الدولة بين التعالي والمحايثة


فئة :  مقالات

الدولة بين التعالي والمحايثة

الدولة بين التعالي والمحايثة

رؤية عبد الله العروي أنموذجا

ذ. محمد لمعمر

"لفكرة الدولة في العصور الحديثة طابع خاص، تصبح فيه الدولة التحقق الفعلي للحرية ليس طبقا لنزوة ذاتية، وإنما طبقا للفكرة الشاملة عن الإرادة؛ أعني طبقا لكليتها وقدسيتها". هيغل

لكتابات عبد الله العروي مكانتها الخاصة في جغرافيا الفكر السياسي، حيث الحضور المكثف والعميق للمفاهيم الفلسفية والسياسية، مع الرؤية النقدية التي جعلته ينفلت من قبضة التصنيفات الإيديولوجية التي هيمنت على الساحة الفكرية، خصوصا عندما يتعلق الأمر بمسألة الدولة؛ فالعروي لا يشرح المفهوم على الطريقة المدرسية، حيث الشرح من أجل الشرح، ولكنه يمارس الحفر الجينيالوجي، ويذهب بالمفهوم الى حدوده القصوى، واقفا عند تجليات غاياته الكبرى، رابطا إياه بالسياق الاجتماعي والثقافي والتاريخي الذي هو شرط الممارسة والوعي.

عندما يتساءل العروي عن معنى الدولة، فإنه لا يقصد البحث عن ماهيتها أو جوهرها الذي منه تستمد مشروعيتها، وإنما الوقوف عند وظيفتها؛ لأن التساؤل عن ماهيتها، لا يجعل العقل يمحو الدولة من الوجود، أو استبدالها بدولة أخرى، خصوصا وأن الدولة باقية ممتدة في الزمان والمكان؛ فمفهوم الدولة لا يتحدد إلا من خلال المقاربات المتعددة، بما في ذلك استحضار أجوبة الفلاسفة والمفكرين والباحثين، بهدف الوقوف عند سؤال: ما معنى الدولة؟ فالعروي لا يبحث في هذا السؤال، انطلاقا من كونه مشروعا أم غير مشروع؛ لأن البحث في مسألة المشروعية يفضي إلى الوقوف عند ماهية الدولة؛ وذلك بإبراز خصائصها الأولية التي بموجبها يقبل الأفراد بوجودها. العروي هنا، يبحث في قضية الدولة، انطلاقا من أهدافها وغاياتها، معتبرا أن البحث في مسألة الدولة لا يستقيم إلا بتحديد أهدافها. غاية الدولة جزء من كيانها، والذي يجعلها غاية في ذاتها وليس مجرد وسيلة.[2] بمعنى ضرورة النظر إلى مفهوم الدولة كمفهوم، انطلاقا من الدولة نفسها، وليس من أشياء خارجة عنها ومتعالية عليها.

إذا كانت الدولة مجرد وسيلة، فإنه يجب في هذه الحالة البحث عن الكائن الخارجي عن الدولة، والذي يستخدمها لتحقيق هدف معين، يحدده هو، حيث تصبح هوية الدولة، ليست هي هي، وإنما في علاقتها بمحددات متعالية عنها، تصبح شيئا ثانويا؛ لأن التمركز صار حول العنصر الميتافيزيقي المفارق/الله. وكأن العروي يريد أن يقول: إن مشكل الدولة العربية، لم يعرف تبلور نظريات تنظر في الدولة كغاية في حد ذاتها، وليس انطلاقا من محددات أخلاقية مفارقة عنها، قد تقيدها وتسيجها، ونموذج الدولة السلطانية المثال الأبرز على ذلك، فقد كانت دولة السلطان والأخلاق، لا سلطة الدولة، ولم تكن غاية في ذاتها، وإنما وسيلة لتحقيق حلم ووهم وطوبى الخلافة. إنها العوائق الدينية والأخلاقية التي لم يستطع العقل العربي التخلص منها لإنشاء نظرية سياسية انطلاقا من السياسة حول الدولة.

