الدين والهوية: إشكالات الصدام والحوار والسلطة


فئة :  قراءات في كتب

الدين والهوية: إشكالات الصدام والحوار والسلطة

صدر كتاب السيد ولد أباه المعنون بــ "الدين والهويّة: إشكالات الصدام والحوار والسلطة"، عن دار جداول، الطبعة الأولى 2010، عدد صفحاته 145 صفحة، وقد قسّمه صاحبه إلى سبعة فصول، والكتاب في أصله عبارة عن "مجموعة من الدراسات والمقالات" نشرت ببعض الدوريات الفكرية، وعلى الرغم من اختلاف فصول الكتاب، فإنّها تتمحور حول إشكالية الدين والهويّة من خلال عدّة مداخل منها:

- المسألة الدينية السياسية وأثرها في تشكل الهوية الثقافية، وفي المسائل الشرعية والأيديولوجية.

- سؤال الكونية والاختلاف، واستتباعاته على مستوى النظرة إلى الذات وإلى الآخر.

- الإسلاموفوبيا الجديدة: رهاناتها الفكرية والاستراتيجية، ومقوّمات الحوار الديني.

الفصل الأول: تمحور حول "المسألة الدينية-السياسية بين الدولة الدينية والدولة- الدين"؛ إذ يرى السيّد ولد أباه: أنّه يمكن التمييز داخل الفكر الإسلامي المعاصر بين اتجاهات ثلاثة متمايزة في النظر إلى المسألة:

- اتجاه يحصر نموذج الدولة الإسلامية في أشكالها التاريخية؛ أي دولة الخلافة والدولة السلطانية بالاستناد إلى المرجعيّة الفقهيّة الوسيطة.

- اتجاه يسعى إلى أسلمة الدولة الوطنية الحديثة؛ أي إضفاء الشرعية الدينية على هياكلها المؤسّسية البيروقراطية، مع تصويب منظومتها القيمية التشريعية.

- اتجاه يتبنّى الدولة الحديثة ونمط العقلنة السياسية، التي تقوم عليها، من منطلق تصوّرها الإجرائي الأداتي، الذي لا يتناقض جوهريًّا مع المرجعية الإسلامية؛ بل يقبل بشتّى المقاربات القيمية.

وبين هذه التصوّرات الثلاثة فرق شاسع حصره الكاتب في منحيين بارزين:

أولهما؛ طبيعة الدولة ذاتها: هل هي إمامة شرعية، أم أداة تنظيم إجرائية، أم تجسيد لقيم جماعية مشتركة؟

ثانيهما؛ طبيعة علاقة الدين بهذه الدولة: هل هي نظامه المؤسسي، الذي لا هويّة له خارجه، أم هي نظام بشري تحكمه قيم دينية، أم أداة تنظيم اجتماعي له منطقه الداخلي، الذي لا يتعارض مع أيّ منظور ديني أو عقدي؟.

فيما يخص النقطة الأول؛ نتبيّن أنّ تصوّرات لشأن الحكم، وإن أكدت صراحة غياب الدولة الدينية في الإسلام، فإنّها لا تخرج، إلاّ ما ندر، عن أحد نموذجين، هما؛ إمّا نموذج "الخلافة" بحسب مقاييس السياسة الشرعية الوسيطة، أو الأحكام السلطانية. وإمّا نموذج "الحاكمية الإلهية" أي الدولة التي يحكمها القانون الإلهي، وتصبح السيادة والشرعية فيها للنص المنزّل، لا للأمّة الشارعة. بالنسبة إلى النقطة الثانية "فصل الدين عن الدولة، أم فصل السياسة عن الدين؟"، يقول السيد ولد أباه: "لاحظنا أنّ وجوه الفكر الإسلامي المعاصر قد تعوّدت على تناول شرعية الدولة الحديثة، وعلاقتها بالدين، من منطلق أدبيات الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية، وعادة ما يفضي هذ التناول إلى نعت الدولة الحديثة بالعلمانية التي تعني في السياق التداولي الإسلامي المعاصر؛ نبذ الدين وإقصاءه عن الشأن العامّ"[1].

