يونس قنديل: التطرف والكراهية يضعان العالم على حافة الانتحار التاريخي


فئة :  حوارات

يونس قنديل: التطرف والكراهية يضعان العالم على حافة الانتحار التاريخي

قال الأمين العام لمؤسسة مؤمنون بلا حدود الباحث يونس قنديل، إن نقد المسلمين لذواتهم ولمفرزات التعاطي الأيديولوجي مع دينهم هو واجب حضاري مهم، لإثبات مصداقيتهم في مطالبة الغرب وإلزامه بمختلف السبل بضرورة لجم وحوش التطرّف المعادي للمسلمين ولمصالحهم.

وأضاف في حوار لـ"ذوات"، إنّ علينا أن نعيد ثقة المسلم بسماحة أخلاقه العميقة والأصيلة، وهي أخلاق قارّة لم تعرف التمييز بين الناس.

وأكد قنديل أنّ تبرئة المسلمين من الإرهاب لا ينجح إلا بتثبيت موقعهم كجزء من البشرية المتصالحة مع كرامة الإنسان، وبتحديث ثقافتهم الدينية.

كما طالب بالكف عن التمترس والاختباء وراء لافتة تطابق الإسلام مع تفسيراته الأيديولوجية القديمة أو المستحدثة، واصفاً التمترس خلف ادّعاء تطابق موقف المسلمين والإسلامويين من العالم، بأنه غير صحيح.

وأضاف أننا مقبلون على انتحار تاريخي إذا بقيت دوامات التطرف تتحكم بسياساتنا واختياراتنا الحضارية المصيرية.

هنا تفاصيل الحوار:

كيف تنظر إلى هذا الحرج الذي يقع فيه المسلم، عندما يحاول دفع تهمة الإرهاب عن دينه الذي يؤمن بسماحته وقيمه الإنسانية، وهو يعايش هذا المشهد الفظيع من الإجرام والقتل وانتهاك أدنى درجات الرحمة باسم الإسلام؟

علينا أن نواجه وحوشنا بجرأة ومكاشفة وثقة في روحية ديننا الرحماني، وعلينا أن نعيد ثقة المسلم بسماحة أخلاقه العميقة والأصيلة، وهي أخلاق قارّة لم تعرف التمييز بين الناس إلا بسبب ترويج الفتاوى الفاسدة والقراءات الأيديولوجية التي تحرص على النفخ في سؤال الهوية الدينية التي تقسم الناس بخطابات التكفير، وتكرس التراتب بناء على القرب أو البعد من الخضوع لمعايير لا علاقة لها بالأخلاق وصلاح الأعمال النافعة للناس، كل الناس.

علينا أن لا نتهيّب من سطوة الإكراه الذي يريد أن يلزمنا بضرورة التصدي للهجمة الواقعة ضد التطرف الديني، باعتبار أنّ المتطرفين يعتبرونها هجمة تستهدف الإسلام ذاته والمسلمين جميعاً.

عندما نقول إن المسلم ليس إرهابياً، فنحن نحميه، وندافع عن كرامته وعن أصالة سلميته وخيريته، وهذا مطلوب كموقف انتمائي للإسلام وللإنسانية.

ولكن تبرئة المسلمين من الإرهاب لا ينجح إلا بتثبيت موقعهم كجزء من البشرية المتصالحة مع كرامة الإنسان، وبتحديث ثقافتهم الدينية وتعميم قيمها كنسق دفاعي عن مشترك إنساني قويم، وهذا يتطلب الإشارة إلى الإجرام الواقع باسم الإسلام دون حرج من نقض عرى الانتماء للإسلام. كما يتطلب شجاعة في مواجهة سائر أنواع الكراهية وأنماط الإكراه التي تصدر عن غير المسلمين لتفقدهم ثقتهم في أصالة الخير والسلم في كينونتهم الثقافية. وعندما نرفض التماهي مع خطابات الكراهية الصادرة عن مسلمين، فنحن ندافع عما هو أهم وأكثر رسوخًا من الخطابات التي تحاول أن تحول معاركنا السياسية مع خصومنا إلى معارك دينية وثقافية أبدية.

