العقل الحجاجيّ بين الغزالي وابن رشد لمحمّد أيت حمو


فئة :  قراءات في كتب

العقل الحجاجيّ بين الغزالي وابن رشد لمحمّد أيت حمو

تمهيد:

تزخر المكتبة الفكريّة العربيّة بدراسات عديدة عن التّراث الفكريّ والفلسفيّ الّذي خلّفه كلّ من ابن رشد والغزالي، ويعدّ كتاب "العقل الحجاجيّ؛ بين الغزالي وابن رشد"[1] لمحمد أيت حمو، من هذه الدّراسات الّتي اختارت تقديم قراءة في بعض الإشكاليّات المطروحة في فكر الرّجلين، والكتاب - كما وصفه صاحبه في عنوان ثانويّ - هو دراسات ومراجعات نقديّة لفسفتَي الغزالي وابن رشد، والغاية من هذه القراءة الّتي نقدّمها لهذا الكتاب: هي الوقوف على أهمّ القضايا الّتي يراجعها أيت حمو، عند علَمَين من أهمّ أعلام الفكر الفلسفيّ في تراثنا العربيّ والإسلاميّ.

محمّد أيت حمو: هو باحث مغربيّ متخصّص في الفلسفة والفكر الكلاميّ، حاصل على دكتوراه في الفلسفة من كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة في جامعة محمّد الخامس في الرّباط، ويعمل أستاذًا للفلسفة الإسلاميّة والفكر العربيّ المعاصر في شعبة الفلسفة كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة - جامعة ظهر المهراس في فاس، إضافة إلى هذا الكتاب؛ له مؤلَّفات أخرى، مثل: كتاب "ابن خلدون بين نقد الفلسفة والانفتاح على التّصوّف" عن دار الطّليعة للنّشر، وكتاب "الدّين والسّياسة في فلسفة الفارابي" عن دار التّنوير للطّباعة والنّشر، وكتاب "مشكلة الأفعال الإنسانيّة بين الخلق الاعتزاليّ والكسب الأشعريّ" وهي أطروحته لنيل الدّكتوراه، وقد نشرتها مؤسّسة "مؤمنون بلا حدود".

وهدف أيت حمو من هذا الكتاب - على حد قوله - هو: "أن يحاول الإبانة عن منزلة العقل الججاجيّ وآليّاته في خطابَي أعظم فلاسفة الإسلام: الغزالي وابن رشد"[2]، وتعدّ إشكاليّة العقل مبحثًا متباينًا له دلالات متداخلة؛ حيث نجد هذا المفهوم حاضرًا وضاربًا بجذوره في الفلسفة القديمة، "ينتمي - رسميًّا - إلى علم النّفس القديم الّذي ضمّ أصنافًا من المباحث، من بينها: نظريّة المعرفة"[3]، أمّا مسألة العقل الحجاجيّ بالذّات؛ فإنّها تطرح مقابل برهانيّة القول الفلسفيّ ويقينيّته، باعتبارها من أهمّ سمات القول الفلسفيّ الأرسطيّ، كما نافح عنه ابن رشد.

ويشير المؤلِّف - منذ مستهلّ الكتاب - إلى أهميّة هذا الموضوع، وصعوبة البحث فيه، خاصّة، في فكر رجل كالغزاليّ، "بأفكاره المتضاربة، ومواقفه المتباينة، وآرائه المتغيّرة"، كما أنّ محاولة تبيّن الأوجه الحجاجيّة في خطاب فيلسوف كابن رشد ليس بالأمر الهيّن أيضا، كيف ذلك وهو المعروف بموقفه النّقديّ من علم الكلام، بأنّه خطاب مؤسَّس على الحجاج والجدل، ونجد مقابل هذا النّقد؛ إصراره على التّأسيس لخطاب فلسفيّ برهانيّ يقينيّ في البيئة الفكريّة الإسلاميّة، محدّدًا العلاقة في أبعادها - الاتّصاليّة والانفصاليّة - مع الخطاب الدّينيّ ذي البعد الجدليّ والحجاجيّ، وهذه المعطيات تجعل أيت حمو يعدّ دراسته عن ابن رشد والغزالي مغامرةً محفوفة بالصّعوبات.

