الربيع العربي بعيون هولندية


فئة :  قراءات في كتب

الربيع العربي بعيون هولندية

الربيع العربي بعيون هولندية

عرض حول كتاب: الربيع العربي، تقرير لشاهد عيان

للكاتب والإعلامي الهولندي يان أيكلبوم[1]


"كانت امرأة تضع أغصان الياسمين في فوهات البنادق، بمجرد ما صوبنا الكاميرا إلى ذلك المشهد، أصبحنا محاطين بحشد من الناس الذين يرغبون في رواية حكاياتهم عن الثورة". (ص 28)

"إنّ الربيع العربي ليس قضية موسمية أو مسألة مرتبطة بسنوات معدودات، إنّ العملية التي دشنها محمد البوعزيزي لا يمكن أن تتوقف. إنّ جيلاً بأكمله تذوق معنى الحرية، وهذا ما سوف يجعله لا يقبل أبدًا بأن يُستعبد". (ص 188)

بمجرد أن وطئت قدماه أرضية مطار قرطاج في تونس يوم 19 يناير 2011، صوّب الإعلامي الهولندي يان أيكلبوم/Jan Eikelboom عدسة آلة التصوير إلى ما يجري على أرض الواقع التونسي، لينقل بالملموس إرهاصات الربيع العربي التي سوف تتشعّب، وتمتدّ ظلالها الوارفة عبر خارطة العالم العربي. وقد راح هذا الإعلامي المتخصّص في إعلام الأزمات والحروب والصراعات الساخنة يلاحق تطورات الربيع العربي في مختلف المدن العربية المنتفضة (تونس، بنغازي، طرابلس، القاهرة، الإسكندرية، دمشق)، لينسج تلك الأحداث الخطيرة والمتسارعة في شكل تقارير إعلامية حيّة ومصوّرة، تنقل مباشرة عبر النشرة الإخبارية المشهورة NOS التي تبث على القناتين الهولنديتين الأولى والثانية.

وقد سجّل ووثّق الإعلامي أيكلبوم أهمّ ملامح الربيع العربي، منذ انطلاق الثورة في تونس إلى بدايتها في سوريا، في كتاب سمّاه: الربيع العربي، تقرير لشاهد عيان، وهو يعتبر من أهم الكتب الغربية التي تناولت هذه المسألة بشكل جميل، يوفق بين أسلوب التحقيق الصحافي الميداني والمنهج التحليلي، حيث تعرّض لمختلف القضايا السياسية والفكرية، كالجماعات الإسلامية، وظاهرة الاستبداد، وصورة الإسلام في الغرب وغير ذلك. ويقع هذا الكتاب التوثيقي لظاهرة الربيع العربي في حوالي 200 صفحة موزعة على خمسة فصول، يحمل أغلبها اسم دولة من الدول التي شهدت موجة الاحتجاج والسخط الشعبي الذي سوف يفضي إلى ما أضحى يُطلق عليه في الأدبيات الفكرية والسياسية والإعلامية "الربيع العربي". وقد صففت هذه الفصول بشكل كرونولوجي واكب الخط الزمني لنشوء الربيع العربي وصيرورته وتطوّره.

يشير الكاتب في الفصل الأول الموسوم بـ (ما قبل الربيع العربي) إلى جانب من وضعية العالم العربي قبل هذا الحدث التاريخي المفصلي الذي سوف يفاجئ العالم قاطبة منذ أواخر شهر يناير 2011، إذ ستطفو على سطح الواقع سلسلة من الأحداث التي سوف تدون في التاريخ باسم الربيع العربي. كانت البداية من تونس، ثم الجزائر، مصر، ليبيا، البحرين والعديد من دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط، حيث خرجت الشعوب إلى الشوارع للتظاهر ضدّ الحكام المستبدّين الذين تمسّكوا بقبضة من حديد على زمام الحكم منذ عقود طويلة. وما يسترعي الانتباه أنّ الكاتب يعاتب ويفضح تورط الغرب في مساندة أولئك الحكام بقوله: "حكام المنطقة ليس لهم ما يخشون منه، ما دام أنهم مساندون من كل جهة، لا سيما من قبل الغرب. إنّ كل من يقف في صفّ الولايات المتحدة الأمريكية ضد الإرهاب، لا يتلقى المال والسلاح فحسب، وإنما الورقة البيضاء كذلك لاضطهاد شعبه". (ص 7)