أغلب الكتاب لم يعالجوا موضوع الدولة انطلاقا من كونها غاية في ذاتها وليس مجرد وسيلة، وهو الأمر الذي جعل مسألة الدولة لم تدرس بشكل جيد[3]، بل أكثر من ذلك انعدام نظرية سياسية خاصة بالدولة، والسبب هو النظر في الدولة انطلاقا من عناصر خارجية عنها، كالدين/ الله/ وهم الخلافة؛ فالدولة بناء على هذه التصورات الأخلاقية المفارقة، مجرد وسيلة جزئية لتحقيق أحلام وأوهام لا توجد إلا في مخيلة الإسلامي، وهو الأمر الذي جعل العروي يعرض مقالتين تطرقتا لمسألة الدولة، وكان لهما تأثير كبير؛ وذلك بخلق نقاش فلسفي سياسي عميق حول مفهوم الدولة وعلاقتها بالفرد والمجتمع والأخلاق. فما هي العوائق الدينية والأخلاقية التي لم تساعد على نشوء نظريات سياسية خالصة حول الدولة في تاريخ الفكر السياسي العربي مقارنة مع الفكر الغربي؟ فخذ بنا لنفصل الكلام عن تلك المقالتين تفصيلا.

المحور الأول: الدولة وسيلة لتحقيق أوهام المتعالي

أطروحة المقالة الأولى، تؤكد أن عدم تشكل نظرية حول الدولة، راجع إلى اعتبار الدولة مجرد وسيلة وليس غاية في حد ذاتها، النظر للدولة بناء على عناصر ماورائية وأخلاقية، حيث تصبح غاية الدولة تحقيق سعادة الفرد؛ وذلك بالتطلع للعالم الآخر، بتأهيله أخلاقيا ونفسيا وروحيا. الدولة هنا، وسيلة لخدمة الفرد والشريعة، هذه الأخيرة، صارت هي مقوم وجود الدولة، ومقياس الحكم على صلاحيتها، بناء على مقولات الشرع والأخلاق، ويغدو قانون الفرد الأخلاقي هو الأصل، بينما قانون الدولة العام تابع له، الدولة بناء على هذه المقالة، يجب أن تكون دولة تحقيق الحلم الطوباوي/ الخلافة. دولة الحياة الحيوانية للإنسان.

وعليه، فالمقالة الأولى يمكن الاصطلاح عليها بالمقالة الدينية الأخلاقية أو الطوباوية، والتي تعتبر، أن قدر ومصير البشر في الأرض مرتبط بعالم ماورائي، عالم الهناك، المفارق لعالم الهنا. إنه عالم الغيب، وأن الحياة الدنيا بمثابة تجربة وامتحان لتعرف الذات قيمتها، والأنكى من ذلك، أن هذا التصور يجعل الدولة مجرد وسيلة، تزود وتساعد الإنسان على التزود للعالم الآخر، فيتم شحذ وشحن الوجدان الفرد[4]، والتطلع الروحي للعالم الآخر/ والانفصال عن قوانين الحياة، وكأن حكمة الإنسان للأسف تأمل واستغراق في العالم المفارق، لا في الحياة الدنيا. فالذات الحالمة بالماوراء، والمشدودة وجدانيا إلى طوبى الخلافة، تعمل على إفناء الواقع والفرار من العالم المعيش؛ لأنه ضباب وسديم وفوضى وجاهلية، والسعادة بالنسبة إلى الإنسان لا تتم بالتنظير للدولة، وبناء أسس ومقومات الحياة السياسية والاجتماعية الواقعية، وإنما بالتطلع لعالم الغيب. إنها نكسة الذات، ونكبة العقل العربي، إنه الوعي الشقي بلغة هيغل، العيش في عالم وعدم القدرة على التنظير له، والتطلع إلى عالم متعال لا يوجد إلا في مخيلة العقل العربي.

وعليه، يصبح كل شيء لا معنى له، فالظواهر الكونية تغدو مؤقتة وعابرة، والتنظيمات الاجتماعية/ كالدولة، وسيلة وقنطرة عبور إلى عالم الماوراء. إنها أزمة العقل العربي، أزمة تنم عن عدم قدرة العقل على الانفلات من المقولات الأخلاقية والغيبية والطوباوية. إن المقالة الأولى تذهب في اتجاه القول بأن الدولة تنظيم اجتماعي واصطناعي، لكن العيب فيها، أن الدولة ليست لها قيمة في الحياة الدنيا، وتلك مشكلة سياسية؛ لأن مفهوم القيمة يتعلق بالوجدان الفردي، حيث النزعة الأخلاقية، والتطلع إلى الهناك، وتصبح الدولة في خدمة الأفراد لا العكس، الدولة وفق هذه المقالة وسيلة شرعية ومقبولة؛ لأنها تغذي وجدان الفرد وتؤهله نفسيا وروحيا للعالم الآخر، وإذا فعلت عكس ذلك، تصبح منبوذة وسيئة ولا شرعية.[5]

