هل تهدد الشبكات الاجتماعية الحريات الفردية؟


فئة :  مقالات

هل تهدد الشبكات الاجتماعية الحريات الفردية؟

-1-

تنهل الشبكات الاجتماعية، في بنائها وهندستها وتنظيمها، من مبادئ الشبكات الاجتماعية نفسها التي نلاحظها في العالم الواقعي، أعني شبكات العلاقات والتداخلات التي تتم بين الأفراد والجماعات على أرض الواقع. بيد أنّ الأولى، وعلى النقيض من الثانية، تستخدم، لتأثيث ذات العلاقات، الموارد التقليدية لشبكة الإنترنيت، لا سيما خدمات المراسلات ومنتديات النقاش والحوار، التي تمتاز بالسرعة والتفاعلية ورجع الصدى الفوري، والذي لا نجده دائمًا في العالم الواقعي، المادي والمعيش.

وبصرف النظر عن المعلومات الحساسة المتعلقة بمعتقد المنتمي للشبكات الاجتماعية (الافتراضية أقصد)، أو بانتمائه السياسي أو بمواقفه وميولاته، فإنّ عصب ولوج هذه الشبكات إنّما يتمثل في "مفكرة العناوين" التي يدلي بها لهذه الشبكة أو تلك، ليضمن التسجيل ويمنح حق الاتصال والتواصل مع باقي المنتمين.

وبهذه الطريقة، تنجح هذه الشبكات في تكوين قواعد هائلة من المعطيات والبيانات والمعلومات، حول الأشخاص المرتادين لها، ومن ثمة تنجح في تكوين قاعدة ضخمة حول مواصفاتهم وحول كل ما يتعلق بطبائعهم وميولاتهم ونزعاتهم واهتماماتهم وهكذا.

وإذا كانت الشبكات الاجتماعية (شبكات الويب الثاني تحديدًا) قد منحت المنتمين إليها فرصًا هائلة في الاتصال والتواصل، آنية، تفاعلية وغير مقيدة بشروط صارمة (فما بالك أن تكون رادعة)، فإنّها أثارت ولا تزال تثير جدلاً حقيقيًّا، بخصوص مآلات المعطيات المجمعة، والبيانات المخزنة، والمعلومات المكتنزة ببنوك معطيات القائمين على هذه الشبكات، أفرادًا كانوا أو مؤسسات.

والقصد الملمح إليه هنا، لا يحيل فقط على احتمالية استخدام هذه المعطيات والبيانات والمعلومات لأغراض محددة، دون استشارة المنتمي لهذه الشبكة أو تلك بخصوصها، بل يحيل أيضًا على المخاطر التي قد يجرها هذا الاستخدام على مستوى حقوق الأفراد وحرياتهم، في الزمن كما في المكان.

-2-

ليس مهمًّا هنا الوقوف عند الامتيازات التي تقدمها الشبكات الاجتماعية. إذ الحضور بالإنترنيت هو في حد ذاته، دليل حضور حقيقي، فما بالك لو كان الحضور ذاته بشبكات اجتماعية تضم عشرات، ولربما مئات الملايين من المرتادين. إنّها شبكات مفتوحة، غير ممركزة وتشتغل في فضاء هو أقرب إلى البيئة منه إلى البنية، حيث التراتبية والعلاقات المقننة والهرميات الثابتة.

إنّ الأهم هنا، فيما نتصور، وبتجاوز المعطى أعلاه، إنّما التوقف عند المخاطر الكبرى، التي قد تطال الفرد المنتمي لهذه الشبكات أو المبحر في محيطاتها، فتستصدر من بين يديه حقوقاً وحريات هي من صميم هويته ومواطنته.

وعلى هذا الأساس، يبدو لنا أنّ المخاطر لا تعدم حقًّا، لا سيما في ظل شبكات كونية، عابرة للحدود، ولا تعير كبير اعتبار للقوانين والتشريعات واللوائح التي قد يدفع بها هذا البلد أو ذاك:

+ أول خطر متأت من ولوج هذه الشبكات واستعمالها، يكمن في القرصنة التي قد تتعرض لها هويات المنتمين للشبكة. إذ بإمكان المرء أن ينشئ حسابًا لفائدته بمواصفات شخص آخر، شريطة أن يتوفر على صورة له وعلى بعض المعطيات المتعلقة به (سن أو مهنة أو ما سواهما)، فيغدو الأمر هنا كما لو أنّ الثاني هو الأول، والأول هو الثاني، ماداما يحملان المواصفات نفسها.

