الحداثة الخجولة


فئة :  قراءات في كتب

الحداثة الخجولة

اسم المؤلف: د. محمد على الكبسي (تونس)

عنوان الكتاب: الحداثة الخجولة، تونس، منشورات المعهد العالي للعلوم الإنسانية تونس، مجمع الأطرش للكتاب المختصّ، أفريل، 2016.

عدد الصفحات: 184 صفحة.

"الحداثة الخجولة" عنوان مغر ومبهم في آن، لكونه يجمع بين الجرأة والخجل، بين الإقدام والتراجع، بين التجلّي والتخفّي. فغالبًا ما تعرّف الحداثة بكونها "حقبة تاريخية" أقدمت على الاعتراف بالذات المفكّرة والثورة على الوجود والموجود، على الطّبيعة الطّابعة والطبيعة المطبوعة، فأفرزت "ذاتًا مفكّرة" سيّدة نفسها وسيّدةً على الطبيعة. غير أنّ مؤلّف الكتاب أراد الكشف عن حداثة أخرى سبقت حدوث الكوجيتو الدّيكارتي نفسه، وسمّاها خجولة لكونها حدثت حدوثًا صامتًا غير متجلّ، فأسهمت في تصدّع الجدران التي أجهز عليها ديكارت فيما بعد.

لقد ضمّ هذا الكتاب على امتداد أربع وثمانين ومائة صفحة، خمسة فصول جاءت مرتّبةً كما يلي: في المتن الأرسطي، ابن سينا وبحث النديّة، ابن الهيثم ناقدًا لأرسطو، ابن رشد وبعض الشكوك على أرسطو، ابن خلدون والشكوك على أرسطو.

استهلّ المؤلّف كتابه بمقدّمة جمعت بين الإيجاز والبلاغة، وضّح فيها المقاصد الكبرى لمؤلّفه وحدّد ما يعنيه بفلسفة الحداثة معتبرًا إيّاها موقفًا أو رؤية لا يمكن حصرها على عصر دون آخر[1]. يكتب المؤلّف: "ونكتفي في هذا المقام بالإشارة إلى أنّ الحداثة بماهي رؤية تبدو على صورة موقف يتحدّد بحالة المعرفة في عصره وبنوع القيم السائدة وبنوع الصّراع آنذاك ومدى تطوّره. كما يتحدّد باختيارات الذات المتفلسفة"[2].

سينظر المؤلّف في إمكانية قيام الحداثة من خلال الفلسفة العملية عامّة، والفلسفة السياسيّة خاصّة، وذلك بعودته للفترة الوسيطة. يعني ذلك أنّه يعمل على دراسة انبجاس فكرة الحداثة بالعودة إلى النصوص التي أسهمت في تصدّع البنيان الأرسطي لتتركه آهلاً للسقوط فيما بعد. فبعد تخصيص الفصل الأوّل لإثبات نسبة رسالة السياسة إلى أرسطو، يمرّ المؤلّف إلى التجاوز المنطقي (المنطقيات) لأرسطو على يد الشيخ الرئيس ابن سينا، ثمّ التجاوز العلمي على يد ابن الهيثم (البصريات)، ثمّ التجاوز الفلسفي على يد ابن رشد، وأخيرًا تجاوزه من جهة علم الاجتماع على يد ابن خلدون.

يبرّر المؤلّف استناده على فلسفة أرسطو السياسية لدراسة انبجاس فكرة الحداثة في النقاط التالية:

1- يرتكز فعل فلسفة الحداثة على حضور السياسة من جهة كونها تصحيحًا للسلوك، فهي علم مدني مقصده الخير الأسمى[3].

2- إنّ العودة إلى الفلسفة السياسية في الفكر الوسيط هو اختيار منهجي لتقصّي مقصد فعل الحداثة وغايته في هذا المجال المحدّد[4].