ألا ترى بأنّ تصاعد مستويات الإسلاموفوبيا تجعل الموقف العقلاني والموضوعي والأخلاقي مرتبكاً ومشوشاً في الوقوف على الأسباب المسؤولة عن تزايد وتيرة العنف؟  

لتجاوز الارتباك،  علينا أن نتوقف عن الخلط بين المجرم الذي يمارس إجرامه باسم الإسلام المتطرف والمسلم الواقع ضحية للإسلاموفوبيا المتطرفة.

إنّ الموقف المرتبك يتطلب تسمية الأمور بمسمياتها؛ فالقاتل إرهابي، ومبرر القتل إرهابي، والداعي لمداهنتهما إرهابي، سواء أكانوا مسلمين أو غير ذلك...

وتحديد مسؤولية الاستبداد السياسي عن إنتاج واستعمال منظومات التطرّف لا تقل أهمية عن تعيين مسؤولية المتطرفين الغربيين في تأجيج الكراهية العبثية والبغيضة ضد الإسلام والمسلمين.

.. ولكن من هم المسؤولون عن الاستبداد السياسي واستغلال التطرف وتأجيج الكراهية الذين تقصدهم هنا؟

جرائم السياسات الغربية القائمة على التعصب والازدراء للشرق، تستعمل وجود المتطرفين بيننا كتبرير لحروبها ونزواتها السياسية في تفكيك وإعادة تركيب المنطقة، كما يحلو لمصالح النزوعات المركزية الغربية ونزواتها. هذا يعني أنّ الغرب ذاته يصعّد متطرفين إلى مربعات الحكم، وهؤلاء تحركهم مصالح يتصارعون عليها فيما بينهم كتوجهات سياسية متضاربة من اليمين إلى اليسار.

ولكن وجود متطرفين مسلمين يقدم تبريرات الخوف من الإسلام كفزاعة مجانية لا تخدم سوى الجماعات الأكثر بعداً عن بناء تفاهمات مع المسلمين قائمة على الاعتراف والاحترام والمصالح المتبادلة. فكلما ازداد تطرفنا ازداد تطرفهم، وكلما ازداد تطرفهم ازدادت أعداد المتطرفين بيننا، ولذا، فإنّ الإسلاموفوبيا والتطرف الإسلامي ظاهرتان يخدم بعضهما الآخر، وإذا استسلمنا لهذه المتوالية، فسينتهي بنا المطاف بمضاعفة أعداد المتطرفين في كل جانب، وبالتالي سنشهد اضطراداً للتطرف وتعظيماً لدور أسوأ مما هو موجود لدينا؛ التطرّف الإرهابي الذي سيتحول إلى ناطق شرعي باسم الثقافات وصراعاتها اللامتناهية. الإسلامويون بيننا يعتاشون على تفاقم هذه الأجواء الصراعية، لأنها تمنحهم فرصة لعب دور الوساطة باسم الوسطية، ومن هنا فأنا أتحسس من استعمالات كلمة الوسطية؛ لأنني أستشعر أنها مصنع تثبيت تطرف الأطراف المتنازعة كلٍ في طرفه المناقض للآخر. والحركات الإسلاموية الكبيرة تترعرع من خلال إسناد هذا الدور الوظيفي لها، ويتبين هذا من خلال تأجيجيها ومباركتها للجهاديين من تحت الطاولة، فيما تحاول قبض ثمن لجمهم واستيعابهم وترويضهم من فوق الطاولة، وقد رأينا ذلك في سلوك "الإخوان" مع "القاعدة" بعد الحادي عشر من سبتمبر، حيث تم سبك مصطلح الوسطية بانتهازية تامة، كما رأيناه في الموقف الرجراج من داعش في ليبيا ومصر والعراق. ينبغي أن تتوقف موضة الترويج للوسطية التي لم تعد تعني سوى اللعب على مخرجات تهييج الصراع بين الأطراف.

