التصورات وضرب التمايز: من قيمة الجسد إلى الأشياء


فئة :  مقالات

التصورات وضرب التمايز:  من قيمة الجسد إلى الأشياء

التصورات وضرب التمايز:

من قيمة الجسد إلى الأشياء

د. سعيد نجدي

باحث لبناني

تختلف التصورات الجماعية حول الجمال والجسد من جماعة لأخرى؛ فكل جماعة لديها مدلولاتها ومعانيها ورموزها ومعاييرها في ما يخص تصورات الجمال وتقنيات الجسد، التي تنبع من هويتها الثقافية التي تؤمن نوعا من الدمج الداخلي بغية التمايز الخارجي، والتي تبقى مفتوحة بطبيعة الحال على شتى أنواع التحويل بفعل وجود الخروم والنوافذ التي تدخل منها، وهذا حال البنية القابلة بشكل دائم للبنينة اعتماداً على الركائز المجتمعية والنفسية والإنتاجية والثقافية وغيرها، والتي تأتي دراسة الموضوع من زاوية الأنثروبولوجيا، لكي نفهم مدلولات الأشياء الجديدة بغية تفسيرها، خصوصاً وأننا في عتبة التصورات الجماعية التي تعتبر ضمن ميدان الثقافة.

أهمية التصورات أن لها طابعا جماعيا وحيزا مكانيا خاصا بكل جماعة، وتأتي هذه التصورات بما تحمله من أفكار ومعتقدات لتحكم على الفعل الذي يعطي معنى للأشياء، فهي أشبه بالقوانين والأعراف التي تسري في مؤسسات وحقول المجتمع التي تشكل الأفراد، لتعطي نوعاً تعاقدياً بشكل مستبطن؛ لأنها شفهية كلامية كالعادات والتقاليد؛ أي إنها غير مكتوبة، تأخذ بعض التصورات طابعاً مقدساً نظرأً للإيمان بها وتصديقها، كانت سابقاً على كما أشار جيمس جورج فريزر تضطلع بدور العلم؛ لأنها قائمة على مبدأ السببية كالسحر على حد قول مارسيل موس1. بما أن التصورات تعمل على شد أواصر الجماعة، وتؤدي إلى انخراط أفرادها، فإن الخروج عن تصورات الجماعة يؤدي إلى النبذ والعزلة والقلق وعدم الشعور بالرضى؛ لأنه خروج عن الكل وعن الانتماء، والتصورات تخص كل شيء له علاقة بحياتنا المجتمعية، بدءاً بالتصورات حول: المكان، الزمان، المسكن، المأكل، الزواج، الإنجاب، العمل، الجلوس، المصافحة، المرض، الزينة، الحلي، ثقب الوجوه، الشَعر، الأسنان، البشرة ... إلخ، انتهاء بالمقدس والحياة ما بعد الموت والمسكن الجديد (المقابر) والعالم العلوي.

أما موضوعنا، فيتمحور حول الجمال والجسد بشكل خاص، فبعد العديد من الملاحظات نجد أننا اليوم أمام تصورات حول الجمال اللافت فيها صفتها الكونية، متجاوزة كل البنى والهويات والخصوصيات الثقافية والمجتمعية والسؤال هو هل أننا انتقلنا من الثقافة وتمايزها كمدلول؛ وذلك انطلاقاً من اختفاء الكثير من مدلولاتها، والتي من ضمنها التصورات حول الجمال والجسد، وبالتالي هل أن القيمة لم تعد للثقافة وخصوصياتها، بل أصبحت للأشياء؟.

الإشكالية: صحيح أن الأشكال والعناصر التقنية والمادية أسهل في التقبل من العناصر ذات البعد الإيديولوجي أو الديني، انطلاقاً من التقابل؛ فالثقافة هي في صيرورة دائمة التشكل، وهي قادرة على التعايش ما بين الأنماط الأصلية وأنماط النموذج الغالب أو نتيجة الاحتكاك بالآخر، وهي ليست فقط بسبب تدمير البنية، وإنما نظراً لفقدان الاتجاه يؤدي ذلك إلى تيه الأفراد، أو التقليد المؤجل بسبب غياب النموذج2، (وهي استعارة اصطلاحية نأخذها من بياجيه الذي كان يقصد فيها موضوع اللغة)، وإن كان غير ذلك؛ أي إنه إذا كانت البنية أقوى، فإن الأشكال الأكثر غرابةً؛ أي المبتعدة عن الثقافة المُتقبلة تكون في حالة من عدم القبول، وإن لم تكن كذلك، فإنها تعمل على إعادة تحديد للأشكال والوظائف لناحية الدلالة لكل سمة، ويصار إلى دمجها لتتوافق مع وظائفها.

