الحريات الفردية في المغرب من منظور عبدالصمد الديالمي


فئة :  مقالات

الحريات الفردية في المغرب من منظور عبدالصمد الديالمي

الحريات الفردية في المغرب من منظور عبدالصمد الديالمي

محمد الدحاني*

مقدمة

يعد عبدالصمد الديالمي، من أبرز علماء الاجتماع في المغرب الراهن، ومن القلائل الذين لهم مشروع فكري واضح المعالم، حيث اهتم في الأول برصد وتشخيص المسألة الجنسانية في المغرب، ومع مرور الزمن وتراكم الخبرة أصبح مشروعا طموحا يسعى إلى تحقيقه في العالم العربي والإسلامي عامة، نظرا للمحددات الحضارية والثقافية والدينية واللغوية التي تتقاسمها دوله. وهذا ما حاول بلورته في نظريته الموسومة ب (الانتقال الجنسي)، والتي تقوم على مفارقة تميز الجنسانية قبل الزوجية والجنسانية البغائية والجنسانية المثلية؛ وكلها تعبيرات عن الانفجار الجنسي؛ أي عن انفجار الوحدة بين المعايير الجنسية والسلوكيات الجنسية، والمفارقة تكمن في التناقض بين المعايير الجنسية الدينية، وبين الممارسات والسلوكيات الجنسية المعلمنة؛ ذلك أن الشباب المغربي والعربي أصبح يبدع استراتيجيات خاصة للالتفاف على قيود التحريم الديني، والتجريم القانوني، والمنع المجتمعي. لذلك لم يكتف الديالمي بجعل المسألة الجنسانية مجرد مسألة سوسيولوجية، وإنما تبناها كقضية اجتماعية؛ لأن الجنسانية اللاقانونية في العالم العربي الإسلامي غدت حقّا من حقوق الإنسان بالنسبة إلى المنتظم الدولي.

يدافع الديالمي عن الجنسانية قبل الزوجية والخارج عن إطاره، انطلاقا من قناعات علمية تجد تعبيرها الأساسي في القيم الحداثية والعلمانية، فقناعاته هاته مسنودة بنتائج وخلاصات دراساته السوسيولوجية، النظرية[1] والميدانية[2]، التي تفند طروحات التيارات النكوصية لكونها تقارب السلوكيات الجنسانية للأفراد من مرجعية تقليدية تقوم على قراءات مذهبية، وبالخصوص على قراءة حرفية للنصوص الدينية.

وبناء على ما سبق، تسعى هذه الورقة إلى عرض واستشكال طروحات الديالمي المتعلقة بالحريات الفردية، والتي لا تخفي انتصارها لكونية حقوق الإنسان، ليس كحقوق ومثل عليا مجردة وفقط، وإنما كواقع اجتماعي، وكمطالب آنية تفرض نفسها على الدولة والمجتمع. وخاصة تلك المتعلقة بالحريات الدينية، والعلاقات الجنسية الرضائية، والإجهاض، وهي القضايا التي سنركز عليها في هذه المساهمة[3].

أولا: الحريات الدينية

يرى الديالمي أن الأساس الديني لشرعية الدولة، والفقر العلمي يشكلان عائقا إبستمولوجيا يمنع من تحليل إشكالية الحريات الدينية، ومن التعامل معها بموضوعية؛ ذلك أن أغلب المعطيات التي نتوفر عليها بخصوص هذه الإشكالية هي عبارة عن تقارير دولية أنجزتها مراكز بحث أجنبية. وتتسم هذه التقارير بالتضارب الكبير في معطياتها الإحصائية؛ فبعضها يقدر عدد المتحولين دينيا (خاصة المتحولين من الإسلام إلى المسيحية)، والمتحولين مذهبيا (خاصة المتحولين من المذهب السني إلى المذهب الشيعي)، واللادينين، والملاحدة بعشرات الآلاف، والبعض الآخر يعدهم بالآلاف، في حين يكتفي البعض بحصرهم في المئات فقط.