بعد ذلك، يرصد الكاتب في الفصل الثاني حالة تونس التي تعتبر تاريخياً وتعبوياً مهد الربيع العربي، حيث بمجرد ما بدأت تلوح في الأفق إرهاصات ولادة ثورة بطعم تونسي، سوف يطير الكاتب إلى المكان نفسه، ليتابع بآلة تصويره وقلمه ما يجري في مختلف الأماكن الحساسة، كشارع بورقيبة مثلاً الذي أصبح ملاذاً للشباب الثائر، حيث يتجمعون في حلقات متنوعة للتعبير عن آرائهم وتطلعاتهم بخصوص ما أصبح معروفاً في تونس باسم "ثورة الياسمين". كما أنه سوف يتوجه إلى منزل محمد البوعزيزي في سيدي بوزيد؛ هذا الخضّار الشاب الذي قدّم جسده وحياته قرباناً للربيع العربي، وقد أصبح منزل عائلته اليوم محجّاً لمختلف وسائل الإعلام العالمية، حيث تحكي الأم بعيون دامعة وفؤاد مكلوم قصّة ابنها محمد "الذي ولد في 29 مارس 1984، وعندما بلغ سن الثالثة توفي والده. له ستّ أخوات، بعضهن غير شقيقات؛ من عمه الذي تزوج بأمه بعد موت الوالد. مباشرة بعد تضحية محمد بنفسه تذمّراً من الأوضاع المزرية نُسجت أسطورة حول شخصه، وقُدّم على أنّه جامعيّ، في حين أنه لم يستكمل تعليمه الإعدادي، لأنه كان يتحتم عليه مساعدة الأسرة وإعالتها". وفي صبيحة يوم 17 دجنبر 2010 تمّ إزعاج محمد من جديد من قبل الشرطة أثناء عمله في بيع الخضر، فقامت شرطية بمصادرة بضاعته وألقت الميزان على الأرض. وأكثر من ذلك، وجهّت إليه سيلاً من الشتائم وصفعته على وجهه؛ فتوجه محمد إلى حاكم المدينة لتقديم شكواه، غير أنه رفض أن يستقبله. فما كان منه إلا أن اشترى قارورة بنزين رشّ بها جسده، فحدث ما حدث. (ص 17 و18)

بعد تونس، تطرّق الكاتب إلى الحالة المصرية، وقد خصّها بشق عريض من الكتاب؛ أي حوالي 60 صفحة، تناول فيها مختلف الشخوص (خالد محمد سعيد، عصام)، ومختلف الأيام (يوم الغضب، يوم الرحيل)، ومختلف الأماكن (فندق الإقامة، ميدان التحرير)، ومختلف الأحداث (واقعة الجمل، حملة تنظيف ميدان التحرير، المسيرة المليونية)، كما أنه أثث هذا الفصل بمجموعة من الصور الحية والمعبرة. وقد توقف الكاتب طوال هذا الفصل عند أهمية المكوّن والعامل الإعلامي في ثورة مصر، لذلك سارعت السلطات المصرية منذ انطلاق الاحتجاجات إلى محاصرة الإعلام عن طريق تضييق الخناق على الإعلاميين والصحافيين واعتقالهم، وقطع الشبكات الرقمية عن الأماكن القريبة من الإعلام المساند للثورة، والتشويش المنظم على القنوات الداخلية والخارجية. في مقابل ذلك، كان المحتجون والثوار أكثر وعياً بدور الإعلام في إنجاح الربيع المصري. وهذا ما يتضح بجلاء تام من خلال هذا المقطع، الذي يقول فيه الكاتب: "في ميدان التحرير كنا آمنين، وعبر مكبرات الصوت كانوا يدعون باستمرار إلى حمايتنا. كان المحتجون يتشبثون بنا، وهم يقولون لنا: صوركم تحكي للعالم ما يحدث هنا، لو أنكم غير موجودين هنا معنا فسوف يقومون بقتلنا. من فضلكم، إبقوا معنا". (ص 71)

وفي الفصل التالي، يخوض الكاتب في الثورة الليبية، ليس على المستوى الفكري فحسب، وإنما سوف ينزل إلى أرض الواقع، وهو يقتفي أثر الثوار من مكان إلى آخر، ويشاركهم الكثير من لحظات الخطر والمغامرة على جبهات القتال. وقد استأثر الملف الليبي بحصة الأسد من الكتاب؛ أي بحوالي 100 صفحة، تعرّض فيها الكاتب لمختلف الشخوص والأماكن والوقائع. ومنذ البداية اعتبر رحلته مغامرة نحو المجهول، لا سيما أنّ الحالة الليبية انطبعت بالمواجهة الحادة بين نظام القذافي المستبد والثوار الزاحفين نحو العاصمة طرابلس. ويميز الكاتب بين الحالتين الليبية من جهة والتونسية والمصرية من جهة أخرى، بقوله على لسان أحد الشخوص: "لعل الإيجابي هنا هو عدم وجود مؤسسات وبنيات، كما في مصر وتونس. هناك توجد مختلف القوى التي تريد أن تعرقل التغيير. نستطيع فعلاً، أن نبدأ من جديد، أن نقوم بانطلاقة جديدة. لكن كيف سوف يتم ذلك؟ أعتقد أنّ هذا ما سنعرفه بعد سنوات". (ص 113)

