هل كورونا فيروس نسوي؟!


فئة :  مقالات

هل كورونا فيروس نسوي؟!

يعيش العالم منذ مطلع عام 2020 حالة ذعر غير مسبوقة من عدو لا مرئي، عدو عجزت أسلحة العالم الفتاكة، من طائرات وبوارج حربية، ومفاعلات نووية في وقف زحفه، فراح يحصد الأرواح بأيد خفية، تقتطف الضحايا بالجملة، من حيث لا يعلم أحد. وهاج الناس وماجوا، كبارا وصغارا، مذعورين من هول الكارثة التي خيّمت فوقهم، وعشّشت في بيوتهم في انتظار القضاء عليهم، وأقصى ما بلغوه من احتياطات هو الاعتكاف الطوعي، أو القسري في منازلهم. لقد ساق فيروس "كوفيد-19" الشهير بفيروس كورونا الجميع إلى الحظائر، في نوع من الاستسلام لسطوة عدو غير منظور، يتنقل بحرية، ويضرب ضربته براحة بال، غير آبه بمخاوف الناس، وقد عمّ الأرض خلال أشهر، متخطّيا الحدود غير عابئ بها وبقوانينها في منح تأشيرات الدخول، فلم تسلم منه دولة، ولم يتمكن أحد من مقاومة شرّه. ومن قبيل التندّر القول إنّه جعل الجميع حريمًا، وجعل البيوت ملاذات لمليارات من الناس العاجزين عن الجهر بمقاومتهم له، فشغلوا بالقيل والقال عنه، حتى إن أثر الشائعات في بعضهم ناظر أثره الفعلي فيهم.

فرض الفيروس على الرجل البقاء في البيت، وصارت جلّ الأعمال تدار من داخل البيوت، ليحقق المساواة بين المرأة والرجل، وليصبح كلاهما يعملان معا

ومن باب السخرية التي توارب عن التصريح بالحقيقة، يصحّ القول بأن "كوفيد-19" ساق الرجال إلى بيوت الطاعة، وأدخلهم "الحريم"، كما حجروا النساء في البيوت منذ آلاف السنين، ووصموهن بالضعف، والهشاشة، وعزلوهن بوصفهن ناقصات عقل ودين، غير أن الحال تبدّلت مع وباء كورونا، فقد أصبح الرجل شريكا للمرأة في الأسر، وهي مناسبة جيدة، لأن يتشارك أسرى كورونا في التفاهم، وتبادل الآراء، وتوحيد الهمم في مواجهة عدوّ بثّ الذعر فيهم، وحبّذا الاعتبار بهذه التجربة الأليمة، وما فعله فيروس كورونا، الذي ساوى بين المرأة والرجل في حجرهم داخل حدود البيت، الذي اعتقد الرجل أنّه عصي عليه فمكانه خارجه، والمرأة وحدها هي من ينبغي أن تحاصر فيه. وإذا كانت المرأة معتادة على ذلك الأمر بحكم الثقافة الذكورية التي كرّست لديها فكرة دورها داخل البيت، وأنّ أهميتها تكمن فيما تقوم به من أعمال منزلية، تتعلق بالتنظيف والطبخ ورعاية الأطفال، والسهر على راحة الرجل الذي يعمل خارج البيت، أو يمضي جلّ أوقات فراغه خارجه في أماكن اللهو والتسلية، فإنّ الرجل لا يتخيل وجوده حبيسا في حريم. أما المرأة التي تمردت على حدود الحريم وخرجت منه إلى التعليم والعمل، فلم تتخلّ عن أعمال المنزل، بل صارت تعمل خارج البيت وداخله، بينما ظل وجود الرجل مقتصرا على خارج البيت، ما سيجعل من محاصرته في البيت وحجره في ظل مواجهة العدو اللامرئي شبه كارثة، وربما لأول مرة عبر التاريخ سيشعر الرجل بمعنى أن يكون محاصرا في حدود البيت كالحريم!

