التديّن الكرنفالي في السياق العربي والإسلامي: في مهاد المفهوم (الجزء الأول)


فئة :  مقالات

التديّن الكرنفالي في السياق العربي والإسلامي:  في مهاد المفهوم (الجزء الأول)

مقدمة:

يقف الناظر إلى حال المجتمعات العربية والإسلامية وقفة دهشة واستغراب، من هول ذهول مفارقاتها وعجائبها في الدين والدنيا، فلا تكاد تلج فضاء من فضاءاتها إلا وتجد الناس أكثر تديّناً، وأكثر دفاعاً عن هويتها الدينية، وهو دفاع يتحول أحياناً إلى القتل باسم الدين وباسم الله، إحقاقاً للحق وإعلاناً للحدود؛ ففي البيوت مثل العيادات، لوحات لآيات قرآنية بمختلف أشكال الخط العربي، ويوم الجمعة تنهال عليك رسائل واتساب بجمعة مباركة وفق أيقونات وصور ثابتة ومتحركة، وتسجيلات فيديو لمقرئ أو لداعية، حيث تحولت الهواتف الذكية إلى داعية جديد، وأنت تلج عيادة الطبيب، تسمع القرآن، كما تسمعه في معظم المحلات التجارية، وكأن الدعوة إلى الإسلام بدأت لتوّها، ولا يهم إن كان القرآن يقرأ والناس منغمسون في أحاديث خاصة وعامة، بالرغم من أن القرآن تلاوة وتدبراً مرتبط بالاستماع والصمت والسكينة.

الموقف نفسه، وأنت تركب تاكسي صغير أو كبير، خاصة يوم الجمعة، أو في الصباح الباكر، وفي رمضان بعد الإفطار تتحول الشوارع والأزقة إلى مساجد مفتوحة لعموم المصلّين، ناهيك عن انتشار كتاتيب ومساجد وجمعيات لتحفيظ القرآن والأذكار والأناشيد الإسلامية، وسنة عن أخرى تتضاعف أفواج الحجاج والمعتمرين، وكل ذلك لم يخلص هذه المجتمعات من الفساد الأخلاقي والانحطاط والتخلف والتطرف والغلو، بل، وأصبحت هذه المجتمعات تصنف سنوياً في أدنى سلم التنمية والشفافية، وباتت ترتب في مقدمة الدول التي تعم فيها الفوضى والعنف والفساد بشتى أشكاله. فما الذي حصل؟ وكيف انفصلت الأخلاق والمدنية عن الدين، وتحوّلت العبادات إلى محض طقوس تفتقد للمعنى الروحي والوجداني، وأصبحت أشكال التدين مجرد كرنفال؟

في مهاد المفهوم:

تعد الطقوس بشكل أو بآخر أحد تجليات الفهم الفردي والجماعي للدين نفسه

إذا كانت الطقوس جزءا لا يتجزّأ من ظاهرة التدين، فإنها تعد بشكل أو بآخر أحد تجليات الفهم الفردي والجماعي للدين نفسه، ومن هنا، فإنها تلخص في العمق رؤية العالم والأشياء والناس من جهة، بما تسم به المجتمعات من تميز على مستوى أداء العبادات، حتى من داخل الدين نفسه، ولهذا، فإن معيارية الدين تنشطر على مستوى التدين إلى أشكال وصيغ متعددة، تعدد الجغرافيات وتعدد الأزمنة، بيد أن انصراف التدين من أبعاده الفردية التي تعكس طبيعة علاقة الفرد بالإله/ الآلهة، إلى أبعاده الجماعية، يمنح الفرصة لبروز الطقوسية، باعتبارها سياسة للتدين، بموجبها يصبح للاجتماعي دور أساسي في تغيير الدين، بما يشكله من تأثير على أشكال التدين المتعددة، وهو التأثير الذي يطبع علاقة الاجتماعي بالديني، الزمني بالروحي، الديني بالدنيوي. حيث لا يؤثر الدين في المجتمع فحسب، وبشكل أحادي، بل يؤثر المجتمع في الدين نفسه عبر تحولات أنساق الفعل الاجتماعي في تعالقه مع نسقي الشخصية والنسق الثقافي.

لقد شكلت الطقوسية، على مر العصور والجغرافيات البشرية والطبيعية، أحد أهم التنظيم المجتمعي في أبعاده التواصلية، أفقياً، فيما بين البشر من جهة، وعمودياً، فيما يهم انتظام علاقة الانسان بإلهه، وهنا لا يشكل الإسلام وباقي الديانات الوحيانية الاستثناء، بقدر ما يهم كل الأديان، بيد أن تشبع الطقوس بمرجعياتها الروحانية والروحية، يجعلها شديدة التنظيم ودقيقة البناء على مستوى أبعادها الشعائرية، وهو ما يجعلها بالأساس أحد أهم الأشكال والآليات التي تمنح الإنسان القدرة على تجاوز شرط التناهي والفناء والضعف، إلى اللامتناهي والكلي، بما هي قدرة على نسيان الشرط البشري والارتماء في حضن اللانهائي، وهو ما يجعل من الخشوع والرهبة مكونين أساسيين من مكونات الظاهرة الطقوسية، التي تمنح الإنسان القدرة على معاقة الإلهي والروحي، ضداً على قيود الزمنية، والتي هي بالأساس قيود للانتماء للاجتماعي أكثر من انتمائها للديني والإلهي. لكن انتفاء المكون الروحي منها يجعلها مجرد شعائر اجتماعية عرفية، سرعان ما تتحول إلى عادات وتقاليد يطغى عليها البعد الاحتفالي الاستعراضي، والذي يعكس هوية الانتماء أكثر من هوية الحلول بتعبير المتصوفة.

