الحميمي والإقصائي والمقزز والمقدس في خطاب الجدران:


فئة :  مقالات

الحميمي والإقصائي والمقزز والمقدس في خطاب الجدران:

الحميمي والإقصائي والمقزز والمقدس في خطاب الجدران:

دراسة أنثروبوفنية

مصطفى البحري

المصدر: العمل الميداني

مقدمة:

يشكك بعض المؤلفين في الفاعلية الرمزية للممارسة الثقافية العفوية، ويعتبرونها تهديدا للأنماط السلوكية المتوافقة وتحيزا للممارسات الفردية الشاذة، وهو ما يسهم في زعزعة تلاؤمية اشتغال النسق الاجتماعي، حيث التمرد على السائد ونفي الاطراد والتواتر في الظواهر الإنسانية.

والواقع أن الممارسات الثقافية الجديدة كسبت حظوتها الاجتماعية من خلال انحرافها على مشروطية ونمطية النسق الاجتماعي، وأصلت منصبا جوهريا في الفكر الإنساني، ومن هذه التحيزات الثقافية نذكر التعبيرات الثقافية الجديدة التي فرضت نفسها في الفضاء العمومي، واكتسبت مشروعية ومقبولية من خلال إفلاتها من النفوذ الاجتماعي وتوليفاته المتناسقة، ومن خلال رهانها على المفزع والمثير في التجربة الإنسانية، فكأننا امام تحول جديد في المشهدية والمسلكية والمقصدية على نحو ينحني فيه الفعل الانساني لمقولات الحس المشترك والانغماس في عالم الذات الروحي والشعوري، حيث الانسياق نحو المتعة واللذة. ومن هنا انخرط الخطاب الفني، بوصفه خطابا ثقافيا، في هذه "الإيتيقا التواصلية الجديدة" مؤسسا حركة أنثروبولوجية قائمة على الاندفاع التعبيري والتلقائية، حيث هيمنة الممارسات الفنية الصادمة والمثيرة والاستفزازية على المنتوج الإبداعي العلمي الدقيق.

وفي هذا الإطار، سوف نسلط الضوء على الممارسة القرافيتية بوصفها تعبيرا اندفاعيا متحررا من قيود الإبداعي والمعرفي، وباعتبارها أيضا فعلا فنيا فرض نفسه في الفضاء العمومي ممارسة وتمثلا. لذلك، سنعمد إلى قراءة هذا الخطاب البصري التلقائي، وسنشتغل على هذه الحالة الثقافية في أبعادها الأربعة: الأنثروبولوجية، النفسية، الجمالية، والسوسيولوجية.......

والأسئلة المركزية التي توجه تحليلنا هي:

ماهي الدلالات الأنثروبولوجية والسوسيولوجية والجمالية للتعبيرات الاندفاعية؟ وكيف يمكن أن يتحول الفن الساذج والفطري إلى فعل ثقافي يكشف كآبة الواقع الاجتماعي، ويعبّر عن انفجار تعبيري؟ والأهم، كيف تأجج فائض المعنى في خطاب الجدران وحقق حصيلة رمزية وفاعليه إنسانية ناجعة؟

I- في دلالة المفاهيم:

لا شك أنّ أي موضوع يستدعي الدراسة العلمية يقتضي مفاهيما نظرية تتعلق بالمبادئ الأنثروبولوجية ذات العلاقة بالممارسة الإبداعية قصد توفير أرضية إبستومولوجية ومفاهيمية، ليصبح فهمنا للموضوع أكثر وضوحا وموضوعية خاصة وأن المفهوم في الأنثروبولوجيا يتصل بالسياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية وبتشابك مع المفاهيم الفلسفية والسوسيولوجية.

1- التفكير في الفن أنثروبولوجيا:

إنّ مقاربة الفن أنثروبولوجيا مسألة لا تخلو من صعوبة، خاصة عندما يتعلق الأمر بمعاينة التعبير الفني الاندفاعي ودراسة تمثل الآخر له. لذلك سوف نحاول إدراك فاعليته وقيمته الإنسانية بغية الوصول إلى تعريف واضح في علاقة بحقل الإناسة. فالتعبير الفني التلقائي المنتشر في المدينة يخضع لعدة قراءات ويحمل مضامين ودلالات متعددة، حيث إنه لم يعد حكرا على مجتمعات معينة أو فئات اجتماعية خاصة، بل أصبح ظاهرة إنسانية وطباعا ثقافيا جديدا اجتاح "مجتمع الساحة" من خلال الانتقال به من الأداء الذاتي إلى الوعي بالآخر والاعتراف به، فهذا التعبير الفطري، سواء كان ممارسة أو تمثلا يدفعنا للتفكير والصدمة، ويعبّر عن حالة ذهنية مخصوصة، ويحمل رموزا ودلالات ومعاني وجب الانتباه إليها وإخضاعها للتحليل الأنثروبولوجي وفهم خلفيات توظيفها.

فالممارسة الفنية الاندفاعية هي بالأساس ممارسة ثقافية تنبع من التجربة الإنسانية الخصبة وتكشف عن عمق التنوع الثقافي، كما تعكس وجود حركية اجتماعية على مستوى العلاقات وعلى مستوى التحولات في البنى الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. فإذا كانت الفلسفة تعتبر الفن، في مختلف تعبيراته، ما هو إلا حالة فكرية تُعبّر عن انتماء الإنسان للعالم، فإن الأنثروبولوجيا تعتبره رأسمال خاص بكل مجموعة بشرية؛ بمعنى أن لكل مجتمع ثقافته الفنية المخصوصة والمتنوعة والمشتركة.

إزاء هذه الأهمية الاجتماعية والثقافية للفن، حاول كثير من المؤلفين، ومازالوا يحاولون، الوصول إلى تعريف أو تحديد لمفهوم الفن، وهو أمر ليس باليسير. فالفن أنثروبولوجيا هو نشاط ثقافي يمنح الإنسان بعض الرضا والاسترخاء، ويشبع حاجاته الروحية والاجتماعية[1]؛ معنى ذلك أنّ الممارسة الفنية في علاقة مباشرة بالمعاني الجماعية، حيث التعبير المشترك والجمعي الحامل للقيم والمعبر عن الثقافة المجتمعية التي توجه الأفراد في أفعالهم وأنشطتهم[2]. ومن هذا المنظور، يمكن اعتبار الأعمال الفنيّة مجهودا فكريا لا يحمل بالضرورة شحنة إستطيقيّة فقط، فيغدو في جوهره حاملا لرؤيا وعلاقة تواصليّة وتفاعليّة قائمة على التفسير والتأويل واتخاذ مواقف معيّنة؛ فالممارسة الفنيّة حسب دفيد أنجليز وجون هنجستون تأتي دائما كاستجابة لضرورات ظرفية اجتماعية محددة؛ بمعنى أنّ الشروط والظروف التاريخية تسهم في ظهور منتجات فنية بعينها في مجتمعات بعينها. وعليه، فإن الدارسات الاجتماعية للحقل الفني تُزودنا برؤى جديدة محفّزة لأنماط عيشنا، كما أنّ دلالات هذه الرؤى تتجاوز كثيرا حدود ذلك العالم المعين الذي تقع فيه هذه الفنون، لتكشف لنا جوانب أخرى في الفضاء الاجتماعي كالسياسة مثلا[3].

