سؤال النهضة والنقد العربي المعاصر... النسق الثاني


فئة :  مقالات

سؤال النهضة والنقد العربي المعاصر... النسق الثاني

في النسق الأول، تحددت الآراء الناقدة لعمل شكيب أرسلان (لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟)، السؤال الذي عرف في الأدبيات العربية المعاصرة بسؤال النهضة، تحددت الآراء حول مادة الكتاب ونصه. أما النسق الثاني، فقد تحددت الآراء الناقدة حول سؤال الكتاب، وتوقفت عنده تأملا وتفكيرا، ولم تلتفت إلى الكتاب مادة ونصا؛ أي أنها عكست اتجاه النسق الأول الذي اعتنى بمادة الكتاب دون سؤاله، واتجه هذا النسق نحو السؤال فاصلا له عن مادة الكتاب التي خرجت من دائرة النقاش والنقد.

وفي هذا النطاق، يمكن الإشارة إلى عدد من الآراء والمواقف، وبحسب تعاقبها الزمني هي:

أولاً- ملاحظات مالك بن نبي

في سنة 1970م ألقى مالك بن نبي محاضرة في ملتقى الفكر الإسلامي السنوي، المنعقد في مدينة قسنطينة شرق الجزائر، في هذه المحاضرة التي حملت عنوان (مشكلة الحضارة)، توقف ابن نبي عند سؤال أرسلان، وأوضح أنه ليس بصدد ذكر ما احتوى عليه كتاب أرسلان، وتوقف عند السؤال، لكون أن هذا السؤال في تقديره لم تجب السنين عليه إلى ذلك اليوم، ولكونه أيضا سؤالا يتردد في كل مناسبة إسلامية.

أمام هذا السؤال، وحسب منطق الأمور الطبيعية، وسير الحضارات في التاريخ، اعتبر ابن نبي أن سؤال أرسلان هو في غير محله من هذه الجهة، وتساءل لماذا أوروبا بعد انتهاء الحضارة الرومانية، ومع سقوط روما في أواسط القرن الخامس الميلادي، دخلت في العصور الوسطى، عصور الهمجية والجهل والوحشية كما يقولون، هذا الذي حصل هو أمر طبيعي، ولا طريق لنا في نظر ابن نبي لجواب آخر، وهكذا يجري سير البشر في التاريخ.

وحين تساءل ثانية لماذا خرجت الأمة الإسلامية من طور الحضارة؟ اعتبر ابن نبي أنه أمر طبيعي أيضاً، لأنها قامت بدورها خلال المدة الكافية لها وخرجت، ولهذا يرى ابن نبي أن ليست المشكلة في لماذا خرجنا من الحضارة؟ فهذا أمر طبيعي لأن الحضارة تدوم مدة معينة، وتمضي إلى غيرها، هذه سنة الله في كونه (وتلك الأيام نداولها بين الناس).

ثانياً- ملاحظات محمد عابد الجابري

عند حديثه عن إشكالية النهضة والتقدم، في كتابه (المشروع النهضوي العربي... مراجعة نقدية) توقف الدكتور محمد عابد الجابري عند كلمة النهضة، ووجد أن هذه الكلمة في اللغات الأوروبية مرتبطة بالزمان، وتشير إلى معنى الميلاد الجديد. أما في اللغة العربية، فهي مرتبطة بالمكان، وتشير إلى معنى القيام والارتفاع عن الأرض.

وأراد الجابري من هذه المفارقة، الكشف عن أن الزمان ليس عنصراً محدداً في خطاب النهضة العربي الحديث، وهذا ما ينطبق في نظره على ذلك السؤال الموصوف عنده بالشهير الذي لخص إشكالية النهضة، سؤال: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ فالصورة التي يرسمها هذا السؤال -حسب قول الجابري- في وعي العرب والمسلمين هي صورة مكانية، بمعنى كان العرب متقدمين فتأخروا، وكان غيرهم وبالتحديد أوروبا متأخراً فصار متقدماً.