قد لا تنحصر المسألة عند هذا الحد، بل قد تتعداه بكثير، خصوصًا عندما يعمد الشخص المنتحل للصفة، إلى التعامل مع باقي المرتادين كما لو أنّه هو حقًّا وحقيقة الشخص الأول. وللمرء هنا أن يتصور تبعات هذا السلوك وآثاره، لا سيما لو كانت التشريعات "الوطنية" أو الدولية غير قادرة على وضع متاريس (قانونية وتقنية وغيرها) للحد من هذه الظاهرة.

+ ثاني خطر كامن خلف توظيف هذه الشبكات، يتمثل في تعرض معطيات المبحرين للقرصنة المباشرة أو غير المباشرة، من خلال النسخ أو التحريف أو المسح أو البيع أو ما سوى ذلك.

هو خطر قائم، وفي جزء كبير منه مؤكد، إذ بمجرد حصول شخص ما على معلومات تخص شخصًا أو أشخاصًا آخرين، فإنّ استخدامها بطريقة مبيتة وارد، إما بجهة إبلاغ الأذى بسمعة صاحب المعلومات، أو تقديمها بمقابل، إلى الشركات والمعلنين ومؤسسات الإعلام، كما في حال المؤسسات المتوفرة على بنوك القواعد المعلوماتية المهيكلة.

لا يقف هذا الخطر عند هذه النقطة، بل قد يصل، في ظل النظم الاستبدادية، إلى توظيف المعلومات المتوفرة بالشبكات الاجتماعية، ومتابعة هذا الشخص أو ذاك، ثم مواجهته بالبيانات التي يكون هو نفسه قد عمد إلى نشرها في حسابه، أو تم توزيعها وتداولها بين باقي المرتادين. إنّه في هذه الحالة، سيكون بإزاء وضعية إدانة ذاتية بمرتبة الاعتراف أو التلبس.

+ أما ثالث خطر فيكمن، بامتداد للخطر السابق، في لجوء العديد من القائمين على الشبكات الاجتماعية (فايسبوك، تويتر، لينكد إن، ماي سبايس، بادو...الخ) إلى بيع المعطيات الخاصة بمرتاديهم، لا سيما وأنّ شروط الولوج واستعمال هذه الشبكات تصاغ من لدن القائمين إياهم، وليس ثمة ما يمنع هؤلاء من أن يضعوها رهن هذه الشركة أو تلك، هذه المصلحة الاستخباراتية أو تلك، وهكذا.

ولما كان الأمر كذلك، فليس من المستغرب حقًّا، أن تبني الشركات الكبرى، سياساتها التجارية والإعلانية على أساس معطيات توفر لها زبائن محتملين، بناء على مواصفات دقيقة ومفصلة.

فلو تسنى لوكالة أسفار مثلاً، أن تحتكم إلى بيانات مدققة حول تفاصيل مشروع عطلة هذا المرتاد للشبكة أو ذاك، فسيكون بمستطاعها موافاته (وهي المتوفرة على كل عناوينه البريدية، المادي منها كما الافتراضي) باختيارات في السفر والإقامة، تتوافق مع متطلباته دخله ومستواه. بالطريقة ذاتها، سيكون بإمكان شركات الطيران والفنادق والمنتجعات السياحية والمطاعم وغيرها، موافاته بعروض مغرية تسهل استقطابه، ومن ثمة دفعه إلى القبول ببعضها أو بها مجتمعة.

+ رابع مكمن خطر يأتي من التطبيقات التي تخضع لها الشبكات الاجتماعية في أفق بناء منظومة للرقابة عن بعد[1] من خلال الترابطات القوية والكثيفة بين الهواتف الذكية والحواسيب والأقمار الصناعية العابرة للحدود.

إنّ تقنيات "تعقب أثر" الأفراد في حلهم وترحالهم، وترصد أمكنة وجودهم الجغرافية والمادية، قد بات من الخطورة إلى درجة دفعت العديد إلى المطالبة بضمان "الحق في فك الارتباط بالشبكة" عندما يريدون[2].