أما الدراسات السوسيولوجية، فقد أثبتت أن "الخيارات الجمالية ليست مجرد خيارات شخصية، بل تقوم على الانتماء الاجتماعي؛ لأنها محكومة أساسا بنزعة التفاخر والسعي وراء سلوك متميز اجتماعيا[4]فتقييم العمل الفنيّ يرتبط بمكانة الفرد في المجتمع؛ "لأن القيمة الفنيّة لا تُقتصر في أعين المشاهدين، بل في الخصائص الاجتماعيّة لأنماط الجمهور المختلفة[5]". هذا التصور يُحيلنا إلى إسهامات "بيار بورديو" الذي ربط الممارسة الفنيّة بما سماه الحقل الاجتماعي الذي يكون في العادة محكوما بالبنية وبمدى امتلاك الأفراد للرّساميل الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافية والرمزيّة؛ فالفاعلون الاجتماعيّون يمارسون ويتمثّلون الفعل الفنيّ في فضاء غير متساو وصراعي، ونقصد هنا أن العلاقة بين مختلف طبقات المجتمع قائمة على صراع المعنى والرمز، فالطبقات الخاضعة تُعيد، عبر ممارساتها اليوميّة في الفضاء الاجتماعي، إنتاج واقع الهيمنة الذي فرضته الطبقات المسيطرة، ومن هنا فهي تخضع لقيم وأذواق هذه الأخيرة وتحكم بذلك على نفسها بأن تبقى تابعة لها.

ما يهمنا أن هذه الجماليات المعاصرة سكنت قلب العمومي، وتسربت مضامينها إلى ذهن المتلقي، بالرغم من قبح جمالها أحيانا. "فجمال العمل الفنّي لا يكمن - كما أشار قومبريتش Gombrich - في جمال موضوعه، بل في جمال أسلوب التعبير عن هذا الموضوع[6]". فـ "الجميل ليس له علاقة بالفنّ[7]" كما يقول الشاعر الإيطالي مارينيتي Marinetti، حيث يمكن أن نشاهد أعمالا فنية رائعة، بالرغم من عدم خضوعها لمعايير القيم الفنية والجمالية المعروفة؛ معنى ذلك أن جمالية المنجز قد تستمد مشروعيتها من خلال تأسيس المعنى وتحقيق الرمز في صورة قصدية أو عفوية.

وهكذا، فإن الخيارات الجمالية هي بالأساس نظام دلالي ينشأ من خلال تمثل وعقل الأشياء وبناء الرموز وشبكة المعاني؛ فالفن بهذا المعنى نشاط إنساني ومنتج لامادي ينبع من عاطفة اللذة والإعجاب والدوافع التعبيرية، والتي هي في الأصل استجابة فطرية للثقافة التي ينتمي إليها الفنان الذي يعبّر مجازيا عن كذبه الصادق تجاه الواقع الاجتماعي، حيث المضامين الاجتماعية والعاطفية والسياسية مكثفة في نص الجدار.

2- مفهوم الفن وفكرة "الحدّ" بين التعبير والإبداع:

إن اكتمال العمل الفني لا يخضع بالضرورة لعقلانية تشكيلية، حيث احترام قواعد الفعل الفني والمعايير التشكيلية الصارمة، بل إنّ الأثر المرئي المعاصر يستلهم عتوه من خلال اهتمامه بالرسالة الإتيقية والتعبيرية التي يروم إبلاغها. فالتعبير المربك والمفزع في مشهدية الصورة يُحدث صدمة ذوقية ومعرفية من خلال انحنائه لمقولات الحس المشترك، حيث يُثار الشاغل اليومي والذاتي بصفة رمزية ودلالية. فالعين التشكيلية الاحترافية التي تهتم بالبعد الجمالي وتخضع للضوابط العلمية والمقاسات الهندسية في رسم اللوحة قد لا تتمتع بمشهدية واسعة وحظوة مرئية في الفضاء العمومي مقارنة بالتعبيرات الفطرية الاندفاعية التي تعتمد نهجا بدائيا وخبرة فنية عامية. ومن هذا المنطلق، أضحت هيمنة التعبير على الإبداع حقيقة اجتماعية موضوعية، فصياغة المرئية وإسباغها صفة الاكتمال رهين تمردها على الوصاية الأدبية للمنجز الفني، حيث صار الفنان يتوخى تجربة متفردة في حياكة تشكيلاته الفنية، حيث إظهار المرجعيات والتصورات حيال ما يجري في الفضاء العمومي دون التقيد بنمطية ومشروطية العمل الفني. والغريب أن هذا الانزياح التشكيلي اكتسب مشروعية ومقبولية في الذهنية، وصاغ أسلوبا مخصوصا في هيكلة الخطاب المرئي. وضمن هذا السياق، يقول الدكتور محمود السمرة في كتابه النقد الأدبي والإبداع في الشعر: "لا يعني كلامنا أن كل تعبير فن، فلكي يكون التعبير فنا - في رأي (كروتشه) - يجب أن يكون هذا التعبير جميلا، سواء كان هذا التعبير بالكلمات أو بالألوان أو بأية وسيلة من وسائل الفن[8]". هذا التصور يكشف عن تطور في بنية المعايير الفنية، حيث لم تعد التجربة الفنية الرديئة موسومة بالفظاعة والتقزز بحكم انقلابها على القيم الفنية، وإنما أصبحت ذائقة فنية وتصورا ثقافيا يحكم سلوكيات الأفراد والجماعات. فهؤلاء الهواة وبفضل تعبيراتهم الاندفاعية أسسوا منحى تواصليا جديدا يكشف جاهزيتهم على فهم الواقع الاجتماعي خاصة من خلال عرض تمزقاتهم الوجدانية وحميميتهم على الذمة. هذا العراء الوجداني والاجتماعي المرتسم على الأثر الفني لا يفضح الذات المنجزة، ولا حتى المتلقية للأثر الفني، وإنما كشف عن ضعف النخبة في تمثل الواقع والخروج من بوتقة المناصبية والتدريس الجامعي. وهذا ما أكده محمد بن حمودة في قوله: "إذا كان فنان يريد غدا إيداع ذائقة جديدة ويريد أن يكون مواكبا ومساهما ودليلا إلى الطريق، فله أن يتعلم من الشباب التونسي تعديل علمه فيخرج من كل التراتيب المناصبية ويذهب إلى التعايش[9]فاكتمال العمل الفني يتطلب جرعة اجتماعية؛ لأن قيمته لا تظهر في المضامين الجمالية، بل في مدى مواكبته للتحولات الاجتماعية الراهنة.

