السياسة والعنف في فكر حنة آرندت


فئة :  مقالات

السياسة والعنف في فكر حنة آرندت

السياسة والعنف في فكر حنة آرندت:

(في نقد العنف المضاد لما هو سياسي والتسيس المعنف للعلاقات الإنسانية)

الدكتور المعتصم الشارف

ملخص:

إن المقاربة النقدية التي تبنتها حنة آرندت من خلال ثلاثيتها النصية الشهيرة: "في الثورة"، "العنف" و"ما السياسة"؟ تضفي سمة التمايز القائم بين العنف والسياسة أو أبعاد العلاقة المتوترة بين السياسة والعنف، وهو التصور الذي سنتجه إلى إبرازه من خلال هذه الدراسة، إيمانا منا أن وجهة نظر الفيلسوفة الألمانية الأمريكية حنة آرندت حول علاقات: العنف، السلطة، الضرورة، السياسة، كآراء تجديدية، جديرة بالدراسة والتحليل والنقد في النسق الفلسفي السياسي المعاصر، لما تزخر به من دروس نظرية تتوخى الثقة والصرامة، خصوصا وأن الاهتمام بمتن الفيلسوفة حنة آرندت والتعريف بهذه الشخصية شبه غائب في حقل الدراسات الفلسفية العربية، نظرا إلى ندرة البحوث والترجمات والمقالات التي تطرقت إلى كتاباتها.

تقديم:

لا يزال من يقبل على دراسة الإنتاج الفكري للفيلسوفة حنة آرندت يجد نفسه أمام مادة فلسفية ثرية موصولة بإشكالات القرن الجديد، حتى ولم يشأ تصنيفها في خانة كتابات الفلسفة السياسية، فإنه يجد نفسه مضطرا إلى إعادة ترتيبها في علاقتها بتقلبات السياسة والتاريخ المعاصر؛ فمنذ إصدارها لكتاب في "الثورة"[2] إلى كتاب "ما السياسة"[3] مرورا بعملها الموسوم بــ"في العنف"[4]، تعين السياق النظري لإشكال علاقة السياسة بالعنف في المتن الآرندي. ونحن نقصد بذلك، مدونات النصوص النقدية لحنة آرندت في دراستها لكل من الثورتين الفرنسية والأمريكية، سواء تعلق الأمر بتلك النصوص التي توظف تفكيرها لإضفاء سمة التمايز القائم بين العنف والسياسة في التجارب السياسية، تأكيدًا منها لصيغة التعارض المتبادل بين السلطة السياسية والعنف، أو ما تعلق منها، على نحو مغاير، بما تلاها من النصوص المتأخرة التي كتبتها، حيث تنظر حنة آرندت إلى العنف كشكل من أشكال الفعل السياسي، وواجهة من تمظهر الحياة والتاريخ السياسيين للبشر.

فلنتجه الآن إلى إبراز هذا الوجه المركب من النصوص الذي تبني من خلاله حنة آرندت طريقتها الخاصة في التفكير في أبعاد العلاقات المتوترة بين السياسي والعنف. وليكن أول وقوفنا النظر إلى الثلاثية النصية الأكثر تمثيلية لقوة تفكير الفيلسوفة في الموضوع؛ ونعني بذلك: كتاب "في الثورة"، وكتاب "العنف"، ثم كتاب "ما السياسة؟". وهكذا، فإذا كان موضوع الكتاب الأول يطرح مسألة العنف القرين بالبدايات السياسية على النحو الذي تمثل له حنة آرندت بأحداث كل من الثورتين الفرنسية والأمريكية، فإن كتاب "العنف" يتفرد بطرحه لقضية العلاقة بين العنف والسياسة في إطار من التفكير في الصراعات السياسية الطلابية خلال الستينيات، بل إن ما يلفت النظر في هذين المستوين من التحليل، أنهما يستندان معا إلى جوهر ملاحظة واحدة جامعة مؤداها: أن التجربتين السياسيتين الكبرى للقرن العشرين الأكثر انشدادا أحداهما للأخرى هما: الحروب والثورات. ولعل ذلك هو سبب الخلط الحاصل بين السياسة والعنف. وتحديدا، أن أفق تفكيرهما المشترك هو هذه الأشكال القصوى الشاهدة، من منظور حنة آرندت، على فقدان السياسة وزوالها، هما: حرب الإبادة، والكليانية. فقدان لا تجد آرندت حرجا في إرجاعه إلى التطور والهيمنة البيروقراطية. وهذا ما حاولت الفيلسوفة توضيحه في أبحاثها المدونة بين سنة 1956 وسنة 1959، والتي جُمعت في كتاب واحد نشر بعد وفاتها تحت عنوان بارز: "ما السياسة؟".

وهكذا، فإذا نظرنا إلى مجموع هذه النصوص المشار إليها بحسب تتابعها الزمني، يمكننا أن نلاحظ أن ثمة انزياحا قائما بينها يؤسس سابقه لاحقه بحكم ما تراه الكاتبة حنة آرندت تقاطعا في المواقف وتقاربا في الضفاف. وهذا ما نلمسه بالفعل، ونحن نتابع قدرة الكاتبة على تحويل الأفكار إلى منارات وشرارات قوية محاصرة؛ فحيث تخفي، في ثلاثيتها النصية من عملها الأخير "في العنف"، نبرة الدعوة إلى التمييز بين السياسة والعنف، وتحضر جرأة الموقف الحاسم المرادف للفصل بين السياسة والعنف في نصوصها السابقة. نقول هذا ونحن نفكر في إيقاع الكتابة النقدية التي ترصد بها حنة آرندت تمظهرات آلية العنف في السياسة والنظر إليه، وكأنه آخر نمط ممكن للفعل السياسي. نقصد بذلك الصورة التي يمكن أن تظهر عليهما كل من البيروقراطية والهيمنة العسكرية كضرورة طورا، أو كتقنية تمارس لغة الإقصاء لكل عامل إنساني طورا آخرا، علما بأن ما يمكن أن يوقف عجلة هذه الضرورة، ويعيد السلطة للبشر هي السياسة نفسها. كيف ذلك؟ أي كيف يمكن الجمع بين العنف والسياسة في بناء واحد؟ وتحديدا، كيف يستقيم القول بإمكان تعايش كل من السياسة ونقيضها العنف في مركب واحد؟

