السمات العامّة للمجتمع التقليدي (القَبَلي) العربي


فئة :  مقالات

السمات العامّة للمجتمع التقليدي (القَبَلي) العربي

تطورت المجتمعات العربية خلال العقود الأخيرة، من حيث الشكل والمظهر وأنماط المعيشة، وقد تمظهر هذا التطور "الشكلاني" من خلال تقبل تلك المجتمعات وأخذها لكثير من مظاهر الحضارة الغربية الحديثة، من دون وجود الأخذ بالأسباب والعلل والمناخ الفلسفي والمعرفي الذي صاغها؛ أي من دون وجود أية معايير أو مضامين فكرية أو فلسفية أو علمية.. ولهذا، فقد بقيت تلك المجتمعات حاملة لعدد من موروثات المجتمع القبلي التقليدي العربي العتيق ومن خصائصه، فكراً ومنهجاً وسلوكاً... والتي يمكن تثبيت أهم سماته في ما يلي:

أولاً- يستمد المجتمع القبلي وجوده وطاقته من خلال المثل الأعلى الأرضي المنخفض المنتزع من تصورات الجماعة البشرية المحصورة في إطار النسبية([1]) الزمانية والمكانية. لذلك، تكون آمال وطموحات المجتمع محدودة وضعيفة التأثير، وتنظر دائماً إلى الأرض فلا تتحقق أهداف الأرض، وتنسى كلياً رسالة السماء. لأن النبع -الذي يستقي منه أفراد هذا المجتمع تصوراتهم وأحلامهم وأمانيهم- قليل الماء والزاد.

ولذلك، تكون كل التطلعات التي ينتجها محدودة الهدف، وضيقة الأفق، وضعيفة التأثير لكونها منتزعة عن واقع الجماعة بحواجزها المفروضة... وبدلاً من التطلع الدائم نحو المستقبل، يصبح هذا المثل المنخفض عقبة كأداء في طريق تحقيق المشاريع الطموحة من خلال تجميده للواقع القائم، وحمله إلى المستقبل ليكون التاريخ عنده حركة اجترارية وصورة مكررة (طبق الأصل) عن الماضي والحاضر تنقلها الجماعة آلياً إلى المستقبل ليصبح مستقبلها مرهوناً لماضيها.

ولعل أهم نتيجة يمكن أن يؤدي إليها مثل هذا الفكر المعطّل لقدرات وإمكانات الإنسان -عندما يتخذ لنفسه نمطاً وطابعاً من التدين، ويرتدي عباءة التقوى والدروشة الدينية- هي في ظهور الأديان التجزيئية المصنوعة بشرياً (الأديان الوضعية) التي تفرزها التجربة البشرية بين حين وآخر، والتي يقول عنها القرآن: [إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان..](النجم:23). وفي آية أخرى: [أرأيت من اتخذ إلهه هواه..] (الفرقان:43)، حيث توضح الآية علاقة العبودية القائمة بين المجتمع ومثاله الأعلى، والتي تختزن في مضمونها الداخلي نوعاً من الطاعة والانقياد والعبادة والتقديس الأعمى.. لأن الآلهة - وهي جاءت هنا بمعنى الهوى - تصبح الهاجس المحرك، والآمر والناهي لحركة الإنسان والمجتمع.