وخلاصة القول، إن الاندفاع في الأثر الفني نجح في توليد شحنة إستطيقية طافحة على حيز مجال اللوحة، وأسهم في إظهار حالة ثقافية جديدة ومنظومة قيمية تتحيز للطريف والسطوح واللامبالاة... هذا الانغماس في اللا معنى والتمرد على النماذج والرموز يُصنف أنثروبولوجيا في خانة الوظيفي؛ بمعنى أن رمزية وفاعلية الممارسة الإبداعية لا تظهر إلا من خلال تطاول الفنان على النماذج وقيم التفضيلات الجمالية. والأكيد أنّ الفضاء العمومي نجح في استيعاب هذه التحيزات الثقافية، لتصبح حبلى بالمعاني والدلالات ومفتوحة على التأويل والتفسير، وأختم فأقول بأن التعبيرات الفنية التلقائية والعفوية تتسم بالحرية والمباشرتية ومرتبطة بالعالم الشعوري والروحي للفنان، حيث الانسياق نحو المتعة وإتاحة الشاغل والحميمي على الذمة على نحو تتكون لدينا صورة واضحة عن حقيقة الإنسان المعاصر الذي يتميز فعله بالغرابة والانزياح نحو سلطة الذات في بعدها الحسي والانحراف إلى عالم اللامعقول، حيث هيمنة الذاتي والمعيش اليومي على سلطة العقل والمرجعيات السائدة.

II- الدلالات الأنثروبولوجية والسوسيولوجية والجمالية للتعبيرات الاندفاعية:

سنقتصر في هذه الدراسة، على بعض الرسوم الجدارية التي فرضت نفسها في الفضاء العمومي بمضامينها المستفزة وحضورها اللافت، حيث السرديات المتنوعة التي تحمل وظيفة اجتماعية وثقافية وتُؤصل لمنزع فني جديد يعتمد نهجا بدائيا يقوم على البداهة والفطرة والاندفاع الفني.

إن الرسم الجداري نص ثقافي مشحون بالرموز والدلالات، حيث تتحول التمثلات التي تتشكل داخل الفضاء العام إلى حالة ثقافية تعبر عن اختلافات وتوافقات، وتتجسد في شكل تعبيرات عفوية، حيث التوصل والإفصاح والاعتراف. وبصفة عامة وتجاوزا للرؤية السطحية أو الشكلية بوظيفة القرافيتي أو بكيفيات تشكّله في الفضاء العام، فثمة حقيقة يجب تأكيدها، وهي أن الممارسة القرافيتية ليست ترفا فكريا تؤتيه أفراد أو فئات تعيش أوضاعا اجتماعية مزرية أو مرضية، وهي أيضا ليست ممارسة فوضوية مفرغة من المعنى، وإنما هي نظام تواصلي وتعبير عن حالة ذهنية مخصوصة، تكشف عن وجود عقل سيمائي يحمل بنية ودلالة ومقصدية، ويتمظهر في أشكال تعبيرية متماثلة ومتناقضة أحيانا ومتراوحة بين ما هو مكشوف وما هو مخفي في التجربة الإنسانية.

1- الاندفاع التعبيري ودلالات الحميمي على الذمة:

توجد هذه التشكيلات القرافيتية في الشوارع الرئيسة لمدينة عقارب – صفاقس – تونس

هذه الصور الماثلة أمامنا تستحوذ على مادية الفضاء العام ورمزيته من خلال هذ الاندفاع التعبيري الذي يستثمر رمزية "الحلم" ويعرضها على العموم. فالحلم يتشكّل في جدارية صامتة، ليكشف عمق التمزقات الاجتماعية والوجدانية التي يعيشها الإنسان المعاصر، حيث الصورة القاتمة لوضعه الحالي والإثارة المستفزة لواقعه المرير، فهذا الخطاب غير نمطي، مشحون بكثير من الغموض والتوتر الذي يميز معالم الشخصية التونسية المعاصرة المنهكة من البحث عن بدائل لتغيير وجودها الاجتماعي على نحو تتحمس فيه الذات نحو أمل منشود، حيث المرغوبية العالية في تحقيق السعادة.

هذا السحر الجمالي في كشف الذات، وفضح الجانب المخبأ فيها نجد صداه في جدارية محمود درويش[10]:

سأَحلُمُ، لا لأُصْلِحَ أَيَّ معنىً خارجي،

بل كي أُرمِّمَ داخلي المهجورَ من أَثر

الجفاف العاطفيِّ.

 فكأن الباث هنا يستفرد بالجدار، وينحت فيه عمقه الدفين وكينونته الضائعة على النحو الذي تنخرط فيه كيانات الأفراد في لحظة لاشعورية، حيث انسياب اللذة الخيالية والحماس الوجداني يظهر جليا في الخطاب البصري، فيضطلع بأبعاد فينومنولوجية تتصل بفعل التلقي، إذ لم يعد الإبصار يهتم بهذه الجمالية المنقوصة بقدر اهتمامه بالدلالات الفائقة التي تستحوذ على مضامين اللوحة على النحو الذي يتشكل من خلاله نمط ثقافي جديد غير مشدود لتوازن النسق والنظام الاجتماعي ويراهن على التحيزات الثقافية التي يضمن من خلالها حضوره في الفضاء الاجتماعي واحقيته في التموقع والوجود الاجتماعي. وقد كشفت هذه الصور حالة التنافر الإدراكي بين التوقعات والإشباعات، حيث عمق الانكسارات التي تتلبس بالوجدان وتهيمن على العواطف، مما ساهم في تغذية حالة تعبيرية اندفاعية تستمد مشروعية حضورها من شعور نفسي بالحرمان والتهميش والصراع من أجل فرض الذات والاعتراف.

