سوسيولوجيا خطاب الكراهية؛ عوامل صناعة الكراهية وآليات المواجهة (دراسة تحليلية)


فئة :  مقالات

سوسيولوجيا خطاب الكراهية؛  عوامل صناعة الكراهية وآليات المواجهة (دراسة تحليلية)

سوسيولوجيا خطاب الكراهية؛

عوامل صناعة الكراهية وآليات المواجهة

(دراسة تحليلية)

”يجب علينا أن نتعلم العيش معاً كإخوة، أو نهلك جميعاً كالحمقى“ (مارتن لوثر كينغ).

”الكراهية هي الرغبة في إبادة الكائن المكروه“ (أرسطو).

”الكره هو القتل الافتراضي والرمزي، هو الرغبة في إزالة الكاره للمكروه بشكل راديكالي“ (خوزيه أورتيغا).

يطرح موضوع الآخر في المشهد الاجتماعي والثقافي والحضاري المعاصر، الكثير من الأسئلة والاستفسارات والقضايا المتداخلة، ويبدو أن لطبيعة التطورات والتحولات وأحداث السياق الاجتماعي وتفاعلاته التي تجري اليوم في العديد من المجتمعات حافزاً مهمّاً لتداول مسألة الآخر وطبيعة العلاقة المرسومة للتعامل معه؛ بمعنى أن الموقع الذي يحدده الإنسان لنفسه (الفرد أو الجماعة)، هو بدوره الذي يحدد الآخر القريب والبعيد؛ فباختلاف المواقع والعناوين، يختلف الآخر. فالآخر بالنسبة إلى الذات الدينية، هو ذلك الإنسان الذي ينتمي إلى دين آخر. أما الآخر بالنسبة إلى الذات القومية أو العرقية، فهو ينتمي إلى قومية أو عرقية أخرى. لذلك، نستطيع القول إن في الوجود الإنساني آخر من حيث الدين والمذهب والقوم والعرق والثقافة...، فتتعدد وتتنوع دوائر ومستويات الآخر، بتعدد دوائر ومستويات الأنا والذات. وعدم الاعتراف بالآخر والتعايش معه سوف يؤدي بطبيعة الحال رفضه على مستوى الوجود الإنساني، والثقافي، والاجتماعي، مما ينذر بتنامي خطاب الكراهية والنفور من الآخر المختلف.

يشكل خطاب الكراهية حسب الدراسات السوسيولوجية تهديداً للقيَم الديمقراطية والاستقرار الاجتماعي والسلام والتعايش بين أفراد المجتمع الواحد والمجتمعات الأخرى على حد السواء. وكمسألة مبدأ، يجب على المجتمعات المعاصرة والمتحضرة مواجهة خطاب الكراهية عند كل منعطف؛ فالسكوت عنه يمكن أن يوحي بعدم الاكتراث لمظاهر التعصب وعدم التسامح، حتى عندما تتفاقم الأوضاع ويتحول المستضعفون إلى ضحايا.

وعلى العموم، يشير مفهوم خطاب الكراهية في هذا السياق إلى "أي نوع من التواصل، الشفهي أو الكتابي أو السلوكي، الذي يهاجم أو يستخدم لغة ازدرائية أو تمييزية بالإشارة إلى شخص أو مجموعة على أساس الهوية، وبعبارة أخرى، على أساس الدين أو الانتماء الإثني أو الجنسية أو العرق أو اللون أو الأصل أو نوع الجنس أو أحد العوامل الأخرى المحددة للهوية". وهذا الخطاب كثيراً ما يستمدّ جذوره من مشاعر التعصب والكراهية التي يغذيها في الوقت نفسه، ويمكن في بعض السياقات أن ينطوي على الإذلال ويؤدي إلى الانقسامات. وغالباً ما تستهدف بخطاب الكراهية الفئات الضعيفة، ما يعزز التمييز والوصم والتهميش. وكثيراً ما تكون أهدافاً له: (الأقليات والنساء واللاجئون والمهاجرون الملونون والسود والمهمشون...(، ويمكن لمنصات التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة تضخيم خطاب الكراهية ونشره بسرعة البرق؛ بمعنى أدق يمس خطاب الكراهية "العوامل المحددة للهوية" الحقيقية والمتصورة لفرد أو مجموعة، بما في ذلك: "الدين أو الانتماء الإثني أو العرق أو اللون أو النسب أو نوع الجنس"، ولكن أيضاً خصائص مثل: اللغة، أو الخلفية الاقتصادية أو الاجتماعية، أو الإعاقة، أو الحالة الصحية، من بين أشياء أخرى كثيرة.

وهكذا تتغذى مشاعر الكراهية لدى الأفراد أو الجماعات، باستغلال الجانب الغرائزي والانتماءات الضيقة والهويات المغلقة التي تقوم على التعصب بادعاء الأفضليات وامتلاك الحقيقة تحت مسوّغات دينية أو عرقية (إثنية) أو طائفية أو مذهبية أو إيديولوجية أو عشائرية أو غير ذلك، وهذه بدورها تنمي الشكوك وتزرع الأحقاد بين الناس؛ لأنها تقوم على ادعاءات التفوق، فيصبح (الآخر)، أي آخر، خصماً أو عدواً "وكل غريب مريب"، وبالتالي فهو لا يستحق ذات المكانة التي ينتمي إليها الفرد أو المجموعة. فالتعصب يتضمن الرغبة في الإقصاء والإلغاء والتهميش، والحط من قدر الآخر؛ وذلك قبل أن يتحول إلى فعل أو سلوك، إلا أنه يصبح خطراً حين ينتقل من التفكير إلى التنفيذ فيتحول إلى تطرف، ولكن قبل مناقشة مفهوم خطاب الكراهية وممارساته وجب علينا توضيح معاني هذا المفهوم.