من هنا نتساءل؛ إلى أي حد لم نعد فيها قادرين على تحديد وظائف وأشكال ودلالات سماتنا الثقافية، حيث إننا أكثر تقبّلاً لكل ما هو خارج البنية، وهل السبب في ذلك، تراجع النموذج الأصلي للثقافة التي تجمع لصالح تعدد الهويات المصنعة التي تفرق، أم غير ذلك وأن السؤال الكلاسيكي ما عاد يدور حول بنية خاصة في مواجهة حرب أو تدمير ونزوح وسفر أو تجارة ...إلخ، وبالتالي لم يعد أداةً للتفسير؛ أي إننا اليوم أمام نموذج كوني، وبالتالي هذا النموذج أصبح معمّماً لدى كل الثقافات؟

فعلى سبيل المثال، كانت التصورات تختلف من مكان لآخر حول الجمال والجسد وحجم الأعضاء وتسريحة الشعر وشكل العضلات والبطن /الكرش للرجال، وأنواع الحلي والزينة وشكل الأسنان، مثلا كانت تختلف المعايير؛ ففي مكان كانت المرأة السمينة رمزاً للجمال والأنوثة، والمرأة النحيفة كانت إشارة على الضعف؛ أي إنها لا تشكل أي نوع من الإغواء، أو حجم الصدر والمؤخرة، أو الرقبة أو الشفاه التي تختلف التصورات حولها من مكان لآخر. أما اليوم، فإننا أمام معايير أصبحت بشكل كبير معايير ذات بعد كوني، تنطلق من نموذج أُحادي، عمل على إنتاج مخيال كوني دائم التشكل، ونظراً لسهولة التقبل، يصار إلى تقليدٍ مؤجل من خارج البنية؛ أي إنه بعد غياب النموذج الخاص تبدأ الاستعارات من الخارج، هذا البعد أصبح معمماً بمعنى أن الناس وبشكل من الأشكال أصبحت تشبه بعضها، من خلال إنتاج نسخ مشوهة ومعدلة من كل مكان وبالتالي خصوصيات الملامح تتلاشى مع هذا الشيء، وهذا النموذج ينطلق من استعارة أساسية، وهي المردود الذي يفيد، من خلال إنتاج الصور والعلامات المصطنعة، حيث إن الفروقات تختفي ما بين الصورة والحقيقة التي خلف الصورة، والاصطناع هو التظاهر بامتلاك ما لا نملك، كما وصف بودريار؛ أي إن هذه السلع والأشكال ما عاد لها موطن3 وباتت أشكالها بلا معنى؛ أي إن التحكم لم يعد بيد الثقافة وخصوصياتها، داخل هذه الحقول، إنما للصور المصنعة والتي لا هوية وسمة لها سوى فراغ المعنى؛ أي إننا أمام إنتاج من الخارج، ليصار معه إلى نوع من الاستهلاك الذي لا حد له، ليمارس عبودية وتسلط وتدجين على الجسد والمخيلة. تحولت الأجساد مع هذه العملية إلى أشبه بمكعبات بفعل التشكيل الدائم لها، كأن الأجساد قطعٌ تُنحت تزال وترَكب، ليحفر هذا النموذج قانونه عليه، وكأن أجسادنا سلع بضاعية، من خلال ضرب لملكاتنا الذوقية، وبالتالي لم تعد هناك خيارات بسبب سلطة التصنيف والحكم، واللافت كما أشار نوربرت إلياس عن السلم المجتمعي4 أن هذه العملية أصبحت عند كل الفئات المجتمعية صعوداً ونزولاً، يعود هذا إلى التدفق الهائل للصور من خلال التقنيات الحديثة التي تعمل على الوهم المصنع، بشكل عنيف يضرب الذات؛ لأننا نصبح أمام ضرب للثقة وعدم رضى دائم.

