التحوّلات التي عرفها المغرب وتأثيرها على التعايش بين اليهود والمسلمين: مقاربة سوسيولوجيّة


فئة :  مقالات

التحوّلات التي عرفها المغرب وتأثيرها على التعايش بين اليهود والمسلمين: مقاربة سوسيولوجيّة

تقديم

شكّلت الأقلّية اليهودية على امتداد التاريخ المغربي وإلى حدود القرن 20م، الأقلية الدينية الإثنية غير المسلمة الأهم في المغرب، تعايش أفرادها وتساكنوا مع المسلمين العرب والأمازيغ. وقد مثّل اليهود بالمغرب أهمّ جالية يهودية في العالم العربي برمّته، تجاوز عددها الأعداد التي كانت موجودة في الجزائر وتونس.، وأصبحوا يشكّلون مكوّنا اجتماعيا أساسيا من مكوّنات المجتمع المغربي، اندمجوا داخله، ولعبوا في المرحلة التي سبقت الاستعمار دورا مهما في مجالات شتى. في المبادلات المالية والتجارية داخليا وخارجيا، وفي مجال الحرف التقليدية والمجال الفلاحي. وأثروا في الثقافة السائدة في المدن والحواضر كما في القرى والبوادي، وتأثروا هم الآخرين بمكونات وعناصر الثقافة المغربية[1].

تعايشت الطائفة اليهودية بالمغرب مع المسلمين طيلة مراحل تواجدها به، في تعاون مثمر تجمعهما الطمأنينة والسلام والتسامح في غالب الأحيان، هذا مع استثناء فترات العنف والغضب التي كانت تميز اللحظات العصيبة من التاريخ المغربي، أثناء غياب النظام والسلطة، وفي فترات الانقلابات وسقوط الدول؛ فترات تعرض فيها اليهود للنهب والتقتيل، ووجدوا أنفسهم في أحيان معينة مخيرين بين الإسلام أو النفي، عندما ينقلب الأمر إلى جهاد وعندما تتعاظم الاضطرابات السياسية وتصبح حربا دينية، كما حدث إبّان فترة حكم الخليفة الموحّدي "ابن تومرت"، وإبّان الحروب الصليبية[2].

على الرغم من ذلك، شكّل التعايش بين اليهود والمسلمين السمة الغالبة للعلاقة بينهما، وقد أكد هذا الأمر محمد بن الحسن الوزّاني في مذكراته عندما قال: "... إنّ علاقات اليهود بالمسلمين تنبني على قرون طويلة من التعايش، وأنّ المسلمين محتاجون إلى اليهود، كما أنّ اليهود محتاجون إلى المسلمين ولا توجد مشكلة يهودية في المغرب، ولن تكون في المستقبل إذا بقي هذا الموضوع كما هو الآن"[3]. من هذا القول يتبيّن أنّ التعايش بين اليهود والمغاربة كان مسألة ملحّة للطرفين معا وفي مصلحتهما، وشكّل نموذجا متميزا للتعايش بين الأعراق والديانات عبر تاريخ المجتمع المغربي، مقارنة بالوضعية التي عاشها اليهود في بلدان أخرى من العالم، والتي كانت مرتبطة بالظروف السياسية والاجتماعية، وبطبيعة النظرة إليهم وبالمواقف التاريخية أو الدينية التي توفرت لدى المجتمعات التي استوطنوا فيها. تلك الوضعية التي عاش في إطارها اليهود الكثير من المآسي. ولا يكاد الباحث في التاريخ الاجتماعي والسياسي للعالم الإسلامي يجد اضطهادا ممنهجا ضد اليهود، رغم ما يمكن أن يقال عن صورة اليهودي في المعتقد الديني للمسلم[4].

وتعزّز ذلك التعايش من خلال الوضعية التي منحت لليهود في ظل الدين الإسلامي، باعتبارهم يمثلون "أهل الذمّة"، هذا الوضع الذي يعطي لمعتنقي الأديان الأخرى غير الإسلام مساحة للعيش في المجتمعات المسلمة، مما وفر لليهود إمكانية الاستقرار والاندماج في المجتمع المغربي[5]. تلك الوضعية أطّرت سلوك المغاربة إزاءهم، فكان موقفهم عدم الاعتداء والتعامل بالمعروف وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لليهود، دينيا وقانونيا وقضائيا في إطار نوع من الاستقلال الذاتي إداريا وثقافيا ودينيا. ووضع للطائفة اليهودية داخل المغرب نظامها الخاص، وكانت لها محاكمها وماليتها، فكانت تضمن لتابعيها حقّهم في التديّن والرعاية والتعليم وتطبيق الأحوال الشخصيّة.