في حقيقة الأمر يتكون مفهوم خطاب الكراهية من جزأين: الخطاب والكراهية، لفظ الخِطابُ لغوياً مصدر (خَاطَبَ)، فَصلُ الخِطَابِ: كَلاَمٌ تُوَضَّحُ بِهِ قَضِيَّةٌ مُعَلَّقَةٌ أَوْ مُشْكِلَةٌ وَيَكُونُ حُكْماً بَيِّناً، وفي القرآن الكريم ورد لفظ الخطاب ] وَآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ {ص: 20}، والخِطابُ: هو محاورة، جدال، كلام، ويذهب ابن المنظور في معجم لسان العرب الخطاب والمخاطبة تعني مراجعة الكلام، وقد خاطبه بالكلام مخاطبةً وخطاباً وهما يتخاطبان، والمخاطبة مُفَاعَلة من الخطاب والمشاورة، أراد: أنت من الذين يخطبون الناسَ ويحثونهم على الخروج والاجتماع للفتن. أما لفظ الكراهية لغوياً، الكراهية (اسم) والكَرَاهِيَة: الحِقْد، الْمَقْت، الغَضَب. كَرِهَ (فعل) الكاف والراء والهاء أصل صحيح واحد، يدل على خلاف الرضا والمحبة. كرِهَ يَكرَه، كُرْهاً وكَرْهاً وكَراهةً وكراهِيَةً وكراهيَّةً، فهو كاره، و(المفعول) مَكْروه وكَرِيه. كَرِهَ الشيءَ: مقتَه، ولم يحبّه، أبغضه، نفَر منه ] وَاللَّهُ مُتِمٌّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ[ {الصف: 8}. فهو كَريهٌ، ومكروه. ويقول ابن المنظور في معجم لسان العرب في معنى الكراهية: الكَرْهُ الإباءُ والمشَقَّةُ تُكَلِّفُها فتَحْتَمِلُها، والكُرْهُ، بالضم، المشقةُ تحْتَمِلُها من غير أَن تُكَلِّفها، يقال: فعلَ ذلك كَرْهاً وعلى كُرْهٍ؛ معنى ذلك الكُره (بالضم) ما أكرهت نفسك عليه. أما الكَره (الفتح) ما أكرهك غيرك عليه. وفي معجم الوسيط (كره) الشَّيْء كرها وَكَرَاهَة وكراهية خلاف أحبه فَهُوَ كريه ومكروه. (كره) الْأَمر والمنظر كَرَاهَة وكراهية قبح فَهُوَ كريه.

ومن خلال ما سبق، تبين أن الكره يتمركز معناه اللغوي حول خلاف المحبة والرضا، والمشقة.

أما الكراهية اصطلاحاً، فهي نفار النفس عن الشيء الذي ترغب عنه، وهذا مرتبط بالمعنى اللغوي، وهو عدم المحبة والرضا، فلا تنفر النفس عن شيء إلا لعدم محبتها ورضاها. والكراهية في سياق علم النفس أحد المشاعر والانفعالات النفسية السلبية، الكراهية سمة من سمات البشر، وتؤثر بطريقة أو بأخرى على تصرفاتهم وما يصدر عنهم، وتختلف من إنسان لآخر. وينشأ الكره نتيجة تعارض الشيء المكروه مع حاجات الفرد ودوافعه ومعتقداته.

وفيما يتعلق ببواعث الكراهية، فهو إما أن يتجه إلى صفات خَلقية كاللون أو الانتماء العرقي أو الجغرافي، مما لا اختيار للإنسان فيه، ولا يجب أن يكون سبباً للتمييز أو الاستعلاء فضلاً عن الكراهية. وإما أن يكون الباحث للكراهية الاختلاف في المعتقدات والأفكار والأخلاق، وهي أمور مكتسبة؛ أي إنها باختيار الإنسان وتتفاوت في ما تتضمنه من حق وباطل، وخير وشر، وفضيلة ورذيلة. ولا شك في أن الحب والبغض بناء على المعتقدات والأفكار والأخلاق أمر شائع بين أفراد المجتمعات البشرية وبالأخص بين أتباع الثقافات المختلفة، بل وفي ظل الثقافة الواحدة.

وهكذا يمكننا القول إن الكراهية هي "حالة ذهنية تتسم بانفعالات حادة وغير عقلانية من العداء والمقت والاحتقار تجاه المجموعة أو الشخص المحرض ضده". كما تشير كلمة الكراهية أو العداء إلى "مشاعر قوية وغير عقلانية من الازدراء، العداوة، أو البغض تجاه الفرد أو المجموعة المستهدفة".

وأخيراً، يرى بعض المفكرين أن الكراهية شعور بالاستياء والغيظ، يستحضر دوماً رد فعل، وهو يخلق جملة من المدركات المتبادلة بين الأشخاص الذين يبغضون موضوع كراهيتهم. ومن الخطورة أن يعتبر الإنسان نفسه موضوعاً وهدفاً للبغضاء، ويخاف انتفاض كره الآخرين عليه. وهذا يعادل تماماً خطر جعل (الآخر) هدفاً للكراهية، وقيل إن الكراهية لا تأتي بالوراثة، بل تأتي بالتربية والتعليم.

وفيما يتعلق بمفهوم خطاب الكراهية سوسيولوجياً لا يوجد تعريف محدد ومتفق عليه في هذا السياق، لكن يمكن اختصار معاني الكراهية في سياق واضح بكونها كل خطاب مبني على العنف اللفظي، يهدف إلى القتل المعنوي للآخر وإقصائه من خلال الشتم والسب والقذف والإهانة والتعصب الفكري والاستعلاء، وصولاً إلى العنف المادي والقتل، ويشكل خطاب الكراهية أداة مهمة لتحفيز المشاعر وإثارتها وتوجيهها في اتجاه معين، بما ينشأ عنه من سلوك وثقافة مبنية على العنصرية ضد من وُجِه الخطاب ضدهم، ومن هنا تكمن خطورة هذا الخطاب، خاصةً إذا توافرت منصات إعلامية مهيأة لهذا النوع. كما يهدف خطاب الكراهية إلى التحريض على الصراعات الطائفية والإقليمية، والتحريض على إنكار وجود الآخر وتهميشه والحض على العنف واتهام الطرف الآخر بالخيانة والفساد. وعليه، فخطاب الكراهية يشمل كل تعبير مشحون بالحقد والضغينة والاحتقار، موجه إلى جماعة من الأفراد المختلفة بسبب الدين أو العرق أو الجنس، يهدف إلى الانتقاص من حقوقهم وكرامتهم، مما يُغذي روح الكراهية والعنف تجاه الآخر. خلاصة القول إن خطاب الكراهية هو كل تعبير: مهما كان شكله أو وسيلته، يوحي بالتمييز ويثير الكراهية بين أفراد المجتمع. ومن الناحية التطبيقية هو "أي محتوى يشمل التعدي على أشخاص بناءً على عرقهم ودينهم وجنسهم وانتمائهم الوطني وإعاقتهم ومرضهم".