الفصل الثاني: "المسألة الدينية- السياسية في ما وراء حجاب العلمانية": بخصوص هذه المسألة يذهب السيد ولد أباه إلى أنّ الإسلاميّين، إجمالًا، يتّفقون مع أعتى خصوم الإسلام من الغربيين في اعتبار أنّ الإسلام هو الدين الوحيد الذي لا يقبل الفصل بين الدين والدولة، ويتمنّع على العلمانية؛ التي هي المسلك الذي اعتمدته المجتمعات الديمقراطية الغربية الحديثة في بناء المسألة الدينية السياسية. ويردّ على ذلك بقوله: "الواقع أن مقولة العلمانية نادرًا ما تخضع لتدقيق نظري ومنهجي حقيقي؛ فمنهم من يتصوّرها في حدها الأدنى؛ أي الفصل بين المؤسستين الدينية والسياسية. ومنهم من لا يرى فيها غير البعد القانوني التشريعي"[2]. تطرّق ولد أباه، كذلك، إلى قضية الحداثة مبيّنًا أنّ الخطاب الإسلامي السائد، لم يستطع بناء تصوّر منسجم وواع للحداثة، في بعديها؛ الكوني أوّلًا، حيث هي حركة تقوم على المرجعية الإنسانية الكلية. والاختلافي ثانيًا؛ باعتبارها تقوم على مبدأ الاعتراف والتنوّع. فليست الحداثة، إذن، مشروعًا غربيًا وافدًا؛ وإنما هي مسار إنسانيّ مفتوح لصياغة القيم الجماعية المشتركة، وللمسلمين موقعهم في هذا المسار بحكم زخمهم الحضاري، وموقعهم المحوريّ في الخارطة العالمية.

وفي حديث المؤلّف عن التنوير نبّه إلى نقطة مهمّة قائلًا: "فما أبطله التنوير ليس النص المقدّس، وإنّما الميتافيزقيا؛ التي هي المنافس الفلسفيّ للوحي، وليس الدين، وإنّما المؤسسة الدينية، التي كانت عماد الاستبداد في الغرب؛ بل يمكن القول: إنّ التنوير بقدر ما حرّر العقل الإنساني، وأخرجه من قصوره، حرّر الدين من التصوّرات الجامدة التي التبست به، ودفع شروط الاجتهاد والتجدّد بالمناهج النقدية والتحليلية المستحدثة"[3].

أمّا الفصل الثالث: فمداره "الفكر السياسي الشيعي المعاصر؛ نموذج ولاية الفقيه: الخلفية الفكرية والمأزق الراهن" في هذا الفصل بيّن السيد ولد اباه أنّ النظام الثوري الإسلامي يضمّ أجنحة عديدة متصارعة تستند كلها إلى المشروعية الإسلامية، وأجنحته المعارضة في مجملها تستند إلى المشروعية الإسلامية، بما فيها المعارضة السياسية الراديكالية المعروفة "بمجاهدي خلق"؛ فبعكس الاتجاهات التحديثية والعلمانية في الساحة العربية، غالبًا ما تتشكّل خارج الهمّ الديني وسياقه الفكري؛ فإن الصورة مغايرة في إيران، حيث عادة ما يتبلور أكثر الخطابات تحديثًا ضمن السياق الديني، كما بيّن أنّ الإشكالات المهيمنة على الفكر الإيراني؛ هي علاقة الدولة الدينية بالدولة المدنية، ومصدر مشروعية السلطة، وتاريخية المعرفة الدينية، والتعددية الدينية، وتحليل اللغة الدينية، كما أشار السيد ولد أباه إلى أنّ فكر الإصلاحيّين الإيرانيين في مجمله تأثر بأعمال الفيلسوف "عبد الكريم سروش" الذي شارك في الثورة الإسلامية، ودعّمها بقوة، قبل أن يطالب بتجديد نسقها العقدي والسياسي بالتخلّي عن فكرة ولاية الفقيه، واستيعاب قيم التسامح والتعدّدية، عبر ممارسة تأويليّة جديدة. يرى عبد الكريم سروش أنّ ولاية الفقيه تقع خارج مجال الفقه؛ لأن مسألة الإمامة قضيّة كلامية لا فقهية، والشيء الوحيد الذي لا يحوّل الدين إلى أيديولوجيا هو "الحكم" الذي يتلاءم مع كل الثقافات.