[والمثال الأبرز على النزعة المتطرفة للإسلام السياسي السلفي، حيث الدين ووهم الخلافة، يكفرون الدولة والمؤسسات والأفراد والقوانين الوضعية، بدعوى أنها دولة جاهلية لم تربِّ الفرد روحيا ولم تطبق شريعة الله، كما تحلم بذلك الذات المتطرفة، وخير مثال على ذلك، مقالات حسن البنا، وسيد قطب في كتابه معالم في الطريق، وأبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي، والقرضاوي، وبشيء من الاعتدال السياسي مع أحمد الريسوني وعبد السلام ياسين]*. فالدولة الصالحة هي التي تحقق المتطلبات الحيوانية والوجدانية للأفراد، وإذا فعلت عكس ذلك، فهي شر مستطير، تصنف في مرتبة ثانوية، تصبح لها قيمة مستعارة، إذا قبلت أن تهيئ الفرد روحيا للعالم الآخر، وتلك هي الغاية القصوى، لم تحددها الدولة، وإنما عناصر برانية متعالية، ومن الواجب على الدولة، أن لا تربي الفرد فقط، وإنما ألا تحجب عنه الغايات النهائية المتمثلة في حلم سعادة الهناك، فأقصى ما يمكن للدولة أن تفعله مع الفرد، أن تشد ذهنه وتوجه بوصلته الوجدانية والروحية الى العالم الأبدي.[6]

وحسب العروي، أن هذه المقالة عائق معرفي وسياسي في وجه العقل؛ لأنها لم تساعد على بلورة ونشأة نظرية خاصة بالدولة، صحيح أن هناك نظرة عربية حول الدولة، لكنها مستوحاة ومرتبطة بغاية الفرد الوجدانية، وبواجبات الفرد تجاه تلك الغايات السامية والنهائية، والتي لا يحيد عنها إلا هالك. إنها الرؤية التي تقدم الأخلاق على السياسة، والشريعة على الحكمة، والغيب على الشهادة، والمثالي الطوباوي على الواقعي. ثنائيات تجعل الدولة في خدمة أخلاق ووجدان الأفراد.[7] فالأخلاق أصل، والدولة فرع، والعودة إلى الأصل أصل، هكذا يبرر العقل الفقهي للأخلاقي على حساب السياسي. والأنكى من ذلك، أن الشريعة هي غاية الفعل السياسي للدولة، خصوصا وأنها مجموع طرائق السلوك والتصرف المشكلة لوجدان الفرد، والأخلاق، ليست أخلاق المصلحة العامة، وإنما مصلحة الفرد، بينما أخلاق الدولة، ثانوية وجزئية وتابعة للفرد، الشريعة تعتبر أن الدولة وسيلة لتبليغ الدعوة والرسالة الأخلاقية للفرد. إننا أمام أزواج تتمظهر في الفرد والدولة، قانون الفرد وقانون الدولة، ليس بالضرورة قد يتعارضان حسب العروي، ولكن الأولوية لقانون الفرد على حساب قانون الدولة، وكأن النداء الأخلاقي للفرد يقول: فلتمت الدولة وتفنى، وليحيا الفرد/ السلطان/ المؤمن، للعالم الآخر، ولحلم طوباوي يستحيل تحقيقه في الواقع.[8]

غاية الدولة، خاصة الدولة السلطانية تربية الفرد خلقيا، وتحقيق سعادته الأخروية لا الدنيوية؛ وذلك عن طريق ربطه بالشريعة، التي وظفت سياسيا لخدمة السلطان؛ بمعنى أن الشريعة لم تعد محايدة ونقية، الأمر الذي جعل الواقع غائبا، بغياب نظرية سياسية خالصة حول الدولة، فالهدف ليس الانطلاق من الواقع، الذي هو الأصل، بل، تطويعه بأخلاق الشرع وأحلام الطوبى ليمتثل لفكرة الخلافة كوهم وحلم يستحيل تحقيقه إلا بمعجزة خارقة. إنه السعي الحثيث لإلحاق النسبي والمتغير والمهمش الذي هو الواقع، بالمطلق والنهائي، وإسقاط ذلك على الدولة، بجعلها وسيلة وليس غاية في ذاتها، فاهتمام فقهاء السياسة بالدولة، وقبولهم للدولة السلطانية مثلا، ردم الهوة بين الخلافة التي تحققت بالنسبة إليهم في زمن النبي، وبين الواقع المضطرب، وتلك رؤيتهم لا توحي بتقديم الواقع على مبدأ ديني، أو الانطلاق من الواقع من أجل التأسيس لنظرية سياسية حول الدولة، وإنما للتسليم بوجود إمام واحد في دار الإسلام، إمام يطاع ولا يعصى، وهي المعضلة السياسية التي جعلت العقل العربي سكونيا وثابتا، مشدودا إلى الماضي الذي مضى، ماضي أوهام وخرافات السلف الصالح، ولا ندري أين هو وجه الصلاح؟

