هل طبيعة القرآن تدعو للتفلسف؟


فئة :  مقالات

هل طبيعة القرآن تدعو للتفلسف؟

هل طبيعة القرآن تدعو للتفلسف؟

حمل الفصل الثاني من كتاب الدكتور محمد يوسف موسى (القرآن والفلسفة) الصادر سنة 1958م، عنواناً لافتاً للغاية، هو (طبيعة القرآن تدعو للتفلسف)، ويعد هذا العنوان من أكثر عناوين فصول الكتاب الأربعة لفتاً للانتباه، وإثارة للدهشة، ومن أكثرها قرباً واتصالاً بجوهر موضوع الكتاب.

ويصلح هذا العنوان، أن نعطيه صفة المقولة الفلسفية، الصفة التي ترتقي به وتحوله من مجرد عنوان شارح لمحتويات فصل من فصول الكتاب، إلى عنوان يكشف عن مقولة فلسفية بإمكانها أن تعرف بصاحبها، كأن نقول في تعريف الدكتور محمد يوسف موسى أنه صاحب مقولة (طبيعة القرآن تدعو للتفلسف)، ولعله أول من أطلق هذه المقولة.

وهذا التحويل من العنوان إلى المقولة، نعني به الانتقال من اللغة إلى المفهوم، ومن النظر إلى العنوان في جانبه اللغوي إلى جانبه المفهومي، ومن التحليل البياني إلى التحليل المفهومي، بوصفه مفهوماً، يكتنز حقلا دلالياً قابلاً للتعرف والاكتشاف، وقابلاً كذلك للنظر والنقاش، والاتفاق والاختلاف.

علماً أن المؤلف لم يعط هذا العنوان صفة المقولة، ولم يدافع عنه من هذه الجهة، وأظن أنه لم يتنبه هنا إلى وعي المقولة، وإمكانية تحويل ذلك العنوان إلى مقولة فلسفية لها قابلية التداول بهذه الصفة في المجال الفلسفي.

ولعل هذه هي المرة الأولى التي يحصل فيها التنبه إلى هذه الملاحظة، والنظر لهذا العنوان بصورة تتجاوز إطاره اللغوي والبياني، وتصل به إلى الإطار المفهومي الذي يعطيه صفة المقولة الفلسفية، وذلك لما لهذه المقولة من أهمية وقيمة في التصور الفلسفي.

وأول ما يقرره الدكتور موسى في الكشف عن لماذا القرآن له طبيعة تدعو للتفلسف، هو تأكيده أن القرآن ليس كتاب تشريع وأخلاق فحسب، ولو كان كذلك لما أثار ويثير من نقاش وتفكير فلسفي؛ فهو إلى جانب ذلك كتاب دين وعقيدة جاء ليغير ما تواضع عليه العرب وغير العرب من عقائد، فكان من الضروري أن يثير القرآن ما أثار من الجدل والتفكير، سواء أكان ذلك من الذين أخلصوا حقًّا بقلوبهم للدين الجديد، أم من الآخرين أيضاً الذين دخلوا في الإسلام وفي قلوبهم كثير أو قليل، مما كانوا عليه من دين وعقائد لم يتخلصوا منها تماماً.

ولإثبات أن القرآن له طبيعة تدعو للتفلسف، أشار الدكتور موسى إلى بعض الحقائق الدالة على ذلك، ومنها:

أولا: وجود الآيات المتشابهة في القرآن، والتي أثارت في وجه الكلاميين والمفسرين قديما وحديثا، تساؤلات مستمرة دارت حول حكمتها والغاية منها، وتعددت في النظر لها واختلفت المواقف والآراء، وما زالت على هذا الحال إلى اليوم.

وقد وجد الدكتور موسى في هذه الآيات، وهي جزء مهم من القرآن، وتتعرض إلى أهم العقائد الدينية المتصلة بالله والعالم والإنسان، أن القرآن بهذه الطبيعة من الضروري أن يثير التفكير الفلسفي، ويوحي بكثير من الحلول للمشاكل الفلسفية التي عرضت للمفكرين في هذه النواحي، وعلى توالي العصور؛ فهذه الآيات كانت ولا تزال حتى الآن ودائماً باعثا للفكر، وداعية لاستعمال العقل، ومعيناً للتوجيه الفلسفي.