وما بين 21 غشت و1 شتنبر 2011، سوف يكون الكاتب حاضراً في طرابلس ليكون شاهد عيان على سقوطها في يد الثوار. وبعد إجلاء القذافي وطرده خارج محيط العاصمة ارتدت المدينة حلة جديدة وأنيقة، ففتحت المحلات التجارية أبوابها، ونظفت الشوارع من النفايات والقمامات، ونظمت حركة المرور من قبل رجال الشرطة. أمّا الناس، فلم يصدقوا ما يحصل أمام أعينهم، ولم يصدقوا أنّ الكابوس الذي عشش في ذاكرتهم طويلاً قد انتهى. (ص 176)

إنّ رحلة الكاتب لم تتوقف عند هذا الحد، بل انتقل إلى سوريا لتوثيق الربيع السوري الذي كان في بداية تكونه، فسافر إلى هناك عبر تركيا، غير أنه فشل في دخول البلد، لأنّ شرطة الجمارك اكتشفت أنه صحافي يعمل لدى التلفزة الهولندية، لذلك تمّ رفض منحه تأشيرة الدخول، وبعد لحظات طويلة ورتيبة من التحقيق، قاده الجمركي نحو بوابة الطائرة المتوجهة إلى إسطانبول، فأودع جواز سفره لدى طاقم الطائرة على أن يسترجعه أثناء نزوله في مطار إسطانبول. (ص 184)

هكذا اقترب الإعلامي الهولندي يان أيكلبوم بشكل دقيق من واقع الربيع العربي، وترك المواطنين البسطاء يعبّرون بحرية تامة عمّا يحصل، وينقلون للعالم فرحتهم العارمة بسقوط رموز الفساد، وتولي زمن الاضطهاد، كما اقتفى أثر الثوار والمقاتلين على الجبهات الأمامية (لا سيما في ليبيا)، فتمكن من تصوير الكثير من مشاهد الصراع والمعاناة والصمود ضد العدو الذي لا يرحم.

إنّ كتاب الربيع العربي يُشكّل شهادة واقعية وموضوعية عن حقيقة الإنسان العربي المسلم المتعطش إلى الحرية والعدالة والديمقراطية، عزّزها الكاتب بشتى المواقف والحكايات والمشاعر والصور التي وثقها طوال شهور عديدة من الترحال عبر مختلف المدن والبراري في تونس ومصر وليبيا وسوريا. وهكذا تمكن هذا الإعلامي الهولندي الجريء من أن يتتبع بشكل تدريجي ودقيق مسار الربيع العربي، بشتى تفاصيله وتطوراته وخلفيات الشعوب العربية الأبية والكريم التي عاش بين ظهرانيها أياماً وأسابيع وشهوراً، ليكتشف حقيقتها المطموسة في الإعلام الغربي المهيمن. لذلك، فإنّ قيمة هذا الكتاب تكمن بالدرجة الأولى في أنه شهادة واقعية بعيون غربية، حول أعظم حدث سياسي تشهده المنطقة العربية في تاريخها المعاصر.

وفضلاً عن ذلك، فإنّ أهمية ما وثقه الإعلامي الهولندي يان أيكلبوم لا تتحدد فقط في القصص المشوقة والأخبار المثيرة، التي نقلها من براري ليبيا وشارع الحبيب بورقيبة وميدان التحرير وغيرها، وهي تتلبس أحياناً بالطابع الأسطوري الغرائبي الذي من شأنه أن يستثير ذائقة القراءة لدى القارئ الغربي، بل إنّ أهمية ذلك تتمثل في تصحيح الكثير من الصور النمطية السلبية حول الشعوب العربية والإسلامية الساعية إلى تحقيق الأهداف الإصلاحية نفسها، التي يحلم بها أي إنسان في العالم، وهو ينصف بذلك هذه الشعوب التي عانت وتعاني من الاضطهاد والقمع والتهميش منذ أكثر من نصف قرن. ورد على لسانه في حديث مع سائق ليبي أنه "منذ انطلاق الربيع العربي صار الكثير منا (يقصد الغربيين) ينظرون إليكم بشكل مغاير. نحن نرى هنا أنّ الناس يطمحون بالضبط إلى ما نطمح إليه نحن: إلى حياة كريمة ولائقة". (ص 143)

معلومات عن الكتاب:

العنوان: الربيع العربي، تقرير لشاهد عيان/

Arabische Lente, Een ooggetuigenverslag

المؤلف: يان أيكلبوم /Jan Eikelboom

اللغة: الهولندية

عدد الصفحات: 192

الطبعة: الأولى

الناشر:Uitgeverij Balans, Amsterdam/Nederland

تاريخ الصدور: 2011

الرقم الدولي:ISBN 9789460033643


[1]Jan Eikelboom, Arabische Lente, Een ooggetuigenverslag, Balans Amsterdam – Nederland, 2011