الحداثة والدين: غائية الوجود والنظام الأخلاقي


فئة :  قراءات في كتب

الحداثة والدين: غائية الوجود والنظام الأخلاقي

الحداثة والدين: غائية الوجود والنظام الأخلاقي

قراءة نقدية في كتاب "الدين.. والعقل الحديث" لولتر ستيس


أي دور للدين في عالمنا المعاصر أمام واقع القلق والحيرة والشك الذي يطوق الإنسانية المعاصرة؟ وما الحاجة إلى الدين أمام التقدم المذهل للعلوم والتكنولوجيات؟ ماذا تبقى من النظرة الدينية للعالم؟ وهل يمكن القول بالغائية في الوجود بعد أن شكك فيها البعض؟ هل حقاً أنّ العلم والدين يتناقضان، أم أنهما على العكس من ذلك يتكاملان؟

هذه الأسئلة وغيرها يحاول أن يجيب عنها هذا الكتاب "الدين والعقل الحديث" الصادر عن دار التنوير- ط 3، بيروت 1998، وهو أحد إنتاجات المفكر والباحث في الفلسفة الأمريكي ولتر ستيس (1886-1967) الذي أصدر عدة مؤلفات في الفلسفة والتصوف ترجمت أغلبها إلى العربية، وأكثـرها شهرة بين قراء العربية كتاب "الزمان والأزل: مقال في فلسفة الدين" الذي أصدره عام 1952وترجمه إلى العربية الدكتور زكريا إبراهيم عام 1967. والكتاب الذي بين أيدينا ترجمه إلى العربية الأكاديمي المصري إمام عبد الفتاح إمام، ويقع في ثلاثة أجزاء.

الرؤية الوجودية ومسألة الغائية

تحكم تصورات الإنسان عن العالم الثقافة التي يحملها ومنظومة الأفكار التي يتبناها والعلوم التي يؤمن بها. وإذا كان العلم هو الذي حكم الرؤية الكونية للإنسان الأوروبي في العصور الحديثة، فإنّ الدين هو الذي حكم رؤية الإنسان للعالم في العصور الوسطى (ص23)، دون أن يعني ذلك غياب العلم في العصور الوسطى أو غياب الدين في العصر الحديث.

والنظرة الدينية في التصور العام للناس ترى الله مشخصاً، أي أنه عقل أو روح كما يرى ستيس. وهذا يعني أنّ عقل الإله يشبه العقل البشري؛ يملك وعياً وله خطط وغايات وأغراض، وربما عواطف وانفعالات كالحب والغضب. وهذا صحيح في الوسط المسيحي بشكل خاص. لكننا إذا قلنا إنّ تلك استعارة، فإنّ الاستعارة لا بدّ أن يكون لها معنى. ولذلك يقول ستيس لا بدّ من مواجهة الإشكالات التي تواجه اعتبار الله روحاً أو عقلاً.

لا شك أنّ العقل والصفات النفسية مثل الرضا والغضب تطلق أيضاً على الذات الإلهية، كما نجد ذلك في القرآن. ومع ذلك، ليس الله روحاً ولا عقلاً بشكل حقيقي، كما يتصور ستيس، ولا ينطبق عليه شيء من المقولات المنطقية والفلسفية، فهو شيء آخر مختلف تماماً عن مخلوقاته. ووصفه بالعقل أو بصفات نفسية مجرد مجاز، وليس وصفاً حقيقياً، ولذلك لا بدّ من تأويل تلك الصفات. فعقله هو علمه وحكمته، وغضبه هو عقابه، ورضاه هو ثوابه.

وتؤمن النظرة الدينية بأنّ للوجود غاية، وأنّه لا شيء عبثي في هذا العالم. فلا بدّ للحياة والتاريخ من هدف، ولا بدّ لكل حادثة من غاية، وهي كلها تدخل ضمن التخطيط العام للكون. لكن رؤية الإنسان الوسيط للعالم كانت خليطاً من العلم والفلسفة والدين[1]. فمركزية الأرض مثلاً كانت جزءاً من النظرية الجيوسنترية. أمّا النظرة العقلية الحديثة فترفض الغائية.

لكن النظرة الغائية للوجود لا تشترك فيها كل الأديان، كما يحاول أن يعمم ستيس، لأنّ من الأديان ما لا يؤمن بوجود غاية للخلق. ولا يرى وجوداً لعالم آخر يحاسب فيه الإنسان. وفي هذه الحياة لا يُطلب منه شيء سوى الإيمان ببعض العقائد. فهي ديانات غير عملية لأنها لا تعطي هذا الجانب أهمية.

ومن الواضح أنّ ستيس يحصر حديثه على المسيحية الكنسية ويجعلها منطلقاً لتحليلاته. فمثلاً يكرّر القول المسيحي الذي يرى أنّ المسيح يتوسط التاريخ البشري. فقد ولد بعد 4004 من الخلق، وسينتهي العالم بعد4004 من ولادته كما يتصورون.

وعلى هذا الأساس، يوجد تفسيران للظاهرة الطبيعية: الأول هو التفسير الغائي الذي يبحث في الغاية ويقدم تصوراً غائياً للوجود، والثاني هو التفسير الآلي الذي يهتم بسبب الوجود وليس بغايته. والتمييز بين التفسيرين على جانب كبير من الأهمية لفهم تاريخ الفكر الإنساني، فهما اللذان يحددان نقطة التقاطع بين العقل في العصر الوسيط والعقل في العصر الحديث، حيث هيمن الدين في الأول الوسيط بينما يسيطر العلم في الثاني. وإذا كان الدين قد ارتبط بالتفسير الغائي، فإنّ العلم قد ارتبط بالتفسير الآلي. لكنّ ستيس يستدرك ليقول إنّ الإيمان بالغائية قديم وهو يضرب في الماضي الإنساني السحيق وليس أبداً إنتاجاً مسيحياً.