وفِي هذا السياق، فإنّ مقاومة الهيمنات الخارجية لا تقل أهمية عن ضرورة الخروج من خطاب المواربة والمداهنة مع حركات تسمى إسلامية ووسطية، وتختفي وراء هذا الاسم دون مراجعة لخطاباتها ومخططاتها التدميرية.

ولكن ماهي المقاربة التي تضع في سياقها هذا الخطاب الذي يحمل المسؤولية للغرب ولتطرفهم ضد المسلمين، وهو يقترب أيضاً من خطاب الإسلاميين؟

المسلم المتطرف يهرس رؤوس كل الذين يقتربون منه بالنقد، بدعوى أن النقد الموجه ضد فكره وسلوكه هو امتداد للهجمة على الإسلام، وذلك بغض النظر أكان الناقد مسلماً أم لا، ولذا فإن نقد المسلمين لذواتهم ولمفرزات التعاطي الأيديولوجي مع دينهم هو واجب حضاري مهم، لإثبات مصداقيتهم في مطالبة الغرب وإلزامه بمختلف السبل بضرورة أن يلجم وحوش التطرّف المعادي للمسلمين ولمصالحهم. في هذا السياق، يبدو أن خطاب الإسلامويين هو أسوأ ما يمكن أن نلجأ إليه لفرض حالة من الاعتراف المتبادل القائم على الندية والكرامة المشتركة مع الغرب.

ولا يمكننا أن ننتظر من أحرار الغرب الدفاع عن الإسلام والمسلمين ضد متطرفي الغرب، بينما نقف نحن موقف المتفرجين من الإسلامويين المشوهين لتعدديتنا الثقافية والدينية.

كررت في حديثك الإشارة إلى الإسلامويين، فماذا تقصد بالضبط؟

التناقض الفاضح الذي نرصده هنا؛ إذا أراد الإسلامويون تحطيم مصداقية أي شخص أو جهة أو خصم اتهموه بالعمالة للغرب والصهيونية، ولكنهم أمام الغرب، سيما عندما ينطقون باسم الأقليات المسلمة في سياقه، يتمسّحون بأعتاب الغرب، باعتبارهم وسطيين وديموقراطيين وليبراليين ومتسامحين أكثر من كل الكوكب وساكنيه.

متطرفو العالم الإسلامي يطعنون في المتصالحين مع الغرب الباحثين عن كلمة، سواء على قاعدة الندية والمشترك الإنساني من جهة، فيما يسوّقون أنفسهم أمام الغرب كعرابي التسامح في العالم الإسلامي وبين الجاليات الغربية كذلك. وهذا تناقض مفضوح، وإن لن تتم تعريته معرفياً وسياسياً فسيأتي علينا يوم نفقد كل إمكانية للدفاع عن الإسلام والمسلمين في الغرب تحت وطأة التهديد اليميني المتصاعد بشدة. إن حماية المتطرفين من النقد يضحّي بالمسلمين لإنقاذ المتطرفين من بينهم، ولا يخدم أحداً من العالمِين.

القبول بالتواطؤ على عدم نقد المتطرفين ومجابهتهم، يفقدنا النافذة التاريخية لتبيان الفوارق بين إمكانات الإسلام والمسلمين من جهة، وقصورات مدعي تمثيله معرفيا وسياسيا من جهة مناقضة.

ولكنّ الإسلاميين هم أيضاً ضحية الاستبداد السياسي، أليس كذلك؟

إن الاستمرار في مداهنة هذه الحركات المتطرفة باسم تفهم مظلوميتها أمام الاستبداد لم يعد موقفاً أخلاقياً ومعرفياً مناسباً. ينبغي مجابهة الاستبداد الداخلي والخارجي بكل حزم في ذات الوقت الذي نجابه به استعمار الأرواح والدين وتخريب الأوطان والعالم باسم حاكمية الإسلام.