أمّا الاختلالات التي كانت تعرفها تلك الوضعية في بعض الأحيان، فقد ارتبطت إمّا بحصول اختلال عام في سير الدولة الإسلامية وحالات الفتن والاضطراب في انتقال السلطة وتغير الدول أو في حالات تحول اليهود إلى أصحاب غلبة وامتياز، أثناء استفادة بعضهم من الحماية السلطانية أو الحماية القنصلية الأجنبية، فتختل العلاقة ويبرز عداء بعض اليهود للمسلمين.

في هذه الورقة، التي هي في الأصل مساهمة بمداخلة في إطار ملتقى دبدو "مواعيد التاريخ" في دورته الأولى حول موضوع "التعايش بين الديانات"، سنقوم بتحليل سوسيولوجي لأهّم التغيرات التي أحدثها الاستعمار في بنية المجتمع المغربي، وتوضيح مدى مساهمتها في التأثير سلبا على التعايش بين اليهود والمغاربة.

التعايش بين اليهود والمغاربة كان مسألة ملحّة للطرفين معا وفي مصلحتهما، وشكّل نموذجا متميزا للتعايش بين الأعراق والديانات عبر تاريخ المجتمع المغربي

ومما سبق تبرز عناصر الإشكالية التي نروم معالجتها، والتي نقترح الأسئلة التالية لبلورتها والتعبير عنها: ما هي تجليات التعايش بين المسلمين واليهود في المجتمع المغربي؟، وما هي أهم التغيرات التي حصلت مع الاستعمار وساهمت في خلخلة بنية المجتمع المغربي؟ وأخيرا ما دور تلك التغيرات في النيل من التعايش الذي كان سائدا بين اليهود والمغاربة؟.

للجواب عن تلك الأسئلة، سنقف عند بعض مظاهر تعايش اليهود مع المغاربة وتحليلها، (مادام الأمر في هذه الورقة لا يسمح لنا بالوقوف عند كل المظاهر لتعددها وتشعبها)، لإبراز علاقة التعايش الذي تأصل في المجتمع المغربي بين اليهود والمغاربة، بهدف التساؤل عن التغيرات التي حدثت في المجتمع إبان الاستعمار وأثرت سلبا على تلك العلاقة.

قبل تناول ذلك، نرى من الضرورة بمكان الوقوف عند حضور اليهود في التاريخ المغربي.

- اليهود والامتداد في التاريخ المغربي

إنّ محاولة البحث عن التاريخ الدقيق والحقيقي لاستقرار اليهود في المغرب يكتنفه الغموض، نظرا لقدم استقرارهم الذي قدره البعض بحوالي ألفي سنة، ولندرة الأدلة الكافية والدقيقة لتحقيق ذلك. وإن جذور يهودية الغرب الإسلامي تمتد إلى عهود سحيقة، إذ يعد يهود المغرب تاريخيا أول مجموعة غير بربرية وفدت على المغرب، وما يزال البعض منهم يعيش فيه إلى يومنا هذا[6].

يذهب باحثون آخرون مع ذلك الطرح، ومن بينهم نجد "إبراهيم حركات"، حيث يقول: "وقد كان مجيئهم إلى الشمال الإفريقي في هجرات منقطعة كان أولها مع الفينيقيين، والواقع أن اليهود تمكنوا من معايشة المسلمين في أجزاء كثيرة من المغرب"[7].

هناك أيضا أطروحات مختلفة حول استقرار اليهود بالمغرب، ويبقى المتفق عليه هو أنهم ثاني عنصر استقر في المغرب بعد الأمازيغ، استقروا في العديد من مناطق المغرب، وكانوا يتمركزون في الحواضر الكبرى، مثل: فاس، وسجلماسة، وآسفي، ...، وتمكنوا من تكوين فئة اجتماعية متميزة من السكان المحليين، سواء من الناحية الدينية أو العرقية أو التقاليد. وتعتبر مرحلة الفتح الإسلامي للمغرب من أهم الفترات التي برز فيها اليهود، وتمتعوا خلالها بمجموعة من الحقوق والامتيازات[8].