غياب نظرية حول الدولة، مرده إلى كون الدولة وسيلة، لتهذيب وتربية وتشذيب الجانب الحيواني في الإنسان، وإذا لم تؤدّ ذلك الدور التربوي، فإنها شريرة وكافرة، وإذا حققت المطلوب، وصقلت الطبيعة الحيوانية والعدوانية للفرد بأخلاق الشريعة، فهي شرعية. إنها دولة تستمد قيمتها ليس من ذاتها، وإنما من مقولات الشرع والأخلاق، بينما مقولات العقل غائبة، وممحية من مجال السياسة. فأقصى ما يمكن للعقل أن يدركه، أن يعقل الأول/ الله، وفوق كل ذي علم عليم، والدولة الفاضلة، هي التي تجعل الفرد يستغني عنها، وعن النظر إليها في ذاتها، ويتطلع إلى ما هو أسمي وأرقى بالنسبة إليه، إنه العالم الآخر.

المحور الثاني: مفارقات الدولة

أما أطروحة المقالة الثانية، فتتمحور حول أن الدولة ظاهرة من ظواهر الاجتماع الطبيعي، غايتها تحقيق السعادة والرفاهية والمعرفة؛ أي إن الدولة هنا مجرد وسيلة، وذلك بجعل الفرد يتصرف وفق القانون الطبيعي المفضي إلى التعاون والاجتماع مع الآخرين. إنها سمة الدولة الطبيعية الصالحة، حيث لا تناقض بين الفرد والمجتمع والفرد والدولة، عكس الدولة الفاسدة أو غير الطبيعية، أو الاستبدادية، التي نشأت عن طريق خطأ إنساني يتمثل في رغبة الكهان والنبلاء في السيطرة والسطو على الدولة، باختراع أسطورة أن الإنسان كائن شرير، كبح عدوانيته يتطلب وجود سلطة قاهرة وجبارة ومتسلطة واستبدادية. على شاكلة دولة طوماس هوبز.

وبناء عليه، هناك علاقة وطيدة بين الدولة والفرد والمجتمع، فالدولة تخدم المجتمع، وهذا الأخير يخدم الفرد، بهدف تنظيم التعاون وخلق الانسجام داخل الفضاء العمومي، وتحقيق أسس ومبادئ العيش الكريم كالأمن والسلم وردع النزوعات العدوانية، وعندما يتحقق ذلك، حقيقة لا وهما، تخف رغبة الأفراد في اللجوء إلى الدولة؛ لأن السلم مؤذن بزوال العدوان والظلم، وفي ذلك مؤشر سياسي على تلاشي الدولة الزجرية والقمعية، دولة التآمر على الإنسان، باستعباده وسلبه حريته. وحسب العروي أن الدولة الفاسدة أو الاستبدادية لا تستحق أن تدرس من الناحية الفلسفية؛ لأن الفلسفة العقلانية تهتم بقضايا الدولة الخاضعة للقانون الطبيعي، الدولة التي تجد تعبيرها في الفكر السوفسطائي والطبيعيين الرومانيين وبعض فلاسفة الإسلام.

وبالجمع بين المقالتين الأخلاقية الدينية، والطبيعية، يمكن القول حسب العروي إن بينهما علاقة تمايز، رغم الاختلاف الشديد بينها حول المضمون والمفاهيم المؤطرة كالعقل والأخلاق والطبيعة، إلا أن هناك قواسم مشتركة تتمثل في التأكيد على نفي التناقض بين الفرد وذاته، والمجتمع في ذاته، والتناقض الوحيد يظهر بين الفرد والمجتمع من جهة، وبين الدولة من جهة ثانية.[9] فالدولة الشرعية الطبيعية متجانسة مع الفرد والمجتمع؛ لأن الكل مرتبط بالأساس الطبيعي، في مقابل الدولة اللاشرعية واللا طبيعية، دولة الاستبداد والشر.

الدولة الفاسدة تتعارض مع وجدان الفرد؛ لأنه يصبو نحو الفضيلة والمثل الأخلاقية الطبيعية، بينما هي تجذبه إلى العدوان، تسلبه حريته وكرامته، عكس الدولة الأخلاقية التي تخدم غايات الفرد وتحقق أغراض الإنسان العاقل؛ وذلك هو تصور إرنست كاسيرر، الذي يميز بين التفكير بالأسطورة في الدولة والتفكير بالمنطق، مستحضرا نموذج العقلانية اليونانية، حيث التحول من النظر الميتوسي في الدولة إلى النظر اللوغوسي، غير أن الرؤية الأسطورية عادت مع عصر النهضة الأولى، واشتدت مع ماكيافيلي، وتقوت مع هيغل، فما هو الفرق بين الرؤيتين: المنطقية والأسطورية للدولة؟