يبدأ الكاتب بالغزالي، لمناقشة موقفه من الفلسفة والفلاسفة، هذا الموقف الّذي نجد اختلافًا كبيرًا في دلالاته بين الباحثين؛ فالغزالي نحى في نقده للفلاسفة منهجًا علميًّا صارمًا، وذلك بإفراده مؤلَّفًا حاول أن يتبيّن فيه مذاهب الفلاسفة وأقوالهم، وذلك في كتابه ''مقاصد الفلاسفة''، هذا قبل أن يتعرّض لهم بالنّقد - تكفيرًا وتبديعًا - في كتابه المشهور ''تهافت الفلاسفة''.

ولعلّ نقد الغزاليّ للفلاسفة أثار نقاشًا ترجع جذوره إلى الوهلة الأولى الّتي ألَّف فيها "تهافت الفلاسفة"، ليعود أيت حمو بسؤال جوهريّ في دراسته هذه، قائلًا: "فما الفيلسوف والفلسفة المقصودَين بالنّقد في كتابات الغزالي؟" وهذا ليس سؤالًا جديدًا على دارسِي الغزالي؛ بل هو السّؤال الأوّل الّذي قد يتبادر إلى ذهن كلّ من يتوخّى الموضوعيّة في دراسته لمواقف الغزالي من الفلسفة، ولذلك؛ نجد أيت حمو ينطلق من باحثين آخرين لا يختلف معهم في الإجابة عن هذا السّؤال، مثل: أحمد العلمي حمدان في كتابه ''استئناف وتجاوز النّقد المشرقيّ للفلسفة''؛ حيث يتتبّع - هذا الأخير - تصنيف الغزالي للفلاسفة في كتابه ''المنقِذ من الضّلال''، الّذي يعترف الغزالي فيه بتعدّد فرق الفلاسفة.

انطلاقًا من اعتراف الغزالي بتعدد الفلاسفة؛ فإنّه يحصرهم - في نقده - في ثلاث فرق، يقول الغزالي: "اعلم أنّهم على كثرة فرقهم واختلاف مذاهبهم، ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: الدّهريّين والطّبيعيّين والإلهيّين"[4]، إلّا أنّ الغزالي لا يتتبع هؤلاء إلّا في مواقفهم الّتي لها علاقة بالإلهيّات؛ بل إنّه لم ينكر عليهم اهتماماتهم الأخرى، مثل: التّعاليم (الرّياضيّات)، أو المنطق، أو السّياسة؛ بل ما يهمّه هو آراؤهم في الإلهيّات الّتي يرونها برهانيّة، ويراها ظنيّة، مستدلًّا بنقد بعضهم البعض، ويعلّق على موقف أرسطو من أستاذه أفلاطون، قائلًا: "وإنّما نقلنا هذه الحكاية ليعلم أنّه لا تثبت ولا إتقان مذاهبهم عندهم، وأنّهم يحكمون بظنّ وتخمين، من غير تحقيق ويقين، ويستدلّون على صدق علومهم الإلهيّة بظهور العلوم الحسابيّة والمنطقيّة، ويستدرجون ضعفاء العقول، ولو كانت علومهم الإلهيّة متقنة من البراهين، نقيّة عن التّخمين - كعلومهم الحسابيّة - لما اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحسابية"[5].