يستند تفكيرنا في طرح هذه الأسئلة إلى فرضية عمل نعتقد أنها تمتلك قدرا واسعا من الوجاهة النقدية في باب إعادة بناء محتوى النص الآرندي في دائرة الفلسفة السياسية المعاصرة. ومفادها أنه لا مندوحة للباحث لفهم سمة التوتر المزدوج في العلاقة بين السياسة والعنف، إلا بحمله على تعارض أسبق، وهو التعارض القائم بين السياسة والعنف: أي التعارض الأصلي القائم بين ميدان السياسة وميدان الضرورة. تعارض بين وضعيات تحكمها سلطة البشر في تجمعاتهم وتنظيماتهم، يطلع فيها العامل الإنساني بدور رئيس، ووضعيات أخرى يستبعد فيها البشر وقدراتهم عن العمل إلى درجة العجز الذي يبدو فيه بأن مسار الأشياء يفرض نفسه كضرورة. ففي دائرة هذا الفهم يتميز السياسي، بوصفه فضاء للنشاط وممارسة للسلطة، عن أنماط الهيمنة التي تستغني عن عمل الآخرين، وتقلل من منزلة علاقاتهم وقدراتهم على العمل، لتفسح المجال فقط لإظهار سريان الضرورة التي يجب ألا يعترضها أي فعل أو حادث؛ ومعناه أن العنف يكون مرفوضا أو مقبولا داخل الفضاء السياسي اعتمادا على ما إذا كان من جهة الضرورة، أو من جهة ما يعرقله.

على هذا النحو إذن، من النظر إلى هذا التعارض البدئي، تكون علاقة السياسة بالعنف غير واضحة المعالم لدرجة تصير فيها علاقة العنف بالضرورة هي نفسها متناقضة بالأساس، وهو الأمر الذي يمكننا من توضيح الأدوار التي يلعبها هذا التناقض المزدوج؛ أي تناقض العنف وقد تحول نفسه إلى علاقة. صحيح، كما يتردد على ريشة أكثر الباحثين في الفلسفة السياسية، أنه يمكن النظر إلى العنف من زاوية اعتباره نفيا للعلاقة؛ أي نقضا لكل علاقة ومدمرا لها، أو من زاوية النظر إليه كعلاقة وليس كضرورة؛ أي تأويله كعلاقة أو كإطار سياسي عرضي من أجل محاصرته. فحيث نعاين في الموقف الأول استبعاداً للعنف من السياسة وتفكيكا للرابطة السياسية، ينفتح الموقف الثاني على إمكان آخر، لا يخلو في بعده السياسي من معاني تفيد الإيجاب في الحد من آثار نزع صفة التسيس، أو ما يصطلح عليه في اللغة الفرنسية بــ "dépolitisation"، ومحاصرة تجنيس النظام الإنساني المستحدث بواسطة الهيمنة المضادة للسياسة؛ وذلك من خلال إعادة إدماج العلاقات الإنسانية فيما هو منشأ كحقل سياسي. تقول حنا آرندت: "من الناحية السياسية لا يكفي أن نقول إن السلطة والعنف ليسا الشيء نفسه؛ فالسلطة والعنف يتعارضان: فحين يحكم أحدهما حكما مطلقا يكون الآخر غائبا، والعنف يظهر حين تكون السلطة مهددة، لكنه إن ترك على سجيته سينتهي الأمر باختفاء السلطة."[5] فما الذي "تدل" عليه هذه المقاربات التي ترى العنف في تاريخ إنسانية ما فتئت تتصارع، من جهتيْ التخارج والتداخل في المجال السياسي؟ وتحديدا، معرفة ما يختفي خلف الرهان الأول المعلن، في عمل حنة آرندت[6]، من مسوغات حجاجية في إخراج العنف من المجال السياسي، أو ما يقوم منها في تضاعيف الرهان الثاني من تجويز القول بالدور السياسي للعنف.

-   السلطة ضد العنف:

تتخذ صيغ النقد التي تنتظم في إطارها مواقف حنة آرندت من السياسة، أشكالا حوارية مستندة إلى معطيات تاريخية تلعب دور الموجه الجامع في سياق مواقفها النظرية من علاقة السلطة بالعنف، وهي صيغ تتجه لفحص أساليب الحجاج الداعمة، على المستوى النظري والجهاز المفاهيمي، لمرجعيات الفكر السياسي الحديث في أوثق مسوغاته الحجاجية تبريرا للعبة التماهي القائم بين العنف والسياسة. ففي هذا السياق من التحليل، تمارس حنة آرندت عمل النقد الذي ينطلق من تصنيف مرجعيات هذا الفكر ورسم خطوطه العريضة استنادا إلى تصورين:

من جهة أولى، التصور الأداتي للسياسة الذي يجعل من العنف وسيلة لبلوغ غايات وأهداف سياسية، وهو منظور يقوم على محاولة التفكير في السياسي قياسا على نموذج التصنيع؛ أي العمل على ترتيب وسائل موجهة لبلوغ غايات مقصودة تكون في خدمة أهداف معلنة، وهو الأمر الذي ينتج عنه نظرا وواقع تغييب كلي لمنزلة الفعل الإنساني في ترتيب هذه الغايات، وبالتالي لا يحضر العنف هنا إلا لتبرير الحد من عدم القدرة على التنبؤ المرتبطة بقدرات البشر. وهذا النمط من التفكير، يجد تبريره الكافي في ظل الأنظمة العسكرية وطريقة ممارستها للسلطة وقهر الخصوم. تقول آرندت: "إن السلطة تكمن حقا، في جوهر كل حكومة، لكن العنف لا يكمن في هذا الجوهر، العنف بطبيعته كأداة، وهو ككل وسيلة، يظل على الدوام بحاجة إلى التوجيه والتبرير في طريقه إلى الهدف الذي يتبعه".[7]