صحيح أنّ هذه التطبيقات قد أسهمت في تسهيل تحديد أماكن وجود الأفراد بعضهم بعضًا، لا سيما بالمدن الكبرى، حيث بات بالإمكان توظيف هاتف ذكي عادي لبلوغ أماكن سكناهم أو عملهم. لكن الامتياز ذاته لا يمكن مقارنته بالمخاطر التي تترتب على مسألة "تعقب الأثر"، إذ يبدو الأمر هنا وكأنّ الكل بات يراقب الكل لفائدة الكل.

+ خامس عنصر خطر لهذه الشبكات، ويحيل على ما بات يسمى منذ مدة بـ"الحق في النسيان"[3]، أي عدم إبقاء معلومات مضرة بهذا الشخص أو ذاك، ضمن قاعدة معطيات معينة، وعدم الإقدام على محوها بحكم التقادم.

قد تكون الصعوبة هنا متأتية من اختلاف النظم القانونية المطبقة في هذا الباب، لا سيما وأنّ كل مفاتيح الإنترنيت بيد الأمريكان. وقد يكون راجعًا، في حال تم تجاوز الإكراه القانوني، إلى أنّ تطورات أدوات استرجاع المعلومات قد تعيد استخراج هذه الأخيرة، حتى وإن كان قد سبق أن تم محوها أو تدميرها.

-3-

هي كلها مخاطر مرتبطة بالشبكة، شبكة الإنترنيت، ومرتبطة تحديدًا بالولوج إلى المواقع الاجتماعية، حيث تستوجب شروط النفاذ تقديم عدد محدد من المعلومات الشخصية والذاتية. وهو ما دفع أمبرطو إيكو إلى القول بأنّ الذين يتوفرون حقًّا على السلطة اليوم، هم أولئك الذين لا يتوفرون على هاتف نقال، ولا يمكن الوصول إليهم بالأدوات التقنية.

بيد أنّ العديد من البحوث والدراسات، تبين أنّه بمقدور المرء ألا يكون ضحية "مؤكدة" لهذه المخاطر، لكن شريطة، تقول الدراسات والبحوث إياها، أن يلتزم ببعض المحاذير:

+ أولا: أن يتساءل عن الغاية من الوجود والحضور بالشبكات الاجتماعية، وعن الفائدة المنشودة من ذلك. الصورة المراد ترويجها بالشبكات إياها، يجب أن تتماهى مع الغاية ذاتها والفائدة عينها، عندما يتم تحديدهما بدقة.

+ ثانيًا: أن يتم التدقيق في اختيار "الأصدقاء"، وعدم الانجرار خلف "طلبات الانضمام" المعبر عنها من لدن أشخاص مجهولين. يستطيع المرء، بهذه الصيغة، تكوين مجموعة معروفة، لا نزوع لدى عناصرها لاستخدام معلومات الآخرين لإلحاق الضرر بهم بهذا الشكل أو ذاك.

+ ثالثًا: العمل على إنشاء حسابين مختلفين: الأول شخصي صرف والثاني مهني، مع العمل على ألا تتداخل معلوماتهما. بالتالي، فإنّ المفروض هنا إنّما العمل على مراقبة الفرد لهويته الرقمية وللمضامين التي يروجها، لا سيما على مستوى التحيين.

هي وسائل احترازية دون شك، لكنها متضمنة لبعض عناصر الحيطة والحذر، إذ على الرغم من ركوب ناصيتها، فإنّه من المتعذر حقًّا الحؤول دون وصول هذا المخترق أو ذاك لحسابات الأفراد المرتادين للشبكات الاجتماعية.

بالتالي، فبقدر ما دفعت هذه الشبكات بمبادئ حرية التفكير والتعبير والاتصال والتواصل، فإنّها في الآن معًا، قد طرحت إشكالية حماية المعطيات الخاصة للأفراد، وضمان سرية المعلومات المرتبطة بهم، وتحول هذه الشبكات إلى وسيلة لمراقبة الأفراد في حلهم وترحالهم، أو تقديم مواصفاتهم للشركات والمعلنين ووسائل الإعلام.

إنّها مسألة لا تحيل فقط على الجانب القانوني والتشريعي الذي من المفروض أن يصوغ اللوائح التي تضمن حرية هؤلاء، بل وتحيل أيضًا على تحديد قواعد اللعب في هذه البيئة الجديدة (البيئة المعلوماتية)، التي لا يعتد مرتادوها كثيرًا بالقوانين المادية، أعني المنظمة لنشاط البنية وليس لنشاط البيئة.


[1] Géo localisation

[2] Droit à la déconnexion

[3] Droit à l’oubli