هذا التضارب في الأرقام نتيجة موضوعية لتحفظ المبحوثين عن التصريح الحر بقناعاتهم المتعلقة بحرية الضمير نظرا لعدة محددات اجتماعية وقانونية، منها الخوف من التعرض للمتابعات القضائية والمضايقات الأمنية من جهة، ومنها تجنب الوصم الاجتماعي والتهميش والنبذ الأسري من جهة ثانية. وهنا لابد من الإشارة إلى أن الثورة المعلوماتية خففت من حدة هذه المعاناة، ومنحت للمتحولين الدينيين هامش أكبر للتعبير عن حرياتهم الدينية، وخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي التي تطفح بالحسابات الشخصية والأسماء المستعارة والصفحات الخاصة بالمتحولين الدينين واللادينين والملاحدة.

لقد قام الديالمي برصد وتحليل مضمون بعض هذه الصفحات في دراسته "سوسيولوجيا الإلحاد في العالم العربي"[4]. واعتبر أن الفضاء الافتراضي يتيح للمتحولين الدينيين التعبير عن وجودهم داخل المجتمع، كما يعزز شعورهم بالانتماء إلى مجموعات، فضلا عن توظيف هذا الفضاء كآلية لاستقطاب فاعلين جدد، وهو ما يسمى بـ "رقمنة الدين". للإشارة، فعلماء الاجتماع يميزون "بين الدين في الرقمي Religion Online، وبين الدين الرقمي Online Religion، حيث تحيل العبارة الأولى على مجمل المعلومات الحاضرة في الرقمي عن الدين، بينما تحيل الثانية على التجارب والممارسات الدينية التي تتم بطريقة رقمية"[5].

وقد خلص الديالمي إلى أن الدوافع المتحكمة في ظاهرة التحول الديني بالمغرب، تتعدد بتعدد أشكال المتحولين دينيا. فالتحول من الإسلام إلى المسيحية تتحكم فيه دوافع مادية مصلحية، وروحية، ومتعوية[6]. وبخلاف ذلك، نجد أن الدوافع الإيديولوجية والسياسية والثقافية هي المتحكمة في التحول المذهبي[7]؛ لأن "الإسلام المفروض على الفرد من خلال التنشئة الاجتماعية والاستبداد السياسي يؤدي عند البعض إلى رفض الإسلام وعقائده"[8]. من جهة أخرى، نلاحظ في الغالب أن العامل السيكولوجي/الفكري هو المتحكم في الانتقال إلى الإلحاد أو إلى اللادينية، وبالتالي قليلون من يلحد بقناعة فكرية، حيث نجد أن "المغاربة الذين يغيرون دينهم أو مذهبهم، أو يتخلون كلية عن الدين، انطلاقا من سيرورة فكرية أو وجودية ووجدانية حميمية وخاصة، وهي السيرورة التي تحتاج إلى زاد فكري وثقافي متقدم لا توفره السياسات العمومية لأغلبية المواطنين المغاربة"[9].

يتبين لنا، من المعطيات السابقة أن المجتمع المغربي أمام "نواة" للأقليات الدينية الناشئة، وفي المستقبل القريب أو المتوسط على أبعد تقدير، ستصبح واقعا اجتماعيا قائما بذاته. أو بلغة أخرى، إذا كان بإمكاننا، أن ننكر على الأقل في الوقت الراهن مسألة التعدد الديني كواقع اجتماعي، فلن نستطيع نكرانها ربما في المستقبل القريب أو المتوسط؛ لأن مسألة التعدد الديني كصيرورة لا مفر منها، ستفرض نفسها على الجميع، بحكم الدينامية التي يعرفها المجتمع المغربي.

ثانيا: العلاقات الجنسية الرضائية

لاشك، أن المتتبع الرصين للتاريخ الاجتماعي المغربي، يسهل عليه رصد التحولات التي عرفتها الجنسانية قبل الزّوجية بالمغرب؛ فقد كانت تحدد قبل الاستعمار بالمعايير الدينية/ الزنا، وأثناء الاستعمار وبعده أصبحت تحدد بالمعايير القانونية/الفساد، ومنذ بداية الألفية الثالثة أصبحت مطلبا من مطالب الحريات الفردية. وهنا دعا عبد الصمد الديالمي[10] منذ 2007 بصفته مثقفا ملتزما إلى حذف الفصول 489 و490 و491 من القانون الجنائي المغربي[11]، لكونها تجرم العلاقات الجنسية الرضائية. وبعد ذلك، طالبت مجموعة من الهيئات السياسية والمدنية والحقوقية[12] بالتوقف عن تجريم تلك العلاقات، ما دامت تقوم على مبدأ الرضا والتوافق بين شريكين راشدين. وهذا المبدأ هو الذي يضفي على هذه العلاقات، من المنظور الحداثي طابعا أخلاقيا. فالعلاقة الجنسية قبل الزوجية "علاقة أخلاقية بامتياز، وما يؤسس أخلاقيتها هو مبدأ الرضا وليس عقد الزواج"[13].