3-اختار المؤلّف مقاربة إجرائية على المنحى الصوري وكذلك على المنحى الواقعي لدراسة الفروقات بين ما هو عملي وما هو نظريّ، وتعليلها [5].

لقد عاد مؤلّف الكتاب إلى النظر في الكتب السياسية لأرسطو كما صنّفها أبو اسحاق الكندي وابن النديم وكذلك جمال الدّين أبو الحسن القفطي[6]. أمّا الكندي فيشير إلى وجود مجموعة رسائل ومكاتبات في السياسة من بينها "رسالة في السياسة"، أمّا القفطي فيذكر "كتابه الذي رسمه سياسة المدن ويسمّى بوليطيقا وهو كتاب ذكر فيه سياسة أمم ومدن كثيرة من مدن اليونانيين وغيرها ونسبها وعدد الأمم والمدن التي ذكر مائة وإحدى وسبعون(...)"[7].أمّا ابن النديم، فهو الذي يصطفيه المؤلّف من جهة كونه هو من يقدّم الإجابة الصّحيحة، فهو "الذي يذكر رسالة السياسة صراحة ويوردها في كتاب الفهرست"[8].

يذكر المؤلّف في الفصل الأوّل من الكتاب أنّ المتن الأرسطي كان عرضة للعديد من التحويرات والإضافات، إلى جانب عدم اكتمال بعض النصوص الأخرى مثل السماع الطبيعي. لذلك فإنّ نصّ رسالة في السياسة يثير لدى الباحثين والمحققين صعوبات متعدّدة حصرها مؤلّف الكتاب في ستّ نقاط أساسيّة: أهمّها التساؤل عن النصّ الأصلي للرسالة الذي ينبغي الاعتماد عليه، هل هو نصّ الرسالة كما نشرها الأب شيخو اليسوعي أم الرسالة كما نشرها عبد الرحمان بدوي ضمن تحقيقه لمختصر كتاب حنين بن إسحاق آداب الفلاسفة سنة 1200م[9]؟

درس المؤلّف البناء الدّاخلي للرّسالة، وتناولها أوّلاً كما ذكرها حنين بن اسحاق، وثانيًا كما عثر عليها في الفاتيكان، لينتهي في القسم الأخير من الفصل الأوّل إلى النظر في علاقة رسالة في السياسة بالفكر الأرسطي عامّة. إنّ ما يخلص إليه المؤلف في خاتمة هذا الفصل الأوّل هو أنّ قيمة رسالة السياسة لا تظهر في كونها رسالة للإسكندر "بقدر ماهي رسالة في تدبير نفوس الجماعة. ورسالة في مركزة السلطة وحفظها وإدامتها لدى الحاكم"[10].

1) ابن سينا: "المشرقيّة" قضيّة فلسفية جديدة.

لقد ضمّ الفصل الثاني المعنون "ابن سينا وبحث النديّة" لحظتين أساسيّتين: بحثت النقطة الأولى في معاني البحث عن النديّة ومظاهره، واهتمّت اللحظة الثانية بنمط العلاقة التي تجمع ابن سينا بأرسطو.

لا يعتبر الأستاذ الكبسي ابن سينا مجرّد امتداد لأرسطو ضمن الفكر العربي الاسلامي، فهو لا يكتفي بمعاودة القول الأرسطي لأنّ هذه الفكرة من شأنها أن تُلغي وجاهة استقلال الفعل الفلسفي لديه. قد يظهر هذا الاستقلال الفلسفي لدى ابن سينا فيما نبّه إليه أو أسرّ به في كتبه الثلاثة: الشفاء، النجاة، الإشارات والتنبيهات.

يكتب ابن سينا في منطق المشرقيين: "وما جمعنا هذا الكتاب لنظهره إلاّ لأنفسنا-أعني الذين يقومون منّا مقام أنفسنا-وأمّا العامّة من مزاولي هذا الشأن فقد أعطيناهم ما هو كثير لهم وفوق حاجتهم وسنعطيهم في اللواحق ما يصلح لهم زيادة على ما أخذوه"[11].