فمثلا تبدأ العملية بتكبير الشفاه التي تبدأ برضى مؤقت، لكي تتحول بعدها إلى عدم رضى، ومن ثم تكبيرها أكثر لتصبح ربما كالبطة، ومن ثم الانتقال إلى أجزاء أخرى والعملية لا تنتهي، لكي تعطي شعورا بالارتياح وتبادلا بالرغبة مع هذا الوسط الكبير، قلق دائم وسعادة مؤقتة وتأجيل متكرر من أجل مجاراة هذه التصورات الأحادية، التي توحي بأن عدم تقليدها يعني عدم وجود جمال، وكأنها الطقوس الوحيدة للعبور إلى الجمال، أو على سبيل المثال الشبان الذين يعملون على بناء جسم فولاذي، يبدأ الشاب برغبة بناء عضلاته وتقطيعها ولكن سرعان ما تجمح رغبته شيئاً فشيئاً، حتى وإن كان من ذوي الدخل المحدود، لكنه ينفق أموالاً طائلة، ليتحول كل اهتمامه ووعيه حول هذا الشيء، يعود ذلك إلى الرغبة التي تتوسع وتتمدد لكي يستهلك هذه الحبوب والحقن وغيرها من مواد بغض النظر عن الآثار التي تترك على صحته التي تؤدي في أحيان عديدة إلى الموت، مشكلاً انطباعا بأنه إن لم يكن على هذا الشكل الذي لا ينتهي، فإنه لن يكون جميلاً فيقع عندها بالهوس المرضي، أو صورة البطل الفولاذي لناحية الشكل الذي لن ينتهي ولن يكون هناك رضى. نرى أن استحواذ هذا النموذج على الكبار والصغار وعلى جميع الفئات والأنماط المتدينة والمحافظة وغير المتدينة نقول هذا من باب التدليل على قوة هذا النموذج، ليعطي انطباعاً أن الخارج عنه؛ أي الذي لا يقلده هو شخص غير مرغوب. وقوته أيضاً في عبور كل الحدود الجغرافية، والثقافية.

الإشكالية ليست بالتجميل بحد ذاته، فليس الموضوع هو في الحكم المعياري، إنما في توصيف هذه الأشكال وفهم التحولات في البنى لناحية التصورات التي أصبحت معممة، والتي دخل الأفراد معها بحالة من اللارضى نلاحظها بشكل كبير إلى حد التشويه في أحيان كثيرة، من خلال اللعب على الرغبة المصنعة الذي لعب السوق الرأسمالي الاستهلاكي عليه، والذي يجعلنا أحرارا على أي منوال نريد أن نكون في سوق العبيد المدمغ. لهذا، فإن سمات هذا الشيء تبرز في موضوع تقنيات الجسد واستخدامه واستعراضه، والدلالات التي طرأ عليها التحولات؛ لأن الجسد وما يحمله من تقنيات ورموز، يكشف من خلالها ثقافة ما وخبرات رمزية5، لذلك فالملاحظ هو التحول في هذه التقنيات؛ أي إن هذه العمليات فرضت معها تقنيات جديدة في استعمالها للجسد، على سبيل المثال كانت كل ثقافة لها تقنياتها في استعمال الجسد، لناحية المشي، أو الجلوس، أو المصافحة، والكلام، إزالة الشعر من أجساد الرجال ... إلخ. أدت هذه العمليات إلى اختفاء الكثير من هذه التقنيات وخصوصياتها، مثلاً شد الوجه تفرض نوعاً بتغير طريقة الكلام، أو حنك الوجه الذي سوف يؤدي إلى تعديل في نبرة الصوت حسب نوع العملية، مثلاً عمليات ترميم الجسد والعظام، سوف تؤدي إلى تحول في طريقة المشي وكذلك الجلوس، ولا ننسى الفم والأسنان تحول في الهيئة، وأشياء كثيرة ليس باستطاعتنا أن نتكلم عنها كلها، مثلاً كان مارسيل موس يقول، من طريقة الجلوس كنت أعرف إن كان هذا الشخص إنجليزياً أو فرنسياً. أما الآن ومع التربية المضخمة للأبدان، أو العمليات التجميلية الكبيرة للوجه والجسد، التي تفرض نوعاً من تحويل طريقة الجلوس والمشي، أصبح من الصعب معرفة هويات الأشخاص؛ لأنها حكماً تؤدي إلى تبدل في تقنيات الجسد.

