت بغيًّا؛ فالبغي قبل أن تصير بغيًّا، كانت طفلة وديعة كغيرها من الفتيات، تهدهدها والدتها، وترى في وجهها البراءة والنقاء، وما خطر في ذهنها أو ذهن أحد غيرها، أن يكون البغاء مآلها، فكيف تصير الطفلة البريئة امرأة توسم بالعهر؟!

حاصرت الثقافة الذكورية المرأة البغي من كل الجهات، وأدخلتها في طريق الصد لا الرد، وكثيرة هي الشواهد من الواقع عن نساء تحولن إلى بغايا، بعد أن فقدن حياتهن الطبيعية، أو انهارت أسرهن؛ لأن الرجال لم يغفروا لهن هفواتهن، ما دفعهن إلى المضي قدمًا في الطريق الذي وجدن أنفسهن وسطه، بينما لم يلحق بالرجل أي شيء من ذلك، على الرغم من تيقن الجميع في كثير من الأحيان من علاقات الرجل غير الشرعية، واتخاذه الخليلات والعشيقات ممن يوسمن بالبغايا، وبائعات الهوى، بل وتواطأت المرأة نفسها ضد نفسها، وضد بنات جنسها، فبدل أن تلقي باللوم على زوجها الذي يخونها مع البغايا، تذهب إلى شتم البغايا، وتلعنهن؛ لأنهن يتحايلن عليه، ويحاولن سرقته منها، وسرقة ماله، وكأنه لا يختار أفعاله، ولا حول له ولا قوة فيما يقوم به.

 حاصرت الثقافة الذكورية المرأة البغي من كل الجهات، وأدخلتها في طريق الصد لا الرد، وكثيرة هي الشواهد من الواقع عن نساء تحولن إلى بغايا

وعلمت مرة من مصدر موثوق أن فتاة تنتمي إلى عائلة كريمة، في السادسة عشرة من عمرها، اختفت ولم تعد من المدرسة إلى البيت، وبعد غيابها لمدة أسبوع، تبين أنها ذهبت مع رجل في الأربعين، أغراها بشراء هاتف خلوي متطور لها، وحينما عادت تبرأ أهلها منها خوفًا من الفضيحة، وأودعوها في مؤسسة رعاية خاصة، بدل ضمها واحتوائها وعدم الرد على خطئها بخطأ أكبر، قد يدفعها مستقبلًا إلى طريق اللا عودة، ولو كانت ولدًا لما فعلوا ذلك، ولهلّلوا وفرحوا بعودته، ناهيك عن أن الرجل البالغ الراشد، لم يحاسب على ما فعله، طالما أنه لم يجبرها على الذهاب معه، ولم ينظر إلى أن رجلًا في الأربعين أغوى قاصرة، هو أكثر من إجبار، ودفعت الفتاة المراهقة الثمن وحدها بعد هذه النزوة، لتجد نفسها في مؤسسة الرعاية. وليس بعيدًا أن تنتقل منها إلى مؤسسة الدعارة، حينما تكبر وتدرك أن أهلها تبرؤوا منها، لتصبح في عداد البغايا.

ظلّ وضع الرجل الذي يخوض في علاقات كثيرة، ويمارس الجنس كما تفعل البغايا مسكوتا عنه ومسوغا في مجتمع يغفر له، وينسى ماضيه، ويسوّغ ما قام به من غير مساءلة، وما تزال المرأة المتشبعة بالثقافة الذكورية تتواطؤ مع الرجل، فتقبل كل ما يقوم به، أو تسكت عنه، أو تسوّغه في كثير من الأحيان إلى يومنا هذا. وعلى صعيد آخر، صاغت الثقافة الذكورية رؤية متناقضة حول العلاقة بين المرأة والرجل، فالرجل لا يؤمن بالتوحيد في علاقاته، ويرى أن امرأة واحدة لا تختزل كل النساء، معبرًا عن وجهة نظر ذكورية تسوغ للرجل انتقاله من امرأة إلى أخرى، سواء في إطار العلاقات الشرعية والزواج أم خارجها، بينما تؤمن المرأة بالحب الأوحد، والرجل الذي يختزل كل الرجال. ومن اللافت للنظر أن كلا من الزوجة، والعشيقة غالبا ما تغفران للرجل علاقاته الجنسية، وتبحثان عن مسوغات لهذه العلاقات، بينما يعجز الرجل عن فعل ذلك. وإلى ذلك، فقد ربطت المرأة وجودها بالرجل، مجسدة الرؤية الذكورية للأنثى، التي تعتقد أن الأنثى ليس لها وجود إلا من خلال الذكر، فهو الذي يمنحها وجودها أو يحرمها إياه.