يبرهن الغزالي في هذا النّقد على اطّلاعه ودرايته بموضوع نقده؛ حيث ألّف سابقًا كتاب "مقاصد الفلاسفة" قبل التّفرغّ للنّقد والاعتراض، كيف لا والغزالي فضلًا عن كونه متكلّمًا، فهو أصوليّ في منهجه النّقديّ، وهو بصدد إصدار حكم شرعيّ في موضوع معين، فيكون ملزمًا بالقاعدة الأصوليّة القائلة: "الحكم فرع عن تصوّره"، ويعدّ عبد المجيد الصّغير الغاية من كتاب "تهافت الفلاسفة" للغزالي، هي: "الكشف عن تهافت المعين الفكريّ الّذي تستقي منه التّعلميّة آراءها وتأويلاتها، فهي المقصودة بالذّات، وليس الفلاسفة بالضّرورة، وهم الّذين لم يكونوا يشكّلون قوّة سياسيّة أو اجتماعيّة في سائر الأحول"[6]، ويرى أيت حموا أنّ الغزالي في هذا العمل النّقديّ: "قد أبان عن محدوديّة الأنطولوجيّة اليونانيّة، وسبق الفلسفة الحديثة في هذه المهمّة الجليلة والجسيمة، وبذلك يكون الغزالي قد مهد لثورة الكوجيتو وللثّورة العلميّة"[7]، ومن نفس المنطلق؛ يتساءل الباحث المغربي الطّيب بوعزّة، قائلًا: "أَرَفَضَ الغزالي الفلسفة في كلّيّتها، أو رفض منها مباحث معيّنة؟ ولماذا عنون كتابه النّقديّ بـ "تهافت الفلاسفة" ولم يعنونه بـ"تهافت الفلسفة؟"[8]، ولعلّ ما يجمع هذه المواقف: هو أنّها تحاول تقديم قراءة لنقد الغزاليّ، غير القراءة السّائدة التي توظّف الرّجل، سلبًا أو إيجابًا، وتصوّره رافضًا للفكر الفلسفيّ في كلّيّته؛ بل تجعله هو مَن أجهض الفلسفة في الإسلام، ولم تقم لها بعده قائمة.

وبعد أن يتناول أيت حمو ما يحتمله موقف الغزالي من الفلسفة والفلاسفة من دلالات؛ فإنّه ينتقل إلى إشكاليّة التّأويل عند الغزالي، وبعده ابن رشد، لأهميّة سؤال التّأويل في الفكر الإسلاميّ من حيث تناوله للنّصّ الدّينيّ، كونه أساسًا لاكتساب الشّرعيّة في المجتمع الإسلاميّ، إلّا أنّه ليس محكومًا بسلطة بشريّة تحتكره، وهو ما يميّز التّأويل في الإسلام عن التّأويل في المسيحيّة - كما يشير إلى ذلك أيت حمو[9] - والتّأويل: منهجٌ عقليٌّ مشترك بين المعتزلة والشّيعة، والفلاسفة، والمتصوّفة، والأشاعرة، وغاية المؤلِّف من تناوله لهذا الإشكال - كما يقول - هي: "مقاربة سؤال التّأويل في الفكر الإسلاميّ، والإبانة عن أخلاقيّاته، واستشراف آفاقه وفضاءاته لدى أشهر فلاسفة الإسلام: أبو حامد الغزالي وابن رشد"[10].

ظهر التّأويل في الفكر الإسلاميّ على يد "الجعد بن درهم"، وتلميذه "جهم بن صفوان"، والجعد - كما أشار إلى ذلك علي سامي النّشّار - هو: "أوّل من خاض هذا المعترك العنيف، ونادى بفكرة التّأويل العقليّ، وأوّل روّاد التّفسير العقليّ في الإسلام"[11]، لينتشر بعدها التّأويل بين مختلف الفرق على درجات متفاوتة، وكما يشير إلى ذلك أيت حمو - علم الكلام هو علم التّأويل، وكلّ الفرق مؤوّلة ولا فرق بينها إلّا في الدّرجة؛ بل كان التّأويل ضروريًّا، كما يصرّح بذلك الغزالي قائلًا: "وما من فريق من أهل الإسلام إلّا وهو مضطر إليه"[12].

يدافع الغزالي عن التّأويل، ويتعامل معه بأنّه حقّ مشترك، ويعدّه منهجًا في الوصول إلى الحقّ، وبذلك لا يجوز لأحد أن يحتكره، فذلك بمثابة احتكار الحقيقة، وهو أمر يرى أنّه مجانب للصّواب، شرعًا وعقلًا، ويعدّ التّأويل - أيضًا - وسيلة لتجنّب التّكفير، وهذا موقف من المفاجئ أن يدافع عنه شخص معروف بتكفيره للفلاسفة، يقول الغزالي: "الخطأ في ترك ألف كافر في الحياة، أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم"[13]، ويرى الكاتب أنّ موقف الغزالي هذا تأكيد على أنّ "الدّفاع عن التّأويل: هو دفاع عن الاختلاف، وذمّه هو ذمّ الاختلاف"[14].