 طبعاً، يمكن لبعض المثل العليا المنخفضة السائدة في المجتمعات القبلية أن يكون لها بعض الطموح والمبادئ العليا، وقد تُحقق للمجتمع جزءاً من غاياته المعنوية والمادية، كما يمكن أن تضع قوانين وعادات وأخلاقا ونُظٌما وضوابط، ولكنها تبقى - بمجملها - مجرد حجاب أو غطاء ظاهري وقناع زائف لا بد وأن يكشف لاحقاً حقيقة تلك المبدئية المنخفضة ذات الالتزام النفعي المؤقت، حيث إنه كلما وجد الإنسان فرصة ومجالاً للتحلل والانعتاق من هذه العادات والقوانين، فسوف يتحلل ويسقط.. لذلك، فإنّها تبقى طموحات وقوانين ومعايير محدودة، وغير قادرة على العطاء في المدى الطويل للمسيرة البشرية. وليس بمقدورها صنع الأفراد الفاعلين والشعوب الحية بمسؤولياتها الموضوعية عند المؤمنين والمعتقدين بها.. إنها إذاً، مُثُلٌ أرضية قاصرة -ذهنياً وعملياً- عن السير والارتقاء والتكامل الروحي والعملي... لأن وقودها قليل في مسيرتها التكاملية، وزادها ضعيف وطاقتها محدودة بإطار معين، ناتج - أساساً - عن الإفراز الذهني للإنسان في سياق تفاعله مع الموجودات الخارجية... لذلك، يكون هذا المثل الأعلى المنخفض -الناتج عن محدودات فكر الإنسان- غير منفصل عن الإنسان ذاته، بل هو ملتصق به ومعبر عن رؤيا نسبية لوجوده وعن غايته ومصالحه ورغباته.

ثانياً- لا تؤمن المجتمعات القبلية بسنن التطور وقوانين ونواميس التغيير الفردي والمجتمعي والحياتي، بل تعتقد اعتقاداً راسخاً بمجموعة من المسلمات الفكرية والاجتماعية العامة (يقينيات بديهية) تعتبرها الميزان والقانون الناظم للفكر والعمل حيث يحكم - على ضوء (ومن خلال) تلك القوانين والمعايير اليقينية الثابتة- بصحة أو بطلان المعارف والمبادئ والفعاليات كلها. وعندما تنطلق الأحداث والمتغيرات الخطيرة في واقع المجتمع والأمة تكون استجابتها -على هذه الأوضاع القلقة- سلبية منفعلة غير فاعلة، حيث يتفرج أبناؤها - الذين انساقوا وراء مشاعرهم ومصالحهم القبلية (وإن ارتدوا رداء الحضارة والمدنية) - على الأحداث والوقائع الجسام، ولا يجتهدون للتأثير على مسارها أو محاولة تغيير أو حرف بعض توجهاتها في هذا الموقع أو ذاك.

إننا نؤكد هنا على أن شدة تتابع الصراعات والتقلبات في التاريخ العربي لا تعبر عن نزعة تغييرية تجديدية، أو رؤية إيمانية بسُنّة التطور الكوني[2].. بقدر ما تعبر عن رسوخ روح الانقسام والتفتيت في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وميلها نحو تعددية الكيانات في نسيجها المجتمعي التاريخي، وعدم قدرة - هذه الكيانات المجزأة - على التوافق الطوعي. وعلى كثرة التقلبات السياسية الظاهرة، يبقى الواقع العربي - في جوهره - ثابتاً ساكنا دون تغيير، كما هو ملاحظ إلى الآن، حيث تتكرس وتتكدس أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية بصورة دائمة ومتلاحقة، فلا حلول للمشاكل والأزمات ولكن هي حالة من حالة المراوحة والاجترار للمشاكل والتحديات التي تواجهها الأمة دائماً.

ويلاحظ هنا - كنتيجة للإيمان المسبق بجملة قواعد ونظم وضوابط فكرية ثابتة لا تتغير([3]) - سيطرة نمط التفكير السكوني - إذا صح التعبير - على أي تحرك أو انطلاقة فكرية أو اجتماعية تدخل فيها عناصر ومفردات المجتمع القبلي، باعتبار أن مجموعة المفاهيم والأفكار الغالبة والسائدة فيما بينهم -والتي يحرص الجميع على ديمومتها واستمراريتها في الأخلاف لاحقاً- تمثل لديهم نوعاً من الوعي الكوني الشامل المستوعب لكل تفاصيل ودقائق حركة الوجود والحياة والإنسان، بما يشعرهم فطرياً وذاتياً بأن حياتهم الحالية (التي يرتبط بها وجودهم ووعيهم للوقائع الداخلية والخارجية) هي الأفضل، والأحسن، والأكثر ضمانة وقدرة على تحقيق وجودهم، وإشعارهم بحريتهم وانطلاقتهم وانفلاتهم من قيود الزمان والمكان. لذلك، نرى أن لدى البدوي -في مقابل السنن والمتغيرات- تصوره الخاص المختلف للأبعاد (الماضي، رحابة الصحراء، تقاليد وسنة الأجداد).. ومن هنا جاء تمسكه بالعادات والتقاليد والأنساب (التي هي ديمومة زمانية)([4]).