يلاحظ المؤلّف أنّ هذا القول يكشف عن تبرّم من المشتغلين على فلسفة أرسطو مثله، وقد يُخفي في طيّاته عزمًا تجاوز دور التلقين والوصاية. تُوضّح بعض الإشارات المذكورة هنا وهناك في كتابي الشفاء والنجاة أنّ ابن سينا كان قد عقد العزم على الارتقاء من مرتبة الشارح والعارض لفلسفة لأرسطو نحو المبتدع لموقف فلسفي يتجاوز مجرّد الاجترار لما قاله القدامى في هذا الغرض أو ذاك. لذلك تستشرف مقدّمة منطق المشرقيين مستقبل الفلسفة من زاوية أخرى، هي زاوية التعارض والنديّة: التعارض مع المشائية والنديّة أمام الأرسطيّة[12].

يؤكّد الكبسي أنّ "المشرقيّة" عند ابن سينا هي "قضيّة فلسفيّة جديدة"، ولا يُقصد بها مجرّد تحديد جغرافي يميّز بين أهل بغداد وأهل فارس كما اعتقد بنس (Pines)، واتبعه في ذلك كلّ من جان غواشون وعبد الرحمان بدوي والجابري. معنى ذلك أمّ "المشرقيّة" هي حكمة أراد من خلالها ابن سينا أن يثبت عدم اكتفائه بتقليد الأنموذج الأرسطي. يورد المؤلّف مجازًا طريفًا يشبّه فيه لحظة ظهور الفلسفة المشرقية بلحظة ظهور الفلسفة النقدية الكانطيّة، وفي ذلك إحالة إلى حضور معاني الحداثة والأنوار عند ابن سينا[13]. يكتب محمّد علي الكبسي متحدّثًا عن الفرق بين الفلسفة المشائيّة والفلسفة المشرقيّة قائلاً: «فبالعودة إلى منطق المشرقيين والتعليق على الحواشي على كتاب النفس لأرسطو التي لا تخلو من عبارة "قال المشرقيون"، وبالعودة كذلك إلى ما قيل عن كتاب الإنصاف الضائع على لسان ابن أبي أصيبعة، ندرك جيّدًا أنّ الفرق بين الفلسفة المشائيّة لا يقف عند طريقة العرض وتوزيع المواد كما اعتقد "كارل الفونسو نيلينو" ولا عند مجرّد معرفة أرسطو وإنّما سعي لبلوغ مرتبة الحكيم الإلهي»[14].

يمثّل القول بالاستقلال سمة من سمات الحداثة والأنوار، غير أنّ "المشروع الفكري الحداثي" لدى ابن سينا لا يمكن استجلاء ملامحة بالعودة إلى منطق المشرقيين فحسب. لذلك يقرّر المؤلّف العودة إلى بعض الآراء المتناثرة في كتبه ورسائله الأخرى[15].

2) ابن الهيثم ناقدًا بطليموس وأرسطو:

يعود المؤلّف لابن الهيثم ليكشف عن بدايات التفكير الحداثي من جهة قيامه على نقد تصوّرات أرسطو وبطليموس. ويستغرب الفصل الذي قام به الوضعيون منذ أوغست كونت بين القول الفلسفي والقول العلمي، وإن كان قد صرّح بضرورة وجود الاختلاف بينهما. يعتبر الكبسي القول الفلسفي قولاً مفتوحًا على القول العلمي، غير أنّ القول العلمي في حدّ ذاته (والذي يعتبره حادثًا أو ظهيرًا للقول الفلسفي) "لم يكن مهيأً إلاّ بما هو نفي أو دحض، في حين أنّ القول الفلسفي يؤسّس للنقد ويعلن عن إرادته في كشف خلفيات العلم التي تؤسّس أنماط تحليله"[16].