ما يهمنا أن مساحة الجدار صارت مسرحا لممارسة عمل فني يتباهى برواجه وحضوره اللافت في الفضاء العمومي، وهو بذلك ينجح في تحقيق تفاعل بصري وجدل ثقافي، حيث يتخذ التعبيري حضورا ذهنيا ويتعزز بأبعاد متصلة بالمعيش اليومي، حيث يشحن الرسام المساح المرئي برمزية وإنشائية مكثفة تحوم حول مواضيع نفسية واجتماعية... لذلك، لم يتعاط المنجز مع التوزيع المساحي للكتابة الحائطية بحرفية ولم يعتمد على إمكانات شكلية وتعبيرية لعملية الخط، حيث نستقرئ قصورا في علاقة التوازن بين الجملة المزمع كتابتها والمساحة المعدة لاحتوائها. هذا التمرد على القيم الجمالية والمعرفية لم يخفّض من قيمة الأثر الفني إذ الرسالة الإيتيقية والإنشائية تسوطن اللوحة وتحدث صدمة معرفية وذوقية.

فالاندفاع التعبيري يغزو الرؤية ويكشف لغة الذات وانعكاس أفكارها على مرئي اللوحة، حيث الدوافع الذاتية والموضوعية تتشكل ضمن سلطة تأملية، فيظهر الجوهر الباطني متحررا ومبدعا يترجم موقفا ثقافيا نجد صداه في ذهن المتلقي، حيث تتحول اللوحة من عالم مغلق إلى عالم مفتوح وتنخرط في سياقات السائد ملتزمة بانخراطها في مدلولات تواصلية. وضمن هذا السياق، يقول بول كلي: "الفن هو الذي يجعل اللامرئي مرئيا[11]". فالتعبير التلقائي هو الذي بعث في هذه الصورة الحياة، وهو الذي رسخ مضامين الخطاب البصري؛ معنى ذلك أن الفطري أحدث صدمة في الأثر البصري ومنحه تعبئة بصرية وتفاعلا مرئيا، حيث انتقلت اللوحة من جمود الأنا والنخبوية لتسطع في سماء الآخرية مما يضعنا أمام حصيلة ثقافية رمزية مشبعة بالدلالات، والأهم قدرتها العجيبة على اختراق الجماهير والمتلقي بفضل هذا التنويع الفني، حيث امتزاج الفني بالاجتماعي أنتج مادة ثقافية وقيمة رمزية تكمن فاعليتها في التناسق بين منظومة السائد والتعبيري.

وخلاصة القول، فإن الفن التعبيري وبالرغم من أنه قد لا يحتوي على كافة المكونات والعناصر الخاصة بالعمل الفني كالترابط والتناسق والتوازن، إلا أنه فرض نفسه في الفضاء العمومي وتأهل للعرض والتلقي؛ أي إنه وهب نفسه لكشف التجربة الإنسانية بوصفها حصيلة رمزية مشحونة بالمعاني والدلالات؛ إذ يركن التعبيري في زاوية الفن، ويحاول أن يقحم نفسه في مدارات الإبداع من خلال المراهنة على المضامين المستفزة التي تنطلق من الشاغل والبديهي والاعتيادي في الحياة اليومية. والحق، أن فاعلية الفن تتحقق أيضا حتى من خارج إطار الإبداع، مادام التعبيري يحقق مقصدا ثقافيا، إذ يؤسس هذا النمط البصري طليعته من خلال شذوذه التشكيلي والانغماس في الهذيان القرافيتي، حيث يتمتع المبتذل والتافه بحظوة مرموقة في الفكر الفني وفي ذهنية الجمهور المتلقي. فـ "في الرسم توجد الحقيقة[12]أي إن الفن سواء أكان ممارسة إبداعية أو فعلا تعبيريا تلقائيا، يعبر بالضرورة عن حقيقة الأنا والآخرية، ويكشف الذهنية التي تقود العمل الفني حيث الفطري والإبداعي في فلك الجمال، حيث الفن موروث حضاري وثقافي واستجابة فطرية للثقافة التي ينتمي إليها الفنان.

2- الشطب في خطاب الجدران: بين الإقصاء والخوف من المقدس:

الصورة عدد 6

توجد هذه التشكيلات القرافيتية في الشوارع الرئيسة لمدينة عقارب – صفاقس – تونس

 

 

 

يقال في اللغة يشطب، شطبا، فهو شاطب والمفعول مشطوب. ويقال أيضا:

-  شطب الكاتب الكلمة: طمسها عدولا عنها.

-  شطب الموضوع: الغاه وحذفه.

-  شطب اسمه من اللائحة: حذفه، أبطل وجوده بها.[13]

ما يهمنا هنا، البحث في آلية الشطب في الرسوم الجدارية، فثمة من يعتبرها أمرا طبيعيا وإيجابيا وثمة من يستهجنها على اعتبار أنها تشوه المجال المساحي المعد للتصوير وتصبغه برمزية قاتمة تكشف ارتباك ممارسي القرافيتي في إنجاز أعمالهم الفنية، كما يمكن أن تكشف عن توتر نفسي يتلبس بالذات المنتجة للعمل الفني. ولفهم هذه الظاهرة وتحليلها أنثروبولوجيا، لا بد من الإجابة عن الأسئلة التالية: ماذا نعني بالشطب في الجداريات؟ وما علاقته بالأنثروبولوجيا؟ وما هي صورة ارتباطه بالمجتمع؟ ثم كيف تُدرك دلالاته الاجتماعية والثقافية؟ والأهم ما هو تأثيره على الأثر المنجز؟

تتضمن الجدران الموزعة في أماكن مختلفة من المدينة رسوما وخطوطا وخربشات متنوعة، والتي تتضمن أحيانا أنواعا من الشطب على الألفاظ والتعبيرات، حيث يعمد ممارسو القرافيتي إلى حذف بعض الكلمات والصور معتمدين على آلية الشطب، وهو ما يحمل رمزية متعددة الدلالات ويكشف عما هو مخفي في التجربة الإنسانية. والأكيد أن العمل الفني يتسع إلى جانب رسم الموضوع إلى مجال مساحي بالخطأ أو التشطيب، إذ يتفاعل الفنان حسيا مع اللوحة على النحو الذي تنفلت منه معايير الإبداع، فينخرط تلقائيا في مسارات التعبير الاندفاعي، حيث تستفيق الذات الكامنة وتعرض عفويتها على العموم. هذا العراء النفسي ينخرط في سياقات العمل الفني، فتظهر لنا صورة رمزية عن حقيقة الذات المعاصرة التي تعيش تمزقات اجتماعية ووجدانية، كما أنها غير جاهزة اجتماعيا لخوض معركة المعيش اليومي وما يتصل بها من معوقات اندماجية، حيث الذات مغرقة في اللامعنى ومنغمسة في مسارات المتعة واللذة.