التفكير بالمنطق في الدولة، معناه، الاعتماد على الفرد الحر والعاقل والانطلاق منه، لاصطناع الدولة ككيان، في خدمة الفرد، بينما التفكير بالأسطورة في الدولة، فقد أحياه ماكيافيلي، وينص على أن الدولة غاية في ذاتها، قوة مطلقة، جبارة وقاهرة، متعالية عن وجدان وأخلاق الأفراد، رؤية ترسخت بشكل أعمق مع هيغل الذي اعتبر الدولة كيانا مجردا متعاليا عن إرادات الأفراد. وعليه، فالدولة، ليست حدثا اصطناعيا ناتجا عن حرية الفرد والجماعة، وإنما هي التحقق الفعلي للفكرة الأخلاقية، هي تجسيد وتمظهر للوعي أو الفكرة الموضوعية. والفرد في هذه الحالة يحقق حاجاته في علاقته بالمجتمع المدني، وفي ذلك (انتصار للأسطورة على المنطق)[10] حسب إرنست كاسيرر. لكن، هل حقا أن هيغل يقدس ويؤله الدولة؟ وهل الفرد في دولة هيغل يحقق حريته أم إنه مسلوب الإرادة والحرية؟ لنؤجل الحديث عن هيغل، فسيتم الوقوف عند نظريته حول الدولة بإسهاب.

وعليه، فالتصورات التي تعتبر الدولة ظاهرة من ظواهر الاجتماع الإنساني، لا تنظر إليها كمفهوم في حد ذاته، وإنما انطلاقا من أوليات اجتماعية، حتى وإن كانت تصورات تعتبر أن الفرد ليس خارج الدولة، ولكنه جزء منها، لأنه معطى داخل المجتمع، يكفي النطق بكلمة السلطة، لندرك أن الأمر يتعلق بالدولة التي تمارس تأثيرا على الأفراد، وفي هذه الحالة، لا قيمة للرؤية التي تشدد على وجود حالة طبيعية أولى، سابقة عن نشأة الدولة والمجتمع، فعبارة الإنسان حيوان سياسي، تدل على أن الإنسان لا يسبق الإنسان، وافتراض حالة أولى معناه، جعل الإنسان حيوانا.[11]

وكأن العروي، يؤكد على ضرورة حضور الواقعية السياسية للتخلص من الأوليات، أوليات المجتمع والدولة، واقعية تتمثل في عدم كلامه عن الفرد المجرد، وإنما الفرد الفاعل والمندمج في مجتمعه، فطبيعة الفرد كفرد تتم بالتواجد داخل الدولة، حيث لا يوجد تمييز بين المجتمع والفرد؛ لأنهما داخلان في حيز الدولة، وتصور فرد خارج مملكة الدولة، يعني، تصور فرد غير إنساني، ملاك أو حيوان، هو سبب رفض العروي لإيديولوجية تقديس الفرد، واعتبار إرادة الفرد فوق كل اعتبار، مشددا بالتلميح على أن التفكير في السياسية، تفكير في الدولة، وفي الفرد داخلها لا خارجها، إنها فعلا الواقعية السياسية. فحصر كل شيء على الفرد، يشي، بالتمركز حول ذاتيته، كغاية، وتصبح الدولة في مجرد وسيلة لخدمة الفرد، وتلك طوبى بالنظر إلى الأحداث التاريخية.[12]

ينتقد العروي التصورات التي ترى بأنه لا يوجد تناقض بين الفرد والدولة؛ لأنهما نظامان تابعان لبعضهما، موضحا أنه قد تحدث ظروف تاريخية يتعارض فيها الفرد (النبي والمتصوف والفيلسوف)، مع الدولة، أو قد يتعارض المجتمع مع الدولة خاصة في حالة الثورات والانقلابات، لكن، هذا لا يؤثر على مفهوم الدولة كمفهوم؛ بمعنى أن العروي يسعى إلى النظر إلى الدولة كمفهوم، لا كأشكال وتجليات مختلفة، يناقش الدولة كمفهوم عقلي مجرد، وهذا ما يفسر كون أفلاطون كان يسعى إلى تشييد مدينة فاضلة يحكمها الفيلسوف، فالمدينة الفاسدة تخلصت من سقراط، ليست الدولة-المدينة في ذاتها، وإنما الدولة الأثينية الفاسدة.[13] إنها الروح الهيغلية المبثوثة في تصورات العروي.