قد تكون اللّحظة الاغريقية، هي اللحظة الأولى من لحظات الحداثة، أي بداية خلخلة القول الفلسفي في علاقته بالقول العلمي. لقد نشأت الإرادة لدى مجموعة من المفكرين العرب والمسلمين لتجاوز الأرسطية، وهو ما يبيّن أنّ المعارف العلمية لم تكن وليدة عصر النهضة أو الأنوار فحسب، ولكنّها وليدة جهود علماء ومفكرين سابقين[17].

لقد تعقّب ابن الهيثم بطليموس في كلّ كتبه لينقد صورة العالم لديه. فإن كان بطليموس قد تحدّث عن وجود فلك ثالث سمّاه "الفلك المعدّل" الذي لا ينطبق مركزه لا على مركز العالم ولا على مركز الفلك خارج المركز، فإنّ ابن الهيثم كان قد بيّن في كتابه الشكوك أنّ "الفلك المعدّل هو حيلة انتهجها بطليموس لإنقاذ فكرة الانتظام. إنّ الخطأ الموالي الذي وقع فيه بطليموس والذي ناقشه ابن الهيثم في الفصل الخامس من المقالة الأولى هو وضعه الأرض في وسط السّماء، وإقراره أنّ ما هو أسفل وما هو فوق هما وضعان يختلفان بالقياس إلى مركز العالم، وذلك خلف في نظر ابن الهيثم حيث يقول: "فقسمة الأوضاع إلى أربعة أقسام هو غلط على تصاريف الأحوال"[18]. واصل ابن الهيثم مناقشة قضيّة محاذاة فلك التدوير، الذي اعتبره خطًّا متخيّلاً، وكذلك الشأن بالنسبة إلى سطح فلك التدوير. فكلّ ما هو متخيّل لا يمكن أن يتحرّك حركة محسوسة بذاته، ولا يمكن أن يُحدث معنًى موجودًا في العالم. لقد ساهم ابن الهيثم في تصدّع العلم البطليموسي لمّا بيّن أنّ الفلك المعدّل للسير ليس إلاّ حيلة اعتمدها بطليموس ويُوضّح المؤلّف هذه الفكرة كالتالي: "يظهر ممّا قيل أنّ لابن الهيثم إحساسًا بعدم الرضا إزاء الفلك الأرسطي وهذا يدلّ على أنّ محاولة أو مشروعًا للمراجعة بدا يلوح في الأفق لعلّه يقرّبنا من ظهور حركة تقوم على حلّ الكثير من المسائل والصعوبات التي يعاني منها النظام الفلكي البطليموسي"[19].

تبدو لحظة ابن الهيثم لحظة على غاية من الأهميّة لكونه كان قد تفطّن إلى أنّ علوم بطليموس فيها مواضع مشبهة ومعان متناقضة ولم يشأ أن يمسك عنها كشفًا للحقّ للناظرين في كتبه من بعده[20]. يشدّد المؤلّف على أهميّة لحظة ابن الهيثم من جهة استلهامه للعديد من المحاولات اللاّحقة عليه، مثل كتاب إصلاح المجسطي لجابر بن الأفلح، محاولات البطروجي في تبيان الحركة الحلزونية للكواكب، اكتشاف البوزجاني خللاً في حركة القمر، تمكّن بنو شاكر من قياس مقدار بعد الأرض عن الشمس وطول خطّ نصف النهار، وكذلك تحديدهم (بنو شاكر) للسنة الشمسيّة، تحديد البلخي لقوانين المدّ والجزر، اهتمام الوزرقاني بحركة عطارد التي بيّن أنّها حركة إهليجيّة، لذلك ساعدت هذه المحاولات العميقة في تغيير الرؤية للعالم القديم[21].