عالج السرد النسوي موضوع البغاء، وتحولاته، وتبعاته، وإذا كان الفقر يعدّ السبب الرئيس في تورط النساء في الدعارة، فإن الفكر النسوي كشف عن ظروف أخرى، وملابسات جرّت فتيات من مختلف الشرائح إلى الدعارة؛ إذ ظهرت عوامل وأسباب أكبر من الفقر والحاجة. ولعل أبرزها العقلية الذكورية، والثقافة التي تحكم المجتمع، هي التي دفعت بالنساء في أغلب الأحيان إلى ممارسة الدعارة، فجميعهن لم يولدن بغايا، بل صرن بغايا. وإلى ذلك، فلا من بد إماطة اللثام عن الظروف والملابسات التي تدفع بفتيات كثيرات رغمًا عنهن إلى السير في هذه القافلة، وكيف يسهم المجتمع بكافة أطيافه، بدءًا من الأسرة، ومرورًا بالأعراف والتقاليد والثقافة الاجتماعية، وانتهاء بمؤسسات الدولة التي تقنن الدعارة في كثير من البلدان، أو تسكت عنها في بلدان أخرى، في تحويل فتيات كثيرات، فقيرات وغنيات وبنات ذوات إلى بغايا، يتحكم فيهن الوسطاء وتجّار البغاء، وينهش أجسادهن بائعو الهوى من الرجال الذين يقايضون أجسادهن بأموالهم. تسلل السرد النسوي إلى ما وراء جلابيب النساء، واقتحم عالمًا من العوالم المسكوت عنها في واقع المجتمعات العربية الموسوم بازدواجية المعايير، ليس بهدف القدح والتشهير، بل لإضاءة زاوية معتمة حول الدعارة وقضايا الآداب والنظرة أحادية الجانب لها، وكأنّ النساء يمارسن الرذيلة مع بعضهن البعض، ليبقى الرجل حرًّا طليقًا بعيدًا عن المحاسبة.

 ما تزال المرأة المتشبعة بالثقافة الذكورية تتواطؤ مع الرجل، فتقبل كل ما يقوم به، أو تسكت عنه، أو تسوّغه في كثير من الأحيان إلى يومنا هذا

ومن الضروري التوقف على موضوعات في غاية الأهمية في سياق التحيزات ضد المرأة، من ذلك توصيف المجتمعات الشرقية للمرأة بألقاب تحصرها في إطار الجسد، إذ هناك فرق بين الآنسة والسيدة؛ فالآنسة هي من لم تمارس الجنس بعد. وكل من سبق لها مضاجعة رجل فهي سيدة، أما الألقاب العلمية مثل دكتورة وأستاذة وغيرها، فهي تجعل من المرأة أقرب إلى الرجل منها إلى مفهوم الأنثى، ولذلك نجد هذه الألقاب في العديد من البلدان تنطق بصيغة المذكر للجنسين، بينما يقبع الرجل بعيدًا عن هذه التصنيفات، إذ لا يكترث أحد بكون الرجل أعذرًا أو عدم ذلك، ويعرف بذكورته وحسب.