ثمّ تطرّق السيّد ولد أباه إلى موضوع "الحداثة الكونيّة إشكالية الخصوصية" وكان منطلقه في ذلك كتاب محمد أركون "الإنسانية والإسلام"، فقد اعتبر أركون السبب الأساسي لإخفاق ديناميكية التحديث العربية، يرجع إلى حاجز الدفاع عن الهوية، الذي أنتجته أيديولوجيا الكفاح ضد الاستعمار والهيمنة الغربية. وطرح المؤلّف سؤالًا جوهريًّا حول الحداثة: هل هي مسار كونيّ بمنظومة قيمية ومضامين ثقافية ذاتية، أم هي ديناميكية أخلاقية برؤى وأنساق حضارية ومجتمعية متباينة؟ ودرس، بعد ذلك، بعض المحاولات الفلسفية للدفاع عن الحداثة البديلة، وكسر السلطة التأويلية الغربية، ومن هذه المحاولات؛ محاولة المفكّر المغربي طه عبد الرحمن؛ فقد أجمل نقده للنمط المعرفي الحديث في أصلين أساسيين هما: "لا أخلاق في العلم" و"لا غيب في العقل" إذ يقف عند أزمات هذا النمط المعرفي في مستويين متمايزين، هما: "أزمة الصدق" المتأتية عن فصل العلم عن الأخلاق، و"أزمة القصد" المتأتية عن فصل العقل عن الغيب، طارحًا بديلًا أخلاقيًّا للحداثة الغربية يقوم على "نظرية التعبّد" الإسلامية، ومن ثمّ، خلص السيد ولد أباه في هذا الفصل إلى القول: "من الواضح أنّه إذا كانت أدبيّات ما بعد الحداثة في السياق الغربي، لا تنفصل عن تصدّعات ورهانات ديناميكية الحداثة ذاتها، حتى لو اتخذت أحيانًا طابعًا نقديًّا تجاوزيًّا أو عدميًّا؛ فإنها في الفضاء العربي تعبّر عن موقف مغاير؛ هو العجز عن ولوج هذه الديناميكية، والإخفاق في بلوغ مرامي التحديث التي تأسّس عليها المشروع النهضوي العربي"[4].

أمّا موضوع الفصل الخامس: فهو الخطاب في "الخطاب الإسلامي"، وهنا؛ تناول ولد أباه أربعة نماذج: "محمد قطب" الذي بلور مع شقيقه "سيد قطب" الرؤية الإخوانية للحداثة. و"سفر الحوالي" الفقيه السعودي البارز الذي قدّم الكتاب المحوري في الخطاب الإسلامي السعودي حول الحداثة. و"عوض القرني" الكاتب والداعية السعودي الذي اشتهر بكتابه السجالي حول الحداثة، ثم "عبد الوهاب المسيري" المفكّر المصري البارز.

بالنسبة إلى الأول؛ يرى السيد ولد أباه أنّ المدرسة القطبية تأثرت بفكر المودودي؛ بل تجاوزت التركة المودودية في صياغتها الأيديولوجية للخطاب الإسلامي، التي تتمحور حول ستّة أسس نظرية: فكرة الحاكمية، النظرة إلى الحداثة الغربية بصفتها جاهلية ثانية، إرجاع التصوّرات الفلسفية الإنسانية الحديثة إلى أفكار اليهود ومخطّطاتهم، الطموح إلى أسلمة المعارف، القول بانحطاط الغرب وسقوطه الحتمي، الدعوة إلى القطيعة المعرفية والأيديولوجية والإجرائية بين القلة المؤمنة والمجتمع الجاهلي المنحرف.