ثالثاً- يواجه المجتمع القبلي الرافض لسُنّة التغيير رموز ودعاة التغيير بكل قواه وعصائبه المستحكمة، لأن التغيير والتطور يمس أصل وجوده وتكوينه التقليدي المحافظ المتوارث عن الآباء –الذين ارتضته القبيلة ديناً لها في حجم الحياة كلها. ولذلك، يكتفي أبناء هذا المجتمع بالفكر الذي ينقل إليهم من الأجداد الأولين... لاحظ ما جاء في الآيتين التاليتين: [وحسبنا ما وجدنا عليه آباءنا] (المائدة:104)، [وإنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون ولقد ضلّ قبلهم أكثر الأولين] (الصافات:69-71)..اللتين تقدّمان لنا فكرة واقعية عن رفض الآباء والأجداد النفسي لأية دعوة تغييرية جديدة (سلبية كانت أم إيجابية)..لأن هؤلاء -وبحكم الألفة والعادة والفراغ والسكون- وجدوا سنة قائمة ركنوا إليها، وتعوّدوا بها فلم يسمحوا لأنفسهم بتجاوزها أو بمجرّد التفكير في تغييرها.

ولهذا رأينا كيف كانت دعوات الأنبياء –على مر التاريخ- تواجه وتعارض بحدة وقساوة من قبل المجتمعات القبلية الجاهلية، لأن جوهر دعوة الأنبياء كان يقوم على أساس وضع الناس على بداية الطريق الموصل إلى الله، ورفعهم عن الحواجز والحدود النسبية إلى مستوى آخر جديد، يؤمنون من خلاله بالله، باعتباره المثل الأعلى الحقيقي، بينما كانت دعوة تلك المجتمعات ترتكز –كما قلنا- على اعتقادات معينة في شتى مجالات الحياة، ألفوها بحكم سيطرة عقلية الفراغ النفسي والسكون الوجودي على أذهانهم وأعمالهم حتى أن تغلغل هذا النمط القاهر من التفكير في داخل بنيتهم النفسية قد أدى -مع مرور الأيام- إلى تحويل الإنسان إلى إنسان جسمي مادي يعيش ليومه، ولحظته الراهنة (الدهرية) بدون أي طموح أو هدف سام في الحياة.

رابعاً- من سمات المجتمع القبلي المغلق أيضاً، عمله الدائم على تهميش العقل والعقلانية والفكر والمفكرين، ومختلف الفئات المثقفة، والعالمة. وإقصاء أصحاب الخبرات والكفاءات العلمية والكوادر العقلية النوعية، واستبعادها من ساحة التأثير والإبداع الثقافي والعلمي، بالرغم من كونها هي الوحيدة المؤهلة والقادرة على الارتقاء بواقع المجتمع، والسير به نحو مواقع أكثر تطوراً وازدهاراً في التفكير والعمل على المستوى الحضاري والعلمي، والتصدي الدائم المخلص لتحقيق المشروع الحضاري والثقافي للأمة.

وبالمقابل يعمد - دعاة ورموز العصبية القبلية المتحكمين بمفاصل القرار الأعلى - إلى ترفيع أبناء الأسر المالكة والحاكمة (ومن نفس العشيرة) إلى المناصب القيادية في "الدولة-القبيلة"، بالنظر إلى تكاثرهم وحدّة صراعهم وتنافسهم، أو بالأحرى تكالبهم المستميت على احتلال المناصب العليا والوظائف الاستثمارية والأمنية الخطيرة، وتوزيع المكاسب والمغانم فيها. ويتم ذلك، طبعاً، على حساب تراجع الأسماء الكبيرة من المفكرين والمثقفين وأصحاب الكفاءات والقدرات الحقيقية المختصين في مجالات العمل المختلفة.