هذا وجه أول، أما الثاني فيجتهد لبناء تصور في النظر إلى العنف من زاوية الضرورة التاريخية التي تجيز استخدامه كوسيلة تقضي بها الضرورة لتحقيق المقاصد، وكتعبير منها عن ميولات وجموح دوافع الطبيعة. وتحديدا إنه التصور الذي تراه حنة آرندت يقوم على محاولة تطبيع السياسي؛ فما الذي تضمره هذه الأساليب الحجاجية؟

سؤال لا نقصد به محاكمة نوايا حنة آرندت، ولكن المغزى هو الاستحضار الدائم لوجوب التسليم بأن ما تعلن عنه هذه البنية الحجاجية من الناحية السياسية في أدبيات التفكير السياسي المعاصر، هي إقرارها بالخاصية الأداتية واللاإنسانية للعنف. إقرار لا يسع لحنة آرندت إلا استبعاده من مجال السياسة والسياسي بوصفه نقيضا معارضا للسلطة السياسية؛ أي بوصفه شكلا من أشكال العلاقة التي تنتهك فيها كل علاقة ممكنة وكل تفاعل بين البشر.

ونحن هنا، لا نرى حاجة إلى التذكير بأن أمر هذا التعارض لا يعنينا إلا من الجانب الذي يكشف لنا في عمل حنة آرندت عن وعيها النقدي بأشكال الزيف والتلبيس الناتجين عن الخلط الدلالي في التمييز بين مفاهيم الفلسفة السياسية من قبيل: السلطة، القدرة، القوة، التسلط والعنف. فبين السلطة والعنف، أو المفاهيم المتضايفة أو المتقاطعة معها، فروق كيفية وجلية كما تقر بذلك حنة آرندت في أكثر من سياق، بل وربما امتدت تلك الفروق لتشمل مجمل النظريات السياسية التي نظرت لها الفلسفة السياسية منذ أفلاطون إلى الأزمنة الحديثة، بما في ذلك الفلسفة السياسية المعاصرة. أو لنقل بتعبير آخر يفي بالقصد، إن الرهان الذي ينطوي عليه وقوف حنة آرندت على هذه الفروق الدلالية بين هذه المفاهيم، إنما يؤكد حرصها على عدم اختزال هذه الظواهر السياسية إلى أنماط أو أساليب ذات وظيفة واحدة هي: وظيفة الهيمنة أو السيطرة.[8] والكاتبة حنة آرندت هنا واضحة كل الوضوح بخصوص هذا الحرص، بقولها: "من المحزن، كما يبدو لي، أن المستوى الراهن للعلوم السياسية عندنا لا يسمح لعلم المصطلحات أن يميز بين كلمات أساسية، مثل "سلطة"، و"قدرة"، و"قوة"، و"سيطرة" وأخيرا "عنف"، وهي التي تحيلنا على ظواهر تتمايز وتختلف بعضها عن البعض، ومن الصعب عليها أن توجد إن لم يكن هذا التمايز قائما.".[9]

فلننظر، من أجل هذه الغاية إذن، في فروق حنة آرندت في هذه المفاهيم، ولنسجل ما خطته ريشتها في ذلك على نحو يُمكننا من استيفاء ما نطلبه من نتيجة.

السلطة تعني قدرة الإنسان ليس فقط على الفعل، بل على الفعل المتناسق. وهذا ما يجعل منها شرطا أساسيا، لتكون لأفعال الأفراد نتائج، أو لإحداث تغييرات على الأشياء. وبالتالي، فهي على هذا النحو، تمتلك خاصية إدخال الجديد وتغيير المواقف والوضعيات من دون أن تكون فاعليتها شرطا لتحويل الآخرين من البشر إلى وضعية عجز أو حصار للفعل. ومعناه، أن عمل السلطة هو تحقيق الانسجام والتضافر بين الأفعال. ومن ثمة، فهي ليست خاصية فردية، وإنما هي خاصية جماعية تنتمي إلى الجماعة، و"تظل موجودة طالما ظلت المجموعة مع بعضها البعض"[10]؛ أي مجموعة غير منقسمة.

فالسلطة على هذا النحو إذن، إنما يتم التفكير فيها خارج فكرة السيطرة، وبالتالي فهي لا تنطوي على أي تمييز بين غالب أو مغلوب، أو على ممارسة إكراه من بعض على البعض الآخر. وحين "نقول عن شخص ما إنه "في السلطة"، فإننا في الحقيقة نشير إلى أنه قد سُلط من قبل عدد من الناس لكي يفعل باسمهم."[11]

أما العنف، فمداره جملة الوسائل والتقنيات التي يستخدمها الفرد من أجل إخضاع الآخرين وتحقيق أهدافه. فالعنف بطبيعته أدواتي، وهو ككل وسيلة يظل بحاجة على الدوام إلى توجيه وتبرير طريقه إلى الهدف الذي يحاول الوصول اليه، بل إنه "يحتاج إلى تبرير يأتيه من طرف آخر، لا يمكنه ّأبدا أن يكون في شيء جوهري."[12]. وحنة آرندت هنا لا تتردد في أن تتخذ من الأحداث السياسية المعاصرة شواهد لها في الموضوع، حيث اعتبرت حدث الصدام الجبهي بين المدرعات الروسية، وبين مجمل المقاومة غير العنيفة التي أبداها الشعب التشيكوسلوفاكي حالة كلاسيكية لمجابهة بين العنف والسلطة في حالتهما الخالصة، وهو الأمر الذي يزيد لدى حنة آرندت ترسيخا بأن العنف لا يعتمد على العدد أو الرأي العام، بل على الأدوات. وأدوات العنف، كما تشير إليها الكاتبة، من شأنها، قبل كافة الأدوات، أن تزيد وتضاعف من القدرة البشرية.