مع هذه العمليات، أصبح من الصعب على سبيل المثال معرفة إن كان هذا الشخص عربياً أو غير ذلك، فعمليات الوجه التي تؤدي إلى تغير كبير في الشكل وحتى تركيبته وتركيبة الجمجمة والحنك والذقن التي تختفي معها الملامح والخصوصيات الجميلة والهيئات المتعددة للثقافات. الوشم على سبيل المثال، كانت كل رسمة وطريقة وشكل، له أبعاد رمزية يحدد من خلالها الانتساب إلى مرموز معين، إن كان انتساب إلى مكان أو جماعة، أو قبيلة، أو فئة، أو إلى طوطم، أو هوية دينية معينة، وأيضاً لناحية مكان الوشم في الوجه، حتى الشطبات وعددها ومكانها، كانت أيضاً ترمز إلى قبيلة ما. أما الآن، فنحن أمام رسوم للوشم وثقب الوجه أو اللسان أو الأنف، لا هوية رمزية لها مدلول خاص؛ لأن الكل أصبح يشبه بعضه البعض، وهي شبيهة في كل أصقاع الأرض سماتها التقليد بترميز علامات مرتبطة بالسوق الرأسمالية، مثلاً في إفريقيا من خلال هذه الأشياء، التي كانت تسمح بمعرفة التمييز لناحية الجماعات والقبائل، وإن كانوا من نفس البشرة، إلا أن التمايز كان يظهرمن خلال هذه الرموز حتى لون البشرة أصبح بالمقدور تغييره وشكل العيون وشرحتها وشكلها، وحتى عربياً كنا نرى الجدات الكبار لا تخلو أيديهن من وشم وطريقة معينة كل واحدة لها دلالات خاصة، إنما كانت ترتبط هذه الرسوم أو الحناء بالوسط الثقافي الخاص. وفي هذا السياق، فإن تقنيات معينة في اللباس والزينة والحلي؛ أي كل ما يخص الجسد، قبل عمليات التجميل كانت تظهر التمايز، من الناحية الثقافية، وداخل كل ثقافة أيضاً هناك تمايز لناحية المكانة نوع القماش أو التطريزة للطربوش ونوع الكوفية والشروال مثلاً. أما الآن مع هذه العمليات التي أدت إلى تراجع التمايز لناحية كل رمزية وما يتعلق حولها من تصورات، أصبحنا في عالم يشبه بعضه، أمام انتصار وهيمنة نموذج أحادي.

يعود هذا إلى عدة أسباب، أحدهم من أجل الزواج، لكي يبدو أنه مقبول وبأنه إنسان يجاري روح العصر، وفئة من أجل مجاراة الموضة وسحرها، وأحدهم من أجل التباهي لكي يعوض الأشياء التي يفتقدها ربما لكي يشعر بالرضى، وأنه موجود بعد عمليات تهميش ورفض له، فيلجأ إلى عملية التمازج والمماهاة، وهذا احتمال، وأحدهم من أجل الشهرة، في ميدان الأعلام والاستعراض الفني السلعي، ولكن هذا يعود إلى فقدان النموذج الخاص للثقافة وعدم قوتها أمام هذه الأشكال، أو عدم ثقة الجماعة والأفراد بما يحملونه من نموذج نظراً لما مرَّ عليه من عدم قدرة على المواجهة والهزائم المتكررة في شتى الصعد؛ لأننا نرى هذا التقليد حتى في ميدان الأكاديميا والسياسة وباقي الحقول؛ لأن هذه العمليات التجميلية متاحة بشكل واسع لكل الفئات والطبقات، وسعرها أصبح مقبولاً للغاية، مثل الفاست فود، والجينز، ... إلخ.