فآلية التشطيب في الممارسة القرافيتية تحمل مضامين دلالية ذات أبعاد نفسية واجتماعية، حيث الذات منكسرة ومهمشة تسعى إلى تحقيق وجودها الاجتماعي وتجاوز هيمنة الفراغ الذي تلبس بالفضاء العمومي، إذ أصبح الإنسان المعاصر يعيش حالات من الإرباك والإنهاك النفسيين نتيجة استسلامه لصراع الحياة اليومية وروتينها حيث الفراغ الوجداني والعاطفي، على النحو الذي تغوص فيه الشخصية في سياقات تواصلية مفرغة من المعنى، ولا تحمل شفرة سردية واضحة. هذه الغرابة في التجربة الإنسانية تجسدت في الممارسة الفنية، إذ التوتر المرتسم على اللوحة يستفيق ويعاش، ويفضح النفسية المربكة والحالة القلقة لحياة الأفراد والجماعات. فبواسطة هذه الفاعلية، يضمن الأثر الفني نجاحا إبصاريا حيث الرسالة الإيتيقية والتعبيرية مضمونة الوصول. ومن هذا المنطلق، يدخل الشطب في الممارسة الفنية باعتباره أداة أساسية يوظفها ممارسو القرافيتي في الفعل الفني، حيث إن حالات الارتباك والاضطراب التي قد تعاش من خلال التجربة الفنية تمثل مسارا إبداعيا ذا أصل ثقافي. فالتعبير الاندفاعي قد يكون أداة مفاوضة يتخذها الأفراد في مواجهة شعورهم بالقلق، ومن ثمة فإن الممارسة الفنية التي لا تخضع لمعايير التفضيلات الجمالية وما يصاحبها من صرامة ذوقية ومعرفية، تمثل زادا يضمن نوعا من السعادة والاستقرار الوجودي.

من ناحية أخرى، يمكن أن تنحني تقنية الشطب إلى صرامة التمثل الجمعي، وأحيانا إلى سلطة المقدس، إذ يعمد ممارسو القرافيتي إلى حذف التعبيرات التي تتنافى مع القيم المحافظة، والتي تمس من الدلالات الدينية. فالأنساق القيمية والمعيارية التي ينتجها المجتمع تلزم الأفراد على الخضوع إلى الأشكال العقلية المنظمة للفضاء الاجتماعي، وبالتالي تعهد الوعي الجمعي والانصياع لفعل الضبط والإلزام الذي يمارسه المجتمع. وهذا ما يؤكده دوركهايم، حيث يرى أن "التمثلات الجمعية خارجة عن وعي الأفراد ... فهي لا تنبثق عن أفراد مأخوذين بشكل معزول، ولكن من توافقهم وهذا أمر مختلف"[14]. فالممنوعات والقواعد الاجتماعية تحمي الفضاء الاجتماعي من المدنس وتحافظ على النظام الثقافي، حيث التقيد بالضوابط الاجتماعية المتعارف عليها، إذ لا يتم التبادل الرمزي الا من خلالها إذ يكون مضمون التواصل الرمزي ناجحا ويحمل وظيفة اجتماعية.

وما يمكن تأكيده أن الشطب في خطاب الجدران قد يحمل معنى الإقصاء على النحو الذي يسعى فيه ممارسو القرافيتي، من خلال هذه التقنية، إلى استبعاد منظومة فكرية وجماعات انتماء من المشهد الاجتماعي؛ فتكرار عملية التشطيب المكثفة تعني أن نفرض وجودنا ونقاوم ونتحرر من سلطة الأشياء والآخرية؛ مثال ذلك ما يقوم به بعض مشجعي كرة القدم من محو لرمز الفريق المنافس الموجود على الجدران. هذه الصورة تكشف عمق فكرة الانتقام الرمزي في الفضاء العمومي، حيث عنف عمومي ناعم يتلبس بالذهنية السائدة، ويتسرّب إلى المجال العمومي، وكأنه حقيقة اجتماعية وحالة ثقافية طبيعية.

وبقطع النظر سواء أكان الشطب تعبيرا عن الإقصاء أو دالا عن الخوف من المقدس، فإنه يكشف عن عمق المتخيل لدى مقاولي التعبير القرافيتي الذي يسمح باستحضار أفكار تتصل بالوجدان الجمعي الذي يتزود بشحنات المعنى من خلال ممارسات تحقق التوازن المطمئن والانسجام في بنية العواطف والصور المشكلة للوعي الجمعي. ويمكن أن تندرج هذه التنويعة القرافيتية ضمن الممارسات الثقافية المشحونة بالدلالات والرموز من خلال الإحالة للبعد الكامن للذات البشرية، والذي سرعان ما يستفيق ويؤيد الفاعلية الرمزية للفعل القرافيتي ويعززها.

لا شك أن هذا الأسلوب يشد العين إليه، ويضمن تفاعلا إيجابيا بين الذات المنتجة والجمهور المتلقي؛ إذ التعبيري تقوده العفوية والصدفة، فيغوي الناظر بلذة لحظة الاندفاع والتلقائية... لحظة فارقة تنخرط فيها الذات وتشتعل نحو نفس وجودي كتوم لا يبالي بقيمة المنتوج الشكلانية بقدر اهتمامه بهذا التحيز التشكيلي الذي يسكنه في عالم أنطولوجي، حيث إشباع الذات بسحرية المبتذل والسطحي، فكأن الفطري والعرضي في الممارسة الإبداعية يمثل نشاطا رمزيا يسمح باستدعاء زمن وجودي جديد يكون "مجالا لتفريغ المكبوتات وتصعيد الضغوطات وتسريح جوانب كثيرة من الرغبات الدفينة".[15]

فالرسام هنا لا ينهك نفسه في صياغة مضمون المرئية، حتى يروضها لمعايير فنية وموضوعات تستجيب لانتظارات الجمهور المتلقي، بل يختلي باللوحة ويمنحها معماره النفسي، حيث النفاذ إلى عمق الذات المثخنة بالجراح في ظل تمزق الوجدان الاجتماعي وتشوش القيم، فكأن الشطب في الأثر الجداري احتماء باللوحة ومقاومة لما تمخض عن التغيير الاجتماعي من حيرة وجودية وثقافية؛ معنى ذلك أن الانفلات الأسلوبي في صياغة مرئي اللوحة يؤسس أثرا لحظويا يستبطن رمزية عالية تستمد حضورها من هذا الهذيان الخطي والخربشات العفوية... إذ صدفة الأثر وتلقائيته تتوه بنا إلى عالم اللذة والمتعية وتنتج لنا خطابا بصريا يحمل أبعادا ثقافية واجتماعية ... بل صار الأثر مكتملا بهذه الجرعة النفسية، حيث الشطب في العمل الفني تعبير عن الذات وإفصاح عن الآخرية.