لكنّ المرحلة التاريخية الممتدة من سنة 1912 وإلى حدود 1948، جعلت المجتمع المغربي يعرف تحولات وتغيرات عميقة شملت البنيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مست بشكل مباشر دعائم التعايش بين سكان البلاد المسلمين واليهود، وغيّرت مختلف أوجه تعاملهم في الحياة اليومية، إلى درجة أنها تسببت في اجتثاث مجموعات يهودية عريقة تواجدت في قرى المغرب وحواضره طيلة ما يناهز ألفي سنة. وكان ذلك بفعل الصدمة الاستعمارية التي تعرض لها المغرب، وخلخلت نظام العلاقات بين الأنا (النحن) والغير في المجتمع التقليدي. طبعا مع التسليم بأن هناك عوامل أخرى* ساهمت بدورها في ذلك.

- بعض مظاهر التعايش بين اليهود والمغاربة

تعددت مظاهر التعايش بين اليهود والمغاربة في الحياة اليومية وفي الثقافة الشعبية وفي الطقوس والاحتفالات، حيث شكّل المجتمع المغربي فضاء ملائما لاستقرارهم واندماجهم فيه، في جوّ يطبعه التسامح، مما جعلهم يقتسمون أضيق مجالات العيش والمتمثلة في السكن، ناهيك عن المعاملات الاقتصادية. وقد أكد هذه الفكرة الجيل الجديد من الباحثين اليهود (حاييم الزعفراني)، الذي كتب يقول "التعايش بينهم كان يتحقق في الحياة اليومية وفي المخيال الاجتماعي وفي الثقافة الشعبية...في فضاءات الالتقاء هذه تنهار الحدود الدينية (والوطنية) ويظل اليهودي المغربي بصفته جزءا لا يتجزأ من المحيط الاجتماعي والثقافي اللغوي للغرب الإسلامي والعالم الأندلسي المغاربي- القديم"[9].

امتزج اليهود الذين تمّ طردهم من الأندلس سنة 1492م مع إخوانهم الذين وصلوا إلى المغرب مع الفينيقيين في القرن 12م ومع اليهود الذين تم إجلاؤهم قبل ذلك من بلاد الكنعانيين. وكانت أرض المغرب حاضنة للجميع يهودا ومغاربة، تشاركوا في مياه البئر الواحدة، وتبادلوا طقوس التعبد على الصعيد الواحد، وعبروا عن أفراحهم بنفس الأهازيج، وعانوا القحط والمجاعات بنفس القدر من الصبر، وتساكنوا فيما بينهم إلى حد تشارك الأطفال في حليب الأمهات[10].

على المستوى الاقتصادي لعب اليهود دورا كبيرا في تحريك عجلة الاقتصاد المغربي إبان فترات استقرارهم، من خلال اهتمامهم بالصناعة، والحرف التقليدية خاصة، ويرتبط ذلك بتعاليم دينهم التي تفرض على كل يهودي تعليم ابنه حرفة منذ صغر سنه، ويعتبر تعليم الابن مهنة من المهن فريضة شرعية...وعموما يتعلم الابن مهنة والده مثل الصياغة والتجارة. إن براعة اليهود وإتقانهم لمختلف الحرف اليدوية مثل صياغة الذهب والفضة، مكن المغرب من إنعاش اقتصاده، وأهلهم لتقلد مناصب سامية في المغرب في السلك الدبلوماسي، فعلى سبيل المثال شغل "ميمران" اليهوديّ منصب مستشار المولى إسماعيل، ومنهم "ابن عطار"، الذي وقع باسم المغرب معاهدة 1721 مع إنجلترا، وهو ما جعلهم يحظون بعطف الملوك وحمايتهم، نظرا للأدوار المهمة التي قاموا بها[11].

وبذلك تمكّن اليهود من ممارسة مختلف عاداتهم وتقاليدهم بكل حرية، من خلال الاحتفال بالأعياد والمناسبات الدينية والمراسم الجنائزية، مما جعلهم يتوفرون على عدد مهم من المزارات والأضرحة إلى اليوم، فاق عددها 612 ضريحا للأولياء اليهود.

وعلى الرغم من أنّ اليهود كانوا يسكنون في أحياء خاصة بهم تسمى "الملاح"، وهو حيّ موجود في أغلب المدن المغربية العتيقة: فاس، وتطوان، والرباط، وصفرو، .... يتميز هذا الحي بانفتاحه الكلي وعدم وضوح حدوده، وتتداخل بيوته مع بيوت المسلمين ولا ينعزل بعضها عن البعض الآخر إلا نادرا، وهي حجرات تعيش فيها العديد من الأسر في وئام تام وتنفتح على ساحات مشتركة وتستعمل فيها المراحيض بشكل مشترك[12].