يحاول أيت حمو أن يقدّم قراءة هادئة لإشكاليّة التّأويل عند الغزالي، لارتباطها بمسألة تكفير الفلاسفة الّتي نُفخ فيها عن قصد أحيانًا، على حدّ تعبيره، ويشير إلى أنّ الغزالي يحاول الدّفع بالتّأويل إلى أقصى حدوده، كما يتعامل مع التّكفير بحذر شديد، فلا يصرّح به إلّا عند الحاجة القصوى، الّتي يتجاوز فيها المؤوَّل فيصل التّفرقة الذي يحدّده بتكذيب الأنبياء، كما يؤكّد صاحب الكتاب "صعوبة الحديث عن حدود التّأويل في الإسلام بكلمة واحدة، لأنّ مشكلة التّأويل مشكلة معقّدة في الإسلام، ويعزّ حدّها والإمساك بكل خيوطها، بسبب غياب معيار دقيق وحاسم لتمييز "الصّحيح" من تأويل القرآن والحديث، هذا المشكل الحقيقيّ هو الّذي حاول الغزالي حلّه في بعض كتبه"[15].

بعد أن فرغ أيت حمو من دراسته هاتين الإشكاليّتين؛ موقف الغزالي من الفلسفة، وكذا موقفه من التّأويل، ينتقل إلى استشكال نفس الموضوع عند ابن رشد؛ حيث سيتناول الكاتب التّأويل عند فيلسوف قرطبة، ويتطرّق إلى مختلف الإشكاليّات الّتي يمكن بها ترصّد ملامح المنهج التّأويليّ عند ابن رشد، مثل: إشكاليّة الحقيقة المزدوجة، أو العلاقة بين الحقيقة الدّينيّة والحقيقة الفلسفيّة، وكذا في مسألة مراتب النّاس عند ابن رشد، وتقسيمة الشّريعة إلى ظاهر وباطن، وفي تأويله البرهانيّ لنصوص الشّريعة، وذلك قبل أن يضع الكاتب التّأويل الرّشديّ تحت المجهر؛ حيث حاول أيت حمو إبراز وجوه أخرى للتّأويل الرّشديّ غير الوجه البرهانيّ الّذي اشتُهر به.

يعرّف ابن رشد التّأويل، أنّه: "إخراج دلالة اللّفظ من الدّلالة الحقيقيّة إلى الدّلالة المجازيّة، من غير أن يخلّ ذلك بعادة لسان العرب في التّجوّز"[16]، ويربط الكاتب سؤال التّأويل عند ابي الوليد بالموضوعات الّتي أشرنا إليها سلفًا، فقد تطرّق لها ابن رشد - على حدّ تعبير أيت حمو - ردًّا على المواقف المتشدّدة لبعض الفقهاء من الفلسفة، "ولذلك تجنّد فيلسوف قرطبة لدرء الخلاف بين الدّين والفلسفة وإحلال الجمع والتّوفيق، أو المحبّة والاتّصال، استنادًا إلى التّوافق بين العقل والنّقل عبر عملية التأويل"[17]، وينطلق ابن رشد من مجموعة من النّصوص الدّينيّة، بعدّ الفلسفة: نظرًا في الموجودات في دلالتها على صانعها، يقول ابن رشد: "فإنّ الغرض من هذا القول؛ أن نفحص على جهة النّظر الشّرعيّ، هل النّظر في علوم الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشّرع، أم محضور، أم مأمور به"[18]، وبعد عرضه للأدلّة، النّقليّة والعقليّة، يتقرّر عند ابن رشد: "أنّ النّظر في كتب القدماء واجب في الشّرع؛ إذ كان مغزاهم في كتبهم ومقصدهم هو المقصد الذي حثّنا الشّرع عليه"[19]، ويحذو أيت حمو حذو طه عبد الرّحمن في الإشارة إلى تأثّر ابن رشد - في تعريفه للفلسفة - بلغة المتكلّمين؛ إذ يحاول الدّفاع عن شرعيّتها، فهذا التّعريف على حدّ تعبيره: "يشذّ عن المسلك الأرسطيّ، ومسالك توفيقيّة الفلاسفة"[20]، كما تناول ابن رشد - في نفس السّياق - موقف الفلاسفة القدماء من الشّرائع، وذلك للرّدّ على تكفير الغزالي إيّاهم في مسائل إلهيّة، مثل: القول بإنكارهم حشر الأجساد، وذلك في كتابه "تهافت التّهافت"؛ حيث يؤكّد ابن رشد أنّ الحكماء أحرص النّاس على تعظيم الشّرائع المزامنة لهم، فكانوا دائمًا يأخذون بأفضلها وأسلمها وأقربها للحقّ؛ بل إنّ ابن رشد - كما يشير إلى ذلك الكاتب - لا يتردّد في تكفير منكرِي المعاد من الفلاسفة، "ونعتهم بالزّنادقة الّذين يرمون إبطال الشّرائع"[21].