ويؤكد الديالمي على عدم الخلط بين الإباحة الجنسية والإباحية الجنسية في العلاقات الرضائية[14]. فالأولى تسعى إلى المتعة وإلى تحرير الجنس من ارتباطه الدائم بالأسرة وبالإنجاب، وكذلك إلى تحرير الفرد "من عقدة الذنب التي فرضها عليه الفكر الديني"[15]. بالإضافة إلى ذلك، فالإباحة الجنسية مقيدة بشروط محددة، مثل بلوغ سن الرشد لدى الطرفين وتحقق مبدأ الرضا والتوافق وتحمل المسؤولية الكاملة لنتائج الفعل الجنسي. أما الإباحية الجنسية، فتعني استغلال الجنس لأغراض مادية وتجارية، مثل ما يقع في التتاجر بالبشر وفي العمل الجنسي "الحر" وفي البورنوغرافيا.

ما نحاول التأكيد عليه، استرشادا باجتهادات الديالمي، هو ضرورة التمييز بين الإباحة الجنسية والإباحية الجنسية، باعتباره أحد السبل الكفيلة للبرهنة على أن التعارض بين الحق في الحرية الجنسية قبل الزّوجية والقيم الدينية الإسلامية هو تعارض زائف؛ وذلك خلافاً لما تحاول القوى الاجتماعية المحافظة والنكوصية تغذية الاعتقاد به، دون استحضار سياقات التحريم، وفي تجاهل تام للتحولات القيمية الكبيرة التي يعرفها المجتمع المغربي. لذلك طرح الديالمي السؤال التالى: لماذا حرم الإسلام العلاقات الجنسية الرضائية قبل الزوجية؟

يرى الدكتور الديالمي أن الإسلام حرّم الجنس خارج مؤسسة الزواج أو خارج مؤسسة ملك اليمين حفاظا على ما سماه بالأمن السلالي، والمقصود بذلك "تجنب كل الولادات التي تقع قبل الزواج وخارجه"[16]، حتى يربط كل مولود بأب، فيكون له نسب ويحقق ذلك الأمن السلالي أمنا آخر سماه الديالمي بالأمن الاقتصادي، والذي يكمن في انتقال الميراث للأبناء الشرعيين[17].

لذلك، يرى الديالمي أن تحريم الجنس قبل الزواج كان يلعب دور الواقي من الحمل، ولم يعد يواكب التطورات التي عرفها المجتمع المغربي؛ لأن الإمكانيات الطبية الآن قادرة على تجنيب خطر "اختلاط الأنساب والأموال". بمعنى آخر، من الممكن التحكم في "العملية الجنسية دون خطر وقوع حمل غير إرادي"[18]؛ وذلك باستعمال العازل الطبي، أو موانع حمل أخرى، أو اللجوء للخبرة الطبية (ADN) للتأكد من نسب الطفل. وبالتالي، أصبح من السهل جدا الحفاظ على طهارة النسب. وهكذا، "فحجة التحريم لم تعد قائمة، وبالتالي لا يبقى لتحريم العلاقات الجنسية غير الزّوجية دليلا عقليا. فهل يمكن أن نكتفي اليوم بالدليل النقلي، النصي- الحرفي، رغم تهافت الدليل العقلي الذي كان يمنحه حجية؟"[19].