إلا أنّ دخول الاستعمار للمغرب والتغيرات التي أحدثها في بنية المجتمع لخدمة أهدافه الاستعمارية، مثّل تغيرات مست بنية المجتمع التقليدي الذي كان التعايش والتسامح أحد مقوماته، لذلك نرى في تلك التغيرات التي لحقت المجتمع مع دخول الاستعمار مدخلا أساسيا لتفسير اختلال التعايش بين اليهود والمغاربة.

ولكون هذه الورقة تنشد إنجاز تحليل سوسيولوجي لتلك التغيرات وتوضيحا لتأثيرها السلبي على قيمة التعايش، فإنّ هذا الأمر يفرض علينا منهجيا التدقيق في مفهوم التغيّر سوسيولوجيا، لنتناول بعدها تلك التغيرات التي حصلت وتوضيح دورها في اختلال علاقة التعايش بين اليهود والمغاربة.

- التغيّر الاجتماعي

يحيل مفهوم التغيّر الاجتماعي على اهتمام معرفي قديم دشنه فلاسفة أمثال هيجل (F.Hegel) وماركس (K.Marx) وكونت (A. Comte) وروسو (J.J.Rousseau) وابن خلدون، ...، وسيحمل هذا المفهوم في القرن العشرين قيمة كبرى، أثارت نقاشا واسعا بين الباحثين لشدة ارتباطه وصلته بمفاهيم أخرى، من قبيل التطور، والتقدم، والنمو، والتنمية، ولازال إلى يومنا هذا يثير ذلك السجال، نظرا لغنى دلالاته[13].

في الدلالة اللغوية للسان الفرنسي، يدل لفظ (changement) على معاني: الاضطراب، والتجديد، والتبديل، والتطور، والتدرج، والانتقال والتحسن. أما في الفلسفة فيعرفه أندري لالاند بكونه ذلك الفعل الذي تتحول من خلاله الذات أو تتبدل في خاصية أو مجموعة من الخصائص.إن التغير في هذا المستوى لا يذكر إلا مقترنا بالتحول. يتبيّن إذن أن مفهوم التغير يتداخل مع مفاهيم التقدم، والنمو، والتحول والتبدل، كما يتداخل في الأحكام العامة المتداولة مع مفهوم الاضطراب، والخلل، والتحول، التجديد، والثورة، والإصلاح، والتطور، والتبدل، والانتقال، والطفرة...، فكيف يمكن تمييز مفهوم التغير في ظل ذلك التداخل بينه، وبين مفاهيم أخرى لها صلة بالإرث الفلسفي وبالثقافة الشفوية[14].

في البداية هيمنت دلالة التطور (Evolution)على مفهوم التغير وقد كان لهذا الأمر صلة وثيقة بقوة وتأثير نظرية "داروين" وآثارها في الحقلين البيولوجي، والاجتماعي كذلك عندما قام "هربرت سبنسر" بتنزيلها اجتماعيا من خلال المماثلة بين الكائن الحي والمجتمع فيما عرف بالفهم العضوي للمجتمع[15]. رغم أن التطور في الحقل البيولوجي له مسار خطي، يختلف عن نظيره في الحقل الاجتماعي، الذي ينفلت من تلك الخطية، تبعا لارتباطه بالعوامل السياسية والاقتصادية والثقافية التي تبتعد عن حتمية التطور البيولوجي.

بعد مفهوم التطور، حضر مفهوم "التقدم الاجتماعي" (Progrés Socialللدلالة على التغير، والتقدم الاجتماعي يأخذ دلالة معيارية بوصفه يتضمن حكما خاصا على الانتقال من وضع إلى وضع آخر أفضل، إنه عملية دينامية تتجه بالمجتمع نحو غاية محددة[16]. وهذه الدلالة تبقى بدورها قاصرة عن الإحاطة بمفهوم التغير، من منطلق أن التقدم يختلف من مجتمع إلى آخر وفقا للخصوصيات الثقافية وتغير الأزمنة والظروف، إنه مفهوم نسبي.