كما حاول أيت حمو دراسة المنهج التّأويليّ عند ابن رشد في تقسيمه للخطاب الشّرعيّ، بعدّه: "قسمين؛ ظاهر ومؤوَّل، وأنّ الظّاهر منه: هو فرض الجمهور [...]، وأنّه لا يحلّ للعلماء أن يفصحوا بتأويله للجمهور"[22]، وعلى أساس هذا التّقسيم؛ يعدّ أبو الوليد استعدادات النّاس في الفهم والتّلقّي على ثلاث مراتب، تختلف حسب كلّ مرتبة، وسبب ذلك، على حدّ تعبيره: "أنّ طبائع النّاس متفاضلة في التّصديق، فمنهم من يصدّق بالبرهان، ومنهم من يصدّق بالأقاويل الجدليّة تصديق صاحب البرهان بالبرهان ]... ومنهم من يصدّق بالأقاويل الخطابيّة"[23]، وعلى هذا الأساس؛ فخطاب الشّريعة سيكون مشتركًا وموجّهًا إلى الفئة العريضة مع التّنبيه للخواصّ، ولما كانت الشّريعة متضمّنة البرهان تضمّنها الطّرق الجدليّة والخطابيّة، يؤكّد ابن رشد على ضرورة وضع حدود بين هذه الطّرائق، فلمّا كان الباطن، تلك المعاني الّتي لا تنجلي إلّا لأهل البرهان؛ توجب عدم التّصريح بها لأهل الجدل، فضلًا عن الجمهور، ومن هذا المنطلق يوجّه ابن رشد سهام النّقد الّتي تحمل نَفَسًا تكفيريًّا للغزالي، يقول ابن رشد: "ولذلك، ما نرى أنّ من كان من النّاس فرضه الإيمان بالظّاهر فالتّأويل في حقّه كفر ]... فمن أفشاه له من أهل التأويل، فقد دعاه إلى الكفر، والدّاعي إلى الكفر كافر"[24]، ويقول في موضع آخر: "ومتى صرح بشيء من هذه التأويلات لمن هو من غير أهلها، وخاصة التّأويلات البرهانيّة، لبعدها عن المعارف المشتركة، أفضى ذلك بالمصرَّح له والمصرِّح إلى الكفر، فالتّأويلات لا ينبغي أن يصرَّح بها للجمهور، ولا أن تثبت في الكتب الخطابيّة أو الجدليّة"[25].

وبعد أن عرض الكاتب الخطوط العريضة للمنهج التّأويليّ البرهانيّ عند ابن رشد؛ فإنّه - في فقرة مستقلّة - يحاول وضع التّأويل الرّشديّ تحت المجهر، وذلك على شكل ملاحظات نقديّة، أهمّها:

● قصور التّأويل الفلسفيّ عن تحصيل التّأويل الصّحيح للنّصوص الشّرعيّة، وذلك لعدم وضوح حدوده الّتي يمكن - أحيانًا - أن تتجاوز الآيات القرآنيّة، الّتي يجب حملها على ظاهرها؛ بل وقع ابن رشد في ذلك، على حدّ تعبير الكاتب؛ إذ إنّه "لم يتردّد في ممارسة التّأويل على الأقوال الظّاهرة"[26]، مستدلًّا بمجموعة الآيات الّتي أوّلها ابن رشد تأويلًا أخرجها من سياقها.

● أنّ التّأويل الرّشديّ في صيغته البرهانيّة يؤدّي إلى اختلاف التّأويلات باختلاف مراتب الحكماء في الفهم البرهانيّ؛ أي إنّه لا يحقّق اليقين، وهو الميّزة الوحيدة الّتي يجعل بها ابن رشد الأفضليّة للبرهان، على حساب التّأويل الجدليّ الّذي يتوسّل به المتكلّمون[27].