ذلك ما يفسر في نظر حنة آرندت، كيف "أن الشكل الأكثر تطرفا للسلطة هو ذاك الذي يعبر عنه شعار "الجميع ضد الواحد". أما الشكل الأكثر تطرفا للعنف، فهو الذي يعبر عنه شعار "الواحد ضد الجميع."[13] وهذا في الحقيقة ما يشد الانتباه إلى سقف داخلي يتحصن به العنف من كونه يفتقد إلى كل شرعية سياسية طالما أن استخدامه هو عنوان عن عوز إلى السلطة، بينما الأمر خلاف ذلك بالنسبة إلى السلطة، إذ كل سلطة هي بالتعريف مشروعية، وأنها لا توجد إلا في الفعل المشترك وليس في نقيضه. وبعبارة دالة لحنة آرندت:

"السلطة لا تحتاج إلى تبرير، انطلاقا من كونها لا تقبل أي فصل عن وجود الجماعات السياسية نفسه. ما تحتاج إليه السلطة دوما هو المشروعية."، ثم تضيف: "إن المشروعية حين تواجه تحديا، تسند نفسها في التوجه إلى الماضي. أما التبرير، فإنه يرتبط بغائية[14] تصله بالمستقبل. العنف قد يبرر، لكنه أبدا لن يحوز على أية مشروعية."[15]

تأسيسا على ما تقدم، يبدو أن الصعوبة التي تواجهها السياسة هي تلك التي ترتبط بطريقة بناء السلطة. وهذا راجع في حقيقة الأمر إلى كون السلطة شيئا هشا. من جهة، لأنها تقوم على دعامة وعلاقات عرضية نادرة؛ أي على التجمع والإجماع. كما ترجع من جهة أخرى، إلى التهديد الذي يمكن أن يطالها بواسطة العنف. وترجمة ذلك، فيما تراه حنة آرندت، أن استراتيجية غاندي التي قامت على مبدأ المقاومة غير العنيفة، على سبيل المثال، لو أنها وجدت نفسها مضطرة لمواجهة عدو كلياني آخر، كالستالينية، أو النازية، بدلا من بريطانيا، فمن المؤكد أن النتيجة ما كان من شأنها أن تكون رحيل الاستعمار عن الهند، بل مجزرة وخضوعا مطلقين. وهو ما يعني، في جميع الأحوال، أن بإمكان العنف أن يدمر السلطة دائما، وأنه: "من فوهة بندقية، تنبع أكثر القيادات فاعلية، مسفرة عن أكثر الطاعات كمالا. أما ما لا يمكنه أن ينبع من فوهة بندقية، فهو السلطة." وبالتالي، فالمسألة هنا لا يكفي القول فيها سياسيا أن السلطة والعنف ليسا الشيء نفسه، بل إن الأمر خلاف ذلك كله من أنهما معا على طرفي تعارض تام. والحال أن الفرق بينهما جلي بذاته، إذ إن العنف لا يمكن أن ينحدر من نقيضه الذي هو السلطة. وتفكير حنة آرندت في شأن هذه المفارقات يعد تفكيرا في لحظة الحروب والثورات على النحو الذي تترجمه عبارتها القائلة: "حيث يسود العنف بشكل مطلق، كما هو الحال مثلا في معسكرات الاعتقال للأنظمة الشمولية، نجد أن كل شيء، وكل فرد يلتزم الصمت وليس القوانين وحدها (...) وبسبب هذا الصمت يكون العنف ظاهرة هامشية في الميدان السياسي."[16]

ذلك إذن، ما يتعين علينا أن نجعله حاضرا في أذهاننا، ونحن نفكر في تدافع حدود هذه العلاقة وتعارضاتها، وهي ترسم دوائر لا سياسية مشدودة في الحقل السياسي، إلى الهيمنة التي تمارس على البشر من دون أن تربطهم بها أية علاقة. ونقصد بذلك، العلاقة التبعية المكرهة والغير متوقعة، التي لا يجد لها الإنسان في نظير هذه الوضعية لا دفعا ولا نقضا ما دامت هناك ثلم لم تسد، وهو ما يرجع بحنة آرندت إلى تأكيد قناعتها بأنه لكي يتأتى لأية هيمنة أن تمارس سطوتها، فإنها لا تتردد في القيام بعزل الأفراد وشل جميع العلاقات المحتمل وقوعها فيما بينهم من أجل تشكيل مواقع الفعل، والسلطة واحتمال التوقع. ومن هنا، كان العنف أداة تدمير لما قد يكون مشتركا بين البشر، يتخذ شكل القناع لتغطية علاقة الهيمنة المدركة ظاهريا كعلاقة إنسانية، ومحو كل الفضاءات السياسية والعلاقات التي يمكن أن يقوم عليها المشترك في الشؤون الجماعية للبشر. وبعبارة آرندت نفسها: "ما نسميه في اللغة السياسية انهيار العلاقات الذي يقوم بالتضحية بهذا الفضاء، وكل فعل يستخدم وسائل العنف يدمر أولا الفضاء البيني قبل المضي قدما في إبادة من يسكن الضفة الأخرى لهذا الحيز البيني".[17]

وهكذا، فإذا كان أساس هذا التمييز بين السلطة والعنف يضفي على العنف خاصية إحلال الضرورة لجعل البشر في وضعية عجز، فإن نتائج ومفعولات العنف تبقى متوقعة طالما أنه يقلل من مصدر ما هو غير متوقع من العفوية الإنسانية.