ويشكل هذا النوع من القسر والظلم الاجتماعي والعملي - الذي يفضي إلى إحداث اختلال بالغ في موازين المسؤوليات، وتوزيع الأدوار والمهام اللازمة للنهوض بالمجتمع- عاملَ يأس وإحباط ونفور لدى النخب المفكرة والمتعلمة، والطبقات الشعبية الوسطى في البلاد... إذ يولّد لديها ردود أفعال سلبية إزاء المنحى الانحداري الخطير الذي بدأت تسير عليه البلاد في كل قطاعاتها ومؤسساتها، وقد تنحو - هذه الردود - منحى الاستنكاف عن المشاركة الفعالة في تطوير الواقع، وبناء المجتمع ونهوض الدولة، وتحقيق استقلالها، وإنجاز مشاريعها.. باعتبار أنه لم يتم تقدير وعي وفكر وإبداع تلك النخب العلمية، وفتح المجال أمامها لتعبّر عن ذاتها وكفاءتها العلميّة. لذلك، تجد أن أفضل طريق وأقصر سبيل لاستمرار إبداعها والتعبير عن تفوقها العلمي يكون في مغادرة البلد، والانخراط في العمل لدى البلدان الأخرى التي تحترم العلم والعلماء، وتبارك إنجازات المفكرين، وتفسح لهم كل المجالات للعمل العلمي المنتج والفاعل. وهذه الظاهرة في الواقع تتزامن مع تراجع كبير في الحريات العامة في بعض مجتمعاتنا، وضعف حقوق الإنسان فيها في عصر العولمة والديمقراطية والحرية والإعلام الفضائي السريع.

خامساً- الإيمان بــ"الجبرية التاريخية"، وأن حركة التاريخ البشري قد توقفت وانتهت عند هذا النوع من المعرفة أو الفكر السائد لدى المجتمع القبلي.. يندرج هذا الأمر - بطبيعة الحال - في إطار سعي بعض قيادات وحكام هذا المجتمع إلى فرض أيديولوجية "خلافة الله"، وتشجيع مبدأ "الجبرية" الذي يعتبر أن ما يحدث هو أمر مفروض ومقرر مسبقاً من الله تعالى، حقاً كان أو باطلاً، خيراً كان أو شراً.

وقد وجدنا في تاريخنا العربي الكثير من النماذج الدالة على ذلك.. حتى باتت الجبرية مذهباً كلامياً واسع الانتشار في بعض أوساط عالمنا الإسلامي حتى الآن.

وكان زياد بن أبي سفيان أول من شجع هذا النهج المخالف لسنة التطور (قبل أن يكون مخالفاً ومتناقضاً مع مفردات ومعاني وتعابير القرآن الكريم)، حيث سعى إلى تكريس سياسة "ظل الله في الأرض" و"خلافة الله"...إلخ، ليوهم الناس بأنه يحكم بإرادة الله، ويتصرف بمشيئته.. فأحاط خلافته (هو وخلفاؤه اللاحقون) بهالة من القداسة، وأسبغوا على أنفسهم ألقابا دينية فضفاضة تعبر بشكل سافر عن عقلية الجبر التاريخي. لقد كان معاوية -في نظر أصحابه ومريديه- "خليفة الله في الأرض" و"الصادق" و"الأمين" و"المأمون". وكان ابنه (يزيد) "إمام المسلمين!" وكان عبد الله بن مروان "أمين الله" و"إمام الإسلام".