وقد نبه السيد ولد أباه إلى الخلط الذي يتردد في كتاب قطب بين التنوير والعلمانية، مرادفًا بين المقولتين اللتين تنتميان إلى سياقين نظريين وتاريخيين مختلفين، كما أنّ محمد قطب يقدّم تعريفًا لا تاريخيًّا، غير دقيق، لحركة الأنوار في أوروبا، معتبرا أنّها نشأت بسبب انحراف وإفلاس الديانة القديمة؛ بمعنى أنّ قطب وقف عاجزًا عن رصد التحوّلات الفكرية والمجتمعية التي أفرزت عصر الأنوار، وأشار السيد ولد أباه إلى نقطة مهمة، وهي: أنّه من الخطأ القول إنّ حركة الأنوار كرّست القطيعة مع الدين؛ بل سلكت إزاءه مقاربات متباينة، فكانت أقرب إلى نقد الدين في فرنسا، مدافعة عنه ورافضة التعصّب والاستبداد به في السياق الإنجليزي، إلاّ أن المفارقة المثيرة في تناول محمد قطب للتنوير والحداثة؛ هو اختزاله النموذج الغربي في الفساد الأخلاقي، والجريمة، والانحلال، وتحلّل الروابط الاجتماعية، واستبطانه غير الواعي لقيم التنوير في دفاعه عن الإسلام بصفته دين الحرية والتقدّم والعلم.

وقد ردّ السيد ولد أباه على رأي الأخوين قطب بخصوص التبشير بنهاية الغرب المنحطّ والمتحلل، يقول ولد أباه: "ولا بدّ من التنبيه إلى أنّ هذه النغمة، على سذاجتها وسطحيتها لتنكرها لحقيقة بديهية هي؛ التزايد المطّرد للفوارق النوعية بين الغرب وباقي العالم، في التطوّر العلمي، والتقني، وفي القوة العسكرية والاستراتيجية، وفي الاستقرار السياسي، فإنها، في الآن نفسه، مدمّرة للأمّة بما تقوم عليه من فكرة قطيعة وعداء مع العالم، بدل الإقرار بأنّ أسباب التفوّق والنهوض مرهونة باحترام حقوق الإنسان..."[5]، وفيما يخصّ الشيخ السعودي "سفر الحوالي" في كتابه "مقدّمة في تطوير الفكر الغربي والحداثة"؛ فإنّ السيد ولد أباه يعتبر قراءة "سفر الحوالي" حافلة بالادعاء والتبسيط الشديد لمسار الفكر الغربي، ثم إنّ منهج الحوالي يقوم على أربعة منطلقات هشّة، تنمّ عن قصور جليّ في الاطلاع على النصوص الفلسفية الغربية، ومن الخرافات المثيرة، حسب السيد ولد أباه، التي تضمنها كتاب الشيخ الحوالي؛ ترديد الأطروحة التي بنى عليها محمد قطب قراءته للفكر الأوروبي الحديث، وهي؛ إرجاع كل التحوّلات المعرفية والمجتمعية الكبرى التي عرفها الغرب إلى ألاعيب اليهود ومؤامرتهم، يعلّق ولد أباه قائلًا: "من الواضح أنّ هذا الحكم متهافت، ويتجلّى التهافت في اعتبار أساسي، هو هامشية تأثير الثقافة اليهودية كمرجعية نصية وعقدية؛ لأسباب بديهية ذات صلة بالقطيعة بين اليهودية والمسيحية، والعزلة التي كانت إلى عهد قريب مضروبة على الجاليات اليهودية في أوروبا. فلئن كان مفكرون من أصول يهود أثّروا في الفكر الأوروبي، فهذا التأثير ليس عائدًا إلى أصولهم الدينية؛ بل إلى اندماجهم في أشكال عصرهم، ومناخهم الفكري الذي عكسوه وعبّروا عنه"[6].