ذلك، إذن، وجه أول في العلاقة بين العنف والضرورة: يكون العنف من جهة الضرورة في الحالة التي يلحق بالطابع العرضي الموصول بالأفعال والعلاقات الإنسانية صورة الضرورة التي تتخذها الهيمنة على نحو ظاهر ومقنع. وهذا ما اجتهدت حنة آرندت في توضيحه في أكثر من سياق مستنتجة أنه: "في مجابهة يقف فيها العنف ضد العنف، كان تفوق الحكومات على الدوام تفوقا مطلقا، غير أن هذا التفوق يظل قائما فقط بمقدار ما تظل بنية السلطة لدى الحكومة غير ممسوسة - أي بمقدار ما تظل التعاليم مطاعة-، وبمقدار ما يظل الجيش وقادة الشرطة مستعدين لاستخدام أسلحتهم. وحين يكف الوضع عن أن يكون على هذه الشاكلة، تتغير الأمور تغيرا عنيفا. ولا يقتصر الأمر على عدم التمكن من سحق التمرد، بل يحدث للأسلحة نفسها أن تنتقل من يد إلى يد. وأحيانا، كما حدث خلال الثورة الهنغارية، خلال ساعات قليلة. (....). وفقط بعد أن يحدث هذا، حين يكون تفكك الحكومة المتسلطة قد سمح للمتمردين بأن يسلحوا أنفسهم، سيمكن للمرء أن يتحدث عن "ثورة مسلحة"، ثورة غالبا ما لاتحدت على الإطلاق، أو تحدث حين تكف أن تكون ضرورية. حين لا يعود أحد يطيع القادة، لا تعود أدوات العنف مفيدة. أما مسألة هذه الطاعة، فإنها لا تتقرر بفعل علاقة القيادة-الطاعة، بل من قبل الرأي العام: أي من قبل العديد من الناس الذين يشاطرون هذا الرأي العام؛ أي كل شيء يتعلق بالسلطة التي يمكن أن يجمعها."[18]

من هذ المنظور إذن، تتجه أطروحة حنة آرندت إلى تقرير أنه من المؤكد لا الحروب ولا الثورات يقررها العنف تأكيدا، كما أن الإرهاب ليس أداة للثورة؛ ذلك أن النظرية الحربية أو النظرية الثورية، كما تراها حنة آرندت، لا تبحث إلا في تسويغ العنف وتبريره، ولكون هذا التسويغ يؤلف حدها السياسي. وبالتالي، فإذا وصلت، عوضا عن ذلك، إلى تمجيد العنف أو تبريره بوصفه عنفا، فإنها لا تعود نظرية سياسية، بل نظرية مضادة لما هو سياسي. ولو شئنا أن نقع على هذا المعنى، على نحو ما تورده حنة آرندت من شواهد تاريخية مؤيدة في نظم الحكم والتدبير المعنف للسلطة، فإننا لا نجد حرجا في التأكيد أنه: "لم يحدث أبدا لحكومة وطدت سلطتها على أدوات العنف وحدها، إن وجدت. فحتى الحاكم الشمولي (التوتاليتاري) الذي يعتمد على ممارسة التعذيب كوسيلة أساسية للحكم يحتاج إلى أسس للسلطة-البوليس السري وشبكة المخبرين الملحقين به (....) وحتى السلطة الأكثر استبدادا التي نعرفها؛ أي حكم السيد للعبيد الذين كانوا يفوقونه عددا، لم تتأسس أبدا على تفوق في أدوات الإكراه بوصفها هكذا، بل على تنظيم متفوق للسلطة؛ أي على تنظيم التضامن بين السادة." وتحديدا: إن العنف والسلطة ليسا بأي حال ظاهرتين طبيعيتين؛ أي إنهما تجلّ لمسيرة الحياة على النحو الذي نظرت لها تقاليد الفلسفة السياسية ونظريات التطور، بل إنهما ينتميان معا إلى ملكوت السياسة المهيمن على قضايا البشر؛ أي هذا الذي لا يمكن ضمان إنسانيته إلا بقدرة الإنسان على الفعل وقابليته، لأن يبدأ شيئا جديدا.[19] ولأن هذه العملية ليست طبيعية، فإن التصدي للعنف ومحاصرته ليس بأمر ممكن فحسب، بل قد يجلب معه شيئا جديدا إلى الحقل السياسي.

-   العنف ضد الضرورة:

إذا كان مجال الحجاج الذي يختزنه النص الآرندي في نقد الأحداث والسجالات التي عرفتها الساحة السياسية خلال القرن الماضي في موضوع الحروب وموضوع الاستخدام المبرر للعنف في ظل الظروف التقنية الحديثة، مجال واسع، وواسع جدا، فإن من المهم التذكير أن حجة العنف إنما أدخلت في النقاش السياسي الحديث بعد أن اتضحت أنها بلغت مرحلة قصوى من استخدامها المدمر لتبرير ما أصبح غير قابل للتبرير. ومع ذلك، فإنه لا يجوز في نظرنا الاكتفاء هنا بهذا الاستعراض النقدي الخاطف للحجج التي تعرفنا عليها من قبل في النص الآرندي في العنف؛ بمعنى اختفاء السياسة من مشهد العنف بوصفه عنفا مبررا يعارض ما هو سياسي. فلنقف إذن، في وصف وفهم هذا التضاد مع تسويغ خادع آخر يختلف عن سابقه ويتمايز عنه، تعارض يجسم نموذج إضفاء المعقولية على استخدام العنف في مظهره الأداتي المتمايز لخرق ما هو نظامي ومعقول.[20] فلنلتمس الوضوح لهذا التمايز، وليس الفصل بينهما، من معطيات وتحليلات النص الآرندي.