إضافة إلى هذا، فالمعطيات الميدانية[20] تؤكد حسب الديالمي ارتفاع العلاقات الجنسية الرضائية قبل الزوجية. فالدراسة التي أنجزتها وزارة الصحة في الموضوع سنة 2013 أكدت أن نسبة% 56 من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة لهم علاقات جنسية قبل زوجية غير فرجية، وأن %25 كانت لها ممارسات جنسية كاملة، فضلا عن إحصائيات النيابة العامة التي تابعت 17280 شخصا بتهمة الفساد سنة 2017[21]. ونفس التوجه أكدته نتائج الدراسة الخاصة بالحريات الفردية بالمجتمع المغربي، التي أشرفت عليها مؤسسة منصات للأبحاث والدراسات الاجتماعية، حيث 76.3% من عينة البحث التي بلغ حجمها إلى 1312 مبحوثا موزعين على جميع جهات المملكة، أكدوا أن العلاقات الما- قبل زوجية أصبحت منتشرة في المجتمع المغربي، و60% من عينة البحث أكدوا أنهم على معرفة شخصية بفتى أو فتاة، له أو لها، ممارسات جنسية من هذا النمط، وبخصوص العلاقات الجنسية ما قبل الزوجية كشفت الدراسة أن حوالي 50% من أفراد العينة، اعتبروا القيام بعلاقات جنسية قبل الزواج لدى الفتيان كما الفتيات مسألة حرية شخصية، في حين توزعت باقي النسب على نعت تلك العلاقات بالفساد الأخلاقي، الابتعاد عن التعاليم الدينية، وسوء التربية[22].

يبدو من خلال هذه المعطيات، أن الشباب المغربي غير المتزوج يعاني تأرجحا كبيرا في نظرته إلى جنسانيته، مما يجعله معلقا بين "مرجعيات ثلاث؛ الأولى إسلامية تعتبر الجنسانية قبل الزوجية زنا محرما، والثانية قانونية تعرفها كفساد مجرم، والثالثة حقوقية تعترف بها كحرية فردية وكحق أساسي من حقوق الإنسان"[23].

ثالثا: الإجهاض

يقصد به التوقيف الإرادي للحمل باعتباره حاجة وحق من الحقوق التي يجب أن تتمتع بها المرأة. وبعض الإحصاءات تؤكد أن هناك ما بين 600 و800 حالة إجهاض غير آمن تتم يوميا في المغرب[24]، وحوالي 50 الى 80 ألف حالة إجهاض في السنة[25].

لكن الجدير بالملاحظة هنا "أن قضية الإجهاض في المغرب لا تندرج ضمن قضايا الصحة العمومية، وإنما في خانة القضايا الدينية والأخلاقية"[26]. هذا التصنيف هو الذي جعله "موضوعا للتقاطبات السياسية والأيديولوجية الحادة بين القوى المحافظة والقوى الحداثية"[27]. ولحسم هذا الصراع، "تدخّل الملك، بوصفه أميرا للمؤمنين وليس ملكا دستوريا، لممارسة وظيفته التحكيمية بصدد المطالبة بتقنين الإجهاض سنة 2015"[28]. وعين لذلك، لجنة لمراجعة قانون الإجهاض، والتي اقترحت تقنينه في الحالات الآتية:

  • الحالة الأولى: إن كان الحمل يشكل خطرا على حياة الأم.
  • الحالة الثانية: إن كان الحمل ناتجا عن اغتصاب أو زنا المحارم.
  • الحالة الثالثة: الحمل الذي يتبين فيه أن الجنين يعاني من التشوهات الخلقية والأمراض التي لا شفاء منها؛ بمعنى أن ولادته ستكون عالة على أسرته، وعلى نفسه، وعلى الدولة والمجتمع.