كما يتطرّق أيت حمو إلى إشكاليّة يتّسم بها المتن الرّشديّ، وهي كتابته المزدوجة، وهي إشكاليّة اختلف الباحثون في تناولها، فكما أشرنا، التّأويل عند ابن رشد؛ هو وسيلة يلتمس بها الشّرعيّة للفلسفة في الثّقافة الإسلاميّة، ويواجه بها موجات الرّفض المتشدّد لعلوم القدماء، فيؤكّد عدم تعارضها مع الشّرعيّة؛ بل وجوب ممارستها في كلّ من الفصل والتّهافت والكشف، الّتي يزكّي فيها الأصول العقديّة للدّين، فلا يجد حرجًا في تبديع مخالفيها وتكفيرهم، إلّا أنّه في شروحاته يساير كثيرًا من الآراء الأرسطيّة الّتي تتصادم وتتعارض مع أصول عقديّة، مجمّع عليها، ولا تقبّل التّأويل، مثل: وحدة العقل والاتّصال، وما يتصّل به من الثّواب والعقاب في المعاد، ما يجعل آراء ابن رشد مضطّربة خلقت اختلافًا كبيرًا بين الباحثين في تحديد الفلسفة الرّشديّة الحقيقيّة[28].

وهناك وجه آخر للكتابة عند ابن رشد إضافة ازدواج أفكاره، وهو ازدواج منهجه، فابن رشد من أكبر منتقدي القياس الكلاميّ؛ قياس الغائب على الشّاهد أو قياس التّمثيل، بدعوى سقوط مستعمليه في المماثلة بين العالم الإلهيّ والعالم الإنسانيّ، إلّا أن أيت حمو يجاري كثيرًا من الباحثين في المتن الرّشديّ، الّذين لاحظوا أنّ ابن رشد على الرّغم من نقده للقياس الكلاميّ، إلّا أنّه يلجأ إليه خصوصًا في الرّدّ على المتكلّمين، ولدحض أدلّتهم في كثير من المسائل، وكما يؤكّد الكاتب: "فقياس التّمثيل: هو الاستدلال القياسيّ الّذي لا انفكاك عنه للمتكلّمين والفلاسفة، وغيرهم من الخائضين في الإشكالات الفلسفيّة والكلاميّة؛ إذ يستحيل الاستغناء عنه حتّى عند منتقديه الّذين يرونه شرًّا"[29].

ومن هذا المنطلق، يؤكّد الكاتب على وجه آخر في المنهج عند ابن رشد، غير المنهج البرهانيّ الّذي دافع عنه على حساب المنهج الجدليّ، وقياس التّمثيل، إنّه الوجه الحجاجي لابن رشد، الّذي لا يخلو من فجوات كثيرة، على حدّ تعبيره، تعرّض لها رشديّون وغير رشديّين، يجمعهم التّخصّص في المتن الرّشدي، مثل: "محمّد المصباحي، بنسالم حميش، عبد المجيد الصّغير، أحمد العلمي حمدان، طه عبد الرّحمن"، ليشير أيت حمو إلى بعض هذه الفجوات في المنهج الرّشدي، أهمّها:

● تقليده لأرسطو بعدّه الفيلسوف الّذي كَمُلَ الحقّ عنده، فأوقعه تعظيمه وتقديسه هذا في نزعة إقصائيّة لغير الأرسطيّين من الفقهاء والمتكلّمين، كما أنّ هذا الإعجاب: "عطّل مغامرات العقل الرّشديّ، الّذي كان الاجتهاد هو الغائب الأكبر في شروحه"[30].

● السّباب وخروجه عن أدبيّات وأخلاقيّات المناظرة؛ حيث وقع ابن رشد في نفس الشّنائع الّتي وقع فيها الغزالي في نقده للفلاسفة، فلم يخل نقده من التّضليل والتّبديع والتّكفير، وعلى حدّ تعبير أيت حمو: "سواء تعلّق الأمر بالفلاسفة المسلمين في المشرق؛ كالفارابي وابن سينا، أو بالمتكلّمين: كالمعتزلة والأشاعرة، ناهيك عن الفقهاء والمتصوّفة، فإنّ ابن رشد ينتقدهم كلّهم ]... فهو لا يجد غضاضة أو حرجًا أحيانًا من أن يطلق العنان للسانه بالسّبّ والشّتم والأوصاف البذيئة"[31].

هذا إضافة إلى ملاحظات أخرى حرص المؤلّف على إيرادها، للوقوف على حقيقة المنهج التّأويليّ عند ابن رشد ومميّزاته، وهذه هي أهمّ الإشكاليّات والقضايا الّتي تضمنّها هذا الكتاب بين دفتيه، عن المنهج التّأويليّ، أو العقل الحجاجيّ، عند كلّ من الغزالي وابن رشد، على الرغم من تخصيص الكاتب مساحة كبيرة لابن رشد مقارنة بالغزالي، وهي من الملاحظات الّتي لا يمكن أن تفوت القارئ، فكما هو معلوم حظي فيلسوف قرطبة باهتمام كبير وتعدّد دارسوه، ما يهيّئ للكاتب أرضيّة جاهزة لسبر أغوار المنهج التّأويليّ عند ابن رشد، على عكس الغزالي الّذي لا يُشار إليه غالبًا، إلّا في معرض القدح استعدادًا للرّفع من شأن ابن رشد؛ بل استعدادًا لتوظيفه، وتأويل فلسفته وفكره بما يخدم التّوجّه الإيديولوجيّ للدّارس، وعلى الرّغم من الميل الكلاميّ الواضح عند الكاتب، إلّا أنّه لم يخرج عن أعراف الكتابة في هذا الموضوع، فيما يخصّ ما ذكرناه من جعل الغزالي مجرّد مقدّمة لدراسة ابن رشد، وأختم مؤكّدًا أنّ هذه الملاحظات لا تنمّ إلّا عن تفاعل إيجابيّ مع محتويات الكتاب، منهجًا ومحتوياتٍ، وليس تقليلًا من شأنه؛ بل يتوجّب علينا الاعتراف بفضل هذه الدّراسة في تقريب فلسفتَي؛ الغزالي وابن رشد، لاهتمامها بمسألة المنهج في جانب من أكثر جوانبه تعقيدًا: هو الجانب التّأويليّ.

 

المصادر والمراجع:

-    محمّد أيت حمو، "العقل الحجاجيّ؛ بين الغزالي وابن رشد"، دراسات ومراجعات نقديّة لفلسفتَي الغزالي وابن رشد، جداول للنّشر والتّوزيع، الطّبعة الأولى، 2012م.

-    أبو الوليد ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملّة، تقديم وإشراف: محمّد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت، الطّبعة الرّابعة، 2014م.

-    أبو الوليد ابن رشد، فصل المقال وتقرير ما بين الحكمة والشّريعة من اتّصال، تحقيق: ألبير نصري نادر، دار المشرق، بيروت، الطّبعة الثّانية، بدون تاريخ الطّبعة.

-       أبو الوليد ابن رشد، فصل المقال، تحقيق عدنان بن عبد الله زهّار، دار الرّشاد الحديثة، المغرب، الطّبعة الأولى، 2011م.

-       أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضّلال، المكتبة العصريّة، بيروت، طبعة سنة 2009م/1430هـ.

-       أبو حامد الغزالي، تهافت الفلاسفة، تحقيق: سليمان دنيا، دار المعارف، الطّبعة الرّابعة، 1966م.

-       أبو حامد الغزالي، فيصل التّفرقة بين الإسلام والزّندقة، تحقيق: مصطفى حكّة، دار النّشر المغربيّة، 1983م.

-       الطّيّب بوعزة، الغزالي والفلسفة، مقال منشور على الرّابط: www.mominoun.com/articles3839

-    عبد المجيد الصّغير، تجليّات الفكر المغربيّ: دراسات ومراجعات نقديّة في تاريخ الفلسفة والتّصوّف في المغرب، شركة النّشر والتّوزيع المدارس، الدّار البيضاء، الطّبعة الأولى، 1421 هـ.

-       علي سامي النّشار، نشأة الفكر الفلسفيّ في الإسلام، دار المعارف، الطّبعة التّاسعة، القاهرة.

