التطرف وأزمة العقلانية في المجال الإسلامي


فئة :  مقالات

التطرف وأزمة العقلانية في المجال الإسلامي

كشف التطرف، بهذا الفائض السيال، وبهذا التوحش المرعب والمنسوب إلى المجال الديني، عن وجود أزمة حقيقية في ساحة الفكر الديني الإسلامي، ولولا هذه الأزمة، لما وصل التطرف إلى ما وصل إليه، من هذا الاتساع والامتداد المكاني والزماني، الكمي والكيفي، وتحول إلى تحدٍّ عالمي شغل العالم برمته.

والسؤال: ما هو الجديد في هذا الأمر؟

الجديد: هو في ضرورة الاعتراف بوجود هذه الأزمة، وتغيير طريقة التعامل معها، والعمل على تبني خطوات غير تقليدية، واختيار خطوات فعالة، والتخلي عن الخطاب البياني والجدلي الرتيب والساكن، والتوقف عن الاحتماء بالنزعة الدفاعية التي تتسم بالجمود.

إلى جانب الانخراط الجاد في مواجهة هذه الأزمة، وإعلان حالة الطوارئ القصوى الفكرية والدينية، لتفكيك هذه الأزمة وتشريحها، بإعمال مختلف المنهجيات الفعالة؛ لأنه لم يعد من الممكن إطالة أمد هذه الأزمة.

وتكمن خطورة هذه الأزمة، في أنها أُهملت، وظلت تتراكم على مدى طويل حتى توطنت، وتحولت إلى أزمة بنيوية عميقة من جهة، وأزمة تاريخية ممتدة من الأزمنة الماضية من جهة أخرى.

الأمر الذي يقتضي النظر إلى هذه الأزمة، على أساس المدة الطويلة للتاريخ، حسب عبارة المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل.

وحقيقة هذه الأزمة وجوهرها، تتحدد في تقلص روح العقلانية وتراجعها على المدى الطويل، في تاريخ تطور الفكر الديني الإسلامي، وهو الوضع الذي مهد الطريق لتقدم الاتجاهات التقليدية والجامدة، وتغلبها في ساحة الأمة، والتي بسببها حصلت هذه الأزمة.

وعلى أساس المدة الطويلة للتاريخ، هناك ثلاث محطات من الضروري التوقف عندها، لتكوين المعرفة بتاريخية هذه الأزمة، التي أدت إلى تقلص روح العقلانية وتراجعها، هذه المحطات الثلاث هي:

المحطة الأولى: في القرن الثاني الهجري، ظهر في ساحة المسلمين ما عرف بـ (جماعة المعتزلة): وهي أول حركة عقلية تكونت في تاريخ الإسلام الفكري، وقد عدّها الدكتور إبراهيم مدكور (1902ـ1996م)، في كتابه (في الفلسفة الإسلامية... منهج وتطبيقه) من أخصب المدارس العقلية في الإسلام، ومثلت هذه الجماعة، في نظر الدكتور علي سامي النشار (1335ـ1400هـ/1917ـ1980م)، رواد ما يسمى بالعقلانية، ومنها بدأ الإبداع الفلسفي في الإسلام.

وجدت هذه الجماعة في موقف الإسلام من العقل، ما جعلها تتمسك بدوره، وتعلي من شأنه، ومثلت أهم محاولة لاستكشاف هذا الدور في المجال الإسلامي، ومن هذه الجهة؛ فإنها تعدّ في نظر البعض: حركة فكرية متقدمة، أسهمت في تقدم الثقافة الإسلامية وازدهارها.

والمفارقة؛ أن هذه الجماعة قد جوبهت في المجال الإسلامي بمعارضة شديدة وعنيفة، وتعرضت للحصار والتضييق، ما أدى إلى تراجعها وتقهقرها مع مرور الوقت، حتى أطيح بها، ومن ثم تلاشت واضمحلت، وما بقي منها اليوم إلا مجرد بقايا أثر لا يكاد يذكر.

ومع تراجع المعتزلة، وتقدم خصومهم، الذي دام واستمر منذ ذلك الوقت إلى اليوم، تغيرت صورة الموقف تجاه العقل والعقلانية في ساحة الفكر الإسلامي، وأصبحت شبهة الاعتزال والمعتزلة تلاحق كل من يدعو إلى العقل والعقلانية، من دون فرق أو تمييز بين من يقترب من المعتزلة ومن يبتعد عنهم، وبين من يتفق معهم ومن يختلف.

ودل على ذلك ما ذكره الدكتور عبدالحليم محمود (1328ـ1397هـ/1910ـ1978م)، في كتابه "الإسلام والعقل": الذي يرى أن: (كل من نهج النهج العقلي في الدين في العصر الحاضر؛ إنما هو تابع من أتباع المعتزلة).