يرى الدكتور خالد شهبار، أن نتائج مراجعة قانون الإجهاض، "عكست إلى حد ما طبيعة موازين القوى بين القوى المحافظة والقوى الحداثية، وظلت بعيدة من تطلعات المرأة، حارمة إياها من امتلاك جسدها ومن حرية التصرف فيه"[29]. ومع ذلك، فالنساء لهن القدرة على اختراق هذه القواعد والضوابط الاجتماعية، ولعل المعطيات الإحصائية السالفة الذكر تؤكد ذلك؛ مما يعنى أن الإجهاض أصبح ظاهرة اجتماعية، وواقعا فعليا يفرض نفسه على الدولة والمجتمع. فالمغاربة يقبلون عليه؛ لأنه أصبح حاجة فردية واجتماعية ماسة إذ يجنب النساء ذوات الأصول الاجتماعية المحافظة والفقيرة، التعرض للعنف الأسري، حيث يُنظر لعذرية/شرف المرأة باعتباره رأسمالا ماديا ورمزيا يعصف فقدانه والتفريط فيه بالتوازن والاستقرار الأسري، كما يجنبهن مختلف أشكال الوصم والتهميش الاجتماعي. وبلغة أخرى، فالإجهاض السري، مهما كانت خطورته على حياة المرأة نظرا للظروف اللاصحية التي تجرى فيها العملية، فإنه في نظر المرأة وسيلة فعالة للحفاظ على كرامتها داخل المجتمع[30]. وفي مقابل ذلك، هناك من المغاربة من يرفض الإجهاض، إما لاعتبارات دينية؛ لأنهم يعتقدون أنه حرام. والحقيقة، يقول الديالمي، أنه ليس كذلك، فالمذاهب الإسلامية الأربعة المعتمدة عند أهل السنة والجماعة، إن كانت تحرم الإجهاض من ناحية المبدأ، فإنها أباحته داخل مدد زمنية محددة. فالمذهب الحنفي يجيز للمرأة أن تجهض إلى حدود الشهر الرابع من الحمل؛ أي إمكانية الإجهاض قبل بلوغ 120 يوما من الحمل. والمذهبان (الشافعي والحنبلي) فقد حددا مدة إجازة الإجهاض في 40 يوما من الحمل. أما المذهب المالكي وحده، هو الذي يحرم الإجهاض منذ لحظة وقوع الحمل. ولذلك يعتبر الديالمي أن الخروج عن المذهب المالكي لا يعني الخروج عن الإسلام، بل مسلك للبحث عن حلول تراعي التحولات العميقة التي عرفها المغرب.

خاتمة

في الختام، نشدد على ملاحظة أساسية مفادها أن الديالمي يدافع بشكل مبدئي على جميع الحقوق والحريات الفردية، وليس فقط على النماذج التي عرضناها في هذه المساهمة. ويؤكد أن التعارض الموجود بين كونية حقوق الإنسان وخصوصية المغرب الثقافية، كما توحي به القراءة الحرفية للنصوص الدينية ذات الصلة ببعض قضايا الحريات الفردية، يمكن تجاوزه عبر تأويل النص "تأويلا جديدا يتلاءم والظروف الجديدة التي يوجد فيها مسلم اليوم"[31]. وهذا ما أكدته أيضا العديد من الاسهامات لمفكرين متنورين تميزوا أيضا بالقدرة والجرأة على مساءلة التراث مساءلة عقلانية تقوم على غربلة نصوصه وقراءتها في سياقاتها التاريخية والاجتماعية. فانتصار هؤلاء المثقفين لهذه القراءة التاريخية التي تستحضر روح النصوص يعكس وعيهم الحارق بضرورة مواكبة التحولات العميقة التي عرفها المجتمع المغربي في العقود الأخيرة، والمتمثلة في: ارتفاع المستوى الدراسي، تأخر سن الزواج، الرغبة في تحقيق الاستقلالية المادية، والانفتاح على الثقافات الأخرى عبر الآليات التكنولوجية الجديدة، وحرية التصرف في الجسد... إلخ.

وهي تحولات مهمة ساهمت في انبثاق ثقافة الحريات الفردية التي أصبحت مطالب اجتماعية آنية تسعى القوى الحداثية إلى إقرارها دستوريا، والاعتراف بها قانونيا؛ وذلك حتى لا يظل القانون متخلفا عن الواقع المعيش، خاصة وأن التشريعات القانونية ليست بالضرورة أداة لتغيير المجتمعات على الأقل في المدى القريب، وإنما هي بالأساس، "انعكاس لما يعتمل داخل هذه المجتمعات من تحولات ناضجة لا تنتظر إلا تكريسا لها على المستوى القانوني والتشريعي"[32]. في المقابل، لا يعني هذا اقتصارا على المقاربة القانونية لمحاولة ردم الهوة العميقة بين الواقع والقانون، بل إن الأمر يستدعي التسلح برؤية شمولية من أهم مداخلها:

- المقاربة المعرفية، التي من شأنها أن تكشف عن جذور خطاب التيارات النكوصية التي تعارض هذه الحريات، بقراءات وتأويلات مذهبية للنصوص الدينية خارج سياقاتها التاريخية والاجتماعية، وتكشف بالدليل العقلي والمنطقي ضعف وزيف حجيتها، وتوضح الآليات الأيديولوجية التي تعتمدها في استنباط الأحكام الشرعية من النصوص الدينية.