- عوامل صناعة ثقافة الكراهية: في حقيقة الأمر، تتراوح وتتنوع مصادر نشر ثقافة الكراهية بين العوامل النفسية (السيكولوجية) إلى الثقافية والسياسية والاجتماعية؛ وذلك حسب طبيعة الموقف المؤثر في إنتاج كراهية الآخر، إلا أننا في هذا السياق سنحاول التركيز على مجموعة من العوامل نعتقد أنها ذات تأثير مباشر في ترسيخ خطاب الكراهية بين أفراد المجتمع. ويرتبط العامل الأول بوجود اتجاه عام وتلقائي داخل النفس البشرية ينزع إلى رفض ولفظ كل ما هو غيرها، وهو ما يشكل الأساس الكامن الذي يُمهد لأي شكل من أشكال الكراهية تجاه المختلف، وهذا ما تُخبرنا إياه النفسانيات المعاصرة كما هو الشأن عند مؤسس علم النفس، سيغموند فرويد، في تحليلاته حول العلاقة بين السيكولوجيا والأخلاق الفردية والجماعية، معتبراً أن البشر، داخل مجموعة معينة، يمكن لهم أن يتبادلوا الشعور بالحب فيما بينهم، شريطة وجود مجموعة أخرى تكون موضوع كراهيتهم. هذا التحليل هو نوع من "المبالغة" لحب الذات الغريزي، ليشمل مجالاً أوسع وأرحب؛ أي حبّاً من نوع آخر يكون بين مجموعة تقوم على كراهية الآخرين من غير أعضائها؛ ذلك أن حب المجموعات (المجتمعات) المختلفة لبعضها البعض هو شعور نادر، كما يقول الفيلسوف الفرنسي، جان جاك روسو، لا يحصل إلا داخل المجتمعات الكوسموبوليتية، وهي قليلة العدد قياساً على القاعدة العامة. هذا الأمر هو الذي دعا فرويد، إلى القول إن أحسن طريقة للخروج من إغراءات أهوائنا الغريزية هي الوعي بها والإقرار بقوتها الجامحة؛ أي إن الاعتراف بأهوائنا هو شرط الاعتراف بالآخرين؛ إذ من المستحيل، حسب عبارة الفيلسوف الهولندي، باروخ سبينوزا، هزيمة الانفعالات السلبية (الكراهية) دون أن نضع في مقابلها انفعالات إيجابية (الاعتراف).

أما العامل الثاني، فيتعلق بحاجة المجموعات البشرية إلى الانغلاق على الذات ووضع سياج حول انتماءاتها الثقافية ومؤسساتها الاجتماعية وما تحمله من دلالات رمزية وتاريخية بالنسبة لها. هذا الإغلاق والتسييج أمام الوافد العرقي، أو الديني، أو الطائفي، أو القومي، أو الثقافي عموماً، هو الذي يسمح للخطاب السياسي، في بعض الأحيان، بتوظيف تلك الحاجة المذكورة إلى (التسييج)، وتحويل مجراها في شكل انفعالات سلبية تأخذ طابع كراهية عنيفة، إما تجاه الخارج، كما في حالة الحروب، وإما تجاه كبش ضحية داخلي، كما يتجلى ذلك، شعورياً أو لا شعورياً، حين يتم الحديث عن الموجات المتلاحقة من الهجرة غير الشرعية التي سوف تؤدي بشكل حتمي إلى تغيير في التركيبة الديموغرافية للمجتمع، مما أدى في الآونة الأخيرة إلى تصدر خطاب اليمين المتطرف المشهد السياسي في معظم المجتمعات الأوروبية.

وعلى الرغم من أن مثل هذا الكلام الانغلاقي، أو لنقل "التسييجي"، القائم على الخوف من الأجنبي، وباسم حماية الانتماء والهوية، لم يعد ممكناً في عصرنا بسبب الثورة المذهلة في تكنولوجيا الإعلام والاتصال التي باتت تمنع كل "انطواء ثقافي" على الذات، إلا أنه مع ذلك، يبدو أن لا حيلة لنا أمام اتساع دائرة ثقافة الكراهية هذه، لأن الإعلام، في عالم اليوم، أصبح يفاقم الانقسام والتشتت والتشظي بسبب تنوع وتعدد مصادر التنشئة الذهنية والفكرية والذوقية للأفراد داخل أي مجتمع، الأمر الذي يُدخل في صلب المجتمعات نفسها صراعات مغذية لثقافة الكراهية، أو لنقل الكراهية عن بعد التي لا يمكن مراقبتها أو التحكم فيها، مما يشكل دوائر متزايدة من "التماهي" و"التماهي المُضاد" الذي يسعى، في النهاية الأمر إلى التسييج من جهة، وإلى شيطنة الخصم القريب الموجود بين ظهرانينا من جهة أخرى. هذا النوع من التماهي، يشكل مصدراً مُتجدّداً ومغذياً لثقافة الكراهية باستمرار- كراهية لا تكاد تخفت، خلال فترات معينة، حتى تنبعث من جديد مع كل مناسبة مواتية.

إن الآخر هو مرآة ذواتنا، وإذا أردنا أن نتعرف على خبايا وخفايا ذواتنا، فعلينا أن نتواصل مع الآخر، فهو مرآتنا التي نكتشف من خلالها صوابية أفكارنا أو خطئها، وسلامة تصوراتنا أو سقمها. لهذا، فإن إعادة تأسيس العلاقة بين الذات والآخر على أسس القبول بالتعددية والاعتراف بحق الاختلاف ونسبية الحقيقة، هو الذي يزيل من ذواتنا وفضائنا الاجتماعي الكثير من موجبات العدوان على الآخرين بسبب الكراهية، إلا أننا في واقع الأمر نصطدم بأحداث السياق الاجتماعي المعاصر وتفاعلاته عندما يخبرنا بالحقيقة المرة، حيث نجد أن الأهواء الغريزية تنتقم وبقوة وفي مواقف عديدة من المسيرة العقلانية (تنويرية) للإنسان عبر إحياء غريزة الكراهية المقيتة للآخر المختلف، والتي قد تنفلت في أي لحظة من عقالها، وتضعنا من جديد أمام صور من الدم المسفوح على الأرض، ومن الأشلاء الأدمية الممزقة بدم بارد على الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي.