غير أنه بإمكاننا القول إنّ أديان الوحي، والإسلام على نحو خاص، لا ترى تناقضاً بين الدين والعلم. وإذا كان الكون والوجود في حاجة إلى سبب حتى يوجد، فإنّ هذا الوجود ليس عبثياً، وإنما له غاية يتحرك نحوها: "أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون؟"[2]. إنّ التصور القرآني، هنا، لا يرى أنّ العالم وجد مصادفة أو أنّ الإرادة الإلهية تتدخل في تحريكه بشكل اعتباطي، بل إنه يرى أنّ الكون مخلوق لله من أجل تحقيق غايات محددة، وهو محكوم بقوانين تنظم حركته.

الموضوعية والذاتية في القيم

كان إنسان العصور الوسطى يرى في العالم نظاماً أخلاقياً وأنّ القيم ليست ذاتية. وهو يسلم بذلك كما يقول ستيس. ويقصد ستيس بالذاتية الصفة التي يعتمد وجودها جزئياً أو كلياً على رغبات أو مشاعر أو آراء أو حالات ذهنية خاصة، والقيمة الموضوعية هي عكس ذلك. أمّا القيمة في حدّ ذاتها فهي ما نقول عنها إنها خير.

فالقيم الاقتصادية مثلاً قيم ذاتية، لأنها تعتمد على رغبات الناس وأذواقهم ومشاعرهم وآرائهم. والنظرة الذاتية لا تؤمن أنّ هناك خيراً مطلقاً أو شراً مطلقاً. وما كان يقوله هوبز أصبح شائعاً في العالم الحديث. وهذه النزعة يمكن أن نسميها بالنزعة الذاتية الفردية في مقابل النزعة الذاتية الجماعية، أي النزعة التي تعتمد رغبة المجتمع ككل، وكلاهما ذاتيان في النظرة للقيم الأخلاقية[3].

وقد ذهب الكثير من الفلاسفة إلى القول إنّ القيم الأخلاقية والجمالية هي أيضاً قيم ذاتية مثل القيم الاقتصادية. فالذاتية الأخلاقية سمة من سمات العقل الغربي الحديث. ورغم أنّ النزعة الذاتية هي المهيمنة في فكر الحداثة إلا أنّ هناك من الفلاسفة من يرفضها ويتحدث عن موضوعية القيم الأخلاقية والجمالية. وأحد أسس القول بموضوعية الأخلاق هو القول إنّ الخير والشر يعتمدان إرادة الله[4]. فإذا لم تعتمد الأخلاق على سيكولوجية الإنسان كانت موضوعية.

ورافضو النزعة الذاتية يقولون إنها تنطوي على عدة أشياء، هي:

أولاً: لو كانت قيمة الشيء ذاتية لكان الحكم على القيم يرجع إلى الذوق والرغبة الذاتية فحسب.

ثانياً: النزعة الذاتية تعني أنّ أي حكم قيمي لا هو صادق ولا هو كاذب، وهذا شيء خارج المنطق.

ثالثاً: لو صحّت النزعة الذاتية فلن يكون بإمكاننا مناقشة أية موضوعات أخلاقية أو جمالية بشكل عقلي، ولن يكون هناك معنى للقول إنّ هذا الفعل خير أو شر، صواب أو خطأ، لأنّ كل شيء يتوقف على الذوق الشخصي.

رابعاً: النزعة الذاتية لا تساعد على التربية والتعليم والتشريع.. فإمّا أن تكون هناك قيمة يمكن إدراكها أو لا تكون. فالطالب، مثلاً، يريد أن يتعلم ما هي القيمة الحقيقية وما هي الواقعة الفاسدة. والمجتمع يحتاج إلى قانون عقلي يخضع له الجميع.

وموضوعية القيم الأخلاقية والجمالية تعني استقلال الحقائق والوقائع عن آراء البشر ورغباتهم. وهذا المعنى للموضوعية لا يستوجب الإيمان بالله بل يناسب القول إنّ للطبيعة غاية وغرضاً في رأي ستيس.

والتصور الآخر لمعنى الموضوعية في القيم الأخلاقية والجمالية أقيم على أساس النظرة للمطلق. فنحن نجد أنّ بعض الفلاسفة الألمان افترضوا أنّ المطلق عقل كلي وليس عقلاً شخصياً مثل التصور الشائع عن الذات الإلهية. وهذا العقل الكلي هو مصدر القيم الروحية جميعاً لاسيما قيم الحق والخير والجمال. فهذه الفلسفة تنظر إلى القيم على أنها موضوعية مادام المطلق مستقلاً عن العقل البشري[5].

والنظرية الأخرى حول الموضوعية هي تلك التي ترى في القيم الأخلاقية والجمالية خصائص واقعية للأشياء والأفعال والمواقف في استقلال عن ذهن الإنسان المدرك. فالشيء الجميل هو جميل حتى وإن لم تره عين أو يفكر فيه ذهن، فهو جميل في ذاته أو خير في ذاته. وستيس لا يقبل هذه النظرية دون أن يقدم أسباباً لذلك. إنه يقول ليس مستحيلاً القول بموضوعية القيم مادام من الممكن سوق كل هذه النظريات. ويستنتج الكاتب أنّ:

1- وجود حجج مستمدة من مشاعرنا الأخلاقية والجمالية تذهب إلى أنّ القيم التي ندافع عنها موضوعية، رغم أنّ هذه الحجج ليست حاسمة.

2- افتراض موضوعية القيم بالاعتبار، رغم أننا لا نستطيع أن نحكم أنه صحيح.

3- القول إنّ القيم الأخلاقية ذاتية يعني أنها تعتمد رغبات وآراء البشر. ومن ثم إذا لم يوجد الإنسان فلا قيم أخلاقية.

لكننا نلاحظ على ذلك أنّ وجود الإنسان شيء موضوعي ووجود القيم لا يشترط وجود الإنسان، لأنّ كائنات أخرى يمكن أن تفعل أيضاً ما هو خير وحق وجمال. ولأجل ذلك لا بدّ للقيم أن تكون موضوعية.