لا تتناقض في القول، عند حنة آرندت، بين الإقرار أن السلطة والعنف ليسا الشيء نفسه وأنهما متعارضان، وبين الأخذ بمبدأ التماهي العقلاني للسلطة مع العنف. فالتوصيف الأداتي للعنف بما هو وسيلة تسيره الغاية، إنما تكمن أهميته سياسيا في كونه يحمل في ذاته عنصرا إضافيا تعسفيا تجعله قادرا على أن يحدث قطيعة مع مسار الضرورة. وكما هو الشأن في جميع الأفعال التي لها أبعاد سياسية، فإن كل فعل لا يمتلك صفة القوة إلا إذا كانت له القدرة على إعاقة السيرورات التلقائية الرتيبة والمعتادة. وبعبارة آرندت نفسها: "إن أي فعل، سواء أكان صالحا أو عاطلا، وأي حدث عارض، فإنه من شأنه بالضرورة أن يدمر كل المنظومة التي يتحرك التوقع في إطارها ويجد بداخلها مرجعيته."[21] الفعل بهذه الصفة إذن، يجعل العنف على النحو المعتاد في رؤية الأشياء والإمساك بها، وبالتالي فلا عبرة هنا بالتوقعات، أو البناءات، أو الحسابات، حسابات الخبراء التي لم تعد مجدية. ففي مثل هذه الأمور تعلق حنة آرندت: "ليس ثمة يقين، ولا حتى يقين مطلق، بحدوث تدمير متبادل تحت ظروف معينة محسوبة.... إنه العنصر غير المنتظر الذي نلتقيه في اللحظة التي نقترب فيها من ميدان العنف. والمحصلة في ذلك، هو انقلاب في العلاقة بين الضرورة والعنف. انقلاب لا تتردد حنة آرندت في وصف حقيقته ومرماه بأنه ذو مضمون سياسي. فبين العنف والضرورة، وكلاهما يملك التاريخ أن يحكم عليهما، يبقى التأويل مشرعا في وجه الذي يكسب العنف درجات المصداقية. والمغزى في هذه الحالة واضح، كما تراه حنة آرندت. فإذا كنا ننظر إلى التاريخ انطلاقا من كونه سيرورة زمنية متواصلة، لا يمكن تفادي تقدمها، "قد يبدو لنا العنف على شكل حروب وثورات، وكأنه يشكل القطيعة الوحيدة الممكنة. فإذا كان هذا صحيحا، وإذا كانت ممارسة العنف هي الوسيلة الوحيدة التي تجعل من الممكن إحداث قطيعة في السيرورة التلقائية لملكوت القضايا البشرية، فمن المؤكد أن دعاة العنف سيكونون قد سجلوا نقطة أساسية لصالحهم. (....). ومهما يكن، فإنه من سمات أي فعل، في تمايزه هنا عن السلوك البسيط، أن يحدث قطيعة في كل ما كان من شأنه، لو لا ذلك، أن يتابع بطريقة تلقائية، وفي هذا المعنى، قابلة لأن توقع."[22]

ذلك هو الوجه الآخر من هذا التضاد بين العنف والضرورة بالمعنى الذي يحمل فيه العنف على إعاقة ما قد يظهر أنه ضرورة في أحوال متغايرة من الوجود والفعل. فليست الضرورة هنا من جنس البدايات، وإنما هي مما يصير إليه الفعل بعد الكثير من الاحتيال في الرفض والممانعة. وتأكيدات حنة آرندت وكذا تكرارها يغنينا عن التنبيه، على أن أخص تعريف للعنف هنا وجهان: من جهة، أن العنف ليس بمعطى بيولوجي، أو مجرد رد فعل غريزي أو سلوك مرضي، بل إنه يصدر عن حكم اتجاه وضعية معينة. فنحن لا نثور بعنف ضد ما سيكون من المستحيل تغييره على أي حال. إذ مهما يكن، فليس الغضب رد فعل تلقائي إزاء البؤس والألم، وما من أحد يتصرف تصرف الغضب "إزاء داء لا دواء له، أو هزة أرضية، أو إزاء أوضاع اجتماعية تبدو له غير قابلة للتغيير. يضطلع الغضب فقط، حين تكون هناك احتمالات لحدوث تغيرات في الأوضاع. لكن هذا التغير لا يحدث فقط حين يخدش حس العدالة لدينا."[23]

والحق أن هذا المعيار في فهم هذا السلوك هو، في معنى لا يكاد يخفى ذاته، المعيار الذي يجعل سلوك التمرد العنيف ينطوي على معنى العرض؛ أي على رد الفعل المحتمل حدوثه على نحو آخر، وعلى ما يمكن توقعه من ظلم في العلاقات الإنسانية.

ذلك ما يفسر بالفعل، من وجه تاريخي آخر، لماذا أن كثيرا من النزعات السياسية في التاريخ الحديث بقيت مشدودة في تصورها للعمل السياسي على تجريد العلاقات الإنسانية من بطانتها الطبيعية، والعودة إلى مبدأ العنف الذي هو الأصل. وغالبا ما يكون ذلك السبب موقف عملي؛ أي ايديولوجي يتخذه هذا التفسير أو ذاك، للدفع بمبدأ الضرورة إلى منطقة الهامش تحت ذريعة الأخذ بأصل العنف كإطار للتغيير. وحنة آرندت في كتابها الموسوم: "في الثورة" تفرد صفحات طوال تبسط القول فيها في قراءتها للتاريخ الماركسي القائم على أساس العنف، فتذكر ما بيانه: "أن تحويل ماركس للمسألة الاجتماعية إلى قوة سياسية موجود في مصطلح "الاستغلال"؛ أي في الفكرة القائلة بأن الفقر هو نتيجة للاستغلال من خلال طبقة حاكمة تمتلك وسائل العنف. (...) وبالنزول بمرتبة الملكية إلى مرتبة العلاقات التي يقيمها العنف، وليس الضرورة بين البشر، فإن ماركس يكون قد استنهض روح التمرد التي لا تنبع إلا من كونها منتهكة (أي مضطهدة) وليس من كونها واقعة تحت تأثير الضرورة."[24]

وواضح أن هذا التأويل الذي تقصد به حنة آرندت، في الغالب، تنزيل فرضية الفقر بمعناها الماركسي إلى أساس طبقي مسوغ للعنف، يؤدي إلى تفسير السياسة بصيغة اقتصادية تقوم على سلطة سياسية، شريطة أن يفهم الاضطهاد هنا على أنه ناتج عن العنف وليس عن الضرورة التاريخية. ولا شك أن حنة آرندت قد تنبهت إلى هذا الإسقاط الثوري حينما أعلنت في صياغة دالة: "ولئن ساعد ماركس في تحرير الفقراء، فما كان ذلك بإنبائهم بأنهم تجسيد حي لضرورة تاريخية ما أو غيرها، بل إقناعهم بأن الفقر ذاته هو ظاهرة سياسية، وليس ظاهرة طبيعية، وإنه نتيجة العنف والانتهاك وليس نتيجة الشحة."[25]