درجت الثقافة الذكورية على الإعلاء من أيّ فعل يقوم به الرجل كائنا ما كان شأنه، والتقليل مما تقوم به المرأة، ولا سيما الأعمال المنزلية التي لم يحسب لها حساب، ولم ينظر إليها بعين التقدير؛ نظرا لكونها أعمالا غير منتجة اقتصاديا، بينما تتأتى أهمية عمل الرجل من كونه عملا منتجا يقايض بالمال، ولطالما صدح الرجل بالشكوى من خروجه لجلب المال، وتأمين احتياجات أسرته، مانًّا المرأة بما يقوم به، فحالما يعود إلى البيت يتحوّل إلى "سي السيد" الذي على المرأة أن توفّر له الراحة والمتعة بعد كدّ وتعب من أجل الحصول على المال، وظل الأمر على هذه الحال، حتى حينما خرجت المرأة للعمل، وعملت مع الرجل في المجال نفسه، إذ صار يمنّها بسماحه لها بالخروج إلى العمل، وحدثت المساواة بينهما خارج البيت فقط، وحالما يعودان إلى البيت يعود الوضع إلى ما كان عليه، فيخلد الرجل إلى الراحة، وتهرع المرأة إلى أعمال المنزل، ورعاية الأطفال، وإعداد الطعام، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل ساوم بعضهم على أجرها في مقابل السماح لها بالخروج إلى العمل، مدّعين بأن ذلك يحدث على حساب بيوتهم، وإن لم تقبل بذلك فعليها لزوم البيت. وفي ظل هذا الفيروس العادل، فرض على الرجل البقاء في البيت، وصارت جلّ الأعمال تدار من داخل البيوت، ليحقق المساواة بين المرأة والرجل، وليصبح كلاهما يعملان معا، بيد أن معاناة الرجل الذي لم يعتد حريم البيت وحدوده بدأت تظهر بوضوح، فيما لم يتغير شيء بالنسبة إلى المرأة، التي وجدت في ذلك أمرا مريحا لها، ولا سيما إذا كانت عاملة، فإدارتها لعملها من داخل البيت، مع الاهتمام بعملها المنزلي، أسهل بكثير من الخروج إلى العمل، والعودة فيما بعد للقيام بالأعمال المنزلية، إذ مكّنها البقاء في البيت من استغلال الوقت للقيام بأكثر من عمل في آن، وهذا دأبها.

أشارت إحصائيات عديدة، نشرتها صحف كبرى، مثل نيويورك تايمز والواشنطن بوست عن أن نسبة المصابين بوباء كورونا هي أكبر بين الرجال من النساء، فقد أشارت الإحصائيات إلى أن نسبة الإصابة بينهم وصلت إلى 2.8%، بينما تقلصت النسبة إلى 1.7% بين النساء، كما أكدت تقارير منظمات الصحة العالمية على أن الفيروس يستهدف كبار السن، وهنا لا بد من التوقف عند أمر لافت، إذ إن هذه الإحصائيات ينبغي أن تكون معكوسة. ومن المفترض أن يهاجم الفيروس الحلقة الأضعف، وبحسب الثقافة الذكورية، فإن المرأة هي الأضعف على المستويات كافة جسديا وعقليا، فلطالما تغنّت تلك الثقافة الذكورية بتفوق الرجل، وقوته وعضلاته المفتولة، وذكائه وعقله الكامل، في مقابل نعت المرأة بالضعف والميوعة ونقص العقل، وإذا أضيف إلى ذلك عامل السن فستكون المرأة هشة إلى درجة كبيرة، تجعلها الهدف الأول للفيروس الفتّاك، فمن المعلوم أن النساء ما بين سن 45-50 تتوقف لديهن الدورة الشهرية، وتتغير الهرمونات في أجسادهن، وتنقص مناعتهن، ويصبحن أكثر عرضة للعديد من الأمراض أقلها هشاشة العظام، وأمراض القلب، واضرابات النوم والأرق، وإذا كان فيروس كورونا يهاجم كبار السن، ويفتك بأصحاب المناعة الضعيفة، فمن المفترض أن تكون النساء أول هدف له، وأن تكون نسبة الإصابات التي أوردناها معكوسة لصالح الرجل، أما والحال هذه فالسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل كورونا فيروس نسوي ينتصر للمرأة، وينتقم من الرجل؟!

ومن الأمور التي شدّد عليها الأطباء لمواجهة العدو اللامرئي، ناهيك عن الحجر المنزلي، قضية النظافة، وهو أمر اعتادت عليه النساء، فلا يوجد امرأة مهما قلّت عنايتها بالنظافة أو كثرت، من الممكن أن تحصي عدد المرات التي تغسل فيها يديها كل يوم، فاستخدام مواد التنظيف، والغسل والتعقيم جزء لصيق بها للعناية ببيتها، وأطفالها، وزوجها، وطعامهم وشرابهم، وكثير منهنّ يعانين من أمراض جلدية لكثرة استخدام المنظفات والمعقمات، وغالبيتهن يتباهين بالنظافة، بينما يقبع الرجل بعيدا عن كل ذلك، ويتقلص دوره للاهتمام بنظافته الشخصية فحسب، وغالبا لا يوليها كبير عناية، لاعتقاده أن الرجل بفعله، وليس بشكله ونظافته، ومع جعل النظافة فرضا ضروريا للوقاية من الإصابة بفيروس كورونا، سيرهق استخدام المنظفات والمعقمات معظم الرجال، الذين لم يعتادوا ذلك، بينما لن تشعر النساء بالأمر، فهو ديدنهن، فيا لهذا الفيروس الرحيم!