وينحصر العامل الثالث بصناعة الكراهية في مفهوم الاستشراق الذي يعني علم الشرق أو علم العالم الشرقي. وعرّف البعض الاستشراق أيضاً بأنه ذلك التيار الفكري الذي تمثل في الدراسات المختلفة عن الشرق الإسلامي، والتي شملت حضارته وأديانه وآدابه ولغاته وثقافته، وأحياناً يقصد به أسلوب للتفكير يرتكز على التمييز المعرفي والعرقي والإيديولوجي بين الشرق والغرب. ومرة يراد به ذلك العلم الذي تناول المجتمعات الشرقية بالدراسة والتحليل من قبل علماء الغرب. وخلال هذه الدراسات، سعى بعض المستشرقين إلى ترسيخ بواعث الكراهية من خلال التركيز على مفهوم الطبقية بين الأجناس الغربية من جهة والأجناس الشرقية من جهة أخرى. فجاءت هذه التفرقة على أساس جهوي - تنميطي، فالغربيون بهذا المفهوم فعالون وعقلانيون وماديون وواقعيون ويعيشون في النسبي وزمانهم غير قابل للتكرار وللإعادة، وهم يؤمنون بالمستقبل والتخطيط له، والشرقيون منفعلون وجدانيون وغارقون في الروحانيات والغيبيات والمقدورات ومنظومتهم القيمية مطلقة وجامدة، وزمانهم يكرر نفسه باستمرار. ويتزعم هذه التفرقة العرقية المستشرق الفرنسي إرنست رينان. ويمكن القول إن أثر الاستشراق في صناعة الكراهية يتمحور في الاستشراق الاستعماري ثم الاستشراق السياسي اللذين جاءا تلبيةً لمطامع سياسية غربية في الشرق، منذ حقبة الاستعمار إلى اليوم، حين كان من منطق الاستشراق السياسي ما تجسده عبارة كريستيان سنوك هور خرونيه: (كلما أصبحت الدول الإسلامية تحت نفوذنا اشتدت أهمية دراسة حياتها وثقافتها).

بناءً على ما تقدم، اعتبر إدوارد سعيد (1935-2003) أن "الاستشراق" شكل منذ أواخر القرن الثامن عشر أسلوباً غربياً للسيطرة على الشرق، مؤكداً أن دراسة الشرق من قبل الغربيين هي دراسة منحازة مدفوعة بأغراض استعمارية ووجهات نظر مسبقة ونظرة دونية لشعوب الشرق مهما حاولت أن تبدو علمية وموضوعية. بعد ولوج ما بعد العصر الكلاسيكي للاستشراق الأوروبي، وخاصةً بعد أن لم يعد العرب والإسلام مشمولين بمحاولة المعرفة والتفهم، بل الكراهية والكراهية. وهكذا لم تعد الكراهية هامشاً في الخطاب الغربي، بل صارت في قلب السياسة وأنشطة مراكز البحث وجماعات المصالح وحتى المواقف الرسمية، حيث تلعب وسائل الإعلام الغربية دوراً كبيراً في تعزيز الصورة النمطية للاستشراق بنسخته الأخيرة العدائية للمسلمين؛ ففي دراسة لوسائل الإعلام البريطانية قامت بها الجزيرة الإنجليزية لوحظ أن عدم التوازن في تغطية أخبار المسلمين في وسائل الإعلام يسهم بشكل كبير في "العداء" وكراهية الإسلام في الخطاب السياسي الغربي، وفي الولايات المتحدة تبدو الظاهرة أكثر عدائية؛ إذ تتضمن الخطابات الاستشراقية حسب برنارد لويس خلطاً هائلاً بين الإسلام والإرهاب.

ويندرج العامل الرابع في مفهوم العرقية (العنصرية) الذي يعد من المصادر الرئيسة لصناعة الكراهية وتنامي خطابها في الآونة الأخيرة. ويمكن في هذا المجال التأكيد أن العنصرية هي أحد أهم أشكال التعبير عن الكراهية، وهذه الكراهية حسب تجارب البشرية قديماً وحديثاً، كثيراً ما أدت إلى تدمير الإنسان، وفي تغذية النزاعات والحروب كلما استقرت الكراهية في قلوب الكارهين أتجاه المكروهين. بالمقابل، إن تعريف العرق هو محل خلاف. فمن جهة، يُعرف العنصر بالتشابهات البيولوجية، الفيسيولوجية، الوظائفية، الفيزيائية، السلوكية، اللونية، وتقارب العائلات والأصول اللغوية كذلك. وهنا يمكن أن يصنف البيض، السود، الآسيويين، البنيين، الصفر وغيرهم على أنهم عرق أو عنصر. ومن جهة أخرى، يرى منظرو دراسات العرقية والقومية من منظور سوسيولوجي - بنيوي، أن العنصر لا يتمثل في كيان حقيقي؛ بمعنى أنه ليس له وجود طبيعي، وإنما هو مُتخيل النشأة ومُكون اجتماعي، وهنا لا مجال للحديث عن الصفات البيولوجية، اللونية أو الشكلية. ويمكننا القول أيضاً إن العرقية تنبع من كل الأفكار والمُعتقدات والقناعات والتصرفات التي ترفع من قيمة مجموعة معينة أو فئة معينة على حساب الفئات الأخرى، بناءً على أمور مورّثة مرتبطة بقدرات الناس أو طباعهم أو عاداتهم، وتعتمد في بعض الأحيان على لون البشرة، أو الثقافة، أو مكان السكن، أو العادات، أو اللغة، أو المعتقدات، كما أنها يمكن أن تعطي الحق للفئة التي تم رفع شأنها بالتحكم في الفئات الأخرى في مصائرهم وكينونتهم وسلب حقوقهم وازدرائهم من دون حق أو سبب واضح. فالعِرقية (العنصرية) بذلك تعدّ من أهم عوامل تأجيج مشاعر الكراهية على اعتبار أنها تؤمن بأن هناك فروقاً وعناصر موروثة بطبائع الناس أو قدراتهم وعزوها لانتمائهم لجماعة أو لعرق ما – بغض النظر عن كيفية تعريف مفهوم العرق – وبالتالي تبرير معاملة الأفراد المنتمين لهذه الجماعة بشكل مختلف اجتماعياً وثقافياً وقانونياً. وفي هذا السياق، يجب علينا جميعنا أن نستنكر وندين بشكل علني جميع الرسائل، لا سيما الرسائل والخطابات السياسية التي تنشر أفكاراً قائمة على التفوق العرقي أو الكراهية، أو تحرض على العنصرية والتمييز العنصري وكره الأجانب وما يتصل بذلك من تعصب. كما أن استخدام الخطاب العام كسلاح لتحقيق مكاسب سياسية عبر اعتماد خطابات تحريضية تثير الفتنة تصم بالعار الأقليات والمهاجرين واللاجئين والنساء وكل من يعتبر من "الآخرين المختلفين بالانتماء العرقي"، وتجردهم من إنسانيتهم. وهكذا تعدّ العنصرية من أكبر عوامل الكراهية والبغضاء بين الناس، وإهدار حقوق الإنسان، وسحق كرامته، ومصادرة حريته، والهبوط به إلى الحضيض في معاملته.

ويتبلور العامل الخامس في مظاهر الثقافة المجتمعية، حيث تعطي الثقافة المجتمعية السائدة الرخصة لفئات محددة للتعدي لفظياً على غيرها من الفئات الأقل حيلة، والتحريض عليها وإطلاق والتدخل في شؤونها بأي وسيلة كانت، على سبيل المثال: (وصم الفئات الضعيفة والهامشية بعبارات تقلل من شأنها الإنساني والاجتماعي والثقافي). وإن كان أصحاب هذه المعايير غير مدركين لخطرها، إلا أن ذلك لا يمنع من قدرة هذا الخطاب على التوسع، والانتشار كثقافة تربك حياة الكثيرين، وتتعدى على حقوقهم، وتتحول إلى عنف ضد الفئات الأخرى. بالإضافة إلى غياب ثقافة حرية الرأي والتعبير في العديد من المجتمعات والتعريف بها وحدودها لا سيما الممارسات التي تعتبر تعدٍ على حقوق الآخرين.

وينبثق العامل السادس من خلال غياب ثقافة تقبل الآخر باختلافاته وآرائه، وضعف المصادر المحايدة التي تقدم المعلومة الصحيحة، وبقاء الفرد رهين الأحداث السياسية والتاريخية المرتبطة بقضية ما، إضافةً لدور وسائل الإعلام غير المهنية التي تحفز الفرد في تبني موقف الكراهية على أسس غير سليمة.

أما العامل السابع يتضح من خلال تأثير شبكات التواصل الاجتماعي (الفيس بوك، تويتر)، حيث أضحت تلك المواقع مؤخراً تلعب دوراً أساسياً في التأثير السياسي والتعبئة الجماهيرية، وخلق مناخ سياسي ضاغط، وثورات عارمة، كما حدث في مجتمعات الربيع العربي، التي أسقطت حكاماً شموليين، وساهمت في تحشيد المتظاهرين وتعبئتهم. ورغم أن مواقع التواصل الاجتماعي قد لعبت دوراً أساسياً في التفاعل مع الآخرين والتغيير الإيجابي والاستفادة من تجاربهم وخبراتهم، إلا أن تأثير الدور السلبي لمواقع التواصل الاجتماعي بدأ يظهر شيئاً فشيئاً لا سيما في نشر الثقافات السيئة وبث الكراهية والطائفية والنزاعات المجتمعية القائمة على التفريق العنصري والديني وغيرها من الأمور السلبية، ويعتقد العديد من الخبراء، أنه مع ازدياد عدد الأشخاص الذين يتصفحون الإنترنت، فإن الأفراد الذين يميلون إلى العنصرية، أو كره النساء، أو الأجانب أو اللاجئين، قد وجدوا نطاقات يمكنهم تعزيز وجهات نظرهم وحثهم على خطاب الكراهية والعنف ضد الآخرين، حيث توفر منصات التواصل الاجتماعي للجهات الفاعلة العنيفة الفرصة في الإفصاح عن أعمالهم. ويعود ذلك لعدة عوامل أهمها: إن منصات وسائل التواصل الاجتماعي غير منظمة إلى حد كبير، الأمر الذي يعني عدم ضبط تلك الوسائل بمحددات واضحة للنشر والتواصل، لا سيما خطاب الكراهية، بالإضافة إلى سهولة إنشاء الحسابات الوهمية، الأمر الذي يساعد العديد من الجهات والأفراد توجيه خطابات الكراهية على تلك المنصات، مستفيدين من عدم إمكانية معرفتهم وملاحقتهم قانونياً. وأخيراً عالمية تلك الوسائل وسهولة التواصل من خلالها أعطى عشرات المستخدمين الدافع نشر أفكارهم المتطرفة التي تساعد على تحفيز مشاعر الكراهية والتفرقة لبعض المتلقين من الجمهور القابل لحمل الأفكار المتطرفة.

وفي النهاية، يبقى الدور الرئيس على مواقع التواصل الاجتماعي في تحديد سياساتها الصارمة تجاه ما يبث عبر منصاتها من ضرورة تفعيل الرقابة الحقيقية على المحتويات التي تشجع على نشر الكراهية مع مراعاة حماية حقوق الأشخاص بالتعبير عن آرائهم وقصر إجراءات تلك المواقع تجاه الأفكار التي تحمل دعوة على ممارسة العنف بأحد أشكاله أو المحتوى الذي يحمل إهانات عنصرية وألفاظ تهاجم أي فرد من الأفراد.

وينحصر العامل الثامن والأخير في غياب التشريعات أو عدم وضوحها بشأن خطاب الكراهية بما أنه لا يوجد تعريف محدد ومعترف عالمياً لخطاب الكراهية؛ فالتعبير يتضمن حزمة مختلفة ومتنوعة من رسائل الكراهية، تتراوح بين الملاحظات والتعليقات المسيئة والازدرائية والمهينة والتنميطية السلبية من رسائل الكراهية، وخطاب التخويف والاستفزاز المحرض على العنف ضد أفراد بعينهم أو جماعات معينة. والأعم، لا يعد غير قانوني سوى الشكل الفظيع لخطاب الكراهية، وهو الذي يشكل تحريضاً على التمييز والعداء والعنف. ويجب فهم النماذج الثقافية ومراعاتها عند تحديد ما إذا كانت تعليقات أو صور معينة تبلور خطاب الكراهية أو تحريضاً أو تشهيراً، وتحظى الدول بجزء من التقدير في وضع تلك القيود والحدود، ولكن ينبغي تحقيق نوعاً من التوازن لا يتسبب دون داع في الحد من حقوق الأفراد ولا تعرضهم للخطر. ومن أجل سن قوانين وتدابير احترازية متسقة وفعالة لخطر التحريض على الكراهية والمعاقبة عليه، ينبغي عدم خلط خطاب الكراهية بأنواع أخرى من الخطابات المتسمة بالإثارة أو الحقد أو الإساءة. ويمكن للآثار المقصودة أو الفعلية للخطاب أن تكون مؤشراً مفيداً لتمييز التحريض على الكراهية عن غيره من فئات خطاب الكراهية: ففي حالة التحريض على الكراهية سعى المتكلم إلى إثارة رد فعل من الجمهور، وتحديداً للتأثير عليه حتى يتبنى الآراء المعرب عنها صراحة أو ضمناً في الخطاب، ويكون له رد فعل ضد الفئة المستهدفة (الضحية)، سواء أكان بالعداء أو التمييز أو العنف.

إن عدم شمول الأنظمة القانونية لتعريفات واضحة بشأن محتوى وعناصر خطر الدعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية التي تشكل تحريضاً على الكراهية، يمكن أن يؤدي إلى تطبيق سيئ للقانون، بما في ذلك استخدام القوانين المناهضة لخطاب الكراهية لاضطهاد وإسكات الأصوات المنتقدة أو المعارضة.

- آليات مواجهة الكراهية (الحول والمقترحات): دائماً الظواهر المجتمعية التي لا تُعالج من جذورها وأسبابها الأساسية، تعود للظهور والبروز من جديد وقد تكون بزخم وفعالية أكثر من السابق؛ وذلك لأن معالجة النتائج وملاحقة الظواهر الخارجية للمشكلة، لا تنهي الأسباب الحقيقية والجوهرية لنشوء المشكلة والأزمة. لذلك فإنها تتحين الفرصة للبروز من جديد. بناءً على ما سبق يجب إيجاد حلول جذرية وواقعية لمسألة كراهية الآخر، التي تستلزم معالجة الأسباب الجذرية للكراهية واحتواء عوامل الدفع والاستدراج التي تحدو بالشخص إلى الكراهية، وكذلك بناء القدرة على رفض استسهال السرديات المستندة إلى الخوف والكراهية ومقاومة استساغتها.

في حقيقة الأمر، إن مسؤولية اجتثاث الكراهية مسؤولية مجتمعية يتقاسمها الجميع، ولا أحد بريء هنا وخالٍ من العيوب فجميعنا من بني البشر. بذلك تتحمل الدولة والهيئات الرسمية والمجتمعية ووسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية والدينية ومؤسسات التنشئة الاجتماعية بمختلف مستوياتها واجب التوعية وغرس مفاهيم التعايش وتقبل الآخرين واحترامهم، بالإضافة إلى ترسيخ القيم الإنسانية والأخلاقية والحب والتواصل الإيجابي والتعايش والاعتراف. وفي مؤسسات القطاع التعليمي، لا بد من تسخير القدرة التي ينطوي عليها التعليم في هذا الصدد، باعتباره وسيلة مؤثرة لتعزيز القدرة على مقاومة الأفكار المشحونة بالكراهية والتمييز، كما تبرز ضرورة تطوير المناهج التعليمية لكافة المراحل وتحديثها والتوقف عن نمط التعليم الذي يعتمد على التلقين واستبداله بأشكال عصرية تراعي التفكير الحر واستخدام العقل والإصغاء وقبول الرأي الآخر والحث على التفكير الإبداعي، وتشجيع الطلبة على تعلم مهارات النقد البناء وفتح نوافذ التعدد والتنوع الثقافي أمامهم. كذلك إعادة تأهيل المدرسين والمعلمين وإكسابهم الخبرات والمعارف اللازمة للقيام بواجبهم التعليمي على أفضل وجه، كما وينبغي تعزيز التعددية والأخذ بوجهات نظر متعددة في المضامين التعليمية وممارسات التدريس من أجل التشجيع على التعبير والحيلولة دون تقييده أمراً حاسماً لإيجاد بيئات تعليمية تدعم تنوع وجهات النظر والتفاهم. وتشمل جوانب المناهج الدراسية والمواد التعليمية التي تسهم في التهميش تكريس القوالب والصور النمطية والاستبعاد القاطع لبعض الأحداث والمجموعات أو الفئات والتجارب. ويتطلب تعزيز الشعور بالانتماء لدى جميع المتعلمين إعداد مواد تعليمية ومناهج دراسية لا تكتفي بترويج سرد مهيمن واحد ووحيد وتتحيز له، وينبغي تسخير التعليم لتنمية مهارات التفكير النقدي، وإفساح المجال لتداول الأفكار المتنافسة والمتضاربة، وتعزيز حقوق الإنسان، مع مراعاة وجهات النظر المهمشة بقدر مراعاة الخطابات السائدة.

وينبغي للجهود المبذولة في هذا الصدد في مجال التعليم الإسهام في بناء الشعور باللحمة والانتماء إلى مجموعة تتشاطر القيم الإنسانية المشتركة وتعترف بالاختلاف وتحتضنه، وتقر بعلاقات القوة الحالية والسابقة ودينامياتها التي تسهم في التهميش والاضطهاد وتعالج تلك العلاقات، وتعزز تقدير القيم المشتركة المرتبطة بالاحترام وحقوق الإنسان والديمقراطية. وأخيراً بناء قدرة المعلمين على التصدي لخطاب الكراهية ومعالجة أسبابه الجذرية من إتاحة فرص تنمية القدرات المهنية لهم، لكي يتمكنوا من توفير بيئات تعليمية تسمح بوجود الاختلاف القائم على الاحترام، وتتيح المناقشة العلنية والمنفتحة للقضايا الاجتماعية والسياسية التي تؤثر في حياة الطلاب، بمراعاة التوازن الدقيق بين حرية الرأي والحماية من الأذية. ويعد استخدام الأساليب التربوية القائمة على الحوار أمراً أساسياً للتصدي لخطاب الكراهية ومكافحته من خلال الأخذ بمختلف وجهات النظر. وبيّنت الأبحاث أن تواصل الأشخاص تواصلاً إيجابياً مع أفراد يعدونهم من مجموعة مختلفة أمراً مواتياً لبناء العلاقات بين المجموعات، والحد من التحيز ومن التصورات السلبية.

وفيما يتعلق بدور وسائل الإعلام في عصر التطورات التكنولوجية المتلاحقة والتواصل الرقمي كون معظم أفراد المجتمع باتوا يعتمدون في تشكيل تصوراتهم وفهمهم للعالم ورؤيتهم للأمور على ما يصلهم من معلومات وبيانات ورؤى عبر الخطابات الإعلامية في وسائل التواصل الاجتماعي في مختلف مستوياتها، وبذلك يكون للإعلام الدور الرئيس في إحداث الانطباعات وبلورة القناعات وتكوين الوعي المعرفي لدى المتلقي. لذلك، لابد من أن يكون هدف الرسائل الإعلامية بث ثقافة التسامح والحوار والتعايش وتقبل الآخرين بين جميع مكونات المجتمع ونبذ الكراهية والعنف والتشدد والعنصرية والإرهاب والإقصاء والاستبعاد الاجتماعي. بالإضافة إلى ما سبق، يجب على الصعيد التشريعي والقانوني سن القوانين التي تجرم ممارسة الكراهية واضطهاد الآخرين بغية تفعيل المساءلة القانونية كضرورة مهمة لتجفيف منابع خطاب الكراهية، وتطبيق العقوبات على المخالفين يسهم بصورة فعالة في إيقاف هذا الانحدار الأخلاقي.

إن عملية تربية المواطنة من أهم العمليات المجتمعية، باعتبارها عملية متواصلة لتعميق الحس والشعور بالواجب تجاه المجتمع، وتنمية الشعور بالانتماء للوطن والاعتزاز به، وغرس حب النظام والاتجاهات الوطنية، والأخوة والتفاهم والتعاون بين المواطنين، واحترام النظم والتعليمات ونبذ الكراهية والتفرقة، كما يجب دعم وتنشيط وتفعيل منظمات المجتمع المدني والأندية والنقابات والاتحادات والمنظمات الجماهيرية الأخرى كي تتمكن من القيام بدور توعوي وتنموي وتثقيفي مجتمعي مهم، وخاصة في أوساط الشباب واستغلال طاقاتهم الخلاقة المبدعة وتوظيفها بما يحقق التنمية والتطور والسلام وتزويدهم بالفكر والمعرفة التي تؤمن بالتعايش والحوار وقبول الآخر وترفض التشدد والكراهية. وهكذا يؤدي تفعيل دور منظمات المجتمع المدني إلى نشر وتعزيز قيم ومبادئ المواطنة القانونية والسياسية بين أفراد المجتمع، ومعرفة حقوقهم وواجباتهم وترسيخ مفاهيم الهوية الوطنية والانتماء والولاء للوطن والتعايش السلمي والمشاركة الفاعلة في الأعمال التطوعية. ومن المهم أيضاً تشجيع الباحثين والمؤسسات المعنية بهدف القيام بأبحاث ودراسات سوسيولوجية وثقافية لرصد العوامل والأسباب التي تؤدي إلى تنامي أفكار الكراهية وخطابها وسلوكها، وتحليل الظاهرة وتفسيرها ونقدها بهدف التوصل إلى توصيات ومقترحات تهدف إلى محاصرة الكراهية والحيلولة دون استفحالها من خلال محاربة خطاب الكراهية لا حرية الرأي التعبير؛ فمن أهم العوامل والأسباب التي تعمق وتزيد من خطاب الكراهية في المجتمع الخلافات السياسية لا الاختلاف، فلا يُقصد ثقافة الاختلاف التي تعتمد على قيم ومعايير حرية الرأي والتعبير، حيث إن من يخلط بين مفهوم الكراهية وحرية التعبير، وقد استخدمت تلك المفاهيم بازدواجية وانتقائية في المجتمعات المعاصرة.

ومع أن حرية الرأي والتعبير وضعت أسسها بشكل مطلق دون تقييد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إلا أنه تم تحديد المعايير الدولية بشأن خطاب الكراهية من خلال التوازن بين الحقوق المدنية والسياسية، لضمان حرية الرأي والتعبير والحماية منها في الوقت ذاته. وفي كل الأحوال، لا يمكن لحرية التعبير أن تفهم على أنها حق في تحريض الأفراد على ارتكاب الجريمة، لكن التفرقة بين حرية الرأي والتعبير وخطاب الكراهية تكمن في المحددات والمعايير التي تساعد في تحديد ما إذا كان الخطاب يتسم بكونه يصل لحد خطر العنف أو العداوة أو التمييز، بالتالي يسمح لقانون ما بحظره، حيث وضعت المفوضية العامة لحقوق الإنسان مجموعة من الأدوات لتحديد خطاب الكراهية، وهي: السياق: لتحديد مجال والأحوال السياسية والاجتماعية التي أُلقي الخطاب فيها، وفهم أسباب الخطاب. المتحدث: التركيز على مكانة المتحدث وموقعه وتأثيره. القصد: تهتم هذه الأداة بمعرفة النية من الخطاب، ومقصده فلا يكفي التهور وعدم المبالاة، لاعتباره خطاب كراهية. المحتوى: أسلوب الخطاب وطبيعته وتحليله. انتشار الخطاب: مدى الخطاب وقدرته على الوصول إلى جمهوره ووسائل نشره وتواتر عمليات نشره وكميتها. احتمالية وقوع الأذى: تحديد الدرجة المحتملة للضرر، وقدرة الخطاب على النجاح في تحويل الخطاب إلى فعل جدي، ووضوح العلاقة السببية بين الخطاب والفعل. بذلك وُضعت هذه الأدوات للحفاظ على حرية الرأي والتعبير، حتى لا يقع أي استغلال من الحكومات لمكافحة حرية الرأي والتعبير بحجة خطاب الكراهية، ومع ذلك فإن الالتزام بهذه الأدوات وحدها دون وجود أدوات وقوانين رادعة لخطاب الكراهية، بالإضافة إلى سرعة التأثر بالخطاب التي تعززها فوضى عدم تطبيق القانون، ستكون له منعكسات سلبية، مما يؤدي إلى تنامي خطاب الكراهية بين أفراد المجتمع بالأخص الفئات الضعيفة.

خلاصة القول، إن مواجهة خطاب الكراهية لا تتوقف عند حدود تحليله وتفسيره ونقده، بل تتطلب أيضاً زيادة الوعي بالحقوق السياسية والاجتماعية والثقافية للأفراد والجماعات، بما في ذلك حرية التعبير، والحدود التي يجب مراعاتها أثناء ممارسة حرية الحق في التعبير، بالإضافة إلى صياغة خطاب بديل مشبع بمعاني الإنسانية والتعايش والمحبة والتآخي والتضامن والتعاون، حيث تؤدي مبادرات وبرامج التوعية والتثقيف الجماعي، وحملات الخطاب الإيجابي، والبحوث النفسية والاجتماعية والثقافية والأنثروبولوجية الرامية إلى فهم الأسباب والدوافع الحقيقية لتنامي مشكلة الكراهية ومعالجتها، والجهود الرامية إلى تعزيز مفاهيم المواطنة والاندماج والمساواة في الحقوق والواجبات، جميعها دوراً مهمّاً. ويمكن للقيادات الدينية والمجتمعية وقيادات الأعمال التجارية أن تؤدي دورها من خلال تفعيل المسؤولية الفردية والمجتمعية؛ وذلك على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع بمتابعة أبنائهم وحمايتهم من الفكر الدخيل أو المتطرف؛ وذلك يتجسد في الرعاية الدينية والخلقية، وأخيراً تشجع الضحايا والشهود على الإبلاغ عن الجرائم المتعلقة بخطاب الكراهية.

- موقف الإسلام من خطاب الكراهية: إن الدين الإسلامي في حقيقته يعد مَعيناً لا ينضب من التسامح والاعتدال والعدالة؛ فقد كانت نظرته للمخالفين له نظرة رحمة بعيداً عن التعصب والكراهية، وأوصى بمخطابتهم بالحسنى، لقوله تعالى: ] وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا[ (البقرة: 83)، بذلك يسعى الإسلام إلى التصدي لخطاب الكراهية من خلال الدعوة إلى التسامح، والقبول بالآخر، وإرساء قِيم التعايش بين مختلف الأديان والحضارات، ونبذ الكراهية والعنف. ففي القرآن الكريم نهى الإسلام عن خطاب الكراهية والعنف اللفظي، وتجلى ذلك في العديد من الآيات القرآنية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى: [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ] (البقرة: 83)، [لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا] (سورة النساء: 148). وكذلك قول الله سبحانه وتعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (الحجرات: 11)، كما نهى الإسلام عن ازدراء الأديان وعدم احترامها في قوله تعالى: [وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] سورة (الأنعام: 108)

وباستقراء الآيات القرآنية السابقة، يتضح أن الدين الإسلامي يحث على حسن القول ونبذ الجهر بالسوء من القول، كما نهى عن الاستهزاء والسخرية بالغير، بالإضافة إلى الدعوة إلى التآلف فيما بين الأديان المختلفة وعدم شتم الموالين لها.

وفي السنة النبوية، نجد أيضاً أدلة واضحة وصريحة حول مفهوم الكراهية؛ لأن الإسلام منهج رباني لا مكان فيه للتعصب والعصبية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ) رواه أبو داود، وعلى عكس خطاب الكراهية يهدف الإسلام إلى كف الألسن عن الكلام إلا بما فيه خير، وفي هذا الصدد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيصْمُتْ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جارَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ) رواد أبو هريرة في صحيح مسلم، ويتضح من ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا صراحة إلى تبادل الكلام الطيب والقول الحسن وتفادي الكلام البذيء عن طريق الصمت بدلاً من الإساءة إلى الغير. وعليه، فخطاب الكراهية الذي يدعو إلى الفرقة والتمييز بين الناس على أساس لونهم أو جنسهم أو عرقهم هو خطاب مرفوض، ومحرم شرعاً؛ لأنه يخالف تعاليم الإسلام التي أعطت كل إنسان حقه، وجعلت ميزان التفاضل التقوى ومخافة الله تعالى، فالتمسك بتعاليم الإسلام يحمي الفرد والمجتمع من أي فكر منحرف.

 

- المراجع المعتمدة:

1. ميلاني كلاين وجون ريفيير: الحب والكراهية، ترجمة: وجيه أسعد، دار البشائر، دمشق، ط1، 1993

2. إيمان محمود هاشم عنبر: المحبة والكراهية في ضوء القرآن الكريم – دارسة موضوعية، رسالة ماجستير غير منشورة، قسم التفسير وعلوم القرآن، كلية أصول الدين، جامعة غزة، غزة، 1435ه – 2014م.

3. شيماء الهواري: مفهوم الكراهية في الشرعية الدولية، المركز الديمقراطي العربي، ألمانيا (برلين)، 17. أكتوبر 2017. https://democraticac.de/?p=50107

4. ابن المنظور: لسان العرب، تحقيق: عبد الله علي الكبير، دار المعارف، القاهرة، بدون تاريخ.

5. عبد الله بن محمد العمرو: ثقافة الكراهية وصلتها بالثقافتين الإسلامية والغربية، مجلة العلوم الشرعية، العدد: 34، محرم 1436هـ.

6. فريق العمل في الموسوعة: موسوعة التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، https://modoee.com/show-book-scroll/428#footnote-048 7. وريدة جندلي بنت مبارك: التصدي لخطاب الكراهية في القانون الدولي والتشريع الجزائري: التكريس القانوني وسبل الوقاية، المجلة العربية للدراسات الأمينة، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض، المجلد: 37، العدد: 1، 2021

8. عبد الحسين شعبان: عن ثقافة الكراهية، صحيفة الخليج، 16 أغسطس 2023

9. حسن زهير: من مصادر ثقافة الكراهية (28)، صحيفة العربي الجديد، 04 يوليو 2023

10. علي بن إبراهيم النملة: نقد العقل المعاصر – صناعة الكراهية بين الثقافات وأثر الاستشراق في افتعالها، دار الفكر، دمشق، ط2، 2009

11. عمران عبد الله: الاستشراق من إدوارد سعيد إلى ترامب.. انفجار "كراهية الإسلام" في الثقافة والسياسة، موقع الجزيرة، 29.05. 2019

12. حسن العاصي: صناعة الكراهية - الأشقاء والأعداء يتشاركون في صناعة الشقاء، مجلة الجديد اللندنية، الجمعة 2019.03.01

13. حسام الدين فياض: الانثروبولوجيا الطبيعية والعِرق: نحو فهم أعمق لحقيقة الأعراق البشرية (2)، الحوار المتمدن، العدد: 7712، 23. 08. 2023. https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=802902

14. محمد محفوظ: ضد الكراهية- من أجل تفكيك خطاب الكراهية في العالم العربي، إصدار المركز الإسلامي الثقافي، لبنان، ط1، 2012

15. دعد محمود ويحيى قاعود وعمر شعبان: نحو سياسات وطنية فعالة لمواجهة خطاب الكراهية في فلسطين، بال ثينك للدراسات الاستراتيجية، فلسطين (غزة)، 2023

16. رضوان بو جمعة: آليات مواجهة خطابات الكراهية في وسائل الإعلام بين القانون الدولي الإنساني والأخلاقيات المهنية، المجلة الجزائرية للاتصال، المجلد: 19، العدد: 02، 2020

17. فريق الإعداد لمنظمة سكاي لاين الدولية لحقوق الإنسان: خطاب الكراهية ومواقع التواصل الاجتماعي – العوامل المؤثرة وآليات المواجهة، منظمة سكاي لاين الدولية لحقوق الإنسان، السويد (ستوكهولم)، ب.ت.

18. منظمة الأمم المتحدة واليونسكو: هل من تدابير تربوية وتعليمية للتصدي لخطاب الكراهية؟، ورقة مناقشة 02، منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، فرنسا (باريس)، 2022

19. عاطف عبد الله عبد ربه: أثر خطاب الكراهية على السلم والأمن الدوليين، مجلة جنوب الوادي للدراسات القانونية، العدد: الرابع، 2019