إنّ هذه الحركات لا تقدم المساندة لخصومها الفكريين والسياسيين من ضحايا الاستبداد عندما يطيب لها أن يقوم الاستبداد بتهشيم رؤوسهم، بل تتحالف معه كما حصل في أعقاب نجاح الثورة المصرية التي تحالف "الإخوان" بفضلها مع الجيش، ومن ثم اختلفوا معهم على المحاصصة السياسية، وليس على تكريس الاستبداد من عدمه.

ولكن أين وقف الإسلاميون مع الاستبداد، وهم الذين عانوا الأمرّين منه، واعتقل من اعتقل منهم وأعدم من أعدم؟ وماهي مصلحتهم في ذلك؟

الموقف من الحرية لا يتجزأ، ولكن من الغباء أن تضحي بحياتك من أجل تحرير حياة إنسان سيقتلك عند أول ممارسة حرة لمبادئه، والتي لا تشتمل على ضمان حريتك، وليس من الحصافة أن تطلق حرية التعبير لمن يطالب بقتل من يعبر عن رأيه بحرية. كما أنّ الحركات التي تتاجر بالمظلومية تُمارس انتقائية أخلاقية تخلق مواقف متناقضة، وهي تناقضات صارخة تجعل من مناصرة حركة "حماس" في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي واجباً دينياً وأخلاقياً، فيما تثمن تحطيم تركيا وإفنائها للأكراد مغصوبي الحق، لتجعل منه واجباً دينياً وأخلاقياً كما فعل الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عندما زكى كل ما تفعله تركيا، باعتباره متطابقاً بالكلية مع أخلاقيات الإسلام بحسب الاتحاد.

فهذه المنظومة تقف تارة ضد الظالم عندما يكون المظلوم مقرباً منها،  فيما تقف تارة أخرى مع الظالم، إذا شعرت أنه أقرب لها مصلحيًّا وأيديولوجياً، وهي ذات المنظومة التي ساهمت في شرعنة وتزكية مخططات وممارسات النظام السوري وحزب الله قبل أن تنقلب المعادلة، لقد كان حزب الله شيعياً طائفياً، وهو في حضن "الإخوان"، كما كان بشار ظالماً ومستبداً، وهو يستقبل رموز "حماس" و"الإخوان" في قصره بدمشق. الانتهازية التي تتلبس بمبدئية مدّعاة لا يمكن الرهان على مصداقيتها في حمل ملفات صناعة هوية الأمة الجامعة، وإلا فإن المخاطر لا تعد فيما يتعلق بالتأرجح والتذبذب بحسب مصالح هذه الجماعات لا بحسب مصالح النسيج التعددي للأوطان.

ويمكن القياس على ذلك في مواقف أخرى كثيرة، ولكن الموقف الأخلاقي يفرض أن تقول للمظلوم إنه مظلوم عندما تتجلى مظلوميته، كما تقضي أن تقول للمظلوم إنه ظالم عندما يتجلى ظلمه لنفسه ولغيره، وهنا ينبغي تفكيك خطاب التحصن بالمظلومية ضد النقد.

ماهي من وجهة نظرك المداخل التي تمكننا من تفكيك خطاب التحصن بالمظلومية، باستثناء المدخل الأخلاقي الذي ذكرته، وإن كان وجيهاً؟

ينبغي الكف عن التمترس والاختباء وراء لافتة تطابق الإسلام مع تفسيراته الأيديولوجية القديمة أو المستحدثة، وينبغي الكف عن التمترس خلف ادّعاء تطابق موقف المسلمين والإسلامويين من العالم، فهذا ليس بصحيح.