أمّا عن مفهوم "النمو"، "التنمية" (Développement) فثمة اختلاف واضح بين التغير والنمو، فالنمو تلقائي وقد يكون سريعا أو بطيئا، إلا أنه كمي مادام يؤشر على زيادة ثابتة نسبيا، وهو محمل إيديولوجيا يسمح باستمرار التمييز بين مجتمعات نامية أو في طريق النمو وأخرى متخلفة، أو تحاول أن تنمي تخلفها، بينما التغير الاجتماعي يحمل دلالة التحول الكيفي للبناء والأدوار والقيم[17].

إنّ التباعد بين مفهوم التطور والتقدم والنمو من جهة، ومفهوم التغير من جهة أخرى قائم، اعتبارا لكون التغير ينفلت من ذلك المنحى الخطي والتقدمي التلقائي، لأنه يمكن أن يكون نكوصا وتراجعا، من الصعب تعريف التغير الاجتماعي، لأنّ كل شيء عرضة للتغير المستمر على الدوام.

لكن النظريات السوسيولوجية المعاصرة استطاعت أن تقطع مع التصورات السابقة لمفهوم التغير التي كانت تفسره بعامل وحيد، نحو تصور أكثر استيعابا لتداخل العوامل المسؤولة عن حدوثه، بين أسباب داخلية وأخرى خارجية، والبحث عن العامل المهيمن أو محرك التغيير. بناء عليه، فكل المجتمعات تتغير وإن كانت تختلف في سرعة ووتيرة التغير ذاته، كما تختلف في طرق التعايش والتعامل مع فكرة التغير ومدى احتضانه. فليس بوسع أية نظرية أحادية البعد أن تفسر التنوع في نمو المجتمع البشري وانتقاله من مرحلة إلى أخرى[18].

وعموما يمكننا أن نحدد مفهوم التغير الاجتماعي وفقا للتعريف الذي يمنحه غي روشيه له "هو ذلك التحول الملموس في الزمن، والذي يؤثر بطريقة ليست عابرة ولا مؤقتة في البنية أو العمل الوظيفي للتنظيم الاجتماعي لجماعة معينة ويعمل على تغيير مجرى تاريخها"[19].

ومادمنا بصدد المجتمع المغربي، فما هي خصوصيات التغير الاجتماعي الذي عرفه المغرب؟ وما هي سياقاته التاريخية والاجتماعية والثقافية؟، وما علاقتها بتفكيك روابط التعايش بين اليهود والمغاربة؟.

- تحولات المجتمع المغربي وعلاقتها بتفكيك تعايش المغاربة مع اليهود

عرف المجتمع المغربي كما هو الشأن بالنسبة إلى العديد من المجتمعات في الفترة الحديثة مجموعة من التغيرات التي مست البنيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، هذا التغير الذي يمكن رصده وملاحظته من خلال التغير الذي عرفته المؤسسات التقليدية (الأسرة، القبيلة، الزاوية، ...) في بنياتها، وكذلك من خلال طرق التنظيم والتسيير الهادفة إلى وضع نماذج ضابطة للمجتمع وفق ما يمكن أن يسمى بالعقد الاجتماعي. إن أي تنظيم مجتمعي في تغير مستمر رغم ما يبدو من سكون سطحي، فالمؤسسات الاجتماعية تتغير، وفي هذا الصدد يقول عبد الله إبراهيم "إنها قابلة للتبدل المستمر، وتمر في سيرورة التحول والتبدل على الرغم مما قد يخدع البعض من المظهر الراكد للمؤسسات الاجتماعية"[20]. ذلك التغير المؤسسي قد يتخذ شكل التغير النوعي الجذري في المؤسسة المجتمعية، وقد يتخذ شكل التبدل الداخلي، حيث تبقى الصيغ المؤسسية وتحصل تغيرات في البنية المؤسسية أو في قواعد ممارستها.

شكّل اليهود مكوّنا أساسيا من مكونات المجتمع المغربي، وكان عنصرا حاضرا لا يغيب عن مختلف المناطق المغربية في المدن والقرى في مختلف الحقب التاريخية 

إنّ التأمل في مجموع التحولات التي عرفها المغرب وخصوصا في الفترات المتأخرة، يرسخ لدينا أهمية دراسة التغير الاجتماعي كمنطلق أساسي لفهم مسار هذا المجتمع وديناميته الداخلية العميقة. وبالنسبة إلى كبرى التغيرات التي عرفها المجتمع المغربي كانت نتيجة لعوامل خارجية وتحديدا للصدمة الاستعمارية الكولونيالية التي تعرض لها[21]، بأبعادها الحضارية والثقافية والاقتصادية والعسكرية والإيديولوجية، تغيرات تمت بفعل الهيمنة، وأثارت في المجتمع المغربي في ما بعد ثنائية إشكالية التقليد والتحديث.