ثانيا: خاصية عدم التحديد، يرى الدكتور موسى أن القرآن كتاب منثور، خلص من قيود الشعر والسجع، ولهذا فهو يوحي إلى حد كبير بتفكير منهجي في المسائل التي تناولها صراحة أو إشارة ورمزاً، والفاصلة التي تختتم بها الآيات ليست في شيء من القافية في الشعر، هذه القافية التي تتكرر دائماً وتلتزم في القصيدة كلها، بخلاف الفاصلة القرآنية التي لا تلتزم دائما لا في السورة كلها، ولا في جزء كبير منها.

ومن ناحية طريقة علاج المشاكل، يرى الدكتور موسى أن الفلسفة شأنها شأن كل علم بوجه عام تلتزم التحديد، وهذه الخاصية يجدها موسى بوضوح حسب قوله في القرآن، ومبرهناً عليها بأمثلة عدة، منها المثال الذي يتصل بناحية ذات الله وصفاته، وأنه (الله أحد. الله الصمد. لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفواً أحد).

هذا من جانب التحديد، ومن جانب آخر لاحظ الدكتور موسى أن القرآن ترك التحديد أحيانا عمدا، بشكل يدفع العقل للتفكير الفلسفي لفهم ما يريده القرآن تماماً، فقد تكلم القرآن في آيات كثيرة عن السماء والأرض، لكنه لم يبين لنا مطلقا ما هي السماء، وما هي الأرض، وما المادة التي خلقت منهما، وهل هذه المادة قديمة أو حادثة، وهكذا حين تكلم عن الروح، لم يبين ما هو هذا الروح، وكذلك الحال في مسائل كثيرة.

ومعنى هذا كله ونحوه في نظر الدكتور موسى، أن القرآن بعدم التحديد في هذه المسائل وأمثالها، مما تعالجه فلسفة الطبيعة وما بعد الطبيعة، إنما يدعو العقل بعد أن أثار له المشكلة بوجه عام، إلى النظر والتفكير.

ثالثا: تنوع الأدلة وتعدد طرقها، يرى الدكتور موسى أن القرآن في سبيل تقرير ما أراد من عقائد، يقدم بين يدي ذلك ما يصح أن يكون أدلة عليها، وهذه الأدلة مختلفة في أنواعها وطرقها، إلى درجة يصح القول إن القرآن قد حوى إلى حد ما أصول نظرية في المعرفة، وأنه دعا من يتجه إليهم بهذا النوع من الأدلة، إلى إعمال الفكر فيما يراه ويحسه بأي نوع من أنواع الحس للوصول إلى المجهول، حصل هذا الأمر فيما يتصل بوجود الله وأنه واحد لا شريك له، وفيما يتصل بعالم البعث والحياة الأخرى، وفيما يتصل بغير هذا كله من العقائد الدينية.

ومن الأمثلة التي برهن بها الدكتور موسى على هذا الرأي، ما تحدث به القرآن في بعض آياته عن أن هذا العالم لم يوجد وحده بمحض الصدفة أو من الطبيعة، بل هو عمل خالق يستحق أن يعبد وحده، كقوله تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) [سورة البقرة، آية: 164]

وقوله تعالى: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج. والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج. تبصرة وذكرى لكل عبد منيب) [سورة ق، آية: 6ـ8].

هذه الصور التي تؤخذ من هذه الآيات ونحوها، يرى فيها الدكتور موسى أنها توقظ الفكر، وتدعو للنظر والتأمل، وتكون النتيجة أن يصل الإنسان بهذا التفكير إلى أن لهذا العالم خالق يستحق وحده أن يكون المعبود.