ويؤمن كثير من الناس أنّ الخير لا بدّ أن ينتصر في النهاية، وأنّ للحقيقة قوة داخلية ستمكنها من الانتصار على الزيف، وأنّ الاتجاه نحوها كامن في العالم. وهذا جزء من الرؤية الدينية ذات المضمون التوحيدي للوجود. لكن ستيس يعترف أنه حتى اللا أدريين الذين يقولون إنهم لا يدرون هل أنّ الله موجود أم غير موجود، يؤمنون أنّ الخير هو الذي سينتصر في النهاية. وهذا يعني أنّ هذا الإحساس مستمد من شعور غامض بأنّ العالم نظام أخلاقي.

صراع الدين والعلم

يصل ستيس إلى نتيجة أساسية تقول إنّ العالم الحديث مطوق بالصراع بين الدين والعلم، وهو يعيش الحيرة بين معتقداته التي تمنحه الطمأنينة والاكتشافات العلمية التي زلزلت تلك المعتقدات، فقد كان القرن الثامن قرن الشك الديني. وفيه طرحت مسألة التناقض بين نظرية داوين والمعطى الديني الكنسي. تصور داوين أنّ الإنسان ليس خلقاً خاصاً لا يرتبط بمملكة الحيوان، لكن ذلك في رأي ستيس ليس صحيحاً، لأنّ التطاحن هو حول النظرة للعالم وهل هو نظام أخلاقي أم لا، والعلم ليس من اختصاصه تحديد نظرة الإنسان للعالم لأنّ تلك مهمة الفلسفة[6]. كما أنّ ما يقوله الدين يمكن تأويله لأنه قد يكون مجازاً.

لكن مما شك فيه أنّ العلم غَيّر في نظرتنا للعالم، كما فعلت أعمال كبلر وغاليلي وعلماء القرن السابع عشر، وليس علماء الفترة اللاحقة ليل وداروين وأينشتين ونيلسن بور. فالقرن التاسع عشر هو قرن العودة إلى الدين مع هيمنة الفكر الرومانسي.

كان إنجاز كوبرنيك هو إحلال النظرية الهليوسنترية [مركزية الشمس] محل النظرية الجيوسنترية [مركزية الأرض]. وجوهر الإسهام الكوبرنيكي هو رؤيته لحركات الكواكب التي تشبه الانقلاب ويمكن تفسيرها بطريقة أكثر تبسيطاً ممّا فعل بطليموس، أو التقليص منها كما فعل كوبرنيك من 80 إلى 34 دائرة. لكن كوبرنيك لم يستطع البرهنة على صحة نظريته، بل فعل ذلك نيوتن لاحقاً بعد أن أقام نظريته في الجاذبية على نظرية كوبرنيك. لقد أخذت نظرية كوبرنيك قرناً كاملاً قبل أن يقبلها الناس.

وقد افترض نيوتن أنّ الله خلق النظام الشمسي وجعل الكواكب والنجوم تدور في مداراتها بشكل دقيق، ويمكن للعقل أن يحسب المسافات والكتل والسرعات حساباً كاملاً، لكنه لم يستطع تفسير الانحرافات والشذوذ في حركة الكواكب، فجاء لابلاس وقال: إنّ "وجود الله ليس ضرورياً لتصحيح تلك الانحرافات".

لقد كان نيوتن مسيحياً متديناً ولم يتصور أنّ نظريته ستهز الإيمان الكنسي[7]. كان يقول إنّ الكون محكوم بقوانين وضعها الله، ولم يكن يؤمن بالمصادفة أو الفوضى في العالم. فما يعتبره بعضهم مصادفة هو في الحقيقة مركب من الأسباب، مثل سقوط مزهرية من الطابق الأعلى على رأس أحد المارة. فالمشهد قد يبدو مصادفة، لكن سقوط المزهرية في تلك اللحظة له سببه الخاص، والأمر نفسه بالنسبة لمرور الرجل.

لم تكن الفتوحات العلمية الجديدة تتناقض مع وجود الله، لكنها ربما كانت صادمة للعالم المسيحي. بل إنّ تلك الفتوحات قوضت الإيمان المسيحي فعلياً وبعمق لأنه، بحسب ستيس، ظهر في القرن الثامن عشر شكّاكون مثل هيوم وفولتير وجيبون رغم ما يقال إنهم كانوا مؤمنين. فهم لم يكونوا يؤمنون بإله يشبه إله المسيحيين. بل إنّ ملك إنكلترا في القرن الثامن عشر كان يشكو من أنّ نصف الأساقفة ملاحدة.

وهناك سبب آخر أدى إلى اهتزاز الإيمان المسيحي بقوة، لم يذكره ستيس، وهو انهيار نظريات العلم القديم. كانت الكنيسة تتبنى العلم القديم، وعندما كان علماء الفلك والفيزياء يبشرون بنظريات علمية جديدة تختلف عن مسلماتها، بدأت الكنيسة ملاحقاتها للعلماء فيما عرف بمحاكم التفتيش. اختارت الكنيسة تكفير العلماء المبشّرين بنظرياتهم الجديدة وجرّت بعضهم إلى المحاكم لمواجهة أحكام الإعدام. وهو ما جعل العلماء والفلاسفة والمفكرين ينفرون من هذه الكنيسة ومن الدين الذي تمثله.

وبعد اكتشاف قوانين الحركة طرح سؤال حول وظيفة الله، وكانت إجابة نيوتن إنه ما تزال أمام الله مهمة تصحيح مسارات الكواكب من حين لآخر. لكن الاعتقاد السائد، حسب ستيس، هو أنّ نيوتن دمّر الشعور بأنّ الله قريب من الناس، رغم أنه ما زال موجوداً. وهذا ما أكده استفتاء أجري في أمريكا سنة 1949 بيّن أنّ الناس يؤمنون بوجوده لكنه لا يتدخل في شؤونهم[8]. أمّا لابلاس فقد دفع بوجود الله خطوة إلى الوراء في الزمان، لأنّ ضرورة التسليم بوجوده علة أولى للكون لا أهمية له كما يدعي. وهذا ما ضاعف الشعور بابتعاد الخالق بشكل هائل لتحل محله قوانين الطبيعة[9].