- المقاربة التربوية بالنظر إلى وظيفتها المحورية في صنع المواطن الذي يعتبر المواطنة أسمى من كل انتماء ديني أو مذهبي أو عرقي... إذ يجب تربية الطفل منذ نعومة أظافره على قيم وثقافة حقوق الإنسان، حتى يتيسر استبطانها من طرفهم عبر مراحل مسارهم التعليمي الموازي لسيرورة تنشئتهم الاجتماعية. ولا يمكن أن يتم ذلك إلا إذا تمت تعبئة كل الموارد البشرية والمؤسسات الاجتماعية التي تسند إليها وظيفة التربية، وخصوصا المدرسة، التي من المفترض "أن تكون مكانا للقطيعة مع وسط النشأة والانفتاح على التقدم بواسطة المعرفة والمشاركة في مجتمع قائم على مبادئ عقلية".[33]

كل ذلك من شأنه أن يصنع جيلاً صالحا متشبثا بقيم المواطنة، وبالتعدد الثقافي والديني، أو بلغة أخرى، إنه ذلك الجيل المؤمن بالقيم الإنسانية الكونية، والمستبطن لأهميتها في إنتاج قواعد العيش المشترك، والذي يسعى إلى تفعيلها وترجمتها في تصوراته وممارساته وتفاعلاته بمحيطه الاجتماعي، وبشكل خاص أثناء احتكاكه بالثقافات الأخرى.

 

الهوامش:

1- بالعربية

  • الديالمي عبدالصمد، المرأة والجنس في المغرب، دار النشر المغربية- الدار البيضاء، 1985
  • الديالمي عبدالصمد، نحو ديمقراطية جنسانية اسلامية، أنفو- برينت- فاس، 2000
  • الديالمي عبدالصمد، المدينة الاسلامية والأصولية والارهاب: مقاربة جنسانية، رابطة العقلانيين العرب/دار الساقي- بيروت، 2008
  • الديالمي عبدالصمد، سوسيولوجيا الجنسيانية العربية، دار الطليعة- بيروت، 2009
  • الديالمي عبدالصمد، المعرفة والجنس: من الحداثة إلى التراث، مطبعة النجاح الجديدة- الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 2010
  • الديالمي عبد الصمد، الانتقال الجنسي في المغرب: نحو الحق في الجنس، في النسب، وفي الإجهاض، دار الأمن- الرباط، 2015
  • تورين ألان، نقد الحداثة، ترجمة أنوار مغيت، المشروع القومي للترجمة، 1997

المجلات

  • الدحاني محمد، خطاب حقوق الإنسان بين الكونية والخصوصية الثقافية: الحريات الفردية أنموذجاً، مجلة قيم، العدد2، 2020، ص225- 240
  • المليتي عماد، التحولات الاجتماعية والحريات الفردية لدى الشباب في تونس: أي علاقة؟ مجلة عمران، العدد32، 2020
  • شهبار خالد، مفارقات المشهد الديني المغربي: الملامح والمآلات، مجلة إضافات، العدد المزدوج 47- 48، صيف- خريف 2019

المواقع الإلكترونية

  • عبد الصمد الديالمي، سوسيولوجيا الإلحاد في العالم العربي، موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، نظر الرابط التالي: https://www.mominoun.com/articles (شوهد يوم 23/07/2016).
  • عبد الصمد الديالمي، الإسلام الرقمي، مصدرتيه أخلاقي، موقع مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، انظر الرابط التالي: https://www.mominoun.com/articles (شوهد يوم 29/02/2020).
  • عبد الصمد الديالمي، الحريات الدينية في المغرب، موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، أنظر الرابط التالي: https://www.mominoun.com/articles. (شوهد يوم29/02/2020).
  • عبد الصمد الديالمي، الجنسانية قبل الزّوجية: من الزنا إلى الفساد إلى الحرية الفردية، موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، انظر الرابط التالي: https://www.mominoun.com/articles (شوهد يوم 29/02/2020).
  • عبد الصمد الديالمي، نظرية الانتقال الجنسي، موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، انظر الرابط التالي: https://www.mominoun.com/articles (شوهد يوم 06/05/2020).