3- الاندفاع التعبيري في حضن المقزز:

ثمة صورة غريبة عادة ما تقترن بالقرافيتي، حيث حضور الفضلات بمختلف أنواعها أمام المرئية الجدارية، وهو ما يطرح سؤالا حول رمزية حضورها في الفضاء الاجتماعي وتأثيرها على مشهدية اللوحة؟

الصورة عدد 7

الصورة عدد 8

توجد هذه الرسوم في مدينة عقارب –صفاقس-تونس

المصدر: العمل الميداني

لقد استوطن التعبير الاندفاعي قلب الممارسة القرافيتية وظفر بخاصية المباشرة والتلقائية في الصياغة التعبيرية؛ إذ يولد المعنى في غياب الإبداعي والمعرفي، وتتشكل منظومة فنية تتخلى عن الأطر المكانية التي تتعلق بقاعات العرض أو الساحات العمومية النظيفة. فالحاضنة التي تحضن الرسوم الجدارية تكون أحيانا ممتلئة بالأوساخ والفضلات، وهو ما لا يؤثر في جمالية اللوحة وفي بعدها الاستطيقي، بل إنه أحيانا يضفي إيجابية على مرئي اللوحة، حيث لا تكتمل إنشائيتها ودلالتها الرمزية إلا بحضور المقزز، إذ يكسبها مشروعية ومقبولية عالية، فكأن قابليتها للإبصار لا تحقق إلا بحضور المقزز. فالصورة هنا تتطابق مع التجربة الإنسانية المنغمسة في الرذيلة واللحظات الديونيسوسية[16] حيث هيمنة الحس المشترك والانغماس في اللذة والمتعة على النحو الذي يتحول فيه المشهد في طور الكريه إلى فائض المعنى الذي يتأتى من رمزية الفضلات المكدسة قرب العمل الفني، هنا، تظهر الدلالات حيث المشهد الفني يكتسب قيمة مختلفة باختلاف المكان، إذ المقزز صادم ومفزع، لكنه في نفس الوقت محفز وضامن لقابلية إبصار أثر الفني على النحو الذي لا يمكن أن تنضج فيه اللوحة كمنتوج بصري أو كمرجعية جاهزة للتصور إلا بحضور هذا المثير للاشمئزاز. فالرمزية هنا لا تتخذ بعدا تشكيليا بقدر صلتها بالواقع الاجتماعي، حيث تراكم الفضلات مع المشهد الجداري ينتج تصورا ثقافيا عن المجتمع؛ فتعبئة فضاء الاندفاع التعبيري بالأوساخ يكشف موقفا أوليا من الممارسة القرافيتية، إذ الازدراء والاستنقاص من الرسم الجداري هو في الحقيقة تحقير من شأن ممارسي القرافيتي وتهميش لفعلهم الثقافي.

بالمقابل، يمكن أن تتماهى الذات المنتجة للخطاب البصري مع مكان عرضه، فحين يطال الدنس فعل الاندفاع التعبيري يؤثر في خصائصه التعبيرية بصفة مباشرة، ويضمن حضورها بصريا، إما كلوحة فاضحة لرمزية الذات المنتجة أو كفعل ثقافي يعتلي مشهد الواقع الاجتماعي، حيث دلالة المقزز تحاذي حقيقة المجتمع الذي يعيش انفصاما في تمثل القيم والمرجعيات التصورية. فمن الرذيلة والمدنس يولد المعنى ويتمظهر في شكل تصورات وتوجهات تتخذ صبغة اجتماعية وثقافية، وتؤثر في مسلكية المفاهيم الفكرية الراهنة على نحو تراهن فيه المرئية على الظفر بصفة الاكتمال من خلال الانحياز إلى اللامعقول في صياغة تكوينية المشهد الفني. والحق أن المقزز لن ينّصب الرسم الجداري أثرا فنيا، بل سيضعه في حضن التحيزات الثقافية، حيث غرابة الفعل الإنساني ونزوعه نحو التفاهة والغامض والعجيب. فربما نحن أمام "فن تخريبي صادم بشكل أصيل[17]" ينهش الممارسة الإبداعية ويتنكر إلى سيادة الأثر الجمالي الذي يمر عبر إنشائية المنجز التحضيري بالعمل الفني إلى الاكتمال، حيث الشحنة الإبداعية والقيمة التشكيلية الثابتة، وهو أمر خطير، لكن مع ذلك مازال المنجز الفني يمتلك أسباب الطليعة والنجاح على اعتبار أنه يمعن في الإبهار ويحظى بمتعة إستطيقية، حيث الجمال، الذوق، التأويل والمساحة النقدية.

هذا التحليل لا يشرع لحضور المقزز في الممارسة القرافيتية على اعتبار وجوده في الفضاء العمومي نسبي ولا يرتقي إلى مرتبة الظاهرة الاجتماعية، ومع ذلك فهو موجود، وكأنه يلح على وجود تناسق بين فيزيائية المكان وبنية الذات المنتجة للخطاب الجداري، حيث الانغماس في سياقات المبتذل ضمن معمارية نفسية ممزقة وجدانيا واجتماعيا وغير جاهزة ثقافيا للتعبير عن وجودها الاجتماعي. ختاما، إن الاندفاع في التعبير في حضرة المقزز لم يتحيز للأثر في حد ذاته بقدر اهتمامه بالحالة الثقافية الراهنة وما يتعلق بها من غموض في فهم أحقية المدينة، وهو ما يطرح سؤالا حول الذهنية الراهنة وكيفية تمثلها للفضاء العمومي.

4-المقدس في الجداريات: خفوت أم تخفي؟

نعترف أن صرخة الجدران لم تعد تصدح بمضامين دينية وأخلاقية، ويعزى ذلك إلى عدم أهميّتها في الذهنية السائدة المكبّلة بالهموم والانكسارات والمنشغلة بمشاكل اليومي على نحو يتحول فيه الاهتمام بهذه القضايا ترفا فكريا لا جدوى منه. فهذه اللامبالاة تكشف عن حقيقة التمثلات الاجتماعية التي تنزع نحو المواضيع التي تمسّ العواطف والبنى النفسية، حيث ينغمس الفرد في اللامعنى، ويتلذذ بانكساراته من خلال لجوئه إلى فضاءات عمومية جذابة ينتقل من خلالها الفرد من حالة الوعي إلى حالة اللاوعي الجمعي كالانخراط في المجموعات الرياضية أو الحركات الاحتجاجيّة.