يقول زياد هذا في خطبته المسماة "بالبتراء؟!" –التي صرح فيها أن الله اختارهم (أي الأمويين) للخلافة، وأنهم يحكمون بقضائه، ويعملون بإذنه: "يا أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة. نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خول لنا. فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا"([5])..أما معاوية فله باع طويل في توطيد وترسيخ الحكم الوراثي (الإلهي)... حيث يقول: "نحن خلفاء بقضاء الله وقدره"([6]). "الأرض لله وأنا خليفة الله، فما أخذت لي، وما تركته للناس فبالفضل مني"([7]).. وفي مجال زمني آخر (عصر العباسيين) وقف المنصور (أحد أمراء المؤمنين العباسيين؟!) يوم عرفة خطيباً يحدد برنامجه السياسي (الذي يبدو من خلاله، وكأنه لا يخاطب بشراً من روح وأحاسيس ومشاعر ومسؤولية وخيارات…إلخ، بل يخاطب قطيعاً من الماشية).. قال: "أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده، وحارسه على ماله. أعمل فيه بمشيئته وإرادته، وأعطيه بإذنه؛ فقد جعلني الله قفلاً، إذا شاء يفتحني فتحني لإعطائكم، وإذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني"([8]).

سادساً- لا يؤمن المجتمع القبلي بالمحاسبة أو المساءلة.. ولا يخضع ساسته ورموزه للرقابة أو النقد. لذلك، تراهم يرهبون الناس عبر الضغط عليهم بذهنية الجبرية، بالتعالي والتعاظم والتكبر. ويذلونهم بالقهر والتسلط والقوة وسلب المال، حتى لا يجد (الناس) مفراً للتملق والتزلف لهم([9]).. ولعلنا لا نستغرب كثيراً قول أحد خلفاء الأمويين "الوليد بن عبد الملك"، لدى استفساره، باستفهام إنكاري، عن إمكانية حساب الخليفة وتوجيه اللوم له: "أيمكن للخليفة أن يحاسب؟!".. وكأن الخليفة مخلوق من طينة "معصومة" غير بشرية. ويبدو أن الوليد قد ورث هذا الطبع عن أبيه (عبد الملك بن مروان) الذي كان يدير (ويمارس) دفة الحكم السياسي والاجتماعي بمزاجية نفسية معقدة، ويرفض بالمطلق الكلمة الناقدة أو الموقف الناقد.. جاء في كتاب تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص: 223): "عندما تولى عبد الملك بن مروان الخلافة صعد المنبر ليلقي الخطبة الدستورية التي توضح سياسته القادمة، جاء فيها: "والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه، ثم نزل..؟!".. لاحظ كيف يتحكم صاحب ذهنية "الجبر التاريخي" في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحاكمهم بهواه ومزاجه لا بشريعتهم، ويتوعد بقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، بكل برودة أعصابه، فقط لأن صاحبها قد يفكر في نقد "الحاكم بأمر الله!؟" ومحاسبته.. فليس للناس بحسب ذلك أي رأي أو مشورة. والسلطة يتم رسمها وتحديدها فقط من الخليفة (ظل الله) وعلى الناس أن تستسلم له ولإخوانه (أمراء المؤمنين!)، وتطيعهم بدون وعي أو إرادة، أو حتى مجرد التفكير بمحاسبتهم، وفرض رقابة على تصرفاتهم، لأنهم -وكما يزعمون- يحكمون باسم الله من خلال السلطة الدينية، أو غيرها من السلطات الوضعية الأخرى (ولا فرق في ذلك). فالخليفة "القائم بالأمر" هو مصدر كل قوة، ومنبع كل طاقة متفجرة في الحركة الاجتماعية العامة، ومرجع لكل الأوامر والسلطات المتعلقة بأحوال العباد وأمور البلاد، لا يجوز لومه أو مساءلته. لأنه –كما ذكرنا- المصداق الخارجي لسلطة الله في الأرض. ولهذا اعتقد الناس في العصر العباسي –وربما لا يزال هذا الاعتقاد سائداً في كثير من البلدان (نظراً للضغط النفسي والسياسي والإعلامي والأمني الكبير الذي مارسه ولا يزال يمارسه الوزير والسياف بين مستويي القداسة والرهبة)- أقول: لهذا اعتقد الناس أن الخليفة إذا قتل اختل نظام العالم.. احتجبت الشمس، وامتنع المطر، وجف النبات([10]).