2- الأجنبية

  • Association marocaine de lutte contre l’avortement clandestin , Voir la résultat d’enquête sur cite suivante: http://amlac.org.ma/(voir 05/04/2021).
  • Dialmy Abdessamad, Jeunesse, Sida et Islam, Casablanca, Eddif, 2000 
  • Dialmy Abdessamad, Logement, sexualité et islam, édition ,Eddif-casablanca, 1995
  • Dialmy Abdessamad, Ville sexualité et islamisme, édition, Onze, 2018
  • Dialmy Abdessamad, Transition sexuelle: Entre genre et islamisme, L’Harmattan, 2017
  • Dialmy Abdessamad,et L. Manhart , Les malades sexuellement transmissibles au Maroc, Ministère de la santé/Université de Washington/USAID, Rabat, Presses de Tamara, 1997
  • Dialmy Abdessamad, La prise en charge éducative des patients MST dans la santé publique(Union Européenne, 1997)
  • orld Health Organization, «Unsafe abortion, Global and regional estimates of the incidence of unsafe abortion and associated mortalit», Sixth edition,2008, p.1.
  • S. Naamane Guessous, Au-delà de toute pudeur: la sexualité féminine au Maroc, Casablanca, éditions, Eddif, 1987
  • Selon une enquête de l’Association marocaine de planification familiale (AMPF) publiée en 2016, Voir la résultat d’enquête sur cite suivante: http://amlac.org.ma/publications/ (voir 05/04/2021).

*- طالب بسلك دكتوراه، مختبر الإنسان والمجتمعات والقيم، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية- بالقنيطرة- المغرب.

البريد الإلكتروني : mdahani93@gmail.com

[1]- انظر مثلا:

- عبدالصمد الديالمي، المعرفة والجنس: من الحداثة إلى التراث، مطبعة النجاح الجديدة- الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 2010

- عبدالصمد الديالمي، نحو ديمقراطية جنسانية اسلامية، أنفو- برينت- فاس، 2000

- عبدالصمد الديالمي، المدينة الاسلامية والأصولية والإرهاب: مقاربة جنسانية، رابطة العقلانيين العرب/دار الساقي- بيروت، 2008

[2]- انظر مثلا:

- عبدالصمد الديالمي، المرأة والجنس في المغرب، دار النشر المغربية- الدار البيضاء، 1985

- Abdessamad Dialmy, Jeunesse, Sida et Islam, Casablanca, Eddif, 2000 

- Abdessamad Dialmy, Logement, sexualité et islam, édition, Eddif-casablanca, 1995

- Abdessamad Dialmy, Ville sexualité et islamisme, édition, Onze, 2018

- Abdessamad Dialmy, Transition sexuelle : Entre genre et islamisme, L’Harmattan, 2017

[3]- سنحاول في هذه الورقة تعميق النقاش حول هذه النماذج التي سبق وأشرنا اليها بشكل مقتضب في المحور الأخير من دراستنا:

- محمد الدحاني، خطاب حقوق الإنسان بين الكونية والخصوصية الثقافية: الحريات الفردية أنموذجاً، مجلة قيم، العدد2، 2020، ص225- 240

[4]- عبد الصمد الديالمي، سوسيولوجيا الإلحاد في العالم العربي، موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، انظر الرابط التالي: https://www.mominoun.com/articles شوهد يوم (23/07/2016).

[5]- عبد الصمد الديالمي، الإسلام الرقمي، مصدرتيه أخلاقي، موقع مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، انظر الرابط التالي: https://www.mominoun.com/articles (شوهد يوم 29/02/2020).

[6]- عبد الصمد الديالمي، الحريات الدينية في المغرب، موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، انظر الرابط التالي: https://www.mominoun.com/articles. (شوهد يوم29/02/2020).

[7]- المرجع نفسه.

[8]- عبد الصمد الديالمي، سوسيولوجيا الإلحاد في العالم العربي، مرجع سبق ذكره.

[9]- المرجع السابق.

[10]- عبد الصمد الديالمي، الجنسانية قبل الزّوجية: من الزنا إلى الفساد إلى الحرية الفردية، موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، انظر الرابط التالي: https://www.mominoun.com/articles (شوهد يوم 29/02/2020).

[11]- نشير إلى أن هذه الفصول، لا زالت سارية المفعول إلى حدود كتابة هذه المساهمة.