وبخصوص "عوض القرني"؛ فإن مقاربته للحداثة تقوم على أربعة منطلقات: الأوّل؛ اعتبار الحداثة غزوًا استعماريًّا غربيًّا، يستهدف الإسلام في عقيدته وقيمه. الثاني؛ اعتبار الحداثة مشروعًا ماسونيًّا صهيونيًّا قوامه: الإلحاد العقدي، والفساد الأخلاقي. الثالث؛ تستخدم الحداثة الغموض في التعبير مسلكًا لهدم القيم وتقويض الأخلاق. والمنطلق الرابع؛ تُشكِّلُ الشيوعية المادية الإلحادية الجوهرَ الفكري للحداثة. ويرى ولد أباه أنّ ما غاب عن القرني: هو أنّ الحداثة حقبة تاريخية لها محدّداتها الزمنية والمفهومية والقيمية، التي يستدعي إدراكها جهدًا نظريًّا وبحثيًّا مستفيضًا، وبالتالي؛ فالقرني وقف عاجزًا دون تتبعّ مسار نشأة وتشكّل الحداثة في السياق الغربي والعربي؛ ولذا فإن قراءته النقدية للحداثة ليست أكثر من محاكمة عقدية، وقد تكون مرجعيّته الفكرية في الاطلاع على الحداثة لا تتجاوز أدبيات محمد قطب، وسفر الحوالي، وأنور الجندي، وهي كتابات لا تفيد شيئًا في إدراك الحداثة، وتلمس إشكالاتها المعقدة. آخر نموذج؛ هو "عبد الوهاب المسيري"؛ حيث يرى السيّد ولد أباه أنّ الإسلاميّين استبدلوا خطاب سيد قطب بكتابات المفكّر المصري الراحل "عبد الوهاب المسيري" التي تعتبر اليوم المرجع الأكثر تجدّدًا وانتشارًا لدى التيارات الإسلامية السياسية، ومع ذلك يذهب ولد أباه إلى اعتبار مشروع المسيري يعاني من ثغرتين: الأولى؛ قراءته للحداثة من منظور العلمانية الشاملة، التي تعني بالنسبة إليه: الرؤية المادية والعدمية للطبيعة والإنسان. الثانية؛ محاكمة الاتجاهات ما بعد الحداثة في الفلسفة والعلوم الإنسانية.

واهتمّ الفصل السادس: بموضوع "الإسلاموفوبيا الجديدة"؛ إذ يرى السيد ولد أباه بروز نمط جديد من الإسلاموفوبيا، يمكن توزيعه إلى عدّة اتجاهات:

أوّلًا: الإسلاموفوبيا الإستراتيجية؛ والتي برزت بقوّة بعد نهاية الحرب الباردة، وتجذرت بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وتتمحور هذه الصيغة من الإسلاموفوبيا، حول الخطر الذي يشكّله الفضاء الإسلامي، عقيدةً ومجالًا، على المنظومة الغربية، كما تطرّق ولد أباه إلى تحمّس الإسلاميين لأطروحة صامويل هنتنغتون "صراع الحضارات"؛ لأنّهم اعتبروها دليلًا على ما كانوا يطرحونه من فكرة قوّة وتميّز للمشروع الحضاري الإسلامي، بوصفه التحدّي الكونيّ الأوحد الذي يواجهه الغرب. ثانيًا: الإسلاموفوبيا الدينية؛ وأبرز تجلياتها؛ محاضرة البابا بنديكت السادس عشر المشهورة في جامعة ريغنسبورغ الألمانية عام2016، التي قارن فيها بين الإسلام والمسيحية، من حيث القدرة على التوفيق بين الإيمان والعقل، منتهيًا إلى وسم الإسلام بالنزوع العدواني ورفض المنهج العقلي. ثالثًا: الإسلاموفوبيا العالمة؛ استعيرت من كتاب صدر بفرنسا حول "الأصول الإغريقية لأوروبا المسيحية" يتمحور حول فكرة رئيسة؛ هي إنكار أيّ دور للعرب والمسلمين في نقل التراث اليوناني إلى الغرب الحديث؛ بل نفي أيّ إسهام للعلماء والفلاسفة المسلمين في حركية الحداثة، وعليه لا سبيل لالتقاء الإسلام وأوروبا ذات الجذور؛ بل الهويّة المسيحية الخالصة، منتهيًا إلى أنّه لا يمكن في آن واحد أن نتّبع عيسى ومحمد...؛ فالتباين الصدامي بين المسيحين والمسلمين هو أساس هويّة الحضارتين.