وما يريد الجابري التأكيد عليه، يقرره بقوله: إن غياب عنصر الزمان كمحدد لمعنى النهضة والتقدم، يجعل من الجائز، ومن الممكن الاتجاه إلى الماضي عند التفكير في أسبابهما وعواملهما، ومن هنا سيكون الجواب عن السؤال المذكور متجها إلى الماضي لا إلى المستقبل، تأخرنا، لأننا تركنا سيرة أسلافنا، لأننا انحرفنا عن نهجهم القويم. وقد يأتي الجواب مضاعفاً لينص أيضاً على أن غيرنا تقدم، لأنه سلك مسلك أسلافنا، ليس هذا وحسب، بل إن غياب الزمان كمحدد للنهضة والتقدم يجعل من الجائز ومن الممكن اتخاذ موقف معاكس تماماً، أعني إلغاء الماضي والنظر إلى التقدم من خلال الحاضر وحده، فالتقدم في هذه الحالة يعني الانصراف عن الماضي الذي لم يكن متقدماً، الماضي الأوروبي والماضي العربي سواء بسواء هنا، في هذه الحالة، يبدو التقدم لا كمرحلة تاريخية سبقتها مراحل، بل كلحظة راهنة، كفاعلية بشرية في الحاضر، وبالتالي فأسبابه وعوامله وأسسه كامنة في المعطيات الحاضرة وليس في ما مضى، وقد يربط المرء بين الماضي والحاضر، فيرى فيهما معا ما قد يعتبره عوامل للتقدم وغير التقدم.

ثالثاً- ملاحظات هشام جعيط

في كتابه (أزمة الثقافة الإسلامية) الصادر سنة 2000م، والذي يضم مجموعة من المقالات الفكرية، توقف الدكتور هشام جعيط أمام سؤال أرسلان في ثلاثة موارد، جاءت في ثلاث مقالات، وعبرت عن ثلاثة مواقف متغايرة، هذه الموارد هي:

المورد الأول: عند حديثه عن العالم الإسلامي وصدمة الحداثة، اعتبر الدكتور جعيط أن مصلحي الإسلام كمحمد عبده أو شكيب أرسلان وغيرهما، لم يطرحا السؤال كما يجب، بل إن سؤال: لماذا تقدم غيرنا وتأخرنا؟ هو سؤال غير جائز.

المورد الثاني: أشار إليه الدكتور جعيط، عند حديثه عن تقدم اليابان وتعثر العرب، معتبراً أن المسلمين طرحوا في أوائل القرن العشرين مشكلة تقدم الغير وتأخرنا نحن، وكانوا يقصدون بالغير أوروبا، وهم ما زالوا كذلك إلى الآن، وغاب عنهم -حسب قول جعيط- أن هناك آخرين غير الغرب مماثلين لهم، مثل الصين واليابان والهند، يمتلكون حضارات قديمة ووعياً بالذات، كما غاب عنهم كنه التطور الأوروبي، فلم يفهموا منه شيئا، وما هم بقادرين على ذلك.

المورد الثالث: أشار إليه الدكتور جعيط، عند حديثه عن فرص العالم العربي لبلوغ الديمقراطية، وافتتح المقال بقوله: كان شكيب أرسلان هو الذي صاغ إشكالية الإصلاح السياسي والحضاري في تعبيرها الأدق، حين تساءل: لماذا تمدن الآخرون وتأخرنا نحن؟ واعتبر إننا نواجه هنا رؤية نرجسية، بقدر ما نواجه تناقضياً سيرورة تحط من قيمة الذات، فضلاً عن مواجهة أو مقارنة مع أوروبا لا مبرر لكل منهما، ذلك لأن العالم بأسره في نظر جعيط، كان متأخرا عن أوروبا، على صعيد الإبداعات الحضارية، وليس النطاق العربي أو الإسلامي فقط.

رابعاً- ملاحظات هاشم صالح

أشار هاشم صالح إلى سؤال أرسلان في كتابه (من الحداثة إلى العولمة)، وأعطاه صفة السؤال المشهور، وتعمد حسب قوله أن يعكس سؤاله: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ إلى سؤال: لماذا تقدمت أوروبا وتأخر غيرها؟ لكي يصل إلى النتيجة نفسها، معتقداً أن المثقفين العرب لم يجيبوا عن سؤال أرسلان حتى هذه اللحظة، بالرغم من كل محاولات تجديد الفكر العربي، ونقد التراث، ومراجعة الماضي.

وفي نظر صالح أنه لكي نجيب على سؤال أرسلان، ينبغي أن نعرف سبب تقدم الغير وتأخر الذات في آن معاً، ونحن في كلتا الحالتين لم ننجح حتى الآن، على الرغم من بعض المحاولات الجادة والمخلصة حسب وصفه، وفي اعتقاده أن سبب الفشل لا يعود إلى عدم الجرأة في الذهاب إلى أعماق الأشياء، وإنما لعدم توافر الكفاءة العلمية والفلسفية للقيام بذلك، كما توافرت في أوروبا، وفي ساحة الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر.