الجسد فيما وراء الفتاوى والإشهار: قراءة في كتاب: "الجسد في المجتمعات العربية بين الواقع والنص"


فئة :  قراءات في كتب

الجسد فيما وراء الفتاوى والإشهار:  قراءة في كتاب: "الجسد في المجتمعات العربية بين الواقع والنص"

قراءة في كتاب الجسد فيما وراء الفتاوى والإشهار:

"الجسد في المجتمعات العربية بين الواقع والنص"

مقدمة:

يواصل الباحث عياد أبلال دراساته الأنثروبولوجية، ليقدم لنا هذه المرة دراسة علميّة رصينة معنونة بـ "الجسد في المجتمعات العربية بين الواقع والنص"[1]، تشهد على أننا أمام باحث أكاديمي ذي مشروع علمي واضح المعالم، يقول في هذا الصدد: "من هذا المنطلق، وتتمة لترجمتنا لكتابيْ الأنثربولوجي الفرنسي دافيد لوبرتون: "سوسيولوجيا الجسد"، و"أنثربولوجيا الألم"، ودراستنا للحب، الألم والجسد العاطفي في أبحاث سابقة، اتخذت من بعض الأعمال السردية العربية متنا للدراسة، نستمر في الحفر الأركيولوجي المعرفي في الجسد العربي بهدف المساهمة في بناء معرفة نظرية وتطبيقية كفيلة برفع اللبس وتفكيك الكليشهيات المغرضة التي تعمل جاهدة على تخوين الجسد ومنعه من حقه في الوجود، بفصل القوى الفاعلة فيه عما تستطيعه من حب وجمال وخير"[2].

ضمن هذا الأفق، اعتمد الباحث في تفتيت وخلخلة التمثلات الاجتماعية والثقافية والدينية للجسد في المجتمعات العربية على معطيات متعددة (فتاوى الفقهاء - مواقع التواصل الاجتماعي - صورة إشهارية - نصوص سردية) من أجل دراستها وتحليلها، اعتمادا على لغة واصفة ومنهج علمي صارم (المنهج الأنثروبولوجي التأويلي الرمزي)، معتبراً هذه المعطيات بمثابة "وثائق أنثروبولوجية" تحتوي "حقيقة المجتمع" بعيدا عن كل أسيجة الرقابة الاجتماعية. إننا أمام عمل معرفي - علمي يحاول جاهدًا تأسيس رؤية / رؤيا مضادة للمخيال الاجتماعي الغارق في الفكر الأسطوري الراقد في زنزانة القدامة، وفي شراك الرأسمالية المتوحشة التي تمتص دماء الحياة بداخله. كما يحاولُ، من جهة ثانية، بناء نظرية جديدة قادرة على مقاومة كل الجمود الثقافي والعلمي الذي أصبح جاثما على صدر الجامعة العربية اليوم.

بدأ الباحث عياد أبلال ولوجه إلى دياجير المنظومة الدينية، التي تحدد بشكل كبير رؤية الإنسان العربي للحياة وللعالم وللإنسان وللمرأة، عبر استنطاقها من خلال ما ترشح به من فتاوى فقهاء غارقين حتى النخاع في الظلامية، التي تبتغي تغليف جسد المرأة بالسواد، وكأنها قبر متحرك بين الأحياء، وهو ما يُفصِله الباحث أكثر بقوله: "تشكل المرجعية الدينية-الأصولية للجسد أحد أهم موجهات الفعل الاجتماعي وشرطاً سببياً لمنعه من حريته، وهي المرجعية الارتكاسية التي تفصل هذا الأخير عن قوته الفاعلة، حيث يصبح الجسد ملكاً للمجتمع وأطره الإيديولوجية، وليس ملكاً لصاحبه. ومن هنا يتأسس بعد التكليف وينتقي شرط الاختيار، وهو ما يجعل رقابة المجتمع تمنع الجسد من حقه في الحياة: الحق في الغناء، الحق في الرقص، الحق في السباحة، الحق في الشمس، الحق في اختيار اللباس ... إلخ.

يتسع هذا المنع ويتمدد كلما اتسعت مدارات الطابوهات، وتقلصت مساحة الحريات الفردية؛ فالجسد الأنثوي مكلف بضمان استمرارية النوع من خلال آلية التناسل فقط، وداخل إطار الشرعية الأسرية، حيث يمثل الزواج المؤسسة الوحيدة التي تضمن الحق في الجسد العاطفي، إذ لا يحق والحالة هاته اختيار المتعة، ومبدأ اللذة موقوف على هذه الوظيفة، وكل خروج عن هذا البراديغم يستوجب العقاب، كشكل من أشكال العنف الموجه للجسد عن طريق مختلف أشكال العزل والنفي، من اللّباس إلى حد الرجم والقتل، مروراً بالتشهير الذي لا يقتصر على المرأة، بقدر ما يطال الرجل نفسه"[3]. ويضيف أيضا أن أشكال هذا القيد / الحجاب الذي يقف أمام المرأة كصخرة سيزيف، يبلغ ذروته "السادية" وهو يمارس فعل التشطيب على كينونة المرأة؛ تشطيبها كلية من الوجود والحياة والعالم، سواء أكانت طفلة أم زوجة". من هنا، فكل انزياح عن هذا البراديغم يهدد هذا الجسد بالحجب، الذي تتعدد تجلياته من فرض للحجاب، إلى الإقامة الجبرية (في البيت، وعدم الخروج إلا بوجود محرم) إلى القتل، مروراً بالرجم والسجن والقتل الرمزي من خلال التشهير، أو الوأد الرمزي (من خلال البرقع والنقاب الوهابي - الأفغاني)"[4]، وقد قاد هذا الواقع الإشكالي الباحث، بالرغم من رصانته المنهجية إلى الحديث بكلّ أسف، عن بؤس الفتاوى باعتبارها سجونا تحجب شمس الحرية عن المرأة العربية، وتجعلها أسيرة في بيت شهريار العربي: "تقودنا القراءة التأويلية لمتون هذه الفتاوى إلى استخلاص تمثلات العرب عن المرأة، باعتبارها مجرد جسد للمتعة واللذة، وآلة للتناسل ورعاية الزوج والأسرة في إطار ما يمكن أن نسميه بالرق الأسري"[5]. وهو ما يلتقي بصدده مع المحلّل النفساني فتحي بن سلامة في كتابه (الإسلام والتحليل النفسي)[6]، الذي يكشف الوضعية الكارثية التي تعيشها المرأة العربية، نتيجة تداخل الديني والسياسي واستفحال الاستعباد والاستغلال.

إذا كان الغوص في المخيال الفقهي وكيفيات تعامله مع الجسد، يقودنا إلى استخلاص رؤية تحقيرية للمرأة، وهو ما تلتقي فيه مختلف أشكال التدين المرتبطة بالأديان التوحيدية كلها، مع وجود تمايزات وفروقات بطبيعة الحال، فإننا نجد المراحل ما قبل تذكير "الآلهة" كانت تحتفي بجسد المرأة، الذي بلغ بل درجة العبادة، وهو ما جعل الباحث يرى أن "التاريخ البشري بالنهاية هو تاريخ هذا الجسد الذي انتقل من التقديس إلى التدنيس، ومن التدنيس إلى الاحتفاء، وفق مراوحة الخفاء والتجلي، الحجب والكشف"[7].

ضمن هذا الأفق التحليلي، يتناول أبلال مختلف أبعاد هذا الانقلاب الذي حصل في مكانة المرأة، عبر استنطاق ذهنية التحريم، التي تتجلى في اعتماد دعاة الفكر الخرافي على القنوات الدينية لترويج هذه "الذهنية/ البضاعة" باسم المقدس، حتى لا يستطيع المشاهد أن يجادل حول معقولية هذه الرؤى، بل تنهج "أسلوب القصف الذهني" الذي يريد شلّ "ملكة النقد" عند المتلقي، وتفعيل فقط آلية التسليم / الطاعة، وهو ما أثاره الباحث في ثنايا الكتاب بتسليط الضوء عن مصادر الدعم لهذه القنوات الإعلامية: "حيث يصبح المجتمع في ظل مختلف أشكال التدين الجامدة والمجحفة سجناً للمرأة، تختم الأطر الإيديولوجية لإعادة إنتاج المعرفة الدينية الجامدة والمحنطة صك اتهامها وإدانتها مع سبق الإصرار والترصد، وهو ما تعكسه مجموع الفتاوى المتعلقة بالنساء وفقه الأسرة عموماً، والذي استطاعت الوهابية تعميمه وتنميطه بفضل القنوات الدينية كثيرة العدد، والدعم السخي للمؤسسات ودور النشر الإسلامية في العالمين العربي والإسلامي"[8].

إن جوهرة الجواهر في هذا الكتاب، هو شمولية الطرح العلمي للموضوع، حيث لم يكتف الأنثربولوجي عياد أبلال بدراسة الجسد فقط من الزاوية الدينية، بل سلط أضواء التحليل حتى على النظام الرأسمالي الذي (شيّء) المرأة واختزلها في مجرد جسد قابل للاستهلاك والترويج للمنتوجات عبر صورتها، حيث كان المفروض على الثورة المعلوماتية أن ترفع منسوب الوعي لدى الناس، وأن تكون التكنولوجيا في خدمة الإنسانية وقيمها النبيلة، عوض أن تكون دراكيولا يسهم في امتصاص جسد المرأة وتسخيرها لخدمة "الإكليروس" الرأسمالي المتوحش. إن الباحث هنا لا يهادن في قول الحقيقة المتعلقة بخروج التكنولوجيا عن جادّة غايتها: "إن التكنولوجيا المعاصرة بدل أن تكون قوة تحررية، تحرر الإنسان من سلطة الأشياء والطبيعة، حولت البشر أنفسهم إلى أدوات، فالإنسان المعاصر أصبح عبدا للخطط الإنتاجية، عبودية يرتضيها العبد ويدعمها بعد أن افتقد الوعي بافتقاده الحرية، إذ لا تفعل الحضارة الراهنة، حضارة الإنتاجية، سوى قمع إرادة التحقق الذاتي "وإقبار الإمكانات الحقيقية للتحرر"[9].

لقد تحوّلت الصورة اليوم إلى ديانة تعتنقها جميع الفضائيات، بما هي المعبر الرسمي على جودة الحياة في أعين الناس، بل الإعلام ينتقي بشكل دقيق صور النجوم بناءً على مقاييس "جمالية" تعتمد على تسخير جسد المرأة للترويج لكل المنتوجات، وهو ما جعل الكثير من النساء اليوم يشددن الرحال إلى كعبة جراحات التجميل من أجل الرفع من ثروة الجسد في المزاد العلني للتباهي وللمفاخرة ونيل الاعتراف الرسمي من آل الموضة. هكذا يصل بنا الباحث إلى هذه الحقيقة المرّة: "ضمن هذا السياق، يمكن أن نفهم السباق المحموم على غرف الجراحات التجميلية، للتخسيس أو تضخيم أعضاء جسدية بعينها، كالأرداف، والنهدين، والمؤخرة، بكل ما يقتضي ذلك من زرع وتوطين مواد ومستخلصات من سيلكون وبوطوكس وغيرها، تماثلا مع نجمات الاستعراض والموضة. وهنا يجب الإشارة إلى أن نموذج عارضات الأزياء والمشاهير من الفنانات في السينما والتلفزيون، خاصة "مانكات" الاستعراضات في الفيديو كليب، الذي يشهد على تحالف جديد بين السينما والإشهار، بتن يمثلن النموذج المشتهى، الذي يضمر الجسد الكامل، الجسد الفاتن والمرغوب، بما هو إفراز مباشر للهيمنة الذكورية التي تشكل جوهر استراتيجيات التواصل والإشهار في الميديا المعاصرة، والتي تتخذ من شعارات تسويقية مغرضة، وسيلتها لتعليب وتنميط المرأة سعياً وراء الربح، وفق تقسيم ذكوري - فحولي للأدوار في المجتمع، متخذة من الفروقات الفيزيولوجية والبيولوجية، ذريعة لتكريس فصل المرأة عن جسدها، وإخضاع هذا الجسد لفونطازمات الرجل اللاهث وراء الرغبة واللذة المعلقتين في شباك الإشهار"[10]. ضمن هذا السياق، نستحضر سلطة الإعلام في التأثير على الاختيارات الوجدانية والمعرفية والتواصلية للناس، والتي أشارت إليها نوال السعداوي، على اعتبار أن السلاح الحقيقي اليوم ليس فقط البندقية والمدافع والقنابل، بل "لقد حلّ الإعلام محل السلاح"[11].

تتجلى قدرة هذه السلطة حسب الباحث أبلال في كون "الإشهار والإعلام ... نوع آخر من القمع، موجه للجسد، لكن هذه المرة ليس بالحرمان من الإشباع واللذة، ولكن من خلال الإيهام بالإشباع"[12]. في هذا المناخ العالمي الذي يتسم بالصراع بين قوى حداثية وقوى أصولية، يبدو وكأن كل طرف يعلن اختلافه عن الطرف الآخر، لكن في العمق لا يوجد اختلاف بينهما، وهذا ما جعل الدكتورة نوال السعداوي توجه سهام النقد لكليهما معاً: "ما يحدث في الثقافة والفن اليوم هو هذه الرؤية الذكورية الأحادية للأشياء، المتجسدة في تعرية جسد المرأة (عند التيار الحداثي)، أو تغطية جسدها (عند التيار الأصولي الديني)، كلاهما يقتل روح المرأة وعقلها من أجل التركيز على جسدها عارياً أو مُحجَّباً، كلاهما ضارٌّ بالثقافة والفن، كلاهما في حاجة إلى تعرية حتى نعرف عورات الثقافة السائدة وكيف نعالجها"[13]، وهو مكمن رغبة الباحث أبلال في كشف الأقنعة عن هذه "الحداثة المعطوبة"، والكشف عن الميكانزمات التي يعتمد عليها الإعلام في صياغة الصور الإشهارية للنجوم، والتي تخاطب استيهامات المشاهد. يقول في هذا الصدد: "لماذا يفرض السيلكون على أجساد النساء؟ لقد صار حلم آلاف النساء في العالم أن يصبحن قطعا من سيلكون من خلال ثدي مشدود منتفخ ومؤخرة نموذجية تضع معاييرها الصارمة شركات تصنيع "السيلكون" ومؤسسات جراحات التجميل؟

كم من الإحساس بالإحباط والخجل والشعور بالدونية ينتاب آلاف النساء، وهن يقارن أجسادهن مع أجساد نموذجية يحتفي بها الإعلام، حتى صارت مؤخرة عارضة أزياء، أو فنانة إغراء موضوعا مفضلا للنقاش والمتابعة اليومية من أجل غرس عقيدة السيلكون في وجدان كل الفتيات والنساء من مختلف الأعمار والفئات... إنها عقيدة جديدة تبنى عليها إيديولوجية اقتصاد الجسد النسائي المفكك والمبعثر إلى قطع غيار مغشوشة في أغلب الأحوال، حيث تتلاشى هوية الأنثى في مختلف مراحل عمرها وتضمر ذاكرتها الإنسانية التي تجعلها متكافئة مع الرجل أو متفوقة عليه. امرأة بدون ذاكرة إلا الذاكرة التي تربطها بعقيدة السيلكون وطقوسها، حيث حراس المعبد يهددون النساء ليل نهار ويرغمونهن على الولاء لصنم فتاة لا تتجاوز الخامسة والعشرين من عمرها (يفترض في المرشحات لمباراة ملكات الجمال عدم تجاوز سن الخامسة والعشرين، ولا يهم إن كن قاصرات)، كل من تجاوزت هذا السن تفقد كينونتها، إلا إذا زارت معبد السيلكون... ولنا أن نتصور حجم المعاناة التي تعيشها نساء تجاوزن الستين من أعمارهن، وهن يستسلمن لمشرط جراح التجميل عدة مرات ليتقمصن نموذج الصنم المقدس في معبد السيلكون .. إنه منظر يثير الشفقة والاشمئزاز عندما تتأمل وجوه نساء يقاربن السبعين سنة تبدو وجوههن مشدودة بعنف قسرا على عمرهن البيولوجي، حيث يفقدن تناسق وانسجام شخصيتهن وتوازنها، مما يعيق تدفق جمالهن التلقائي الداخلي الذي لا يرتبط بسن معينة[14].

لم يكتف الباحث بتشخيص الوضع الموبوء فقط، بل انتقل إلى مستوى العلاج عن طريق الصدمة، من خلال الكشف عن قصور الحركات النسائية في الاهتمام بهذا الجانب المظلم والمغيّب من أجنداتها النضالية، وكأنه لا يمت بصلة إلى النساء، "وعلى الحركات النسائية الجادة أن تجعل من مثل هذه الإعدامات السرية للنساء قضايا رأي عام. لابد للحركات المناهضة للتمييز ضد المرأة أن تنتبه لخطورة تيار إعلامي يجرف معه كل المكتسبات التي حققتها المرأة، ويجرف معه أمن وسعادة النساء بأنوثتهن وهويتهن الطبيعية، حيث يتعايش الإحساس بالجمال الداخلي والخارجي، وبذلك يتحقق الرضا عن الذات، حيث لا تستحوذ شرعية الجسد المنمط على كينونة المرأة وتصبح معيارا وحيدا للوجود وللعلاقات بين الرجال والنساء ..."[15].

يتميز الكتاب بلغته العربية الفصيحة، والتي تصل أحيانا إلى مستويات بليغة وسلسة من الشاعرية، يُحسّ القارئ وكأنه أمام كتاب أدبي وليس علمي، إذ من بين الفصول المفعمة بهذه الشاعرية التي تكشف عن المياه الشعرية الكامنة في جبّة الأنثربولوجي - طالما أن أبلال ينحدر من سلالة الشعراء الأشاوس أيضاً -. فهذه اللغة لم تمنعه من التخلي عن الصرامة العلمية أثناء التحليل والتفكيك، حيث نجد الفصل المخصص لتحليل الصورة الإشهارية الموسوم بـ (دلالة الجسد الأنثوي في الصورة الإشهارية "روبيرتو كافالي: العطر الجديد للنساء" نموذجا)[16]، أشبه بقصيدة باذخة في بحيرة اللغة البهية، إذ يدرج الباحث الصورة الإشهارية ضمن خانة العنف الرمزي الممارس على الجمهور، حيث يقول: "هكذا، إذن، تغدو الصورة الإشهارية شكلا من أشكال العنف الرمزي وقناته، لهذا وربما إن جاز لنا استعارة مفهوم الجنوسة، وتجريبه في الحقل الإشهاري، سوف نتمكن من تفكيك وخلخلة ونقد مختلف الأشكال والصيغ التي تلجأ إليها الصورة الإشهارية، من خلال تمفصلات الإيديولوجي لتبرير البناءات الثقافية والاجتماعية المفروضة على الاختلاف الجنسي البيولوجي بين الذكر والأنثى، وترسيخ هذه الثنائية التضادية والتحقيرية للآخر (المرأة دائما)، وجعلها مسلمات وبديهيات، فإذا كان الهدف والغاية من الصورة الإشهارية التي أتينا على قراءتها وتحليلها، هو تحفيز ودعوة المتلقي/ الجمهور المستهدف من الإرسالية، إلى اقتناء عطر "روبيرتو كافالي"، فإنها حبلت من خلال المدلولات غير المباشرة والثاوية في تمفصلاتها، كما سبق وأشرنا، ببعد وإرسالية إيديولوجية تتجلى في محاولة تبضيع المرأة وتصبيرها في ترسيمات جسدية وهابتوس شبقي، يجعل منها مجرد متاع ولذة وجدت من أجل الرجل، ومستلبة في ذلك من طرف عالم الموضة والكماليات التي لن تحمل لها التجدد والجمال الأبدي، بقدر ما ستدخلها في دوامة من الاستهلاك وكأنها تدور مع عجلة أكسيون"[17].

وهنا يبرز الباحث من خلال سيميائيات الصورة عن البنيات المضمرة فيها، والتي تفضح نواياها ومقاصدها، حيث يبدو وكأن الصورة تنتصر للمعاصرة في شكلها الظاهري، لكنها في العمق تمتح من الأساطير القديمة وتخاطب لاشعور المتلقي، وهذا ما ألمح له الباحث، وكأنه يجسّد فلسفة المحلل النفساني جليل بناني القائلة: "التحليل النفسي يتخذ موقفا معاكساً للفكر الغيبي اللاعقلاني بتحرير الفرد من تصورات وتمثلات ترتبط بأوهام جمعية"[18]، إذ على هذه البنيات يقوم تحليل الباحث أبلال: "إذا كان الذكر يرمز في الثقافة الذكورية إلى القوة والفحولة، ومن ثم إلى الحرارة، من منطلق كونه ساخنا يمتلك القضيب، فإن حالة الانتصاب القصوى التي يستوي عليها هذا العضو في اللحظات الجنسية العظيمة، وقبيل الرعشة الكبرى، تجعل من الذكر في حالة حرارة فريدة، تعتبر المعادل الرمزي للنشوة والارتعاش الجنسي / الجسدي، وهو ما تحيل عليه رمزيا زجاجة العطر التي تحاكي شكل القضيب في حالة الانتصاب، لكن في الوقت نفسه، نجد أن الساخن يتحول عندما يلامس جسد الأنثى / النساء المستعملات لعطر "روبيرتو كافالي" إلى بارد، إلى منعش ومكيف ونسيم هواء، وهذا ما يشير إليه الشَّعْرُ المنفوش في انسيابية أشكاله"[19]، مواصلاً تشريحه السيميائي والأنثربولوجي لجسد الصورة/ المرأة: "إن تركيز الأنثى التي يخترقها الدفء والحرارة الشبقية على قنينة العطر المجسمة قضيبياً، هو تركيز بصري على شكلها الخارجي وجماليته: بيضاء زجاجية، مزخرفة بتموجات ذهبية انسيابية تنتهي بمفتاح ملولب على شكل أفعى، إذ يكفي الضغط على رأس هذه الأفعى / الحشفة، لتستمتع المرأة بالسائل العطري الساحر والأسطوري، والذي يمتح نسغ أسطورته من الإيحاءات المتعددة التي تحيل عليها مختلف الأيقونات الموظفة في التداوي والشفاء والتطبيب، طالما أن العلامة ذاتها ترمز إلى عالم الطب والصيدلة"[20].

بهكذا تحليل، تتحول الصورة نفسها إلى خطاب يتأسس على قاعدة التنافر الدلالي بين الكامن والظاهر، "لذلك، فالملفوظ الكاليغرافي والأيقوني، يقول للمرأة تصريحا: "إذا كنت تريدين الإغواء والإغراء وتأكيد وجودك الأنثوي الباذخ، فعليك بـ "روبيرتو كافالي"، فهو عطر يحمل مفتاح الفردوس المفقود للنساء الراغبات، اللاهثات وراء الحضور المتميز ..."[21]

إذا كنا لا ندعي الإحاطة بكل القضايا التي جاءت في الكتاب، لكون هذه الورقة هي مجرد محاولة / قراءة تفاعلية ليس إلا، فإننا حاولنا الاقتراب من حياض هذا الكنز الذي يتدفق كنهر هيراقليطس، لتعدد القضايا والإشكاليات التي عالجها، إذ نجد من بينها: (الجسد بين التشهير وانهيار القيم في شبكات التواصل الاجتماعي - الجنسانية العربية بين التقليد والحداثة - الجنون في الثقافة الشعبية والجنون في الثقافة العالمة بين الفلسفة والطب النفسي والأدب)، وهي إشكاليات وتيمات تناولها الباحث الأنثروبولوجي عياد أبلال من خلال اشتغاله تطبيقياً على عدد من النصوص السردية العربية، ومن بينها: الحجري إبراهيم، صابون تازة- سلطان عزة، تماما كما يحدث في السينما- ريحان ربيعة، أجنحة للحكي- حليمة زين العابدين، لم تكن صحراء- بوطيب جمال، خوارم العشق السبعة وسوق النساء- وفاء العمير، مكابدة- محمد الفشتالي، قطار المدينة- مصطفى الجباري، زرقاء النهار - لطيفة لبصير، عناق- وتناول باللغة الفرنسية رواية عبد العزيز الزروالي، الخبز الأسود، البلاد في الماضي المركب.

خاتمة:

للكشف عن الأعطاب الاجتماعية والثقافية، يقترح الباحث بعض الحلول للخروج من الأزمة المرتبطة بنمطية التعامل مع جسد المرأة، عبر تفكيك منظومة الفتاوى وبراديغمات الإشهار، حيث يُلح على التشبث بروح الحداثة الأولى، أو بلغة محمد سبيلا، نحن اليوم في حاجة إلى العملة الصعبة؛ العقلانية. "إن الحداثة في بعدها التقعيدي للتنوير، هي نمط حضاري يعكس في العمق سلطة العلم وقوته، وسلطة المعرفة وقد تأسست على قاعدتي العقلنة والتربية التي لا تبتغي في أفقها سوى تحرير الإنسان من كل القيود وبناء مجتمعات المواطنة والمساواة"[22]، وللوصول إلى هذا الفردوس المفقود (الجسد العاطفي) كان لزاماً حسب - الباحث -استخدام مطرقة نتشه "من أجل هدم منظومة الحجر والوصاية الذكورية- الأبيسية بكل ارتباطاتها من عنف وانتقام جسدي وجنسي ... وأيضا لتجاوز منطق الاستهلاك والتعليب والتسليع الذي تمارسه الحداثة، وقد تم فصلها عن أساسها التنويري ..."[23].

من هنا، فالحل يكمن في العودة إلى روح الحداثة، إلى الحداثة التي يشكل التنوير أُسّها، الحداثة باعتبارها "كل غير قابل للتجزئة"، حداثة حقوق الإنسان، حداثة الديمقراطية واحترام إنسانية الإنسان في مختلف المجالات، بدءًا من القنوات الكبرى (الأسرة - المدرسة - الإعلام - المسجد ...). إننا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، في حاجة مصيرية إلى هذه العودة، بشكل يجعل روح الحداثة والتنوير أشبه بركوب "سفينة نوح" للنجاة من طوفان رؤية الفقهاء ومنطق الرأسمالية المتوحشة.

إنّ هذا الكتاب لجدير بالقراءة، بما يطرحه من أسئلة حارقة ومقلقة حول "طابو الجسد" في المجتمعات العربية، التي تعيش اليوم حالة أشبه بحالة حمار بوريدان "بين مطرقة الجهل والإسلاموي وسندان الاستهلاك".


[1] الباحث الأنثربولوجي عياد أبلال، كتاب الجسد في المجتمعات العربية بين الواقع والنص، روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، ط / 1، 2019

[2] نفسه، ص / 12

[3] نفسه، ص ص / 29 - 30

[4] نفسه، ص ص / 34 -35

[5] نفسه، ص / 50

[6] المحلّل النفساني فتحي بن سلامة، كتاب الإسلام والتحليل النّفسي ترجمة: الدكتورة رجاء بن سلامة ص 128

[7] نفسه، ص / 7

[8] نفسه، ص ص / 43 - 44

[9] نفسه، ص ص / 100

[10] نفسه، ص / 106 - 107. نقلا عن سعاد لعماري، السيلكون... عبوديات جديدة للمرأة المعاصرة، انظر الرابط: www/ hespress.com/writers/57574.html

[11] الدكتورة نوال السعداوي، كتاب قضايا المرأة والفكر والسياسة ص 255

[12] نفسه، ص / 103

[13] الدكتورة نوال السعداوي، كتاب قضايا المرأة والفكر والسياسة ص 64

[14] نفسه، ص / 114 - 115 - 116 - 117. نقلا عن سعاد لعماري، مرجع سبق ذكره.

[15] نفسه، ص / 118

[16] نفسه، ص / 130

[17] نفسه، ص / 152

[18] المحلل النفسي جليل بناني، كتاب محلل نفساني في المدينة، حوار وترجمة: الشاعر أحمد العمراوي ص 19

[19] نفسه، ص / 147

[20] نفسه، ص / 135

[21] نفسه، ص / 143

[22] نفسه، ص / 243

[23] نفسه، ص ص / 455 - 456