لقد ترك نيوتن للتدخل الإلهي مكاناً في بعض الجزئيات، كما ترك إمكانية للمعجزات مع ظهور الحتمية. فبعد اختراع المقراب الذي جعل رؤية النجوم ممكنة، وأكد أنها، مثل الأرض، تتكون من مواد خشنة، وليست مادة أثيرية لقربها من الإله كما كان يتصور علماء القرون الوسطى، وبعد أن وصل إلى مسامع الناس قول نيوتن إنّ الكون آلة محكمة الهندسة ومهندسها هو الله، جاء لابلاس ليقول إنني "لست بحاجة إلى هذا الفرض يا مولاي"، عندما سأله نابليون قائلاً: "أنا أعرف يا سيد لابلاس أنك ألفت كتاباً عظيماً عن نظام الكون لكنك لم تذكر الخالق".

والقول إنّ الله هو العلة الأولى وإنّ لكل حادثة سبباً طبيعياً يجعل الله بلا أهمية في حياة الإنسان في رأي ستيس. لكن تفادي هذه النتيجة ممكن من خلال القول إنّ الله خلق هذه القوانين وهو يتدخل من خلالها وبواسطتها. ولولا تدخل الله المستمر لتوقفت قوانين الوجود عن العمل. فهو كالمدير الذي يسهر على تطبيق القوانين في إدارته. إنّ الله يخلق الطبيعة ويعيد خلقها باستمرار كما يقول المتصوفة.

وقد تمسك باركلي بفكرة الاطراد التام في الطبيعة، رغم أنه قبل الاعتقاد الشائع بالمعجزات. ولم تلعب فكرة نيوتن عن الاستثناءات أي دور في مذهبه. بل تمسك، أكثر من نيوتن، بصورة العالم الجديدة. تمسك بفكرة الإله ليسدّ بها ثغرة في فلسفته التي تقول إنّ الأشياء المادية لا يمكن أن توجد وما يدركه الذهن ليس إلا خصائص وكيفيات للمادة مثل اللون والرائحة والمذاق والملمس والصوت. والمادة ليست إلا هذه الخصائص. لقد أدخل باركلي فكرة الإله من أجل تفسير وجود الأشياء المادية عندما لا يدركها البشر.

إنّ هذا يعني أنّ استبعاد الله من عالم يحكم بواسطة القوانين لم تسيطر تماماً على ذلك العصر. وفلسفة باركلي كانت مجرد محطة في منتصف الطريق بيننا وبين نيوتن الذي كان يرى العالم آلة كبيرة.

الاكتشافات العلمية الحديثة والأخلاق

لكنّ القفز من التصور الآلي للعالم كما قدمه العلم الحديث إلى القول إنّ العالم بلا غاية ولا غرض، ليس انتقالاً منطقياً، كما يعترف ستيس. فالمسألة سيكولوجية ولا علاقة لها بالمنطق أو البرهان[10]. لقد توقف العلماء عن التفكير في الغايات والأغراض وركزوا تفكيرهم على الأسباب. ولا عجب لأجل ذلك أن يهجر الفلاسفة النزعة الغائية.

إنّ الفن يمكن أن يعكس هذه الرؤية الجديدة للعالم. فالموسيقى مثلاً كانت تعكس فكرة عالم منسجم ومتناغم ومطيع للخطة الإلهية، أمّا تيار الموسيقى الحالي بأنغامه الصاخبة والمتنافرة والمتضاربة، أحياناً، فإنه يوحي بأنّ الأشياء والحياة جميعاً بلا معنى[11].

ولذلك يؤكد ستيس أنّ العالم الحديث يتسم بالظلام والحيرة وفقدان القداسة. فازداد بشكل هائل عدد مرضى الأعصاب وكثرت الانهيارات النفسية. وليس العلم هو الذي قاد إلى الموقف الوجودي الجديد، بل فهم العلم هو الذي قاد إلى ذلك. فهذا الفهم لاكتشافات العلم الحديث هو الذي قاد إلى النزعة الذاتية. والذاتية بدورها أدت إلى النسبية.

لكنّ هذا الانتقال من الذاتية إلى النسبية ليس بدوره منطقياً، كما يقول ستيس، لأنّ غايات الناس وأغراضهم وأهواءهم متعددة ومتناقضة فما يراه بعضهم خيراً قد يراه آخرون شراً. إنّ القول بنسبة الأخلاق في فكر الحداثة ناتج عن اعتماد الرغبات الفردية أساساً للعمل الأخلاقي.

لكنّ فكرة نسبية الأخلاق تصطدم باتفاق الناس حول مجموعة من القيم التي يرى الجميع أنها ضرورية لاستمرار الاجتماع الإنساني. فهناك قيم أخلاقية يدركها الجميع مثل الاتفاق على قبح الخيانة والكذب والسرقة.. وحسن الإخلاص والصدق والأمانة. وعلى أساس تلك القيم الأخلاقية توضع القوانين التي تجرم هذا الفعل أو ذاك. لقد استخدمت الثورة العلمية ضد الدين ولم تفعل الأنتروبولوجيا التي تدرس العادات والتقاليد غير تكريس النظرة النسبية، ولأجل ذلك انهارت الأخلاق لأنها لم تكن تملك أساساً غير الدين الذي فقد موقعه القديم.

العلم الحديث وتبدلات الفكر الفلسفي

يطرح المؤلف تأثيرات المكتشفات العلمية على الفكر الفلسفي، ويميز بين نزعتين في الفلسفة الغربية: الأولى تعبّر عن النزعة العلمية للعالم كما هي فلسفات هوبز وهيوم وكونت وفاغنر والوضعية المنطقية عند شليك واير وكارناب، والثانية تعكس النظرة الدينية للعالم مثل فلسفات باركلي وكانط وهيغل والاتجاه الرومانسي والمثالية المطلقة لدى برادلي ورويس. وهو يقول إنه لم يجد لسبينوزا وليبنتز مكاناً في هذا التصنيف؛ فسبينوزا فيلسوف طبيعي حتمي بروح صوفية، بينما جمع ليبنتز بين وجهتي النظر الدينية والطبيعية.