[12]- طالبت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وجمعية عدالة، سنة 2010 بالتوقف عن تجريم العلاقات الرضائية القبل الزوجية. وردت هذه المعلومة في مقال عبد الصمد الديالمي (الجنسانية قبل الزّوجية..)، مرجع سبق ذكره.

[13]- عبد الصمد الديالمي، الانتقال الجنسي في المغرب: نحو الحق في الجنس، في النسب، وفي الإجهاض، دار الأمن- الرباط، 2015. ص136

[14]- عبدالصمد الديالمي، سوسيولوجيا الجنسانية العربية، دار الطليعة- بيروت، 2009، ص154

[15]- ألان تورين، نقد الحداثة، ترجمة أنوار مغيت، المشروع القومي للترجمة، 1997، ص 246

[16]- عبد الصمد الديالمي، نظرية الانتقال الجنسي، موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، انظر الرابط التالي: https://www.mominoun.com/articles (شوهد يوم 06/05/2020).

[17]- عبد الصمد الديالمي، الانتقال الجنسي في المغرب..مرجع سبق ذكره، ص 135

[18]- المرجع السابق، ص135

[19]- نفسه، ص135

[20]- من هذه الدراسات الميدانية أنظر على سبيل المثال:

- Abdessamad Dialmy et L. Manhart , Les malades sexuellement transmissibles au Maroc, Ministère de la santé/Université de Washington/USAID, Rabat, Presses de Tamara, 1997

- Abdessamad Dialmy, La prise en charge éducative des patients MST dans la santé publique (Union Européenne, 1997).

- S. Naamane Guessous, Au-delà de toute pudeur : la sexualité féminine au Maroc, Casablanca, éditions, Eddif, 1987, p14

[21]- هذه المعطيات وغيرها وردت في مقالة (نظرية الانتقال الجنسي) لعبد الصمد الديالمي، المشار إليها سابقا.

[22]- النتائج الأولية للدراسة الخاص بالحريات الفردية بالمجتمع المغربي، التي أشرفت عليها مؤسسة منصات للأبحاث والدراسات الاجتماعية، وتم نشر هذه المعطيات في تقرير خاص على موقع أحداث أنفو، انظر الرابط التالي: https://ahdath.info/679464 (شوهد يوم 6 غشت 2021).

[23]- عبد الصمد الديالمي الجنسانية قبل الزّوجية: من الزنا إلى الفساد إلى الحرية الفردية، مرجع سبق ذكره.

[24]- Association marocaine de lutte contre l’avortement clandestin , Voir la résultat d’enquête sur cite suivante : http://amlac.org.ma/(voir 05/04/2021).

[25]- Selon une enquête de l’Association marocaine de planification familiale (AMPF) publiée en 2016, Voir la résultat d’enquête sur cite suivante : http://amlac.org.ma/publications/ (voir 05/04/2021).

[26]- خالد شهبار، مفارقات المشهد الديني المغربي: الملامح والمآلات، مجلة إضافات، العدد المزدوج 47- 48، صيف- خريف 2019، ص159

[27]- المرجع السابق، ص159

[28]- نفسه، ص158

[29]- نفسه، ص159

[30]- أكدت نتائج التحقيقات للمنظمة العالمية للصحة سنة 2008، أن حوالي 47000 امرأة توفيت خلال عملية إجهاض غير آمنة. وتؤكد المنظمة ذاتها أنه رغم هذا العدد الكبير من الوفيات في صفوف المجهضات، إلا أنه يظل منخفضا مقارنة بالسنوات السابقة، حيث سجلت المنظمة وفاة 56000 امرأة سنة 2003، و69000 سنة 1990. للمزيد من التفصيل حول هذه المعطيات انظر:

- orld Health Organization, «Unsafe abortion, Global and regional estimates of the incidence of unsafe abortion and associated mortalit», Sixth edition,2008, p.1

[31]- عبد الصمد الديالمي، نظرية الانتقال الجنسي، مرجع سبق ذكره.

[32]- عماد المليتي، التحولات الاجتماعية والحريات الفردية لدى الشباب في تونس: أي علاقة؟ مجلة عمران، العدد32، 2020، ص28

[33]- ألان تورين، نقد الحداثة، مرجع سبق ذكره، ص33