فالقداسة تكسرت والخطاب الديني فقد جاذبيته واستعمالاته التواصلية على اعتبار أن المتخيل الإسلامي صار سفرا فرديا وسلوكا ينسحب على الذاتي، حيث الوجدان الاجتماعي لم يعد منشغلا بلحظات البدايات بقدر انشغاله بالمعيش اليومي، حيث الاعتيادي يسكن في الفضاء العمومي ويفرض على الأفراد الخوض في مشاغل الحياة؛ إذ الفقر والخصاصة والبطالة مشاكل تهيمن على المجتمع وتنتج حالات نفسية واجتماعية ممزقة غير عابئة بقداسة الخطابات الدينة والأخلاقية. فعدم الجاهزية الاجتماعية والفشل الاجتماعي يجعل الأفراد يكتسبون مشروعيتهم من خلال الانغماس في الممارسة اليومية والكفاح من أجل لقمة العيش أملا في تحقيق السعادة، والحق أن العبور إلى المقدس في مستوى التمثلات لا يتخذ منحنى جمعيا، وهنا أتحدث عن البنية التصورية التي تحكم تمثلات الأفراد، والتي لا علاقة لها بما يسمى "بالعودة الدينية[18]"؛ فأنماط التدين في الفضاء العمومي التونسي لم تعد سوى سلوك متخفّ يستثمره أصحاب النظام القائم للحفاظ على تلاؤمية النسق الاجتماعي، كما يمكن أن يمارس الدين فعلا سلطويا متخفيا على ممارسي القرافيتي، إذ ينزعون إلى شطب العبارات التي تمس من القيم المحافظة، إضافة إلى ذلك فإن ضمور الخطاب البصري ذات المضامين القدسية يؤكد على خوف مقاولي التعبير القرافيتي من سلطة المقدس على اعتبار أن الجدار قد يلحقه الدنس والقذارة مما يسئ إلى رمزية المقدس؛ معنى ذلك أن قيمة المقدس تكمن في فعلها الطقوسي الفردي المشحون برمزية الذات الحزينة المنهكة، حيث خوض تجربة العبادات من أجل تنقية الروح من الدنس الاجتماعي والدخول في فعل تغييري نفسي من أجل البحث عن المعنى والخروج من حالة الرتابة والصراع الاجتماعي.

فالرسوم القرافيتية عموما، هي تعبيرات غير مبالية بجبروت المقدس؛ لذلك هي تقدم نموذجا تعبيريا يحملنا نحو دلالات طافحة، حيث السياقات الثقافية والاجتماعية تدرك من خلال التصورات والتفسيرات والمعارف لدى الجماعات؛ معنى ذلك أن الحيز المساحي ومن خلال إمكاناته التعبيرية والإنشائية، يمكن أن يكون أثرا ثقافيا يعبّر عن الواقع، ويفضح صورة الآنا والآخرية، حيث تفرد الجدار في تبليغ المضامين النفسية والاجتماعية.

فحضور المقدس في الرسوم القرافيتية كغيابه على اعتبار أن الجدار لا يهب نفسه إلا للمهمشين الذين يقضون شهوتهم ونزواتهم على افتضاض بكارته، حيث الحماسة والاندفاع نحو تحيز ثقافي مفزع يهدد المعرفي والإبداعي في الممارسة الفنية، ويدخل الذات في مسارات اللذة والمتعة، والتي تكشف عن "استعرائية" اجتماعية تتلبس بالفضاء العام، وتفضي إلى وجود حالة إعياء جماعية، حيث غموض المصير وغرابة البنية الذهنية. ومهما يكن، فنحن أمام نشأة أثر ثقافي معلن اعتلى منصب الأثر الإبداعي وتأهل بأحقية الاهتمام المعرفي والاستفادة من طروحاته القريبة من الشاغل اليومي، فكأننا أمام نفس ثقافي جديد تأهل لفهم الإنسان المعاصرة.

الخاتمة:

وهكذا، فإن هذه التعبيرات الاندفاعية أصلت منصبا حقيقيا في الفضاء العمومي، ونجحت في اجتياح النسيج الاجتماعي، فهذا الفن تحرر من المرجعيات المرئية السائدة وانزلق نحو بدع فنية تعتمد على البداهة والعفوية ولا تستند على مجال مفاهيمي ومرجعية خاصة به، ومع ذلك استطاع أن يكشف حقيقة الأوضاع الإنسانية والواقع الاجتماعي، وما يتصل به من مشكلات تمس مختلف الجوانب الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، كما أنه يُعتبر منجزا حضاريا وثقافيا يعبّر عن خصائص الشعوب والمجتمعات البشرية وملامحها. فهذا الانزياح عن النمط التشكيلي السائد يهدد رمزية الإبداع ومخاضات انبلاج ولادة فكرة اللوحة الفنية وما يتصل بها من أعمال تحضيرية واستعدادات ذهنية تسبق عملية نشوء الأثر النهائي، وهو ما يمثل خطرا على جمالية وقيمة اللوحة الفنية التي صارت تتمزق بين براثن المتعة واللذة والمشهدية، مما يضطرها إلى أن تخوض معركة الخلاص من هذا المبتذل والمفزع، ومن هذا الانتهاك الصريح، وتُعيد الاعتبار لجمالية العمل الفني، حيث الإتقان والإبهار والمرئية المكتملة.

ومجمل القول، إن الفنان اليوم يخوض معركة الاعتراف في زمن الابتذال والسطوح وهيمنة اللامعنى في الأثر الفني، هذه الحالة الثقافية الجديدة تلبسّت بالفضاء العمومي وبالذهنية السائدة ... إذ التعبيرات الثقافية الفطرية والعامية تستحوذ على مرئية عالية ومقبولية واسعة. هذا ما يُحرج الفنان ويجعله بين اختيار سمو المناصبية والنخبوية أو النزول إلى المعيش اليومي وسطوة العمومي. فغرابة التعبيرات الاندفاعية لا تكمن في تضميناتها المحيرة، وإنما في انغماسها في ثقافة النزوة، وهوما يضعنا أمام تساؤل حول البنية الذهنية التي تقود الأفراد نحو هذه الحركية الثقافية الخافتة والخالية من دسامة وعمق الفعل الإنساني. ففي غياب المعرفي والإبداعي وهب الجدار نفسه لفائض المعنى، وتشكلت غواية تعبيرية وإنشائية تمتد في الفضاء العام، وتحاول أن تؤصل منصبا ثقافيا تدّعي من خلاله الامتلاء والسعة. لكن هذه الطليعة، وإن حملت مضامين ودلالات كثيفة، تبقى مجرد ممارسة اندفاعيه ساذجة تصوّغ إلى التافه في الحياة اليومية وتبرر إلى اللااكتمال في التجربة الفنية؛ فالمسالة تتعلق أساسا بالذهنية السائدة المتمترسة في فلك اللذة والعابثة بالمرجعيات التصورية، مما ينتج خطابات بصرية تحمل حصيلة رمزية مؤقتة، وتكشف عن مدى اتساع مجال الحريات في تونس. أختم فأفول بأن الخطاب الجداري، بقطع النظر عن قيمته الفنية، نسق ثقافي وحالة حضارية وسلوكية جديدة عرّت الآخر وأتاحت الذاتي على العموم، ووضعت الحميمي على الذمة من خلال مضامينها المتاحة التي تكشف انفجارا في التعبير ودلالة على كآبة الواقع الاجتماعي، مما يجرنا للقول إننا أمام خطاب هوياتي بامتياز.