ويرى ستيس أنّ وظيفة العلم هي التنبؤ بالظواهر، وهي تمكننا إلى حد كبير من السيطرة على المستقبل. والرفض الذي يبديه الناس في تقبل الحقيقة التي لا يرغبون فيها ليس إلا ركوناً إلى الإيمان بأحلام جميلة وأوهام مريحة، ولأجل ذلك فإنّ "الرومانسية في الفن والمثالية في الفلسفة ولدتا من حركة واحدة للروح البشرية فهما معاً يشكلان هجوماً مضاداً غير ناجح ضد النظرة العلمية للعالم"[12]. فالنظرة الحديثة ترى أنّ العالم تحكمه قوانين وليس له غاية، بل هو عبث لا معنى له، وهو لا يملك نظاماً أخلاقياً بل إنه محايد تجاه القيم مهما كان نوعها.

لكنّ هذه النظرة ضيقة الأفق، وهي عاجزة عن فهم الوجود والعالم بشكل أشمل. فالتأكيد على أنّ العالم تحكمه قوانين وسنن لا ينفي وجود الخالق وقربه من مخلوقاته. إنّ الله هنا هو من خلق العالم وهو من خلق له قوانينه التي يتحرك على أساسها. واستمرار الوجود وقوانينه لا يستغني عن موجده. وهذه الحركة لا يمكن أن نتصور أنها عبثية بل إنّ لها غاياتها المنطقية.

إنّ الإنسان الذي يعيش في هذا الوجود لا يتوقف عن السؤال عن معنى الوجود وغايته وعلته. وعندما يحصل على أجوبة تقنعه يتحقق لديه الاطمئنان الداخلي. فكما أنّ الكون احتاج إلى علة أولى توجده لأنه من غير الممكن أن يوجد مصادفة، لأنّ المصادفة لا تتكرر أو أن يوجد نفسه لأنّ في ذلك تناقض، فإنه يحتاج أيضاً إلى هذه العلة من أجل الاستمرار في الوجود ومن أجل إدراك غاياته.

ويعترف ستيس أنّ النظرة الحديثة للوجود التي يتبناها المذهب الطبيعي والاتجاه الوضعي لا تقوم على أساس معطيات العلم الحديث بقدر ما تتحرك من خلال معطيات سيكولوجية تمّ تعميمها. وهذه النظرة هي التي أنتجت طوال القرون الثلاثة الماضية انحطاط الأخلاق وتوسع الحروب وشيوع الفوضى وانتشار الإدمان وظهور الشذوذ وقلق الحياة وغموض المستقبل.

وإذا كان العلم بريئاً من الاتجاه الذي انتصر في فكر الحداثة وأصبح يمثل النظرة النمطية المسيطرة التي ترفض مفاهيم العقلانية والموضوعية والإطلاق، فإنّ الأساس لذلك كله ليس سوى رغبات الأفراد ومزاجهم وآرائهم.

إنّ الرؤية العلمية التي تثبت وجود قوانين تحكم الحياة والوجود كان ينبغي أن تكرس مفاهيم العقلانية وموضوعية العالم والأخلاق وقيم الخير والجمال والحق، غير أنّ ما حدث هو استغلال الثورات العلمية من أجل الترويج للنزعات الذاتية والاتجاهات الغرائزية التي أدّت في النهاية إلى ضرب الأخلاق وكل القيم الأخرى.

فلسفة الحداثة والمذهب الطبيعي

احتفظ ديكارت في فلسفته ببعض العناصر الفكرية القديمة، لكنه مع ذلك يمثل قطيعة مع المذاهب القروسطية، وهو لذلك يُسمّى أحياناً "أبا الفلسفة الحديثة". كان رياضياً متميزاً، وكان يميل إلى التأويل الرياضي للطبيعة واستبعاد التفسير الغائي من المجال العلمي. لم يكن يفكر أنّ للطبيعة غاية إلهية لأنه كان يرى أنها غاية مبهمة، ومعرفتها لا تفيد في الأغراض الخاصة للعلم.

والعلم الجديد يمكنه أن يتنبأ أو يتوقع الظواهر لكنه لا يستطيع معرفة أغراضها وغاياتها كما يفعل علماء المناخ مثلاً. إنه يركز على الأسباب والتفسيرات الآلية ويستبعد الغائية إلى درجة التي يعتبر فيها الحيوانات كائنات غير مفكرة وهي شبيهة بالآلات التي يصنعها الإنسان، والفرق بينهما هو فقط في كمال الصنع. بل إنها آلات ذاتية الحركة، فالحيوان لا يشعر بالخوف مثلاً. والإنسان وحده الذي يملك ذهناً ونفساً خالدة لا يملكها الحيوان[13].

ويؤمن ديكارت بثنائية العالم، فهو عنده مخلوق من مادة ونفس غير مادية. وقد آمن بالمادية والآلية، وهذا هو المذهب الآلي لدى ديكارت. وكان مالبرانش قسيساً مؤمناً بآلية الحيوان، فكان يضرب كلبة له مدعياً أنها لا تحس لأنه لا وعي لها.

والإيمان بلامادية النفس وتجردها ارتبط بفكرة خلودها الدينية، وهو ما جعل الفكر الحديث يرفضها. فإنكار وجود نفس لامادية ومجردة يجعل خلودها أمراً مستحيلاً. وبحسب ستيس فإنّ خلود النفس ولا ماديتها يمثلان العنصر الديني في فلسفة ديكارت.

كان وجود الله، ضامناً للحقيقة، ضرورياً لمذهب ديكارت ومن دونه ينهار. لكنه عند هوبز مجرد إضافة زائدة بل، هو شيء مزعج[14]. فالدين بحسب هوبز هو أشبه بحبة الدواء التي تبتلع ولا تمضغ. لكن هوبز رغم ذلك كان يؤمن بضرورة إدخال الله باعتباره علة أولى للعالم.