إن شدة العرف بعد فقدان الظاهرة الطقوسية للبعد التعبدي الخالص، تجعل التدين زمني الطبع والطبيعة، ومرتبط بالاجتماعي في تحولاته وتمظهراته في الزمن والمكان أكثر من انتمائه للمفارق والمتعالي. ولهذا، تشتد المساحة بين الدين والتدين كثافة وامتدادا كلما ابتعدنا عن الأصول الأولى للأديان، خاصة الوحيانية منها، وإذا كان العرف يلعب دوراً كبيراً في التشريع الأخلاقي والاجتماعي للمجتمعات عبر مر العصور، فإنه سرعان ما انقلب التدين على الدين نفسه، وهو ما ينطبق على الأديان التوحيدية/ الوحيانية: اليهودية، المسيحية والإسلام، وكلنا يعرف كيف انفصل الفقه في الإسلام عن الواقع المتبدل، بعد أن انفصل التدين عن الدين، وانفصل الروحي عن الزمني بانفصال الأخلاقي عن الطقوسي. بانفصال التشريع الديني عن الممارسة البشرية، مما جعل الانفصال بين العبادات والمعاملات انفصالا ينم عن ارتكاسية فظيعة باتت تميز التدين الحديث والمعاصر، خاصة في المجتمعات المتخلفة، ومنها بطبيعة الحال المجتمعات العربية والإسلامية، لفقدان العرف نفسه في تجلياته الاجتماعية لدلالاته الأخلاقية والروحانية.

إن التحولات التي طرأت على جانب العبادات في الإسلام نتيجة عدد من الأسباب والعوامل، السياسية، الثقافية والاجتماعية، دون أن نفصل كل هذه التحولات عن الاقتصادي بطبيعة الحال، طالما أنه لا مكان للحديث عن الأخلاق مثلا في ظل وجود الفقر والمعاناة والاستبعاد الاجتماعي، وغياب الفرد كمفهوم مؤسس للهوية الإنسانية في أبعادها الروحية والدينية على حد سواء، وللهوية الحداثية، جعل النقل يحل محل العقل، والجماعة تحل محل الفرد، وجعل التكليف يحل محل الاختيار، وهو ما انتفت معه الحرية باعتبارها قيمة القيم. هكذا سوف يتحول الطقوسي إلى عرف، ويتحول العرف إلى كرنفال، بما هو رمز تلخيصي للهوية الدينية الجماعية.

يعتبر الكرنفال في الثقافة الرومانية أساس الاحتفالات الشعبية، التي كانت مناسبة للاحتفال السنوي الاستعراضي بالفرح والانتماء إلى روما في علاقتها بالآلهة، ولهذا فهي احتفالات في وثنيتها الخالصة، شكلت عرفاً طقوسياً لاحتفالات المسيحية المبكرة، وتفيدنا موسوعة ويكيبيديا أن الكرنفال أتى من عيد كان يقام للإلهين، ساتور وستورن في آواخر الحكم الروماني، وكانت هذه المهرجانات تتميز بالفحش، والتحرر من جميع القيود، وإذا كانت هذه الرواية معتمدة عند الكثيرين، فإن "هناك رواية أخرى تقول إن الكرنفالات نشأت في سويسرا، قبل المسيحية، فكانت الاحتفالات تقام مع بداية الربيع، لطرد الأرواح الشريرة كما يعتقدون، وكان الناس في هذه الاحتفالات يرتدون الأقنعة، وتتقدم الوفود الفرق الموسيقية، بعد ذلك تحولت إلى مواكب للقديسين مثل مريم العذراء، وبالرغم من أصله الوثني، إلا أنه دخل الاحتفالات المسيحية، مما جعل الكنيسة خصوصًا في القرن السادس عشر، تسعى لمراقبتها خوفًا من التجاوزات. بدأت فكرة الكرنفال في العالم المسيحي قبل مئات السّنين، عندما قام أتباع الدّيانة الكاثوليكيّة في إيطاليا بارتداء ملابس باهرة مهرجانيّة ليوم واحد قبل أربعاء الرماد؛ أوّل يوم من عيد الفصح والصوم الكبير، حيث يمتنعون فيه عن أكل اللّحوم، فجاء اسم Carnevales بالإيطالية، ليعني حرفيّا الابتعاد عن اللّحوم. ومع مرور الزّمن، أصبح الكرنفال احتفالًا مشهورًا انتشر في بلدان كاثوليكيّة أخرى في أوروبا أوّلًا، ولاحقًا في بلدان حول العالم خصوصًا البلدان ذات الثقافة الكاثوليكية، وذلك نتيجة امتداد الحكم الأوروبيّ فيها. وتوسّع الكرنفال اليوم حتى أصبح احتفالًا موسميًّا سنويًّا، حيث يبدأ عادة مع الأحد الأخير الذي يسبق أربعاء الرماد أو أبكر من ذلك بعدّة أيام وليال". (وكيبيديا).