شكّك ابن الهيثم في الفلك البطليموسي لوجود التباسات بين نظام السّماء وعلم الكون والفساد، إذ تبدو افتراضات بطليموس في نظر ابن الهيثم غير متوافقة مع العلم الطبيعي. لذلك كان من الواجب البدء "بنقد الفيزياء الأرسطية العفوية للوصول إلى فيزياء بديلة"[22].

3) ابن رشد وبعض الشكوك على أرسطو:

استهلّ المؤلّف هذا الفصل بإيراد رواية عن ابن رشد نقلها عبد الواحد المراكشي ضمن مؤلّفه المعجب في تلخيص أخبار المغرب[23]. ويمكن تلخيص هذه الرواية في شكوى أمير المؤمنين من قلق عبارة في نصّ أرسطو وغموض في ترجماته وفي أغراض كتبه، وأنّه يرغب في من يلخّصها ويقرّب أغراضها[24].

معنى ذلك أنّ ابن رشد يربط القول الفلسفي في نصّ أرسطو بالقول السياسي، وهذا التدبير للقول الأرسطي اقتضى زعزعة للنسق اليوناني ككلّ. إنّ هذه الخلخلة للنسق الأفلاطوني هذه المرّة كانت قد مهّدت لإحداث رجّة كبرى أزهرت لكنّها لم تثمر[25].

يُشدّد الكبسي من جهته على قلق العبارة الرشديّة في تلخيص السياسة، الذي لم يكتف فيه ابن رشد بمجرّد التلخيص، بل تصرّف فيه تصرّفًا على غاية من الجرأة فغيّر مورفولوجيا كتاب أفلاطون وإن لم يقدح في نسبته إليه. إضافةً إلى أنّ نصّ التلخيص جاء مسبوقًا بتلخيص كتاب آخر لأرسطو هو الأخلاق إلى نيقوماخوس. ويعلّل الكبسي هذا الأمر كالتالي: "فابن رشد لم يوف مهمّته التي انتدب إليها إلاّ من جهة الحكمة النظريّة، أمّا حين تعلّق الأمر بالحكمة العمليّة توقّف عند "الأخلاق إلى نيقوماخوس". مُحوّلاً وجهته إلى جمهوريّة أفلاطون، مُتعلّلاً بأنّ "كتاب السياسات" لأرسطو لم يكن في متناول يديه آنذاك. وهذا غير كاف بذاته لإدراك سبب تحوّل الموقف لديه"[26].

لم تُحسم نسبة الكتاب بعد، "هل هو تلخيص لنصّ أفلاطون، أم تلخيص لجالينوس كما ورد في الترجمة العربيّة"[27]، فإذا كان هذا الكتاب في الأصل لأفلاطون، فلا يُمكن اعتباره مُتمّمًا للقول السياسي الرّشدي. لعلّ تحوّل المواقع لدى ابن رشد بين أفلاطون وأرسطو دالّ على ضيق النسق الأرسطي، لذلك عمد إلى ترقيعه، عابثًا بفصول محاورة الجمهوريّة، مرّة بتحويل مواضعها الأصليّة، ومرّة أخرى بتلخيصها أو إلغائها أصلاً، معلّلاً ذلك برغبته في تلخيص الحكمة العمليّة الواردة ضمن أقواله الجدليّة[28].

يلاحظ الكبسي أنّ هذا التمشيّ الذي اعتمده ابن رشد سابق على كتاب تلخيص السياسة، فقد اعتمده كذلك في تلخيص ما بعد الطبيعة الذي اكتفى فيه بإعادة توزيع التبويب وإعادة الترتيب. لكنّه عمد في تلخيص السياسة إلى إسقاط بعض الأبواب، كما استبدل أرسطو بأفلاطون حينًا أو بالفارابي وابن باجة حينًا آخر رغبة منه في زعزعة النسق الفلسفي اليوناني وخلخلته [29].