ومن هنا، فإن التأثير المؤكد والوحيد الذي قد يخلفه العنف لا يرتبط بالأهداف التي يستطيع أن يحققها، وإنما هو متضمن فيما يظهر في علاقة اتصال بالفعل المعنف نفسه؛ أي فيما يظهر في الحدث. ومن دون شك، فإن لهذا الأمر دلالته خاصة إذا أدركنا أن الفعل العنيف، شأنه كبقية الأفعال، لا يمكن التنبؤ به أو بخلفياته وموجهاته للإحاطة به. ولربما كانت فضيلته الأولى تكمن في شعاع الضوء الذي يمكن أن ينير به العالم. فالتأثير السياسي للعنف لا يمكن التفكير فيه إلا بدفع الفكر الأداتي إلى منطقة الظل والاستعانة بالمنظور الفينومينولوجي الذي لا يروم السعي إلى ما يمكن تبريره لإنهاء العنف، بل إلى ما يكشف عنه توازن القوى والهيمنة من أعمال العنف. ومرد ذلك يمكن أن نجد له فهما وتفسيرا في الاعتقاد المضمر الذي ينطوي عليه موقف حنة آرندت، في أن العمل السياسي البحت يختلف عن العمل السياسي العنيف، حيث إن الأول يظهر في حد ذاته المبادئ التي يريد البشر أن ينظموا العالم على أساسها، بينما يظهر الثاني مصادرة للفعل الذي يؤدي إلى مثل هذه الوسائل. إنه الفعل الذي يكشف عن العجز الذي تحدثه المؤسسة، والذي ينطوي دائما على خطر استمرار دورة العنف والوهن.

فكيف يمكن بناءً على ما سبق، تعيين حدود فاصلة بين هذه الأفعال؟

إذا كانت المعطيات السابقة قد وسعت بصورة غير مباشرة دائرة علاقة العنف بالعمل السياسي، فإن حضورها المعاد في ثنايا النص الآرندي، إنما يفسرها وعي صاحبته بزيف أسئلة السياسة وتصوراتها العضوية المطابقة لتجارب الفعل السياسي في علاقته بعنف وقائع وتجارب التاريخ المعاصر. الفعل الذي يثوي وراء ما قامت به الأنظمة الشمولية والهيمنة البيروقراطية من انتهاك سافر وتدمير لقيمة السياسي ومعايير الأحكام الأخلاقية. ومخفي الفعل هنا، تمييزا له عن باقي الأفعال، ليس شيئا آخر سوى قوة البربرية المتوحشة التي "تكشفه وتجعله مرئيا في العالم. قوة الوحشية الناتجة عن الإكراه الذي يحكم علاقات الناس فيما بينهم، وهذه مستقلة تماما عن الأهداف التي يتم من أجلها حشد العنف."[26]

وإذن، فتفسير هذا النمط من الفعل تفسيرا لا سياسيا ضروري في نظر آرندت، ليس فقط لتصحيح سوء الفهم الحاصل في تاريخ الفلسفة السياسية التي تربط أصول العنف بغرائز عدوانية، بل ضروري كذلك لاكتساب وعي سياسي بزيف المضمون العرقي الأداتي للعنف، وزيف العلاقة الجامعة بين السلطة والعنف في تمفصل واحد. تمفصل قد تعلو حدته ليتحول إلى سلاح ضد الإصلاح منه إلى سلاح ضد الثورة. وتكفي الإشارة والتلميح هنا في هذا السياق من التمثيل، إلى الوجه السياسي المعنف الذي تتحصن خلفه آليات النظام البيروقراطي الحاكم وردود أفعاله العنيفة المصادرة لمطالب الحقوق السياسية للمواطنين في الفضاء العمومي، حيث يكون اللجوء إلى العنف في هذا الحال هو الوسيلة الوحيدة لإسكات هذه المطالب. وكما تقول حنة آرندت نفسها: "نرى أنه كلما كانت سيطرة النزعة البيروقراطية على الحياة العامة أكبر، كلما كان إغراء ممارسة العنف أكبر. ففي نظام هيمنت عليه بيروقراطية شديدة التطور، لا يعود ثمة أحد يمكن التناقش معه، أو طرف يمكن تقديم المطالب إليه، أو شخص يمكن أن تمارس عليه ضغوطات قوية. البيروقراطية هي نظام الحكم الذي يكون فيه كل واحد محروما من الحرية السياسية، ومن القدرة على الفعل، لأن حكم لا أحد، هو لا حكم، وحين يكون الجميع متساوين في عجزهم، يكون لدينا طغيان من دون طاغية."[27]

تلك هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يتبدى من خلالها ظهور العنف على مسرح الحياة العامة، والتي تجد ما يشهد بصحتها وصول السلطة إلى حال من العجز وتحول الحكم الجماعي إلى طغيان.

-   خلاصة:

ربما كانت وجهة نظر حنة آرندت حول علاقات العنف، الضرورة، والمجال السياسي، جديرة بالاعتبار، فهي آراء تجديدية في النسق الفلسفي السياسي نفسه، وأهم من ذلك أنها ملهمة؛ ذلك أن اللافت للنظر في التبريرات التي تنتقدها حنة آرندت هو، أنها تميل إلى تقليص عنصر يبدو متأصلاً في العنف، وهو جانب التمزق وانتهاك النظام. ليس هذا وحسب، بل إن هذه التبريرات نفسها في إصرارها على إدراج العنف في عملية ضرورية، أو في سلسلة من الوسائل والغايات، فإنها لا تعمل إلا على تبرير استخدامه طالما أنه يرافق ويسهل مسار الأحداث، وهو ما يعني بعبارة أخرى، أن العنف بطابعه الأداتي يخلق العنف، ينتجه ضد ما يعارض الضرورة، أو الخير، أو نشر القوى الحيوية، وهو بهذه الصفة، لا يعمل إلا على كسر الحواجز من دون أن يبدع أي شيء.