يؤكد صاحب المفاهيم/ العروي، أن التناقض حاصل ليس بين الفرد والدولة فحسب، وإنما بين الفرد وذاته، حيث الصراع بين العقل والشهوة، الخير والشر، بين طبقات المجتمع، وحتى داخل الدولة يبرز التناقض، بهذا المعنى، يظهر تهافت أطروحات الانسجام والتوافق بين الدولة والفرد، حيث أصل الدولة الفاسدة ليس خطأ إنسانيا كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وإنما انعكاس التناقض بين الفضيلة والرذيلة. وهنا أيضا يسقط التصور الذي يرى بأن الدولة تفسد طبيعة الإنسان، وتلك غمزة العروي ضد روسو، المنتصر لفكرة الطبيعة الخيرة للإنسان. وجديد العروي، أن الدولة في هذه الحالة تجسد الخير والخير ولا تنتصر لبعد على حساب الآخر، كل شيء داخل تحت حيز الدولة، ويتأطر وفق سلطتها. إنه تغيير ملحوظ في فهم الدولة، سيدفع العروي إلى الوقوف عند تصور هيغل للدولة؛ لأنه استوعب وتجاوز جميع أقوال الفلاسفة حول الدولة. إنه (هيغل) نقطة الوصل بين الفلسفة الكلاسيكية والفلسفة المعاصرة.

المحور الثالث: هيغل والعروي

خاطئ وواهم من يظن أن الدين يسمو على الدولة، مفهوم الدين هو مفهوم الفلسفة، ومفهوم الفلسفة هو مضمون الدولة. إنه التطور الجدلي للفكرة وفق مسار الروح، من الروح الذاتي إلى الروح الموضوعي، وصولا إلى الروح المطلق، والدولة الهيغلية هي التحقق العقلي للفكرة الأخلاقية. إنها تجلّ من تجليات الروح الموضوعية، حيث يصبح التناقض الجدلي هو محرك الأفكار والتاريخ، وهذا الأخير هو مملكة الضرورة؛ بمعنى يسير وفق قوانين عقلية متناسقة، عبرها تتجلى الدولة كمفهوم عقلي، ومن الدين إلى الفلسفة، ومن الدولة إلى التاريخ. إنه التطور الناقص الذي يقتضي التناقض الدائم حتى تنحل جميع المتناقضات في الروح المطلقة، ويتحقق التطابق التام والنهائي بين التاريخ وفلسفة التاريخ، بين الدولة وذاتها.[14]

يعترف هيغل بالتناقض المؤقت بين الفرد والدولة، واضعا ذلك في السياق التاريخي لصراع الفرد مع الدولة، متحدثا عن الدولة المسيحية التي حققت للفرد الحرية الجوانية، حرية العالم الداخلي؛ فهي أفضل من حرية الدولة الآسيوية والإغريقية، ويرى أن الدولة الحديثة أفضل من المسيحية، نظرا لتحقق الحرية للجميع وعلى أرض الواقع، وليست على الطريقة المسيحية التي خلقت الوعي الشقي، ومن ثمة [فالدولة الكاملة هي التي تعترف بحرية الذات وتعمل على غمسها في المبدأ العام، التي تترك الفرد حرا يفعل ما يريد في الوقت الذي يطبق فيه تلقائيا القانون العام].[15] ويؤكد العروي مستندا إلى فكر هيغل، أن التناقض مؤشر على نقصان الدولة وعدم اكتمالها، فالدولة ليست ناقصة في ذاتها، ولكنها لا تستحق اسم دولة بالمعنى الدقيق. خصوصا وأن الدولة هي التي تحمل التناقض وتتجاوزه، وتجعل منه وسيلة للحفاظ على الوحدة، التناقض الداخلي من أجل الوحدة.[16] وبإسقاط هذا التعريف على ثنائية الدولة والفرد، يمكن القول. إن الدولة والفرد متناقضان، لكن، الدولة تستوعب ذلك في أفق وحدة، بموجبها تصير غاية في ذاتها وليست وسيلة لخدمة الأفراد.