يشدّد الكبسي على تبرّم الفيلسوف ابن رشد من النسق اليوناني، وهو ما يؤكّده انتقاله من النصّ الأرسطي إلى النصّ الأفلاطوني، فأباح لنفسه تغيير ما يجب تغييره وقلب ترتيب بعض المقالات مع المحافظة على بعضها الآخر بصفة مؤقتة تحسّبًا من أعداء الفلسفة[30]. لذلك فإنّ "تلخيص السياسة بما هو كتاب يبحث في شرعيّة العقل السياسي لا يختلف مطلوبه عن مطلوب فصل المقال والكشف عن مناهج الأدلّة إلاّ من حيث الموضوع"[31].

يخلص مؤلّف هذا الكتاب الذي نقدّمه إلى أنّ ابن رشد لا يتدبّر القول الأفلاطوني نظريًّا وبرهانيًّا بقدر ما يعمد إلى تقصّيه واقعيًّا وعمليًّا. لذلك فإنّ فحوى شكوى الأمير من قلق العبارة الأرسطيّة لا يعني بها رغبته في الحصول على علم، وإنّما يرغب في إصلاحها وتعديلها لتتلاءم مع أغراضه السياسية، وذلك هو ما فهمه ابن رشد نفسه. فلم يعد القلق عالقًا بالعبارة الأرسطية فحسب بل صار عالقًا كذلك بالعبارة الرشديّة. يكتب المؤلّف: "(...) واستحضار ذلك من شكوى الأمير خلق هذه المرّة قلقًا في العبارة الرشديّة. فالمهمّة صارت ثلاثيّة الدّلالة: أوّلاً عدم الوقوف عند ظاهر العبارة الذي يوحي بصوريّة تندرج في مقام الترجمة وإصلاح العبارة. ثانيًا الوقوف عند دلالة أرادها ابن رشد أن تكون تبصيرًا للأمير وإصلاحا للمدينة. وثالثًا بيان أنّ النسق الأرسطي لا يفيد في مثل هذا الوقت. وتهرّب من استعماله دون التصريح جهرًا بعجز هذا النسق على الإجابة. فنحن نعلم أنّه لا يصعب على الأمير الموحّدي إحضاره لو طلب ابن رشد ذلك. وهذا يشير إلى أنّ الكتاب قد يثير من المشاكل ما لا يرغب ابن رشد في إبرازها في مثل هذا الوقت الذي يحتاج فيه الأمير إلى النصيحة. فكان أفلاطون الملاذ الأخير"[32].

نستنتج إذن أنّ ابن رشد لم يكن قادرًا على تقديم الإجابة دون أن يلجأ إلى تغيير موضوعات تلخيص السياسة وإعادة ترتيتبها مجدّدًا، ليصبح ملائمًا لانتظارات الأمير، وهو ما يبرّر القول بضرورة خلخلة النسق اليوناني لعجزه عن التفسير والإجابة. فما قام به ابن رشد كان دليلاً بارزًا على تملّكه أدوات معرفية تماثل أدوات إبستيميّة الأنوار والحداثة. لذلك فإنّ القضيّة التي طرحها ابن رشد في تلخيص السياسة هي تبيان "حدود العقل السياسي والدّيني" للمصالحة بين العقل السياسيّ والملّة[33].

إنّ ابن رشد لم يعمد إلى تلخيص كتاب السياسة، بل عمد إلى ترجمة شعوره بالأزمة التي تحوم حول الملّة وتطوّقها من كلّ جانب، لذلك لجأ إلى تعويض سياسات أرسطو بنصّ الجمهوريّة لأفلاطون، انطلاقًا من شعوره بضرورة نقد النسق السياسي اليوناني بوجهيه: الأرسطي والأفلاطوني. لعلّ هذه الحادثة تؤكّد مرّة أخرى أنّ أمور الترجمة والتلخيص والشرح تظلّ مرتبطة بضرورات واقعيّة وسياسيّة دون إغفال الضرورات الحضاريّة والمعرفيّة. غير أنّ زعزعة البنيان تحتاج دومًا إلى نضج القائم بها وخاصّة إلى مساندة العوامل الزمنيّة والسياسيّة[34].