ومن صور تأثير تراجع المعتزلة في تغير الموقف تجاه العقل؛ ما أشار إليه الدكتور محمد علي الجوزو في كتابه "مفهوم العقل والقلب في القرآن والسنة"، الذي يرى: (أن المعتزلة؛ كانوا هم السبب في لجوء أهل السنة إلى رفض أحاديث العقل، وذلك لتأثرهم بالفلسفة).

والأمر الأكيد؛ هو لو أن المعتزلة هي التي بقيت وتغلبت، لكانت صورة الموقف تجاه فكرة العقلانية عند المسلمين مختلفة عما هي عليه اليوم.

المحطة الثانية: في القرن الرابع الهجري، وجد الفكر الإسلامي السني نفسه مضطرًّا إلى أن يعلن، ولأول مرة في تاريخ الثقافة الإسلامية، وفي خطوة غير مسبوقة وغير متوقعة، عن إغلاق باب الاجتهاد.

وهذه كانت أخطر أزمة فكرية أصابت العقل الإسلامي في الصميم، وتأثر بها الفكر الإسلامي في جميع مراحله الزمنية والتاريخية، وأعاقت تطوره وتقدمه في المجالات كافة، وشلّت قدرته الاجتهادية على مواكبة تطورات الزمن، وتحولات العالم، وتجددات الحياة، وعلى التواصل والتفاعل مع حركة العلوم والمعارف الإنسانية ونهضتها.

وتكمن خطورة هذه الأزمة؛ في أنها حصلت منذ وقت مبكر، يرجع إلى القرن الرابع الهجري، وبقيت هذه الأزمة واستمرت بكل تداعياتها وتراكماتها إلى اليوم، واعترف الجميع بحصولها (فقهاء، ومتكلمون، ومؤرخون)، وكشف هؤلاء عن خطورتها وفداحتها، وعرفوا بالأرضيات والسياقات التي تأثرت بها، وكيف أجبرت هذه الأزمة على الإعلان صراحة عن إغلاق باب الاجتهاد؛ وهو الباب الذي ما كان ينبغي له أن يغلق أبدًا؛ بل أن يظل مفتوحًا أبدًا.

ولو أن باب الاجتهاد بقي مفتوحًا، لكانت صورة الموقف تجاه العقل والعقلانية في ساحة الفكر الإسلامي مختلفة عما هي عليه اليوم، فمع هذه الأزمة، أغلق باب الاجتهاد، وفتح باب التقليد.

المحطة الثالثة: في القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي، حصل ما بات يؤرخ له في الدراسات الفكرية والتاريخية بنهاية عصر الفلسفة عند المسلمين، بانتصار الغزالي (450-505هـ/1058-1111م)، صاحب (تهافت الفلاسفة)، وهزيمة ابن رشد (520ـ595هـ/1126ـ1198م)، صاحب (تهافت التهافت)، أو تقدم الغزالي وتراجع ابن رشد، الأمر الذي يعني؛ توقف الحركة العقلية في المجال الإسلامي، أو تعثرها، أو تراجعها.

هذه الأزمة كانت لها ارتدادات شديدة على مسارات الفكر الإسلامي في جميع مراحله وأطواره، وظلت حاضرة ومؤثرة على طول الخط، يتوقف عندها المؤرخون في دراساتهم التاريخية، ويتذكرها المفكرون في كتاباتهم الفكرية، ويرجع إليها المتكلمون في أبحاثهم الكلامية، وما زالت هذه الأزمة تحتفظ بهذا الارتداد إلى اليوم، وكأنها حصلت بالأمس القريب، وليس في القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي.

والانطباع الذي تشكل إثر هذه الأزمة: أن الغزالي سدد ضربة موجعة إلى فكرة العقلانية في ساحة الفكر الإسلامي، جمدت فاعلية هذه الفكرة، وشلت قدرتها، وأعاقت نموها، وأطفأت شعلتها، وأدخلتها في أزمة طويلة امتدت إلى اليوم.

هذا الانطباع تكرر وتواتر كثيرًا في كتابات تاريخية، وفكرية، وكلامية، وأشار إليه العديد من الباحثين والمؤرخين العرب والمسلمين، وحتى الأوروبيين، باحثين ومستشرقين، كانوا على قناعة راسخة به.

وبحسب هذا الانطباع؛ يكون الغزالي، بفلسفته الصوفية، قد تغلب في ساحة الفكر الإسلامي على ابن رشد وفلسفته العقلية، التغلب الذي كان إيذانًا، في نظر الدكتور محمود قاسم في كتابه (الإسلام بين أمس وغده)، بالانتصار النهائي لأهل الجمود والتقليد، وبسببه بدأ النوم العميق، الذي استغرقت فيه البلاد الإسلامية طيلة سبعة قرون، والذي ما زال باسطًا ذراعيه على كثير من هذه البلاد حتى يومنا هذا.