المسلمون ليسوا جماعة منمطة وموحدة في موقفها من كل عوالمهم الغيبية والدنيوية، ولا في مواقفها الدينية والمدنية، وللمسلمين كرامة في هذا الوجود وترميمها وظيفة كل من ينتمي للإسلام وللإنسانية، بل وظيفتنا أن نجعل منها مهمة يتولاها كل أحرار العالم.

وللمسلمين أوطان يعيشون فيها، ولو بتعثر، وأخطر ما قد يقع هو تجييش المسلمين للكفر بأوطانهم كمقدمة لقبول الأيديولوجيات البديلة عن الوطن والمجتمع والعائلة.

وفشل حكومات هذه الأوطان في تحرير وتكريم أبنائها هو مشكل يواجهه المجتمع بأدوات سياسية تكرس الحقوق والواجبات دون أن تفكك بنية الوطن الجامع.

المواطنية الحقة تضع الانتماء لعموم الناس التي تشكل مجاميع الوطن فوق الانتماء للجماعات العضوية الفئوية. والإنسانية الحقة لا تفرق بين الناس من حيث استحقاقهم للخير ولا تنظر لدينهم أو عرقهم أو جنسيتهم.

إنّ العلاقة بالآخر يكتنفها الغموض، ولذا فهي تتأرجح بين الخوف والتعاطف، ولكننا في زمن رجحت فيه كفة الخوف وتعمد التخويف.

ثمة فرق بين التعدد، والوعي بوجود التعدد والوعي بوجوب التعدد؛ والمتطرفون في كل جانب لا يعترفون بأنّ التعدد لا ينشأ إلا عن الاختلاف، ولذا فهم يحولون كل اختلاف إلى خلاف جذري.  

ثمة أنساق ثقافية ترى الوحدة القائمة على التنميط تهديداً، وثمة أنساق ترى التعدد والاختلاف تهديدا لهويتها وكينونتها واستمراريتها، ونحن نعيش متاهة كونية كبيرة لا مخرج منها إلا أن ننحاز للنسق الأول الذي يضمن لنا الوحدة في إطار إنسانية مؤسسة على الالتزام بالقيم المشتركة كما يضمن لنا الاختلاف النافي للتنميط، وهذا لا يحصل لنا إلا إذا اعتبرنا دفاعنا عن اختلافنا عن الآخرين وعن حق الآخرين في الاختلاف عنا واجبا ذَا أولوية قصوى في سلم المشترك الإنساني. وعندما نرصد خطاب الإسلامويين نرى أنه مطالبة باتجاه واحد، وهو فرض حرية المسلمين أن يفعلوا ما يشاؤون في سياقات حضورهم كأغلبية أو أقلية، فيما يتحرزون من إثبات الحق في المساحة ذاتها من الحرية في ظل سيادة مرجعية الإسلام كما يفهمونها، وهذا الاحتراز لا يؤهلهم لأن يكونوا بوقاً ينطق باسمنا على طاولة التفاوض الكوني لحقوق الثقافات تحت راية "كلمة سواء".

وكاستشراف لما نحن ذاهبون إليه؛ فنحن مقبلون على انتحار تاريخي إذا بقيت دوامات التطرف تتحكم بسياساتنا واختياراتنا الحضارية المصيرية.

ماذا تقصد بالانتحار التاريخي؟

التطرف والكراهية يضعان العالم على حافة الانتحار التاريخي، والانتحار التاريخي له مسارات؛ إما اختيار الاندثار في موروث الآخرين واتخاذه منقذا من مضائقنا وأزماتنا، أو اختيار تدمير الآخرين وتفريخ موروثنا وفرضه عليهم كحل خلاصي نهائي لأزمات الإنسان.

الانتحار التاريخي ههنا يكمن في أن هذين الخيارين يؤديان حتما للحروب والتدمير؛ الخيار الأول يفرض علينا مجابهة حروب التطويع والترويض والإلحاق التي يقودها آخرون ضدنا، والخيار الثاني يفرض الخيارات ذاتها ولكن على الآخرين، فيستدعي منهم مقاومة حروبنا.