ألا يمكن أن تكون اللحظة الرشدية ضمن هذا السياق، لحظة من لحظات "الحداثة الخجولة" التي لا تزال في حاجة إلى من يجهر بها ويُسميّها باسمها؟

4) ابن خلدون والشكوك على أرسطو:

لقد انتبه ابن خلدون مبكّرًا إلى مفهوم الإمبراطوريّة وقدّم لها تعريفًا شاملاً جامعًا فسمّاها "السوق الأعظم للعالم"[35] أي "دولة عامّة"، فكان هذا التعريف دالاًّ على "تصوّر حداثي" لم يوجد من قبل حتّى عند أرسطو نفسه. لقد اقتضى استبيان المشروع الحداثي الخلدوني من زاوية علم الاجتماع استحداث نصّ من رحم مشروع "العمران البشري"، وهو المشروع الذي كثّف فيه آليات النقد والبحث معًا. لقد تبيّن ابن خلدون أنّ انحلال الإمبراطوريّة راجع إلى ميل طبيعي في الإنسان نحو الرفاه، وهكذا كلّما تطوّرت الإمبراطوريّة نحو العمران والرفاه، أشرفت على نهايتها وعادت من جديد إلى المحليّ والخصوصيّ. فالانتماء إلى الإمبراطوريّة هو انتماء يتقاطع فيه الكونيّ بالخصوصيّ[36].

لقد كان ابن خلدون ثائرًا على الأساليب التقليدية في كتابة التاريخ، كما كان يرفض اعتماد الأدوات والوسائل التي كان يستعملها المعاصرون له أمثال الطرطوشي في تدوين التاريخ وسرد الروايات. يقف ابن خلدون عند شرط الكونية في التأريخ لمفهوم الدّولة، لذلك ينبغي عليه ألاّ يقف عند الجزئي أو المحليّ، بل أن ينظّر لما هو كوني أي للإمبراطوريّة من جهة ماهي "السوق الأعظم". يكتب صاحب الكتاب قائلاً: "هذه الإمبراطوريّة نفسها ليست مشهديات الدّول وسلالاتها وليست ضروب الكسب والمعاش والمعارف التي استبدل اسمها باسم الاجتماع بل هي منطق العمران القائم على مدى قدرته على الانتقال إلى عموم المعمورة بما هو محوّل على الكونيّة، ولا تستقيم إلاّ بماهي ملك تامّ أو ما يسميه ابن خلدون بالدّولة الكليّة تارة والدّولة العامّة تارة أخرى"[37].

للقول السياسي أولويّته في الفكر الخلدوني، غير أنّ شرط العمران هو كونيّته أو عالميّته، لأنّ العالميّة هي الكفيلة بتجسيد الإمبراطوريّة من جهة حمل المحليّ نحو الكليّ والكوني. إنّ الإمبراطوريّة هي غاية العمران، لذلك فهي تنشأ ضمن ما هو اجتماعي لتشكّل زمنًا سياسيًّا لا يختزل مستقبل الدّول في تقدّمها بل في مقصدها ووجهتها. ينتقد ابن خلدون فكرة العصبيّة وإن كانت الإمبراطوريّة دالّة لديه على معنى مقاومة التوبوس (المكان)، فالإمبراطوريّة القويّة هي التي تستطيع تحويل قدرتها الذاتيّة إلى "إرادة مكانية"[38].

لقد حاول العصر الوسيط بناء إمبراطوريّة قائمة على نزعة "المواطنة العالمية" تحقيقًا للسلم العالمي، غير أنّ هذه النزعة التي طوّرها كانط من بعد، كانت دالّةً على إرادة تملّك للإنسان والمكان، تسعى من خلالها إلى إخفاء استمرارها في التوحّش والبربريّة. لذلك قد لا يُفضي بناء الامبراطوريات دومًا إلى تحقيق السلم الكونيّ[39].