اللافت إذن، أن هذه الأشكال ما عادت تخص فئة أو ميدانا؛ لأن قوتها في تخطي كل الحقول والميادين، فعلى سبيل المثال، سابقاً كان لكل ميدان خصوصياته لكي يعطي لنفسه تمايزاً عن الآخرين باتباع أنماط وسلوكيات وبراديغمات محددة، كوجود براديغم للفنان، أو الكاتب والعالم والأكاديمي والمثقف، أو براديغم للأطباء، لناحية طريقة تصفيف الشعر واللباس ونوع الذقن والقبعة والنظارات، حتى إننا نلاحظ اليوم أكثر من ذلك في المؤسسات الدينية، وإن رجالاً من الذين يدرسون العلوم الدينية قد دخلوا بهذا الوعي الكوني لناحية اللباس وتصفيف الشعر وشد الوجه وغيرها من أمور، بالطبع من دون أن نشمل طريقة التفكير والأسباب، ولكن ما نود أن نشير إليه هو التقنيات الموحدة التي أصبحت لرجل الدين والعلم والمراهق، والفنان والإعلامي الذي يحب الشهرة والشاعر الإلهي مثلاً والسياسي والطبيب والمزارع وابن الريف مع ابن المدينة، ابن الأحياء الفقيرة مع النخبة الحاكمة والطبقة البرجوازية على اختلاف نمط رأسمالها، مثلاً النظارات كانت تعطي انطباعا معينا نتكهن من خلالها نمط هذا الشخص. أما الآن، فيصار إلى عملية ليزر ... إلخ. و من ناحية اتباع تقنيات تجميل الجسد؛ أي الدخول بهذا الوعي الكوني نرى، على سبيل المثال أن هذه التقنيات وحدت الهويات والطوائف في لبنان إلى حد كبير والسبب هو وجود هذه السمات (وهذه من الأمور الأشبه بدعابة، بسبب عدم توحدهم على شيء، إلا في ما يخص هذه التقنيات؛ أي إنه كان من السهل معرفة ديانة الشخص في حدود معينة. أما الآن، فمن الصعب معرفة هويته الدينية، وهي على درجات ونسب، نجدها مثلاً أقوى عند طائفة الموحدين الدروز من خلال اللباس والقبعة)، أيضاً نرى مثلاً فتاة تلبس الشادور وشفاهها خاضعة لعملية تكبير ظاهرة بقوة كأية فنانة استعراضية، من دون أن يشكل هذا أي تعارض ما بين نموذجها الإرشادي الداخلي، وما تؤمن به من نمط تدين حتى وإن كان أصولياً؛ لأن هناك أنماطا عدة للتدين، مع التقنيات التي تستخدمها في جسدها، لا نتكلم هذا من أجل حكم ما، وإنما لكي نشير إلى إزالة الفروقات بين كل الأنماط إلى حد كبير.

ومن السمات البارزة أيضاً، أن هذه التقنيات لا تخص فئة عمرية محددة، فكما أن المراهقين يخضعون إلى كافة أنواع العمليات، بدءاً بعمليات الأنف والشفاه وصولاً إلى عمليات التكبير في الأعضاء، كذلك الكبار من الفئات الأخرى، في العقد السادس وحتى السابع من العمر، وهذا يأخذنا إلى نوع من تشيؤ للزمن والعمر، والإيحاء بالتحكم والقدرة على العودة إلى الوراء وإعادة التشكيل؛ بمعنى جعل الرجل أو المرأة الكبار بالسن أكثر شباباً وجمالاً من بعض المراهقين، وأنهم مرغوبون، لناحية الشكل والصورة، وهذا الشيء أدخل الكثير بنوع من محو للذاكرة والزمن الماضي، من خلال محو آثآره على الجسد كالتجاعيد والشد، لدرجة أن البعض يعمد إلى تمزيق صوره السابقة قبل العمليات، وهذا يأخذنا أيضاً إلى نوع من محو للهويات الذاتية حتى، ورفض وتقبل الأمور الطبيعية نتيجة تقدم العمر.