-       محمّد المصباحي، إشكاليّة العقل عند ابن رشد، المركز الثّقافي العربيّ، الطّبعة الأولى، 1988م.


[1]- محمّد أيت حمو، "العقل الحجاجيّ؛ بين الغزالي وابن رشد" دراسات ومراجعات نقديّة لفلسفتًي الغزالي وابن رشد، جداول للنّشر والتّوزيع، الطّبعة الأولى، 2012م.

[2]- محمّد أيت حمو، "العقل الحجاجيّ؛ بين الغزالي وابن رشد"، مصدر سابق، ص 7.

[3]- محمّد المصباحي، إشكاليّة العقل عند ابن رشد، المركز الثّقافيّ العربيّ، الطّبعة الأولى، 1988م، ص 6.

[4]- أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضّلال، المكتبة العصريّة، بيروت، طبعة 1430هـ/ 2009م، ص 42

[5]- أبو حامد الغزالي، تهافت الفلاسفة، تحقيق: سليمان دنيا، دار المعارف، الطّبعة الرّابعة، 1966م، ص 76 وما بعدها.

[6]- عبد المجيد الصّغير، تجليّات الفكر المغربيّ: دراسات ومراجعات نقديّة في تاريخ الفلسفة والتّصوّف في المغرب، شركة النّشر والتّوزيع المدارس، الطّبعة الأولى، الدّار البيضاء، 1421 هـ، ص 60

[7]- محمّد أيت حمو، العقل الحجاجيّ؛ بين الغزالي وابن رشد، مصدر سابق، ص 20

[8]- الطّيب بوعزّة، الغزالي والفلسفة، مقال منشور على الرّابط:

www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B2%D8%A7%D9%84%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9-3839

[9]- محمّد أيت حمو، "العقل الحجاجيّ؛ بين الغزالي وابن رشد"، مصدر سابق، ص 50.

[10]- المصدر نفسه، ص 52.

[11]- علي سامي النّشار، نشأة الفكر الفلسفيّ في الإسلام، ج 1، دار المعارف، القاهرة، الطّبعة 9، ص 329 وما بعدها.

[12]- أبو حامد الغزالي، فيصل التّفرقة بين الإسلام والزّندقة، تحقيق: مصطفى حكّة، دار النّشر المغربيّة، 1983م، ص 16.

[13]- المصدر نفسه، ص 73.

[14]- محمّد أيت حمو، العقل الحجاجيّ؛ بين الغزالي وابن رشد، مصدر سابق، ص 59.

[15]- المصدر نفسه، ص 68.

[16]- أبو الوليد ابن رشد، فصل المقال وتقرير ما بين الحكمة والشّريعة من اتّصال، تحقيق: ألبير نصري ناذر، دار المشرق، بيروت، الطّبعة الثّانية، بدون تاريخ الطّبعة، ص 35.

[17]- محمّد أيت حمو، العقل الحجاجيّ؛ بين الغزالي وابن رشد، ص 70.

[18]- أبو الوليد ابن رشد، فصل المقال وتقرير ما بين الحكمة والشّريعة من اتّصال، تحقيق: ألبير نصري نادر، ص 27.

[19]- المصدر نفسه، ص 33.

[20]- محمّد أيت حمو، العقل الحجاجيّ بين الغزالي وابن رشد، مصدر سابق، ص 72.

[21]- المصدر نفسه، ص 78.

[22]- أبو الوليد ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدّلّة في عقائد الملّة، تقديم وإشراف: محمّد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت، الطّبعة الرّابعة، 2014م، ص 99.

[23]- أبو الوليد ابن رشد، فصل المقال، تحقيق: عدنان بن عبد الله زهار، دار الرّشاد الحديثة، المغرب، الطّبعة الأولى، 2011م، ص 25.

[24]- المصدر نفسه، ص 42.

[25]- المصدر نفسه، ص 47.

[26]- محمّد أيت حمو، العقل الحجاجيّ بين الغزالي وابن رشد، ص 103، مصدر سابق.

[27]- المصدر نفسه، ص 104.

[28]- المصدر نفسه، ص 109.

[29]- المصدر نفسه، ص 136.

[30]- المصدر نفسه، ص 161.

[31]- المصدر نفسه، ص 171.