 

قائمة المراجع والمصادر:

-     خليل قويعة، تشكيل الرؤية، المطابع الجديدة للجنوب، الطبعة الأولى، تونس، 2007

-     هنري لوفافر، عالم الجمال، ترجمة محمد عيتاني، دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.

-     زكرياء إبراهيم، فلسفة الفن في الفكر المعاصر، دار مصر للطباعة، 1988

-     زيجمونت بامونت، الأزمنة السائلة: العيش في عصر اللايقين، ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للبحث والنشر، بيروت 2017

-     ستيفان تونيلا، سوسيولوجيا الفضاءات الحضرية العامة، ترجمة إدريس الغزوانوي، المجلة العربية لعلم الاجتماع: إضافات، الجمعية العربية لعلم الاجتماع، العدد 46، بيروت 2019

-     محمد بن حمودة، الاستطيقا من خلال النصوص، نشر دار محمد علي الحامي، صفاقس/تونس، الطلبعة الأولى، 2001

-     كمل بومنير، النظرية النقدية لمدرسة فرانفورت من ماكس هوركهايمر إلى أكسال هونيث، الدار العربية للعلوم، الطبعة الأولى، بيروت 2010

-     موريس مورلوبنتي، العين والعقل، ترجمة د. حبيب الشاروني، نشر منشأة دار المعارف الإسكندرية.

-     عبد الرحمان بدوي، فلسفة الجمال والفن عند هيغل، دار الشروق 1987

قائمة المراجع والمصادر باللغة الفرنسية:

-     René Passeron, l’œuvre picturale et les fonctions de l’apparence, Ed. VRIN.

-     Claud Levi-strauss, la pensée sauvage, Plon, Paris, 1962

-     Fichier G.N (2005), les concepts fondamentaux de la psychologie sociale, 3éme Edition Paris, Dunod

-     Stéphane Dion, Pour une esthétique du renouveau, Ed, Le harmattan, France 2005

-     Georges Balandier, anthropo- logiques, librairie générale Française, Paris 1985

-     Marcel Paquet, René Magritte la pensé visible, Ed. Bendikt Taschen , Germany 1992

-     Michel Ragon, le journal de l’art abstrait, Ed. skira, Paris.

-     Patrick de Haas, le dessin contemporain, Ed. cnpd, Paris, 1980 /1981

-     Pierre Bourdieu, la distinction, critique sociale du jugement, Ed Minuit, Paris1979

-     Alfred Pacquement, Richard Serra, Ed, centre Pompidou, Paris, 1993

قائمة المواقع الرقميّة:

-     http://www.awraqthaqafya.com

-     https://rachidelalaoui.blogspot

-     https://dabapress.com/5007

-     https://www.anthropologie.com/

[1] شريهان حوامد، أنثروبولوجيا الفن والموسيقى والترفيه والفلكلور، ضمن https://e3arabi.com/ مصدر رقمي أُعتمد بتاريخ 23-04-2021

[2] هالة محمود منقاري، "جداريات مدينة طرابلس: قراءة أنثروبولوجية لدلالاتها"، ضمن http://www.awraqthaqafya.com مصدر رقمي أعتمد بتاريخ 25-04-2021

[3] دفيد أنجلز وجون هنجستون، سوسيولوجيا الفن طرق للرؤية، ترجمة ليلى الموسمي، مراجعة محمد الجوهري، الطبعة 314، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1978، الكويت، ص 21

[4]ـناتلي إينيك، سوسيولوجيا الفن، (ترجمة: حسين جواد فبيسي)، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2011، ص98

[5] المرجع السابق ص 108

[6] شاكر عبد الحميد، التفضيل الجمالي، سلسلة عالم المعرفة عدد 267 (الكويت: المجلس الثقافي للفنون والآداب، يناير 1978)، ص22

[7] نفس المرجع ص 22

[8] مصدر رقمي بتاريخ 20-03-2021 https://books.google.tn/books/about/

[9] نفس المرجع السابق، محمد بن حمودة، "ندوة المجلة: الابداع، التعبير، المجتمع"، ضمن مجلة فنون، العدد 8، تونس، وزارة الثقافة، 2013، ص. 54

[10] جدارية محمود درويش ضمن مصدر رقمي بتاريخ 09-05-2021 https://www.aldiwan.net/poem9021.html

[11] لمزيد الإثراء: فاتح بن عامر، التجريد في تونس في الستينيات والسبعينيات: مبحث جمالي ونقدي، رسالة بحث لنيل شهادة الدكتوراه، جامعة صفاقس، ص. 71

[12] فتحي التريكي ورشيدة التريكي، فلسفة الحداثة، مركز الانماء القومي، بيروت 1992، ص. 97

[13] ضمن مصدر رقمي بتاريخ 17-04-2021 https://www.almougem.com/search.php

[14] Nathalie Blanc et autres, « Le concept de la représentation psychologie clinique », Paris, in Press EDS, 2006, p. 14

[15] المنصف المحواشي، الطقوس وجبروت الرموز: قراءة في الوظائف والدلالات ضمن مجتمع متحول، ضمن مصر رقمي بتاريخ 10-05-2021 https://journals.openedition.org/insaniyat/4331

[16] نسبة إلى ديونيسوس أو باكوس أو باخوس في الميثولوجيا الإغريقية، وهو إلاه الخمر عند الإغريق وملهم طقوس الابتهاج والنشوة.

[17] ألان دونو، نظام التفاهة، (ترجمة مشاغل عبد العزيز الهجري)، بيروت، دار سؤال للنشر، 2020، ص. 230

[18] عبد الرحمان العطري، التدين ملاحظا: قراءة في تقارير وطنية ودولية حول الحالة الدينية بالمغرب، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، ضمن مصدر رقمي بتاريخ 24-05-2021 https://www.youtube.com/watch?v=LexOWJ3WXg8