سمة أخرى في غاية الأهمية، وهي عدم معرفة الأشخاص من خلال الملامح، فمثلاً كان التنوع يظهر من خلال سمات الملامح للوجه للمرأة وللرجل، من البشرة والأنف وحتى شكل الوجه بصفة عامة، فكان من الممكن جدّاً، قدرة التمييز بين المصري أو الشامي، أو الخليجي إلى حد ما، ولكن مع دخول هذه الموضة أي عمليات التجميل، أصبحنا أمام عدم القدرة على تحديد هذه الفروقات ما بين الجنسيات والخصوصيات؛ لأن هذه التقنيات أخفت الملامح، والانتساب والنسبيَة بين الجماعات، حتى لدرجة أنه من الممكن أن لا نعود معرفة الأشخاص من عيونهم، إن كانوا من جنوب شرق آسيا، طالما أن هذه العمليات قادرة على اللعب بشكل العيون وتشكيلها، لدرجة أصبحت قوى عالمية مقلدة ومنافسة لهذا النموذج اللاإنساني، وبالتالي لم تقدم نموذجا مختلفا عن هذا النموذج الرأسمالي الوحشي القائم على التقليد والاستنساخ السلعي، كالصين مثلاً، وهو ما يأخذنا إلى أن التقدم ما عاد بمواجهة نموذج بآخر، إنما بمجاراة هذا النموذج.

الثقافات تقترض، هذا أمر طبيعي، ولكن الأمر أصبح بعدم قدرة التحكم للثقافات؛ أي إننا لسنا أمام ثقافة تقترض من ثقافة أخرى، إنما أمام ثقافات كلها تقترض من نموذج أحادي لا مدلول له سوى الربح أي ما يفيد، وسمته الترويج الإعلامي واللعب على اصطناع الصور اللاحقيقية، بمعنى عدم وجود هوية لها، وأننا بشكل أو بآخر ما عدنا نمتلك ثقافة لها سماتها المميزة، بل إننا نقوم بتدمير البنى بأيدينا، ولم يعد الموضوع بحاجة إلى آلات العسكر ولا إلى الحروب المباشرة؛ لأن التحكم غير مرئي ولا مكان له، وأكثر من ذلك سمة هذا النموذج أننا نحن من يزحف نحوه من دون إرادة؛ أي إنه حولنا لنكون نحن أدوات التدمير الذاتي.

في هذا السياق، تحولت القيمة من الثقافة وتصوراتها كالجسد إلى البضاعة التي تسكن الجسد؛ لأنها العلامة التي نتبادل بها مع الآخرين، تعيش معنا وفينا وتتنقل بنا؛ لأن التعامل تحول مع هذه الأشياء، لأنها أداة التواصل التي أصبحت تشكل المهماز، فالعلاقة انتقلت لتتحول إلى علاقة مع هذه الأشياء والمواد (السليكون مثلاً)، والانتماء صار لتلك الأشياء، الأشبه بقطع التبديل والغيار، وهذه الأشياء هي التي أفضت للعبور بين المادة والجسم (ترميم، تجميل، زرع أعضاء، تعديل بالأعضاء، تكبير العضلات، ثقب الأذن أو الشفتين، تكبير الأعضاء وحشوها ... إلخ)، أدت هذه العملية إلى شخصنة الأشياء، من خلال التعديلات الدائمة كدلالات التقديس؛ أي الوهم في أنه إن لم أكن على هذا المنوال، فإنني لن أعجب الناس ولن يلتفت إلي أحد، وعندها فإننا مضطرون للدخول في هذا السوق السلعي للترويج، تحولت هذه الأشياء إلى مصنع من العلامات الكثيفة، التي تؤدي إلى تحول الكيانات الذاتية وإعادة تدويرها من خلال هذه الأشياء عبر الجسد، وبالتالي لكي أشعر أنني جميل ومقبول وأرضي ذاتي، لا بد لي من الدخول في هذا التبادل السلعي، وفي سيادة هذا النموذج وأحادية تصوراته، على حساب التصورات الأخرى لدرجة الهوس، وهنا الخضوع للمصطنع الذي حلت فيه النسخ مكان الأصل؛ أي إن الناس بحد ذاتهم أصبحوا علامات لهذا الشيء المصطنع، وبالتالي تبدلت الأصالة من الناس إلى الأشياء، لدرجة أننا بدأنا نعجب بالمختلف أي الطبيعي صاحب /ة الأنف الكبير وغيرها من الأشياء غير المعدلة الذين لم يخضعوا لأية عملية وترميم، نظراً إلى أنهم ربما سوف يصبحون نادرين؛ أي المتفلتون من طغيان هذا النموذج الرأسمالي السلعي، أو ربما يصبحون هم المنبوذون والمستبعدون، وهذا احتمال ربما يزيد مع الوقت.