وقد بقينا كعرب ومسلمين نراوح طويلا بين خطابات تبرر الاستعمار و(الفتوحات الديمقراطية) على طريقة راعي البقر من جهة، وخطابات أخرى تبرر طموحات مغالبة الآخر واستعماره وممارسة الأستاذية العالمية عليه من جهة أخرى. وللأسف، ما زالت هذه الخيارات حاكمة ومتوغلة في أنماط تفكيرنا، ولذا فإن أطروحات الأنسنة في عالمنا لم تكن بالجدية الكافية لكي تقنع تيارا كبيرا قادرًا على التفكير في الذات والآخر خارج هذه الثنائية المفخخة بالحرب والدمار.

لطالما دفعتنا الإعاقة الحضارية لتجاهل الكثير من الخيارات الصعبة في مواجهة ذاتنا المنتفخة، وبدلا من ذلك نذهب للحروب هربا من دفع ضريبة الاختيار المر الذي قد يكلفنا إسقاط أفكار كانت -وما زالت-جهيضة قبل أن تولد في عالم لا تملك القدرة على الاستمرار في الحياة فيه. نتخاذل فكريا فنحارب أية حرب، لا يهم من نحارب، ولا لماذا نحارب، المهم أن الحرب ما زالت وثيقة ميلادنا الوحيدة، ومفتاحنا المحفوظ لإعادة استملاك بوابة التاريخ. ودائرة حصر الخصوم والأعداء الذين يمكن استعداؤهم قابلة للتمطيط بلا حدود، وغالبا ما نطبق قانوننا "الأقربون أولى بالمعروف"  لأن حروبنا هي ذروة سنام ما نعرفه وما تعارفنا عليه.  ونحن أمة لا شك ضعيفة، وفاشلة حتى ونحن نحارب، ولكننا كتلة بشرية هائجة تتفنن في لعق جراحها، فلا تحارب أمتنا إلا لأننا نؤمن أن التاريخ عادة ما يتحايل لينصف المهزومين، مصنفا إياهم في خانة الضحايا. فأضحى مجرد التضحية بالذات هو عين الشرف الذي نلاحقه بنشوة المحرومين منه، حتى ولو أودت مطاردته بأمة كاملة إلى الانتحار.

إذا كيف نخرج من دوامة التطرف هذه حتى يتوقف الانزالق نحو هذا الانتحار التاريخي؟

التطرّف بضاعة اشتركنا جميعا في السماح بتصنيعها وترويجها، وما زال التعاطي مع التطرّف خاضع لحسابات وتوازنات سياسية ضيقة، على الغرب أن يكبح جماح متطرفيه وأن يهدم معاقل إنتاج العنصرية والتعالي وسياسات الهيمنة، وعلى المسلمين أن يتخلّوا عن حساسية الناقد والنابذ للتطرف والإرهاب. لقد شهدت مئات التظاهرات الثقافية التي تبحث في التطرّف وكان خطاب المسلمين ينهمك في الغالب في ميكانيزمات الدفاع عن الإسلام وتبرئته من الإرهاب، وذلك دون تفكيك وإدانة العقل المتطرف الذي يستند على الدين لكي يشرعن الإرهاب. ما يضير عموم المسلمين للأسف ليس الوجود الفاعل للتطرف والإرهاب، بل إسناد هذه التهمة لمسلمين وتحميل معتقداتهم قسطا من المسؤولية عن تطرفهم. فهناك إذن استراتيجيات تبرير مستبطنة للإرهاب ينبغي أن نتحدث عنها وأن نكشفها دون أن نتورط في دعم التطرف حينما نتهرب من مهمة مكافحة التطرّف لأننا نختبئ وراء مشروعية الدفاع عن ارتباط الدين بالتطرف.