كل هذا صحيح، غير أن هذه التبريرات ستخف نبرتها، في امتحاننا للنص الآرندي، إذا تنبهنا إلى أن المظهر الأكثر بروزا في العلاقات المتوترة بين السياسة والعنف، لا يمكن استيعابها حق الاستيعاب إلا متى فكرنا فيها من داخل ثنائية التعارض التي تضع عنف الهيمنة الذي يغلق الفضاء العام على طرف تناقض مع عنف التمرد، الذي يكافح من ضد هذا الإغلاق، ويعمل على إعادة فتحه إذا كان مدعوما بالسلطة، وهو الأمر الذي يغذي قناعة الباحث في الفلسفة السياسية في أن يكون للعنف بعدا سياسيا إذا ما لم يُحَول هذا الأخير إلى أداة للهيمنة، وارتفع مقامه ضد الضرورة، وضد نزع صفة التسييس عن تنظيمات المشترك الإنساني بالصورة التي تسعف على إعادة إدماج العلاقات بين البشر، وبين الإنسان والتاريخ فاتحة بذلك مجال السياسة على أبواب إنسانية مشرعة ومفتوحة.

 

بيبليوغرافية الدراسة

  1. حنا آرندت، في الثورة، ترجمة عطا عبد الوهاب، مراجعة رامز بورسلان، المنظمة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 2008
  2. حنا آرندت، ما السياسة، ترجمة زهير الخويلدي، سلمى بالحاج مبروك، منشورات ضفاف، بيروت، الطبعة الأولى، 2014
  3. حنا آرندت، في العنف، ترجمة ابراهيم العريس، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 1992
  4. حنة ارندت، الوضع البشري، ترجمة هادية العرقي، جداول ومؤسسة مؤمنون بلا حدود، بيروت، 2015
  5. حنة آرندت، أسس التوتاليتارية، ترجمة أنطون أبو زيد، دار الساقي، بيروت، 2016
  6. حنة آرندت، رأي في الثورات، تعريب خيري حماد، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2011
  7. علي عبود المحمداوي، العنف والشمولية وإمكان استعادة الفعل السياسي؛ استحضار حنة آرندت في فهم الوضع السياسي العراقي، مكتبة عدنان للطباعة والنشر، بغداد.
  8. نبيل فازيو، العنف والشرط الإنساني المهدور: حنة آرندت ومشكلة العنف في الأزمنة الحديثة، مجلة المناهل، العدد 97، 2019
  9. LEDER (Andrzej), « Violence et Rationalité », In Revue Quaderni, N° 49, 2002/2003, p.102
  10. ENEGREN (André), La pensée politique de Hannah Arendt, Paris, PUF, 1984

 

[1] أستاذ التعليم العالي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، تطوان؛ البريد الإلكتروني: charefelmoatassim@gmail.com

[2] حنة آرندت، في الثورة، ترجمة عطا عبد الوهاب، مراجعة رامز بورسلان، المنظمة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 2008

[3] حنة آرندت، ما السياسة؟، ترجمة زهير الخويلدي، سلمى بالحاج مبروك، منشورات ضفاف، بيروت، الطبعة الأولى، 2014

[4] حنة آرندت، في العنف، ترجمة ابراهيم العريس، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 1992

[5] حنة آرندت، في العنف، ص. 50

[6]حنة آرندت، في العنف، ص. 31

[7] المصدر نفسه. ص. 45

[8] علاقة بهذا القلق المفاهيمي الذي يحف العبارة الأرندية في انتقالها اللساني الترجمي من لغة إلى أخرى، بل ومن داخل المتن الآرندي نفسه، نكتفي بالإشارة هنا إلى أن مفهوم السلطة POWER، الذي ترجم في كتاب "في العنف" في اللغة الفرنسية إلى POUVOIR، تم تداوله في كل من كتاب حنة آرندت في: "الوضع البشري" وكتابها الموسوم: "ما السياسة؟"؛ بمعنى القدرة "Puissance" وهذا ما لا يساعد على فهم التماسك الدلالي بين المفاهيم.

[9] حنة آرندت، "في العنف". ص. 38

[10] المصدر نفسه. ص. 39

[11] المصدر نفسه. ص. 39

[12] المصدر نفسه. ص. 45

[13]المصدر نفسه. ص. 37

[14]نظريّة تقول بأنّ كلّ شيء في الطبيعة موجَّه لغاية معيَّنة غير أنّه الآن بات يُستخدم للتمييز بين التفسيرات التي تدخل في إطار الأغراض والأهداف والتفسيرات التي تدخل في إطار الأسباب المسبقة، والعلاقة بين هذين النوعين من الأسباب هي من الأمور التي تسبِّب نزاعًا كبيرًا تعني التقدُّميّة عند أصحابها الاعتقاد بغائيّة التاريخ وحتميّة التقدُّم البشريّ.

[15] المصدر نفسه، ص. 46

[16] حنة آرندت، في الثورة، ترجمة عطا عبد الوهاب، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى. بيروت، 2008. ص. 24

[17] حنةآرندت، ما السياسة؟، ترجمة زهير الخويلدي وسلمى بلحاج مبروك، منشورات ضفاف، بيروت. الطبعة الأولى، 2014. ص. 125

[18] حنة آرندت، في العنف، ص. ص 42-43

[19] المصدر نفسه، ص. 75

[20] Andrzej LEDER, « Violence et Rationalité », In Revue Quaderni, N° 49, 2002/2003, p.102

[21] حنة آرندت، في العنف. ص. 8

[22] المصدر نفسه، ص.ص 29- 30

[23] المصدر نفسه. ص. 56

[24] حنة آرندت، في الثورة، ص. ص 85-86

[25] المصدر نفسه. ص. 86

[26] حنة آرندت، ما السياسة؟، ص. 129

[27] حنة آرندت، في العنف. ص. 73