يتساءل صاحب كتاب الحداثة الخجولة في ختام مؤلّفه: "هل من معنى إذن لمصطلح الحداثة؟ إذا عدنا إلى ذاك الافتراض الذي يقدّم الحداثة على أنّها مرحلة غير مسبوقة ألا يفقد الحداثة ذاتها مصداقيتها؟ وما أثبته التاريخ من تجارب كارثية ألا يحكي قصّة تجارب الحداثة؟ وما أثبته مصطلح التقدّم من دلالات ألا يحكي ويحاكي قصّة العنف وتكرار العنف على الرغم من أنّ سياق الحداثة يلحّ على أنّ العقلانية هي التركيب الأعلى لجدليّة التقدّم؟[40]"


[1]- محمد علي الكبسي، الحداثة الخجولة، تونس، مجمع الأطرش للكتاب، منشورات المعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس، ص 11

[2]- المصدر نفسه، ص 11

[3]- المصدر نفسه، ص ص 12-13

[4]- المصدر نفسه، ص 12

[5]- المصدر نفسه، ص 13

[6]- في مؤلّفه، كتاب إخبار العلماء بأخبار الحكماء،

[7]- المصدر نفسه، ص ص 22-23

[8]- المصدر نفسه، ص 23

[9]- المصدر نفسه، ص 27

-[10]المصدرنفسه، ص 55

[11]- ابن سينا، منطق المشرقيين، سلسلة التراث العربي، تقديم شكري النجار، دار الحداثة، 1982، ذكره محمد علي الكبسي، الحداثة الخجولة، ص 65

[12]- محمد علي الكبسي، الحداثة الخجولة، ص 66

[13]- المصدر نفسه، ص 67

[14]- المصدر نفسه، ص ص 66-67

[15]- المصدر نفسه، ص 67

[16]- المصدر نفسه، ص 121

[17]- المصدر نفسه، ص 122

[18]- ابن الهيثم، الشكوك على بطليموس، تحقيق د. عبد الحميد صبرة ود. نبيل الشهابي، مصر، طبعة دار الكتب، 1971، ص ص 8-9. ذكره، محمد على الكبسي، المصدر نفسه، ص 135

[19]- محمد علي الكبسي، الحداثة الخجولة، ص 136

[20]- ابن الهيثم، الشكوك على بطليموس، ص ص 3-4. ذكره، محمد علي الكبسي، الحداثة الخجولة، ص ص 136-137

[21]- محمد علي الكبسي، المصدر نفسه، ص 137

[22]- المصدر نفسه، ص 138

[23]- عبد الواحد المرّاكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، تحقيق محمد سعيد العريان ومحمد العربي العلمي، القاهرة، 1949، ص 243

[24]- المصدر نفسه، ص 147

[25]- المصدر نفسه، الموقع نفسه.

[26]- المصدر نفسه، ص 148

[27]- المصدر نفسه، ص 148

[28]- المصدر نفسه، ص 148

[29]- المصدر نفسه، ص ص 150-151

[30]- المصدر نفسه، ص 151

[31]- المصدر نفسه، ص ص 149-150

[32]- المصدر نفسه، ص 155

[33]- المصدر نفسه، ص 155

[34]- المصدر نفسه، ص 156

[35]- المصدر نفسه، ص 163: يقول ابن خلدون في المقدّمة "الدّولة والسلطان هي السوق الأعظم للعالم ومنه مادّة العمران"، ص 506

[36]- المصدر نفسه، ص 164

[37]- المصدر نفسه، ص 165

[38]- المصدر نفسه، ص 169

[39]- المصدر نفسه، الموضع نفسه.

[40]- المصدر نفسه، ص 170