دخول المجتمعات الغربية عصر الحداثة جعل الاحتفالات الكرنفالية تفقد بعدها الديني

بيد أن دخول المجتمعات الغربية عصر الحداثة منذ القرن الثامن عشر، ومع التحولات العلمانية التي بات يعرفها الفضاء العام، جعل الاحتفالات الكرنفالية تفقد بعدها الديني، لتسير مجرد احتفالات استعراضية شعبية، خاصة مع البروتسانتية، وبالرغم من احتفاظها بهالة دينية، كما هو الحال في التقليد الكاثوليكي، فإن هذه الهالة اتخذت أبعاداً علمانية واضحة، جعلتها في النهاية أشكالا احتفالية أقرب إلى الفنون (رقص، غناء، استعراض، رسم، مسرح...إلخ)، منها إلى الدين، خاصة وأن الاحتفال الكرنفالي كان مرتبطاً بالاحتفاء بالأيام الأخيرة قبل موعد الصوم، حيث كانت هذه الاحتفالات "تنتهي يوم الثلاثاء "الدسم"، الذي تعقبه فترة الصيام، تستمر أربعين يوما كاملا، وعادة ما كانت تنتهي هذه الفترة باليوم السبت، باعتباره يوم الصوم الكبير".(نفسه). بيد أن الكرنفالية المرتبطة بالتدين في السياق الإسلامي تختلف اختلافاً كبيراً عن السياق الغربي لعدة اعتبارات، سوف نأتي على تحليلها فيما بعد، خاصة مع تضخم ذهنية التحريم، وانفصال الفقه الإسلامي عن الواقع المعاش في تحولاته المتسارعة والكثيفة في عصر العولمة، مما يجعل المجتمعات الإسلامية تقوم بتوضيب تديني للعبادات والممارسات الاجتماعية اليومية، من خلال مزج العرف والعادات والتقاليد في سلوكياتها الدينية، التي ظلت رهينة ثنائية التقليد والحداثة، في الرؤية كما الممارسة، مما خلق بالنهاية هوية متشظية، تجد تعبيرها الفلسفي في تدين الأقنعة إن جاز لنا استحضار نتشه، بكل ما تحمله الأقنعة من دلالات الزيف والتورية والفرجوية.

تجليات الكرنفالية في السياق الإسلامي:

قبل الغوص تنقيباً في تجليات الكرنفالية في السياق الإسلامي المعاصر، وجب نظرياً تأسيس الانتقال من المفهوم التصور إلى المفهوم الدلالة والأداة، بمحاولة استخلاص أهم مميزات وملامح الكرنفالية، والتي نجملها في الأبعاد التالية:

الفرجوي: حيث يرتبط الأداء بالبعد الفرجوي، بكل ما يرتبط بأداء الجسد الحركي، بما في ذلك اللغة (الترانيم، الأناشيد، الأذكار...إلخ)، وهو ما يمكن وسمه بمسرحة البعد الاحتفالي.

- الجماعي: لا يمكن الحديث عن الكرنفالية، إلا بالتركيز على الأداء الجماعي، بحيث يذوب الفرد في مورفولوجيا الجماعة، التي تحدد شروط الانتماء والهوية.

- الطقوسي: مجموعة من الاجراءات التي يؤديها الأفراد بشكل جماعي، والتي تتأسس على مجموعة من الشعائر التي تدين بحياتها إلى موروث الجماعة، ومنها يصبح للعرف عادات وتقاليد دوراً مُبَنْيناً ومؤسساً.

- التركيز على المظهري، بما في ذلك اللباس الذي يتحول إلى رمز وسيلي، حيث يمكن الحديث عن توحيد الزي، وتميزه عن الأزياء والملابس المعتادة، وهو ما يمثل تكسيراً للمألوف، ومثال ذلك، ملابس يوم الجمعة، الجلباب الأبيض، أو ملابس الإحرام....إلخ.

وبما أن هذا التنقيب يستدعي أكثر من ورقة، ارتأينا الاشتغال على سلسلة من الحلقات القادمة، نسائل من خلالها هذه التجلّيات الكرنفالية التي تميز التدين العربي الشعبي، والتي ما تزال تحتفظ ببعض ترسباتها الوثنية.