ينتقد هيغل التصور الذي يعتبر الدولة في خدمة المجتمع، ومن ثمة في خدمة الأفراد لتحقيق الرخاء والسعادة والأمن، وهي تصورات تجد منابعها الأولى في فلسفتي روسو وكانط؛ فالأول يعتبر المجتمع فوق الدولة، والثاني يجعل من القانون الأخلاقي للفرد هو أساس الفعل وأداء الواجب، ويصبح التعاقد بشقيه الأخلاقي مع الذات، والسياسي بين الذوات، أداة لجعل الدولة في خدمة مصلحة الفرد وتحقيق حقوقه الطبيعية السابقة عن المجتمع. يقوض هيغل هذا المنطق؛ لأنه يتأسس على المصلحة التعاقدية، لأن الدولة في ذاتها ليست مبنية على مصلحة الفرد، وليس هدفها الدفاع عن المجتمع المدني، لكنها ليست معادية، تحتضن مؤسسات تسهر على تحقيق المصلحة الخاصة للأفراد. إن الدولة، ضرورة خارجية وقوة متعالية، قوانينها تتكيف مع طبيعتها، غير مقصية لغاية الفرد والمجتمع، فقوة الدولة تتمثل في خلق وحدة متناغمة بين الغاية العامة مع المصالح الخاصة.[17] وأداة الوحدة، الأسرة والمجتمع، كل انفصال بين المصلحتين، إعلان عن نهاية وانهيار الدولة. إنه الترابط المنطقي والواقعي الذي يجعل الحرية ممكنة، في أفق تحقيق وحدة متناغمة من نوع ثان، تتجلى في وحدة قانونية داخل الدولة.

يرفض هيغل الفكرة القائلة، بأنه يمكن تخطيط دستور لمجتمع ما؛ لأن هذا الدستور لا يغير شيئا، فقد سبقته وحدة قانونية بين المصلحة العامة والخاصة. مقدما مثال فرنسا التي لا تستحق اسم دولة، بل، مجرد مجتمع أو مجموعة إنسانية غير مكتملة، وليست دولة عقلية؛ لأن الدولة حسب هيغل ليست شكلا من أشكال النظام، وإنما هي (الفكرة الأخلاقية بصفتها إرادة جوهرية تتجلى واضحة لذاتها، تعرف ذاتها وتفكر بذاتها وتنجز ما تعرف لأنها تعرفه)[18]. تعريف هيغلي أصيل للدولة يعترف العروي بصعوبته، لا لكونه مجردا، وإنما لكونه ملتصقا بالواقع، فهمه يتطلب مجموعة من المفاهيم كالتضحية والحرية والفرد والدستور، والوجدان. فدولة هيغل مجردة ولا تنطبق على دولة معينة، وأنه تعريف حسب العروي يتضمن في ذاته شروط تحققه، حيث تظهر نظرية في الدولة، ليست الدولة الفاضلة، وإنما الدولة المعقولة لمقتضيات مفهومها، الذي بني عن طريق التجريد العقلي، وليس الاستقراءات الجزئية، هذه هي النظرية الوحيدة والممكنة، حيث الدولة غاية في ذاتها، وأنها تتحدد وفق مفهومها المجرد.[19] لكن، هل يمكن تجاوز المفهوم الهيغلي للدولة؟

حسب صاحب المفاهيم، فقد قدم إريك فايل تصورا لتجاوز مفهوم الدولة عند هيغل، وإحداث مصالحة مع كانط وماركس، حيث يعتبر فايل، أن الدولة شكل تنظيمي محكوم عليه بالتجاوز انطلاقا من جدل التاريخ ذاته، وعن طريق فعل الحرب كفعل عنيف؛ لأن علاقة الدولة المستقلة بباقي دول المنتظم الدولي، كالفرد بالنسبة إلى باقي الأفراد، وبيان ذلك، فإذا كان التقاتل هو الذي أدى إلى اجتماع الأفراد وتعاقدهم على قواعد جامعة مانعة، فكذلك العلاقة بين الدول، فالحرب يمكن أن تؤدي إلى خلق منتظم يضم جميع الدول، حيث يتم تجاوز الدولة بمفهومها الهيغلي. (فلا تمثل الدولة في رأي فايل المطلق الهيغلي، الذي يسمو عليها هو الروح، والروح لا يتحقق إلا في دولة كاملة الإنسانية، لا تعرف التناقض، وبالتالي لا يوجد فيها الدهماء). وحسب العروي وبالاستناد إلى إريك فايل، يزول التناقض لحظة أن تفقد فئة معينة من الناس الشعور بالحق، وبالشرعية والاعتزاز بثمرات الكسب، وتتكون طبقة الدهماء من جهة، ويسهل على قلة أخرى أن تكدس الأموال الباهظة، حيث يتطابق في تأويل فايل معنى الدولة الكاملة بمفهومها الهيغلي مع المجتمع الاشتراكي الماركسي، فالدولة الكاملة هي التي تنصت لهمس الضمير.[20]

الدولة الكاملة على الطريقة الهيغلية ليست دينية؛ لأنه لا توجد دولة دينية، فوقائع التاريخ أثبتت أن هناك استغلالا وتوظيفا للدين، لتحقيق المنفعة والمصلحة، ولا توجد دولة ثورية؛ لأن الثورة تطيح بنظام ليحل محله نظام آخر. أما الدولة، فهي باقية وممتدة في الزمان والمكان، وكأن العروي، وعلى طريقة هيغل يسعى إلى بناء نظرية حول الدولة، انطلاقا من الأسس العقلية، بعيدا عن الدين؛ لأن جمع الدين والسياسة يؤديان إلى الطغيان حسب هيغل، وأن الثورة ليست دائما في صالح الدولة والفرد، فيمكن للثورة أن تنحرف عن أهدافها التي قامت من أجلها، وخير مثال على ذلك الثورة الفرنسية التي انتقدها هيغل وبين عيوبها.