لقد ترسخت النظرة المتحيزة ضد المرأة بناء على تكوينها البيولوجي، وترتّب على ذلك وضعها في مرتبة أدنى من الرجل، منذ أن قامت "نظريات أرسطو طاليس بتصوير المرأة لا على أنها مجرد تابعة كضرورة اجتماعية، وإنما بوصفها أدنى فطريًا وبيولوجيًا من حيث قدراتها العقلية والبدنية، ومن هنا تصبح في وضع الخضوع والخنوع "بطبيعتها". وقد شابه حكم الرجل على المرأة بحكم "الروح على الجسد"، والعقل والعقلانية على العاطفة". وقد قال الفيلسوف الإغريقي، إن الذكر "بطبعه أعلى مرتبة والمرأة أدنى مكانة، وأحدهما هو الحاكم والآخر هو المحكوم"، وكان أرسطو يرى الجسد الأنثوي ناقصًا ومعيبًا، كما لو كانت المرأة "رجلًا عاجزًا، فالأنثى هي أنثى لوجود عجز ما في قدراتها"[1]. وعدّ اليونانيون مثلهم مثل الثقافات الأخرى "جسد الأنثى وتكوينها البيولوجي ملوّثًا للرجل، فحُرّم عليه لمسها في أثناء حيضها أو بعد مخاضها، وحُرّم عليه دخول المعابد بعد مضاجعتها...حيث ذُكر أن كل ما يخرجه جسد الأنثى من عرق وبول ودم طمث نجاسة، بل إن مجرد لمس لبن الرضاعة لصدر الرجل يدنّسه"[2]، وقد امتد هذا التأثير في النظر إلى جسد المرأة إلى الحضارات الأخرى الأوروبية والإسلامية، وسادت النظرة ذاتها؛ ففي الحضارة اليونانية قامت نظريات أرسطو على تجميع القيم والممارسات الاجتماعية الخاصة بمجتمعه وتنظيمها، وجرى تقديمها على أنها ملاحظات علمية موضوعية، وتقبّلتها الحضارتان العربية والأوروبية[3].

من الأمور التي شدّد عليها الأطباء لمواجهة العدو اللامرئي، ناهيك عن الحجر المنزلي، قضية النظافة، وهو أمر اعتادت عليه النساء

ومنذ أن حمّلت حواء وزر خطأ خروج آدم من الجنة، كما رسّخت ذلك المرويات الدينية، فأضحت الشماعة التي تُعلّق عليها الأخطاء التي اقترفها آدم، شهدت أحداث التاريخ الظلم الكبير الذي وقع على المرأة التي عُدت مصدر الشرور كلها في القرون الوسطى، وظهرت التحيزات المجحفة بحقها، فقد ساد اعتقاد لفترات طويلة من الزمن أن الهستيريا مرض يصيب النساء فقط، كما نُظر إلى المرأة أنها حليف للشيطان، الذي من الممكن أن يحلّ فيها، في مقابل الرجل الذي يكتسب شرعيته من كونه ممثل الله، وحليفه، وخليفته في الأرض، وطاعته واجبة لأنّها من طاعة الله، وكان يكفي أن تعصي امرأة أمر زوجها، حتى تُتّهم بالسحر والشعوذة، وأنّها حليفة الشيطان، وينبغي محاكمتها وإعدامها، بل امتد الأمر لاتهامها في حدوث وباء من الأوبئة، والحمد لله أن فيروس كورونا "كوفيد-19" لم يتوصل أحد بعد للقول بأنّه من فعل النساء أو بسببهن، أو إنّهن هنّ من ينقلنه للآخرين! ولو حدث ذلك لا قدّر الله؛ لعدنا بعجلة الزمن إلى العصور الوسطى، ولتعرّضت النساء لمختلف أنواع التعذيب، والعقاب، والإبادة التي شهدها التاريخ لنساء ذكيات، كان كل ذنبهن أنّهن رفضن التسليم ببعض الخزعبلات السائدة في ذلك العصر[4].

أخيرا، أرجو أن لا يفهم من هذا المقال أيّ تحيّز ضد الرجال، كما حدث عبر التاريخ من تحيّزات ضد المرأة، ولكنها تجلّيات "كورونية" من وحي ما يحدث هذه الأيام، ومن وحي الإحصاءات والتوجيهات، ومن المفارقات التي نسمع عنها كل يوم، ومن النكات التي راحت تزدهر بسرعة حول وضع الرجال المحاصرين في البيوت، فقد أجبرهم "الفيروس النسوي" على القيام بأمور ما كان لكل نساء الأرض، ولا لأية قوانين أو تشريعات أن تقنعهم بها، أو تجبرهم عليها، فلطالما جرى التحايل على القوانين والتشريعات، لكن كورونا المحابي للنساء فعلها!

  


[1] - أحمد، ليلى: المرأة والجنوسة في الإسلام، الجذور التاريخية لقضية جدلية حديثة، ترجمة: منى إبراهيم- هالة كمال، المجلس الأعلى للثقافة 1999، ص 35

[2] - كاميرون، إفريل، وكوهرت، إميلي: صورة المرأة في العصور القديمة، تر: أمل رواش، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 2016، ص 25، وينظر: ص 27

[3] - المرجع السابق نفسه، ص 35

[4] - السعداوي، نوال: الأنثى هي الأصل، مؤسسة هنداوي سي آي سي، المملكة المتحدة، 2017، ص ص 38-39