سابعاً- يتفرد المجتمع القبلي -عن غيره من المجتمعات- بأنه لا يوجد فيه رجل كبير أو شخصية محترمة علمية أو ثقافية أو سياسية سوى "الرب الأعلى" أو "السيد الأوحد" المطاع أو "ملك الملوك"... الخ. فهو وحده رجل المرحلة الاستثنائي، وسفينة النجاة، وصاحب مشروع الإنقاذ والخلاص.. وبشخصيته الكريمة العظيمة المتألهة تختزل كل مؤسّسات وبنى المجتمع والدولة كلها.

أما باقي الأفراد، فهم –بمعنى أو بآخر- مجرّد رعايا أو عبيد لهذا السيد (المعطاء الكريم!) الذي يحاربهم بلقمة عيشهم، كي يبقوا على قدر كبير من الولاء الأعمى والانقياد المطلق لسلطته... حيث يمكنه أن يسجن أي شخص أو يدسّ له السمّ في طعامه، أو يضربه أو يجلده وينفيه، أو يقتله... فلا كرامة ولا اعتبار ولا قيمة –في هكذا مجتمعات- إلا للذات العلية وحدها التي تستطيع أن تعصف بمن سبق لهم أن ساعدوها وعاونوها، أو من مدحوها تماماً كما عصف المنصور العباسي بأبي مسلم الخرساني بعد أن مكن العباسيين من تثبيت ملكهم([11]).

ثامناً- تهيمن على مواقع المجتمع القبلي ثلاث سلطات رئيسة هي:

أ- السلطة الرسمية (الحاكمة): التي تعمل على تطويع وقسر الفرد (وبخاصة الفرد المثقف)، واعتقال فكره وعقله لصالح مقولاتها القبلية بمختلف الوسائل الترغيبية والترهيبية (معنوياً ومادياً)، كمحاولة شراء ضميره وقلمه، أو محاربته بلقمة الخبز أو بالعزل والاتهام والسجن أو بالنفي والاستبعاد من خلال اتباع سياسة "القمع البوليسي الأمني والفكري الأيديولوجي".

ب- سلطة العادات والتقاليد الاجتماعية: التي أضحت مع مرور الزمن ديناً قائماً لوحده. أصبح له دعاته ومناصروه في كل حدب وصوب.

ج ـ السلطة الدينية المزيفة: المتحالفة مع مراكز السلطة السياسية والأمنية من أجل الوصول إلى المصالح الذاتية المشتركة التي لا يمكن أن تتسع دوائرها إلاّ من خلال الإبقاء على حالة التخلف الفكري والنفسي، وتكريس واقع التبعية الذي يرزح تحته أبناء المجتمع كلهم.

تاسعاً- تتحكم بوجود المجتمع القبلي - على صعيد أساليب التعامل مع الأهداف والغايات الفردية والجماعية (وطنياً وقومياً) - مجموعة من الشعارات الوهمية الزائفة التي تراكمت عبر تاريخ طويل من سوء وعقم الممارسة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبدلاً من أن تتحول (تلك الشعارات) بأفكارها ومبادئها الخاصة والعامة إلى أرض صالحة للابتكارات والإنجازات الرفيعة التي تعود بالفائدة على الوطن والمواطن، أصبحت خالية من مضمونها ومفرغة من محتوياتها الداخلية... بل أكثر من ذلك: لقد أضحت عبئاً ثقيلاً مزعجاً يلقي بظلاله السوداء على كاهل منتجيها والدعاة إليها الذين كانوا أول من اخترقوها، وأسقطوها وفق مبدأ (حاميها حراميها)... حيث أصبحت غير قادرة على تحقيق ذاتها، والإيفاء بالتزاماتها تجاه الجماهير الواسعة التي انخرطت بقوة في الممارسة السياسية وحتى العسكرية (غير الواعية)، وقدمت الكثير من التضحيات لتحقيق تلك الأهداف التي استنزف –أصحابها ومنظروها- مواهب الناس، وسرقوا الدولة ومواردها بذريعة العمل على تجسيد تلك الشعارات.