وقد بنى ديكارت مذهبه على ما اعتبره بديهيات، وهي ثلاثة عنده: الأولى هي الكوجيتو "أنا أفكر فأنا موجود"، والثانية "الله موجود"، والثالثة "الطبيعة موجودة". وهذا يعني أنّ الكون مؤلف من ثلاثة أنواع من الوجود؛ وهي الله والنفس والمادة. ويعني أنّ وجود الله عند ديكارت ضروري وليس مجرد افتراض كما لدى هوبز. فالبرهان على وجود المادة يعتمد على تصور وجود الله.

لكنّ هوبز رأى أنّ الكون كله مؤلف من ذرات، وأنّ النفس مادية وكل التغيرات هي تغيرات في حركة جزئيات المادة، ممّا يعني أنّ هوبز فيلسوف حتمي، ولذلك كان الاتجاه الآلي لدى هوبز واضحاً. فالعالم آلة والجسد آلة والرغبات الجزئية لدى البشر ليست إلا حركات لجزئيات المادة[15].

أمّا هيوم الذي كان لدى كثيرين أكثر قوة من هوبز فقد اعتبر أباً لجميع الوضعيين. لقد رفض مبدأ العلية واعتبره مجرد اقتران وعادة لها جانب سيكولوجي ونفسي بعكس التصور العقلي الذي يرى أنّ هناك انتظاماً ورابطة ضرورية بين السبب والنتيجة. فبالنسبة لهيوم، ما نراه هو الماء واللهب والغليان ولا نرى الضرورة، كما نرى الماء ينزل من أعلى بفعل الجاذبية ولا نرى فكرة الرابطة الضرورية المفترضة.

هذه الفكرة تسللت إلى العقل المعاصر وأصبحت فكرة عظيمة التأثير كما يرى ستيس. بل أصبحت وجهة النظر المسيطرة على السببية التي يتبناها العلم[16]. ولذلك لا تربط نظرية هيوم بين الله والكون، ولا الله والغاية، ولا ترى للعالم علاقة بالأخلاق أو أية غايات بعيدة بشكل واضح.

إنّ رفض السببية يعني القول إنّ العالم عبثي بلا سبب ولا غاية. وهذا هو الجوهر الداخلي لفلسفة هيوم. ورغم أنّ العلم لا يمكنه أن يتقدم دون اعتراف بمبدأ السببية، إلا أنّ ستيس اعتبر أنّ فلسفة هيوم تعبر عن النظرة العلمية للعالم ووجهة النظر الحديثة والتامة المستمدة من العلم، وهو تناقض غير مفهوم.

إنّ فلسفة هيوم التي بنى عليها الوضعيون والماديون مذاهبهم لم تصبح مقبولة بسبب انسجامها مع العلم ولكن بسبب تماهيها مع تيار واسع أصبح يتحرك نحو العبثية والعدمية وإقصاء الأخلاق من خلال اعتبارها مسألة نسبية بعد أن تعرّض الدين الكنسي إلى ضربة قاصمة. ويمكننا القول إنه في ظل فلسفات الفوضى والعدمية واللامعقول والعبثية أصبح العالم أعمى بلا هدف وفوضى بلا نظام وقوة بلا ضوابط وحركة بلا اتجاه.

استطاع المذهب الطبيعي أن يهيمن على العقول، ورغم محاولة باركلي ثم وايتهد إلا أنّ الوضعية المنتصرة سحقتهما. ومع ذلك لا يمكن القول إنّ فلسفة وايتهد مثلاً لن تمارس تأثيرها في المستقبل[17]. بل إنه من المشروع توقع ظهور فلسفة أكثر قوة وعمقاً تتمكن من سحق المذهب الطبيعي وما أدى إليه من يأس وقلق وإحباط في هذا العالم. فمصدر الظلام الروحي للعقل المعاصر لا يضرب بجذوره في النظرة العلمية للعالم كما يرى ستيس[18]، بل في استغلال الفتوحات العلمية الجديدة لضرب الاتجاه الآخر الذي يرى أنّ للعالم غاية وأنّ الأخلاق قيم موضوعية.

مشكلة الشر في العالم

يمكننا أن نتساءل عن أثر نظرية هيوم في السببية على مشكلة الشر في العالم. ولماذا وجد الشر الطبيعي والشر الأخلاقي في هذه الحياة؟ لكن سؤال لماذا وجد الشر يتضمن معنى الغاية وأنّ للعالم غرضاً، وفكر الحداثة يرد بالقول إنّ الشر لا غاية له ولا غرض، والعالم يسير بناء على أسباب وليس بناء على غايات. ولأجل ذلك فإنّ الوضعيين والماديين لا يدرسون مشكلة الشر إلا في حيز ضئيل جداً لأنهم يمثلون السلالة الفكرية لهيوم والامتداد الفلسفي له.

فأوغست كونت، الذي قسم تاريخ المعرفة الإنسانية إلى ثلاثة مراحل: اللاهوتية والميتافيزيقية والوضعية، يتفق مع هيوم أنّ السبب، بمعنى الرابطة الضرورية، لا يمكن ملاحظته من حيث المبدأ. وهو لذلك أطلق عليها اسم "الحركة الميتافيريقية". وما يمكن ملاحظته هو فقط الانتظام والتتابع الذي هو الفكرة الوضعية[19]. فكل ما لا يمكن ملاحظته هو فكرة ميتافيزيقية لدى الوضعيين.

وتبعاً لذلك فإنه "لا وجود للمطلق من وجهة نظر وضعية نقدية ولا يوجد شيء اسمه الشيء في ذاته ولا الذات ولا الموضوع، وكل ما يتبقى لدينا هو إحساسات. فهي الموجودة وهي المعطاة، ومنها تم بناء الذاتي بأسره بأقسامه المعقدة النفسية والطبيعية" كما يقول فاغنر[20]. إنّ ما هو كائن هو فقط الظواهر المتواجدة والمطردة. وإحدى الأفكار الرئيسة التي يتفق حولها الوضعيون المناطقة مع أوغست كونت هي القول إنّ جميع المفاهيم الميتافيزيقية لا معنى لها، أي إنها فارغة من كل معنى.