رابعا: البحث في ما وراء الفلسفة، يرى الدكتور موسى أن هناك جانبا مهما من جوانب البحث في القرآن، لم يتعرض له كثير ممن نظروا فيه وخاصة علماء الكلام؛ فالقرآن بطبيعته يدعو إلى التفكير بسبب ما اشتمل عليه من أمور الغيب ودعوته إلى الإيمان بها، وبإعداده بهذا لما وراء الفلسفة التي ليس للعقل وحده أن يصل إليها، ولعل هذا في نظر موسى هو الغرض الأول للقرآن نفسه، ومن ثم يجب في رأيه أن يكون الغاية من علم الكلام.

وعلى ضوء ما تقدم، يقرر الدكتور موسى أن القرآن بطبيعته وأسلوبه، وطريقة تناوله للمسائل أو المشاكل المختلفة يدعو للتفلسف، وأنه قابل لما هو حق من الآراء التي ذهب إليها المفكرون في هذه النواحي، وأنه لهذا كان كل أصحاب مذهب كلامي أو فلسفي في الإسلام يهتمون بأن يجدوا لمذاهبهم أسانيد من القرآن.

هذه المقولة كان ينبغي من الدكتور موسى التوقف عندها، ولفت الانتباه إليها، وإعطاؤها صفة الوضوح، بتحديد ما هو المقصود بأن (طبيعة القرآن تدعو للتفلسف)، باعتبار أن هذه المقولة ليست من نمط المقولات الواضحة أو البديهية أو المتسالم عليها، وإنما هي من نمط المقولات التي تثير الجدل والاختلاف.

فهل طبيعة القرآن فعلا تدعو للتفلسف! وهل القرآن صرح أو بين وأبان بأنه يدعو للتفلسف؟ وهل التفلسف من الكلمات التي استعملها القرآن في آياته التي جاوزت الستة آلاف آية، أو أنها من الكلمات القريبة أو القرينة أو الشبيهة لكلمة أو كلمات وردت في القرآن، حتى يجوز لنا القول إن طبيعة القرآن تدعو للتفلسف!

هذا الجدل والاختلاف كان من الممكن التغاضي عنه، لو جاءت هذه المقولة بصيغة أن طبيعة القرآن تدعو للتعقل أو التفكر أو التبصر أو التذكر، لأن جميع هذه الكلمات وردت وتواترت في القرآن، وعرفت بوصفها من كلمات القرآن التي جرى استعمالها بعناية تستدعي الانتباه والنظر.

كما كان من الممكن أيضا التغاضي عن هذا الجدل والاختلاف أو التخفيف منه، لو جاءت هذه المقولة بصيغة أخرى، كأن يقال إن في القرآن ما يدعو للتفلسف. أما القول بأن طبيعة القرآن تدعو للتفلسف، فكأننا نقول إن القرآن كتاب فلسفي، وهذا ما لا يقول به أحد، ولا قال به أحد لا من القدماء ولا من المحدثين، ولا قال به حتى المؤلف نفسه؛ فالاختلاف هو في استعمال كلمة طبيعة القرآن، الطبيعة التي تعني أو تكشف حين تستعمل عن ماهية الشيء وحقيقته، فهل ماهية القرآن وحقيقته هي ماهية وحقيقة فلسفية بالمعنى الفلسفي المحض، وهذا ما لا يمكن التسليم به.

وإذا اعتبرنا أن في القرآن ما يدعو إلى إثارة التفكير الفلسفي، وأنه تعرض لأمهات المشاكل الفلسفية الإلهية والطبيعية والإنسانية، وكان من أهم العوامل التي دفعت المسلمين إلى التفلسف، فهل هذه الاعتبارات والحالات وغيرها، تجيز أو تبرهن أو تكشف عن أن طبيعة القرآن تدعو للتفلسف، أم أنها تكشف عن أن في القرآن ما يدعو للتفلسف، وليس طبيعة القرآن تدعو للتفلسف.

ثم ما هو المقصود من التفلسف! وهذا ما لم يتوقف عنده الدكتور موسى ضبطاً وتحديداَ، فهل المقصود بالتفلسف هو فعل التأمل والتأويل والنظر الفكري والعقلي والتجريدي، كما توحي به هذه الكلمة في قاموس الفلسفة وقاموس الفلاسفة، وهل هذا يصدق على طبيعة القرآن!