لقد رفع هؤلاء شعارات التقدم والتنمية ولافتات التحديث والنهوض وحب الوطن وغيرها من العناوين البرّاقة والشعارات الذهبية (شديدة اللمعان) على سبيل التعصب والتحزب الأعمى، أو على سبيل الشحن والتعبئة النفسية الحماسية، فما كان من أوطاننا وطوائفنا وأحزابنا وملاعبنا إلا أن تحولت إلى معسكرات مغلقة أو ألغام تنتظر ساعة الانفجار التي لم تتأخر كثيراً، فاشتعلت البلدان وتزلزلت الأرض تحت أقدام الناس نتيجة الفشل الذريع في تحقيق تلك المقاصد والشعارات والطموحات الكبرى للدولة التحديثية العربية، منذ مرحلة ما بعد الاستقلال الشكلي عن المستعمر الخارجي.

طبعاً، لم تقم تلك الدولة بدورها الاجتماعي والعملي المطلوب منها والذي جاءت على أساس تنفيذه على الأرض، على صعيد بناء بلدان مؤسساتية متطورة ومزدهرة بعيداً عن تلك اللغة التسويفية والتبريرية، لغة الشعارات والوعود... أصلاً هي (أي الدولة التحديثية العربية) لا تملك أجندات وطنية حقيقية، ولهذا تراها كيف غطت على ذلك الفشل الذريع من خلال تبني سياسات وأساليب عمل إلغائية قسرية قمعية قادت إلى تفجر مجتمعاتها بحروب أهلية بين وقت وآخر... إنها سياسات الحصر والقسر والقمع التي لم تعد تجدي نفعاً في عالم الانفتاح والتواصل والمصائر الواحدة والتبادل والمصالح المشتركة..

لقد سرت "العصبية القبلية" في كل أوصال النظام القبلي التقليدي، وباتت الآن خاصية أساسية من خصائص تكوين بعض الدول العربية والإسلامية في مستوييها الديني والقومي على السواء.

والواقع العربي يقول بأنه بدلاً من أن تنتفي وتتحلل بنية وعلاقات وتشابكات العصبية الفكرية والسياسية، وتتفكك قواها بظهور دين (الإسلام([12])) دعا للأخوّة والمحبة والتسامح، وحاول تكوين واقع أمة يحلّ محلّ واقع القبيلة.. فإنّه قد اندمجت قيم القبلية في داخل الإسلام التاريخي، فأصبح المجتمع الإسلامي الوليد حديثاً محتوياً على مجموعة من التكوينات العشائرية والقبلية التي اعتنقت الإسلام، فاحتوته وغيرته بدلاً عن أن تتغير هي.. ومع مرور الأيام ارتقى المجتمع نسبياً بعرفه القبلي إلى مستوى القانون والنظام الشرعي الإسلامي.. وهذا يعني - بطبيعة الحال - هيمنة الدولة (وسيطرتها) عليه.. واعتبارها هي الضامن الفعلي للمشاركة في المجتمع، كما يعني - من جانب آخر - تخلخل العصائب والروابط القبلية قليلاً في مقابل قوة المبادئ والقيم الإسلامية التي تؤكد على المساواة والعدل والمحبة والإخاء.

لكن وعلى الرغم من قوة انتشار القيم الرسالية الإسلامية وسِعَتها، فلا بدّ من الاعتراف والإقرار - كتشخيص نهائي لأمراضنا العربية- بانتصار العقلية والحالة "القبلية" العربية، وأنها هي من آلت إليها راية الخلود المجتمعي العربي، في صراعها الطويل - المستمرّ منذ بدايات الرسالة الباكرة - مع الإسلام الذي حاول كنهج تغييري إنساني إضفاء طابع أممي إنساني على المجتمعات العربية، ونقلها من الخصوصية القبلية إلى العمومية الحضرية الإنسانية.