يعود هذا إلى الإنتاج الدائم للرغبات المصنعة، والتي حولت الناس إلى آلات للاستهلاك والإنفاق، نظراً لأشكال الرقابة الجديدة التي تلغي أشكال الفردية عن طريق السيطرة الكاملة، وبالتالي فإن تحقيق الحرية في الإنسان ذي البعد الواحد (أي هذا الوعي الكوني، لكل الطبقات، العمال وأصحاب الرأسمال، على السواء) كما تنبه له هربرت ماركوز6، منوط بتقنيات ذلك التمكن الذي زيف حاجات الإنسان، والذي وهم الإنسان بأنه حر لمجرد أنه يستطيع أن يختار بين تشكيلة كبيرة من البضائع؛ أي التوهم بالحرية لمجرد أن منحت له حرية اختيار سادته، بمعنى آخر، القدرة على حرية كيفية اختيار عمليات التشويه للوعي قبل الجسد، بخلق صور وعلامات الجمال التجارية، واستهلاك هذه البضائع وحفرها على الجسد، لتصبح هذه الأشياء هي المعنى المتبدل والأصل؛ لأنها الأداة والمهماز الذي نتبادل معه والرموز التي تتمتع بالقوة.

إن القوة ما عادت للناس، ولا للثقافات المتعددة، إنما للأشياء المحفورة على الناس. الإشكالية لم تعد حول من يحدد معايير الجمال، إنما مقاومة طغيان هذا النموذج الذي يفرض بقوة معياره الأُحادي، ويعمل على تحديد معايير استهلاكية للجمال وفرضها بقوة من خلال التقنيات الهائلة التي لعبت على تحوير الوعي بشكل هائل، والخارج من هذا الوعي يتلقى عنفاً رمزياً بسبب التعسف القوي، فيضطر الكثيرون إلى تغيير أسنانهم ولون عيونهم، وربما لاحقا إلى تبديل جلودهم ولون بشرتهم وكل هيكلهم، لتصبح العلاقة ليست مع الأشخاص، إنما مع الأشياء.

يتطلب هذا نوعاً من أنسنة الجسد، ومحبته بمعنى محبة الزمن فيه والذكريات وتقبلها والاعتراف بالخصوصيات التي فيه؛ أي عدم محو للذاكرة ومحو آثارها من الجسد، وعدم إخضاع الجسد للعنف والتشيؤ ولسلطة التصنيف، وعدم الانجرار نحو التشكيل والتركيب المستمر، فإن الثقافة و الزمن، وإن تم إخفاؤهما بشكل مادي، إلا أنهما يبقيان بشكل محفور جوانياً؛ لأن الثقافة تبقى تشكل نوعاً من الأزمة على صعيد الهوية والذات؛ لأن رفضها يعني الدخول بأزمة الرضى المؤجل باستمرار. وأنسنة الجسد والجمال بصورة أوسع، يعني عدم تحويله إلى أشياء يتم التواصل على أساس هذه الأشياء؛ أي عدم انتقال القيمة من الجسد إلى الأشياء، التي لم تعد تشير إلى مدلول خاص، له وضعيته ونسقه؛ لأن القيمة تحولت إلى العلامة، والتي قيمتها المردود، المرتبط بالإنتاج وما نحن سوى أدواة للاستهلاك، نتلقى هذه الكثافة في العلامات والصور، والأهم فقدان الحرية باسم الحرية وهنا الاختلاف.