عمل التوسع الاستعماري في المغرب على تفكيك البنيات التقليدية التي كانت سائدة في المجتمع، هذا التفكيك مس جميع جوانب حياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. فقد فكك بنيات الأسرة والقبيلة والاقتصاد وشكل السلطة السياسية وروح العلاقات الاجتماعية المبنية على الروح الجماعية ونوعية التدين...، وبذلك تم تفكيك قواعد الهوية الوطنية وإذابة مكونات ومضامين الشخصية المغربية. ولتحقيق ذلك قامت السياسات الاستعمارية على عدة استراتيجيات، أساسها التمدين، والتجنيس، والإدماج، والاستيطان، والحماية. حماية أبقت على المؤسسات التقليدية مع إفراغ مضامينها القيمية، وفي نفس الوقت خلقت ثنائية القديم والحديث وعمقتها في أكثر من مجال.

إنّ سيرورة التحديث السياسي أدت إلى تحويل الدولة إلى جهاز مؤسساتي منتشر ومتغلغل أكثر فأكثر في مجالات الحياة الاجتماعية والجغرافية وبين الفئات الاجتماعية. كما أفضت أيضا إلى تفكيك الذات المجتمعية، وتقويض تنظيمات المجتمع التقليدي التي كانت تؤطر النشاط الاقتصادي والثقافي والديني للأفراد والجماعات، وكانت تؤدي وظيفة "الإدماج الاجتماعي"، نظرا لما توفره من حماية وتعاون وتضامن، لأسباب مختلفة قرابية وتكافلية واقتصادية ودينية ومجالية (وحدة الانتماء لمجال معين).

من المؤكد أنّ لمجموع تلك التحولات التي عرفها المغرب بالغ الأثر على العلاقات بين أفراده، سواء داخل الأسرة، باعتبارها الخلية الأولى في المجتمع، أو داخل المجتمع عموما، ومن ضمنها العلاقة مع الأقلية اليهودية المتواجدة في المغرب، حيث عمل الاستعمار على نزع وضعية أهل الذمة التي تمتعت بها تلك الأقلية، مما سيؤثر سلبا على التعايش الذي كان يؤطر العلاقة بين اليهود والمسلمين في المغرب طيلة تاريخ تواجدهم به. وأصبحت العلاقة بينهما تخضع للصراعات التي يذكيها المستعمر، وذلك بخلق صراعات دامية وحربا مسترسلة، سواء بين قبيلة وأخرى أو بين عائلة وأخرى، أو بين رجل وآخر، فكانت مجهوداته تنصب على تكوين شبكة من الزبناء في اتجاه دفع أعيان القبائل للمساهمة في أعماله التخريبية في شل نظام الأعراف والتقاليد التي كانت تمكن الريفيين من الحد من عمليات الانتقام والثأر التي كانت متفشية بين القبائل[22].

وعلى المستوى الاقتصادي شكل الركود الاقتصادي عاملا ساهم في خلق سياق ملائم للمواجهة أكثر من ملاءمته للتعاون، وبفعله كانت المبادلات التجارية تعرف منافسة ضارية محمومة بين تجار الجملة اليهود ونظرائهم المسلمين الفاسيين مثلا (نسبة إلى مدينة فاس) الذين استقروا بالدار البيضاء. منافسة محمومة لاستكشاف آفاق جديدة والحصول على امتيازات الشركات الأجنبية (اليابانية)، إضافة إلى سياسة الباب المفتوح الذي أقرته اتفاقية الجزيرة الخضراء[23].