لكن الوضعية المنطقية، التي تقول ذلك، تنطوي هي نفسها على أفكار ميتافيزيقية أو أنها تستند عليها. فلا شك أنها تتضمن أفكاراً مسبقة، وتلك الأفكار المسبقة والذاتية لم تتلقها من خلال الإحساسات. ثم إنّ القبول بهذا الطرح الوضعي يؤدي إلى إنكار القيم والقوانين والأخلاق، ويعني التنظير للفوضى والعدمية. وهو، على كل حال، ما وصلت إليه تيارات فكرية كثيرة تتبنى الرؤية الوضعية في نظرية المعرفة.

كانط وتأثيرات فلسفته

ولد كانط بعد باركلي بنحو نصف قرن، وعندما أصدر كتابه نقد العقل الخالص كان قد مضى سبعون سنة على إصدار باركلي كتابه مبادئ المعرفة الإنسانية. كان كانط يستهدف ما كتبه هيوم، لكن فلسفته لم تكن مجرد رد فعل على هيوم، بل كانت فلسفة شاملة ومعقدة. وبعكس باركلي والآخرين فإنّ كانط هزّ العالم بفلسفته. بل إنّ روحه أسرت العالم الغربي بأسره في تلك الفترة. وإذا كان هيوم أبا المذهب الطبيعي فإنّ كانط كان قائداً لثورة ضد هذا المذهب. وربما كان كانط، بحسب ستيس، أول من أدرك التناقض بين المذهب الطبيعي في نظرته للعالم والنظرة الدينية.

ذهب كانط مباشرة إلى مكمن الداء، ورأى أنّ نيوتن أنتج نظرة للعالم لا يكون فيه الدين ممكناً ولا الأخلاق[21]، رغم أنهما قد يستمران بوصفهما عادات. وبالنسبة لكانط لا مجال لحرية الإرادة والأخلاق في عالم تحكمه الحتمية وقوانين الحركة بطريقة آلية، وأزعجته تلك الأفكار بعمق.

ويرى ستيس أنّ فلسفة كانط هي محاولة للتوفيق بين النظرة الدينية والنظرة العلمية إلى العالم. وإذا كان المدافعون عن الدين يستثنون الروح من قوانين الطبيعة، فإنّ كانط لا يرى مجالاً للحديث عن استثناء، وقرّر الدفاع عن قضايا العلم مائة في المائة وقضايا الدين مائة في المائة. فقضايا العلم صحيحة وكذلك قضايا الدين. لقد قبل كانط مبدأ الحتمية وسيادة القانون، وعمّمه على إرادة الإنسان وأفكاره، ولم يستثن حتى مسألة حرية الإرادة المرتبطة بالأخلاق.

ويميز كانط بين الذات والموضوع في الإدراك، والإدراك عنده يمكن أن يكون حسياً وفكرياً. فهناك الذات من ناحية، وهناك الشيء من ناحية أخرى. وعندما يفكر الشخص في ذاته يصبح ذاتاً وموضوعاً في وقت واحد، لكن هذه حالة خاصة. أمّا في الحالات العادية، فإنّ هناك اختلافاً بين الذات المدركة والموضوع المدرك. وإدراك الشيء يتم في مكان وزمان محددين، وفي إطار تصورات هي أفكار عامة مستخلصة من أفكار جزئية. فمفهوم الإنسان، مثلاً، تصور عام عند كانط ينطبق على تصورات جزئية مثل زيد أو صالح.

لكن هناك تصورات أكثر كليّة يسميها كانط مقولات، وهي اثنتا عشرة مقولة؛ مثل الوحدة والكثرة والفعل والانفعال والسببية.. ولو فكرنا في أي شيء فإننا نجد أنّ هذه المقولات أو بعضها تنطبق عليه. وهذه المقولات لا تنطبق فقط على الأشياء المادية بل تشمل الذهن والحالات الذهنية. والأشياء المادية والمعنوية التي توجد ضمن مقولتي الزمان والمكان هي التي تشكل موضوع العلم بحسب كانط. فهو العالم الذي يمكن أن نمتلك الحقيقة عنه. ولذلك فإنّ مواضيع الله والحرية والخلود لا يمكن أن تكون موضوعاً للعلم لأنها لا تنطبق عليها مقولات المكان والزمان. فالله مثلاً باعتباره السبب الأول لا يمكن معرفته من خلال الرجوع في الزمان إلى الوراء، لأنّ الله لا يمكن أن يوجد في الزمان أو المكان.

وإذا كان الله والحرية والخلود مفاهيم لا يمكن إنشاء معرفة حولها، فإنّ العالم الطبيعي يمكن أن ننشئ معرفة حوله ولكنها، في الحقيقة، معرفة بظواهر الأشياء فحسب، لأنّ حقيقة الأشياء في ذاتها لا يمكن معرفتها. فالمقولات هي صور ضرورية لملكة التصوير والتفكير عندنا، وما ندركه لا ندركه على نحو ما هو عليه في الخارج.

لكنّ البراهين التي استخدمها كانط لم يعد يقبل بها الفلاسفة والمهتمون بالفلسفة، رغم أنّ النتائج ليست بالضرورة خاطئة بحسب ستيس، فالفلاسفة قد يملكون أفكاراً صحيحة يفشلون في البرهنة عليها. هناك بالنسبة لكانط عالم الزمان والمكان، وهو عالم الظواهر التي ندركها، وهناك في المقابل عالم الأشياء في ذاتها والتي لا يمكن أن نعرفها ولا أن نبرهن على أي شيء فيه. وليس في إمكاننا إلا أن نسلم بذلك العالم كما تشير إليه حدوسنا الدينية.

وإذا كان تفكيرنا في عالم الظواهر صادق تماماً، فإنّ عالم التفكير الديني هو الآخر عالم صادق تماماً، والأمر نفسه بالنسبة لعالم الأشياء في ذاتها. والعقل لا يمكنه أن يثبت شيئاً من عالم الميتافيزيقا ولا من عالم الأشياء في ذاتها، بل هو فقط يمكن أن يعمل في نطاق عالم الظواهر إثباتاً ونفياً. وبهذه الطريقة استطاع كانط أن يسلم بمعطيات العلم والدين معاً دون أن يشعر بتناقض، فلا العلم يمكنه التدخل في مجال الدين ولا الدين بإمكانه التدخل في مجال العلم.