يعترض العروي على أتباع هيغل الذين اعتبروا الدولة البروسية هي التحقق الفعلي لدولة هيغل، وأن المسؤولين البروسيين اهتموا بفكر هيغل نظرا لنقده للثورة الفرنسية. لذلك، يجب التمييز بين الدولة الواقعية الناقصة، والدولة الكاملة كمفهوم، الدولة كمفهوم مجرد وكغاية في ذاتها، علما أن هيغل خول للدولة العقلانية حق اللجوء إلى القوة للقضاء على النزوات الفردية، دولة تربي الناشئة، وتوحد التنظيمات، دولة لا تدرك عن طريق التحليلات التجزيئية، وإنما التحليلات الشمولية والعينية، وذلك رفض للتصور الكانطي، الذي أكد على صعوبة فهم الشيء في ذاته، والمعرفة الوحيدة الممكنة والمتبقية هي التي تتم عن طريق أخلاقيات الوجدان الفردي، حيث منبع الحرية. والقول بأخلاقيات الوجدان، معناه، الاعتراف بأن بناء نظرية حول الدولة، يتم على أساس الفرد. إنه تصور النزعة الليبرالية، وتصور كاسيرر وليو شتراوس وكارل بوبر، باستثناء إريك فايل الذي نظر إلى هيغل بعمق وبرؤية مختلفة.[21] فايل الذي قبل المنهج الهيغلي الاستنباطي، معتبرا أن أقوال هيغل ليست أسطورية، وإنما علمية، وليست تبريرا للواقع، وإنما إفراغه فكرا وتصورات، الدولة هي هي، سواء تم قبولها أو رفضها، ويجب أن نفهمها كما هي، فنظرية هيغل صحيحة؛ لأنها تحلل الواقع على أسس عقلية وعلمية رصينة، وحسب فايل، فالدولة الهيغلية يمكن تجاوزها، ولا يمكن بتاتا تفنيدها.

إذن، فالدولة الهيغلية تتحكم في العقيدة والوجدان، عن طريق التربية والقمع، تتحكم في الفرد الميال إلى الشر، وهذا ما يتبناه العروي، فهو على شاكلة هيغل يمجد دولة العقل، ويرفع من مكانتها، يقرأ في ذلك في سياق الحديث عن علاقة الدولة بالفرد، وعلاقة الفرد بفردانيته، فالعروي استنادا إلى هيغل يستبعد الفردانية كنزعة فوضوية موغلة في التطرف؛ لأنها تتعار ض مع الدولة، نزعة تذهب في اتجاه أن الشر كامن في الدولة التي تنظم حياة الناس وتضيق الخناق على مبادرة الفرد الحقيقية، ومن يعترض على نظرية هيغل في الدولة الإيجابية موغل في عالم الطوبى المحبب إلى النفوس، وفي ذلك ابتعاد عن مجال السياسة الملموس.

[1]- أستاذ الفلسفة، وباحث في فلسفة القانون - المغرب

[2]- عبد الله العروي، مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، الطبعة العاشرة، الدار البيضاء، 2014، صفحة 13

[3]- العروي، مرجع سابق، صفحة 13

[4]- نفسه، ص 14

[5]- نفسه، ص 14

*- هذه الفقرة إضافة من عندي، حيث تم استثمار فكر العروي لتفكيك رواد خطاب الجماعات والأحزاب الاسلامية التي تنطلق من الدين للحديث عن السياسة.

[6]- نفسه، ص 15

[7]- نفسه، ص 15

[8]- نفسه، ص 15

[9]- نفسه، 18-19

[10]- نفسه، ص 20

[11]- نفسه، ص 23

[12]- نفسه، ص 24

[13]- نفسه، ص 28

[14]- نفسه، ص 29

[15]- نفسه، ص 29

[16]- نفسه، ص 30

[17]- نفسه، ص 31

[18]- نفسه، ص 34

[19]- نفسه، ص 35

[20]- نفسه، ص 38

[21]- نفسه، ص 39