ولا يخفى على الباحث/ الباحثة في هذه القضية معاناة بائعات الهوى في ظل مؤسسة الدعارة التي يتحكم فيها تجار البغاء، إذ كل ما في تلك المؤسسة خاضع لتقلبات أهواء الرجال، والسوق في العرض والطلب؛ فهذه الحرفة لها سن محدّدة، بعدها تحال العاملة فيها إلى التقاعد، كما أن التي تدخل هذه الحرفة لا يمكنها الخروج منها، "إنها لا تخرج بل تركن! تظل تحت الأنظار، تظل الأصابع تشير إليها: هذه كانت فاعلة تاركة صانعة...لا أحد ينسى ماضيها، لكنها تهمل؛ ماضيها حاضر وهي مهملة"[1]. وهذا ما كشف عنه حال زينب، في رواية "زوج حذاء لعائشة" للكاتبة اليمنية نبيلة الزبير، التي اعتقدت أنها أمسكت بطوق النجاة، وتطهرت من الدعارة، حينما تزوجت من رجل متديّن، بيد أن ظنها لم يكن في محله، إذ بقيت محاصرة بماضيها الذي حال دون توبتها، ولم يتمكن زوجها من رؤية المرأة النقية فيها، بل رآها عاهرة نسيت أنوثتها[2]، بينما يظل الرجل سواء أكان بائع هوى، أم تاجر بغاء، بعيدًا عن الشبهات، أو المحاسبة.

 الألقاب العلمية مثل دكتورة وأستاذة وغيرها، فهي تجعل من المرأة أقرب إلى الرجل منها إلى مفهوم الأنثى

وكشفت الكاتبة المغربية فاتحة مرشيد في روايتها "لحظات لا غير"[3] عن التمييز بين "الشيخة والزوجة" معرّية واقع الرجل الشرقي الذي يعيش ازدواجية في حياته الجنسية. والشيخة هي نوع من النساء يمتهن الفن، في مجتمع يضعهن في خانة الفنانات حينًا، وفي خانة العاهرات حينًا آخر، "يحيي بهن الأفراح ليلًا ويقول لو صادفهن نهارًا "اللهم إن هذا لمنكر""[4]. وربما يرادف مفهوم الشيخة "العالمة" في مصر، و"الحجّيّة" في بلاد الشام، وغيرها. وقد عبّرت بطلة الرواية عن رؤيتها لهؤلاء الشيخات، حينما كانت تحضر الأعراس في صغرها، فقد لاحظت كيف يستفرد الرجال بهن، وهم في حالة من الهيجان والمرح، بينما كانت النساء، الزوجات تختلسن النظر من خلف الستائر والنوافذ، إلى الشيخات اللواتي يرقصن ويغنين بحرية، ويتنقلن كالفراشات من حجر رجل إلى آخر، ليضرمن فيهم نيران الشهوة، ويتعجبن من أزواجهن الموقّرين، وكيف يستمتعون بدون حياء أو خجل، في حين على كل منهن أن تنتظر زوجها في استسلام، ليكمل معها ما بدأته الشيخة. ومن ثم، فإن "الشيخة مرادف للمتعة والزوجة مرادف للواجب. تبقى الشيخة حلم المرأة المستتر؛ ففي كل ربة بيت شيخة أجهضت حلمها... وفي كل شيخة ربة بيت تنشد الاستقرار"[5].

وبحسب المفهوم الماركسي، فكل هذا من نتاج الملكية الخاصة، وظهور العائلة الذي أشار إليه إنجلز، إذ تحدّث عن تقييد حرية المرأة الجنسية بوصفها زوجة وبقاء الرجل بعيدًا عن هذا التقييد؛ إذ تعد العلاقات غير المشروعة نظامًا اجتماعيًا شأنها شأن أي نظام آخر، وهي "استمرار للحرية الجنسية القديمة لصالح الرجال الذين يمارسونها بأجسادهم ويلعنونها بأفواههم، والحقيقة أن هذه اللعنة لا تمس الرجال وتقتصر على النساء، لكي يؤكد الرجل مرة أخرى سيطرته على المرأة كقانون أساسي للمجتمع"[6]. وبذلك أدرج جسد المرأة ضمن إطار العملية الاقتصادية في النظام الأبوي القائم على علاقات التبادل السلعي وليس على علاقات التراحم.

[1] - الزبير، نبيلة: زوج حذاء لعائشة، دار الساقي، بيروت، ط1، 2012، ص ص91-92

[2] - المصدر نفسه، ص135

[3] - مرشيد، فاتحة: لحظات لا غير، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2007

[4] - المصدر نفسه، ص108

[5] - المصدر السابق نفسه، ص108

[6] - إنجلز، فريدريك: أصل العائلة، ترجمة أحمد عز العرب، دار الطباعة الحديثة، 5 شارع فرع النوبي- ت49318، ص62