غير أنّ الحل الكانطي، بحسب ستيس، قاد العقل البشري إلى مشكلات لا حدود لها. فحرية الإرادة مثلاً جعلها كانط ضمن مجال الميتافيزيقا، بينما ينتج الذهن الحقيقي بحريّة، خارج المكان والزمان، أفعالاً في عالم الزمان والمكان. وهذا يعني أنّ الحل الكانطي الذي وجد في التيار الرومانسي امتداده سقط في الغموض والتناقض بحسب ستيس[22].

التعددية الفكرية وضرورة التسامح

يتناول ستيس في آخر فصلين للكتاب "مشكلاتنا الراهنة"، فيعرض فيهما مضمون المشكلة الأساسية ليطرح السؤل الذي طالما طرح: هل الدين حق يقول الحقيقة ويدعو إلى الخير أم أنّ، بعضه على الأقل، مجموعة من الخرافات والأساطير والأفكار الباطلة التي لا أساس لها والتي لا تعبر سوى عن آمال إنسانية ولا تعكس سوى تشوهات نفسية؟

يقف ستيس باهتمام أمام التجربة الصوفية التي يراها أشبه بالحلم، ويحتمل أن تكون حقيقية وصادقة. وهو يعتبرها تجربة موضوعية تحمل في داخلها فكرة حقيقية هي فكرة الله خالق الكون. غير أنه في المقابل يرى أنه من الممكن أن يرفض بعض الناس كل السلوك الديني ليصنفوا أنفسهم لا أدريين أو ملاحدة. فالإنسان يحق له أن يشق لنفسه طريقه الخاص، وليس من حق من يرون أنفسهم على حق أن يدينوا غيرهم من المختلفين عنهم في ما يبدو دعوة للتفهم والتسامح الديني.

غير أنّ التسامح الديني لا يتناقض مع ضرورة البحث العلمي الذي ينبغي أن تخضع له الأديان من أجل التمييز فيها بين الحقيقي والمزيف. فنحن نجد في الأديان مضامين متناقضة، وأخرى متصادمة مع أبسط قواعد المنطق السليم. بل إنّ من الأديان والمذاهب ما يشرع للعنف من أجل استباحة المختلفين بكل أشكال الاستباحة. ولأجل ذلك لا بدّ من التمييز بين الأديان وأتباعها. فإذا كان لا بدّ من احترام أتباع الديانات في حرياتهم وكراماتهم وممتلكاتهم وأرواحهم، فإنّ الأديان في ذاتها لا بدّ أن تخضع للدراسة النقدية التي تتوخى أكبر قدر من الموضوعية.

ويختم ستيس بالحديث عن الأخلاق، ويرى أنها تتعلق بما ينبغي القيام به وما يجب تجنبه كما هي النظرة التقليدية للأخلاق، وهنا يحتاج الإنسان إلى حرية الإرادة. لكن المؤلف يرى أنّ برغسون كان على حق عندما ذهب إلى أنّ للأخلاق مصدرين هما: الضغط الاجتماعي والدين، وهو ما يبدو تناقضاً، لأنّ حرية الإرادة يجب ألا تخضع لأية ضغوط خارجية سواء كانت اجتماعية أو دينية. ولذلك يعود ستيس الحائر إلى القول: "إنّ العالم من منظور الزمان ليس نظاماً أخلاقياً، لكنه نظام أخلاقي من منظور الأزل"[23].

وفي خاتمة كتابه يعتبر ولتر ستيس المثلَ الأخلاقية العليا مجرد وسائل لتحقيق المتعة والسعادة. وهذا، بالنسبة إليه، ما يمكن تبريره من الناحية الطبيعية. غير أنّه عندما يتعلق الأمر بالحياة فلا بدّ من وجود غاية حتى لا تتحول الإنسانية إلى حياة الحيوانية بلا نور إلهي يفيض عليها من ضيائه.

لقد عكس كتاب ستيس "الدين والعقل الحديث الذي تناول مسألة الرؤية الوجودية للإنسان فيما هي مسائل الدين والأخلاق والمصير وعلاقة ذلك كله بالفتوحات العلمية الحديثة، جهداً فكرياً له أهميته في عالم يطوق القلق والسوداوية كلّ زواياه.

كان الكتاب محاولة للتوفيق بين المذهب الطبيعي الذي يدّعي الاستناد إلى المعطى العلمي الحديث والنظرة المثالية التي تدافع عنها الأديان. وهو يمثل امتداداً لكتابه "الزمان والأزل". فبالنسبة إليه يمكن أن يكون الاتجاهان مكملين لبعضهما بعضاً، وهو ما سمح له بالدعوة إلى التسامح في معناه الشامل، رغم أنّ الكتاب لا يعكس اهتماماً بتجارب دينية أخرى من خارج المسيحية المتداولة.


[1] ولتر ستيس، الدين والعقل الحديث، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، ط1، مكتبة مدبولي، القاهرة، ص 29

[2] القرآن الكريم، المؤمنون، 115

[3] الدين والعقل الحديث، م.س، ص 51

[4] م.ن، ص 52

[5] م.ن، ص 60

[6] م.ن، ص 69

[7] م.ن، ص 93

[8] م.ن، ص 108

[9] م.ن، ص 109

[10] م.ن، ص 117

[11] م. ن، ص 120

[12] م.ن، ص 271

[13] ما يقوله ديكارت أصبح كلاماً قديماً وغير علمي، لأنّ الحيوانات بحسب العلوم المعاصرة كائنات تملك أحاسيس ومشاعر، وهي تخاف وتطمئن وتحب وتكره وتغضب وترضى.. وتفكر في حدود معينة.

[14] م.ن، ص 180

[15] م.ن، ص 182

[16] م.ن، ص 189

[17] م.ن، ص 239

[18] م.ن، ص 240

[19] م.ن، ص 196

[20] م.ن، ص 198

[21] م.ن، ص 219

[22] م.ن، ص227

[23] م.ن، ص 371