إنّ الإسلاموفوبيا؛ نزعة عنصرية لا فكرية، وتندرج في سياق تنامي النزعات القومية المتطرفة، والتي تعزّز حضورها ونفوذها في أغلب البلدان الأوروبية. يقول ولد أباه: "والواقع أنّ الحضور الإسلامي في أوروبا قد ولَّد إشكاليّة داخلية غير محسوبة؛ هي إعادة فتح الملف الديني إثر تصدّع الرؤية العلمانية القائمة وانقسامها إلى اتجاهين متعارضين؛ لائكية راديكالية: لم تعد تكتفي بالحياد إزاء الدين والفصل بين المؤسستين الدينية والسياسية. ولائكية ضعيفة: تعيد الاعتبار للمسيحية كهوية ثقافية وحضارية لأوروبا الموحدة في مقابل "الغزو الإسلامي"[7]. وبالتالي؛ فالاتجاهان معًا يغذّيان نزعة الإسلاموفوبيا الحالية، حتّى لو لم يكونا في ذاتيهما مناهضين بالضرورة للإسلام".

وقد ختم المؤلّف كتابه بفصل سابع حول موضوع: "الحوار الديني: الخلفيّات الفكرية والاستراتيجية"؛ إذ تركّز الحوار بين الديانتين المسيحية والمسلمة، خصوصًا بعد محاضرة بندكت السادس عشر، وتعززت التجربة في حقبة الباب يوحنا بولس الثاني الذي زار العديد من بلدان العالم الإسلامي، داعيًا إلى التسامح والتعاون بين أتباع الديانتين، وسجلت هذه الجهود مكاسب ملموسة يمكن تلخيصها في ثلاث نتائج أساسية:

- قطيعة الخطاب الديني المسيحي مع التقليد اللاهوتي المعادي للإسلام؛ فعلى الرغم من أنّ الكنيسة الكاثوليكية لم تستجب إلى مطلب أساسي من مطالب المحاورين المسلمين؛ وهو الاعتراف برسالة النبي محمد، فإنّها تقدّمت شوطًا هامًّا بعزوفها عن تبنّي الاتهامات الواهية التي كانت تمتلئ بها الكتابات المسيحية الأولى.

- بروز محاور واضحة للتعاون والالتقاء خارج إطار التمايز العقدي، ومن المحاور المشتركة؛ القضايا العامة الأخلاقية الجامعة، والدفاع عن مؤسّسة الأسرة، وتأكيد دور القيم الدينية في التنشئة العامّة...وغيرها.

- بروز خطاب إسلامي متوازن من جهة مقتضيات ومسوّغات الانفتاح على التقليد المسيحي، الذي يلتقي مع الإسلام في مجموعة من المرتكزات الأساسية.

ويختم السيد ولد أباه كتابه قائلًا: "ومن الجليّ اليوم أنّ دبلوماسية الحوار الديني في منطقتنا تتركّز في مستويين؛ أحدهما: إسلامي داخلي. وثانيها: إسلامي- مسيحي. حتّى لو كان الأمر في الواقع لا يتعلّق بحوار عقدي قيمي؛ بل بإشكالات سياسية صرفة"[8].

ختامًا؛ يبقى موضوع الهوية، بشكل عامّ، من الموضوعات التي تحتاج إلى نقاش علمي بعيدًا عن التعصب الديني الطائفي المذهبي، وهو ينشد الوصول إلى هوية إنسانية تراعي الإنسان، أيّ إنسان، لنخرج من الهوية العنصرية إلى "العنصرية الأشمل" هوية الإنسانية فوق هذه الأرض، من أجل العيش المشترك، فهل نحن فاعلون؟.


[1]- السيد ولد أباه، "الدين والهوية: إشكالات الصدام والحوار والسلطة"، دار جداول، الطبعة الأولى 2010، ص 20

[2]- نفسه، ص ص 29-30

[3]- السيد ولد أباه، الدين والهوية: إشكالات الصدام والحوار والسلطة، ص 35

[4]- السيد ولد أباه، الدين والهوية – إشكالات الصدام والحوار والسلطة، ص 73

[5]- السيد ولد أباه، الدين والهوية: إشكالات الصدام والحوار والسلطة، ص 85

[6]- السيد ولد أباه، الدين والهوية: إشكالات الصدام والحوار والسلطة، ص 88

[7]- السيد ولد أباه، الدين والهوية: إشكالات الصدام والحوار والسلطة، ص 132

[8]- السيد ولد أباه، الدين والهوية – إشكالات الصدام والحوار والسلطة، ص 144