وبالرجوع إلى الموضوع، التصورات الثقافية وخصوصياتها، فقد كانت الجماعات هي التي تنتج تصوراتها وسماتها وفقاً للدلالات ووظيفتها لناحية المصلحة للنسق ككل. أما راهناً، فإن هذه الثقافة الكونية المصنعة هي التي أصبحت تشكل خياراتنا؛ وذلك نظراً إلى الخوف من العنف الرمزي الذي سوف نتلقاه، لا نريد أن نبالغ، فالثقافة عميقة بشكل لا واع؛ لأننا مهما حاولنا تحويل ما نملك، إلا أنها تبرز سماتها بشكل لا واع، تتمظهر بين الفينة والأخرى؛ لأنها في إعادة بناء دائم، وهي دائماً تحيلنا إليها من خلال أدواتها العديدة، فمهما برز الاختلاف، إلا أن الثقافة الخاصة تبقى توحدا، خصوصاً إن كان هناك من إعادة بناء؛ لأنها ديناميكية7، تبنى باستمرار، وهنا نكون أمام بنينة روجيه باستيد الذي عارض بنيوية كلود ليفي ستروس الجامدة، لكن الأهم هو الوعي بمركزيتنا، كي لا ننتفي أمام تلك المركزية الأشبه بالغول، التي توحي بالحرية للثقافات الأخرى لكن ضمن مركزيتها، الذي يعتمد على الشكل الذي لا مضمون له سوى الفراغ من دون أصالة؛ وذلك لأنه غير أصيل وهجين، والذي يحاول إخفاء الخصوصيات ومدلولاتها من أجل سيادته الربحية، إلا أن الثقافة وخصوصياتها أعمق وأغنى وأجمل؛ لأنها بكل بساطة قائمة على التنوع الخلاق للإنسان.

من هنا ليس المطلوب أن يكون عمل الباحث دعوة للعودة إلى الأصول؛ بمعنى الرجوع إلى الطربوش أو الشروال والعزوف عن بعض التجميل غير المضر، فموضوع التقابل الثقافي شيء طبيعي لا يوجد ثقافة صافية، إنما الملاحظ في الموضوع هو أن الثقافة تأخذ وتعيد بناء ما تأخذه ليتوافق مع دلالاتها، وهنا المفارقة هي في ضعف الكثير من الثقافات أمام هذا النموذج، والتماهي الكلي في تقليده، لهذا علينا قدر الإمكان تظهير وجودنا وفرادته وخصوصيته، بتأكيد لغتنا على الأقل، وإلا سوف نتحول إلى سؤال من نحن، هل مجرد الآت وسلع بضاعية، أم ما زال لنا حضور.

 

لائحة المراجع:

1_ موس، مارسيل، خطوط أولية لنظرية عامة في السحر، رسالة أعدت لنيل شهادة الدبلوم، ترجمة وتقديم، جهينة البتلوني، إشراف، حسن قبيسي، الجامعة اللبنانية، 2000 _2001م، صفحة، 86

2_ بياجيه، جان، الإبستمولوجيا التكوينية، راجعه وقدم له، محمد علي أبو ريان، ترجمة وتقديم وتعليق، السيد نفادي، دار التكوين، دمشق، الطبعة الأولى، 2004 م، صفحة، 73

3_ بودريار، جان، المصطنع والاصطناع، ترجمة، جوزيف عبدالله، مراجعة، سعود المولى، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى، 2008 م، صفحة، 165

4_ تولرا، فيليب لابورت، فارنييه، جان بيار، إثنولوجيا أنتروبولوجيا، ترجمة، مصباح الصمد، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 2004 م، صفحة، 360

5_ موس، مارسيل، تقنيات الجسد، منشورة في الملفات البحثية قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية مؤمنون بلا حدود، تراث الأنثروبولوجيا الفرنسية في تقدير الممارسة الفكرية لمارسيل موس، ترجمة، حسن احجيج، تنسيق وتقديم، يونس الوكيلي، 2016، صفحة، 174

6_ ماركوز، هربارت، الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة، جورج طرابيشي، دار الآداب للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الرابعة، 2004 م، صفحة، 37

7_ كوش، دنيس، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ترجمة، منير السعيداني، مراجعة، الطاهر لبيب، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى، 2007 م، صفحة، 112