ويبدو لي أن هذه القبليّة، التي لا تزال متفشية حالياً بقوّة في مختلف مواقع وامتدادات ومظاهر وأنماط عمل الدولة العربية الحديثة، هي المسؤولة - فكراً ورموزاً - عن المآلات السلبية التي بتنا نواجهها اليوم كعرب ومسلمين مهدّدين بمصائرهم ووجودهم الرمزي والفكري والعملي.


[1] مصطلح "فكري-فلسفي" يطلق على الظواهر أو القضايا التي تتميز بطبيعة داخلية متوترة غير مستقرة أو ثابتة على حال من الأحوال، تدخل في مواقع مختلفة من وقت لآخر، ولا تلتزم بواقع محدد معروف.

[2] راجع كتاب: أين الخلل.. للباحث الدكتور محمد جابر الأنصاري، الدار العالمية، بيروت 1998م.

[3] نلاحظ هنا -كنتيجة لوجود ثوابت معينة في واقع مجتمع القبيلة- أن التوازنات بين الأطراف كانت تتطلب دائماً تحقيق التوافق بالإجماع الكامل بين كل تشكيلاتها وعصائبها نظراً لغياب السلطة المركزية القوية، فإن افتقد هذا التوافق، ولم يتأمن الإجماع الكامل، ضاق مجال الحوار والحلول الوسطى، واتسعت دائرة التنابذ والافتراق، وبدأ تشرذم القبيلة إلى عشائر متناحرة ومتفرقة.. وهذا ما نجده سائداً وراسخاً، للأسف، في جوانب من واقعنا العربي السياسي (القبلي) الحالي، حيث يلاحظ أن بعض المنظمات الرسمية، والأحزاب السياسية العربية المعاصرة ما زالت تَسير أو تُسَيّر -كما نتابعها في مختلف خطاباتها وطروحاتها وأدبياتها السياسية- بالإجماع التام الكامل.. والأمر نفسه ينطبق، تماماً، على عدد من المجالس والمنظمات والهيئات العربية الأخرى. [4] محي الدين صابر.. البدو والبداوة، ص 135. دار النشر العربي، بيروت، 1995م.

[5]العقد الفريد، لأبي الفرج الأصفهاني، مجلد:4، ص 119-201.. دار الكتاب العربي، بيروت، 1988م.

[6]الخلافة الإسلامية للعشماوي، دار سيناء للنشر، ص 132

[7] المرجع نفسه، ص 132

[8]العقد الفريد لابن عبد ربه (مصدر سابق)، المجلد الرابع، ص 186 + تاريخ الخلفاء، ص 263 + الكامل في التاريخ لابن الأثير، ج3/566، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1968م.

[9] د. إمام عبد الفتاح إمام.. الطاغية، من سلسلة عالم المعرفة الكويتية، العدد: 183، ص 51

[10] راجع: الفخري في الآداب السلطانية، ص 125..نقلاً عن كتاب التاريخ العباسي للدكتور: إبراهيم أيوب، ص 212، الشركة العالمية للكتاب، بيروت: 1989م.

[11]الطاغية م. س، ص 232

[12] سنكتفي هنا باستعراض وتحليل البدايات الأساسية الأولى لنشوء المجتمع العربي والإسلامي منذ لحظة ولادة الإسلام الأول في عهد النبي محمد(ص)، ولم ندخل في تفاصيل الصيرورة التاريخية للمجتمع التاريخي العربي آنذاك.. حيث بات من المعروف أن المنطقة العربية قد عرفت قبل ذلك بدايات وأولى التجمعات الحضرية.. ونشأت على أرضها حضارات عريقة كانت لها إشعاعات حضارية وعطاءات إنسانية، وأثبتت الحضور الواسع والتأثير الكبير على الحضارتين الإغريقية والرومانية بشهادة كبار الباحثين والمختصين في التاريخ الحضاري والإنساني الغربي.