الخاتمة:

لقد شكّل اليهود مكوّنا أساسيا من مكونات المجتمع المغربي، وكان عنصرا حاضرا لا يغيب عن مختلف المناطق المغربية في المدن والقرى في مختلف الحقب التاريخية، ممّا مكّنهم من تقلّد مناصب مهمّة في مختلف طبقات المجتمع وعلى اختلاف مجالاته الحيوية، يهودي القرية أو المدينة، اليهودي الحرفي الفقير، يهودي السلطان أو البلاط الغنيّ ذو النفوذ والحظوة[24]، في مناخ يطبعه التعايش والتعاون والتسامح بينهم وبين المغاربة. لكنّ التحوّلات التي شهدها المجتمع المغربي عملت على تحطيم تلك الأواصر وعجلت برحيل اليهود ومغادرتهم للمغرب. طبعا دون أن ننسى دور النزاعات العالمية في تدمير تلك العلاقات، فقد تعالت الأصوات الفاشية الداعية إلى ضرورة التقتيل الجماعي لليهود من طرف المسلمين، ابتداء من 1939، باسم تأويل خاص للديانة المسيحية ولمفهومي التضحية والأضحية جاءت العملية المسماة "الحل النهائي"، الذي يفيد القضاء على اليهود وعلى أقليات أخرى (من بينها الغجر)[25]. إضافة إلى انتصار الجبهة الشعبية بفرنسا، ونشوب الحرب الأهلية بإسبانيا، والانتفاضة الكبرى في فلسطين، وامتداد تأثير الأزمة الاقتصادية العالمية إلى المغرب.

[1] محمد كنبيب، يهود المغرب، 1912- 1948، ترجمة ادريس بنسعيد، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، سلسلة نصوص وأعمال مترجمة 8، مطبعة النجاح الجديدة- الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1998، ص. 17

[2] حاييم الزعفراني، ألف سنة من حياة اليهود بالمغرب، تاريخ- ثقافة- دين، ترجمة أحمد شحلان وعبد الغني أبو العزم، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 1987، ص. 14

[3] محمد بن الحسن الوزاني، مذكرات حياة وجهاد، التاريخ السياسي للحركة التحريرية المغربية، ظهور الأحزاب والمطالبة بالاستقلال 1937- 1946، الطبعة 2، الرباط، 1986، ص. 255

[4] إبراهيم حركات، المغرب عبر التاريخ، الجزء الأول، دار الرشاد الحديثة، الطبعة الثانية، 1984، ص. 56

[5] دانييل شروتر، يهودي السلطان، تعريب خالد بن الصغير، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط أكدال، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، الرباط، 2011، ص. 37

[6] حاييم الزعفراني، مرجع سابق، ص. 17

[7] ابراهيم حركات، مرجع سابق، ص. 56

[8] دانييل شروتر، مرجع سابق، ص. 37

[9] حاييم الزعفراني، مرجع سابق، ص. 288

[10] أحمد شحلان، اليهود المغاربة، من منبت الأصول إلى رياح الفرقة، دار أبي رقراق، الرباط، 2009، ص. 12

[11] حاييم الزعفراني، مرجع سابق، ص. 84

[12] النقيب فوانو، وجدة والعمالة، ترجمة محمد الغرايب، الجزء الأول، مطبعة عين شمس، الطبعة الأولى، وجدة 2003، ص.131

[13] Raymond Boudon, La place de désordre, Quadrige, PUF, 1985, p. 13

[14] محمد سلام شكري، علم الاجتماع بين النظرية والممارسة، منشورات مختبر سوسيولوجيا التنمية الاجتماعية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز- فاس، 2015، ص. 20

[15] عبد الغني عماد، سوسيولوجيا الثقافة، المفاهيم والإشكاليات، من الحداثة إلى العولمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 2006، ص. 189

[16] عبد الغني عماد، المرجع السابق، ص. 190

[17] عبد الغني عماد، نفسه، ص. 190

[18] أنتوني غدنز، علم الاجتماع، ترجمة وتقديم فايز الصياغ، الطبعة الرابعة، مركز دراسات الوحدة العربية، 2005، ص. 106

[19] Guy Rocher, Le changement social, Editions Seuil, paris, 1968, p. 22

[20] عبد الله إبراهيم، علم الاجتماع (السوسيولوجيا)، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 2001، ص. 104

[21] Georges Balandier, Sens et puissance, les dynamiques sociales, Paris, PUF, 1971, p. 219

[22] Germain Ayache, Les origines de la guerre du rif, paris, Publications de la Sorbonne, 1981, pp. 113-114

[23] Andrée Adam, Casablanca, Essais sur transformation de la société marocaine au contact de l’occident, Editions CNRS, Aix_ en Provence, 1972, p. 365

[24] دانييل شروتر، مرجع سابق، ص. 32

[25] عبد الله حمودي، العنف: إضاءة أنثروبولوجية، مجلة فكر ونقد، العدد 55، دار النشر المغربية، يناير 2004، ص. 46