العنصر الإغريقي في أُنتولوجيا هايدغر الأساسية من أرسطو إلى برمانيدس


فئة :  أبحاث محكمة

العنصر الإغريقي في أُنتولوجيا هايدغر الأساسية  من أرسطو إلى برمانيدس

العنصر الإغريقي في أُنتولوجيا هايدغر الأساسية[1]

من أرسطو إلى برمانيدس

«والأوّلُ هو الذي عنه وُجد...»

أبو نصر الفارابي

يعمد هايدغر، ضمن واحد من نصوصه المتأخّرة[2]، إلى التّضييق على الآليثيا ajlhvqeia الإغريقية بأنها لم تكن غير اسم لُفظت فيه الخَلوة (اللِّيشْتُونْغ) die Lichtung دون أن تُخبَر، وأن تُـمْحَن، بما هي كذلك، بل هو يذهب، في هامش من هوامشه التّأويلية الذّاتية المعروفة، إلى حدّ تخصيص عين محاولته تفكّر مفهوم الحقيقة ضمن معنى الـ ajlhvqeia بما هي ليشتونغ على أنها محاولةٌ ضالّة[3]. ولعلّه يمكننا أن نعدّد إحداثيات هذه الطّريق المضلّلة ضمن النّص المذكور، فنقول:

  1. إنّ السّؤال باتّجاه الـ «ajlhvqeia» بمعنى الليشتونغ (الخلوة) ليس سؤالاً عن «الحقيقة»
  2. إنّ تجربةَ الليشتونغ الإغريقيةَ، لا تتجاوز اللفظة «ajlhvqeia». فلا يطابق استعمالَ هذا المصطلح أيُّ مضمون من مضامين الفكر المحددة.
  3. لا تقال الـ «ajlhvqeia» ولا الـ «ajlhvqe~» من الأصل، ومنذ هوميروس على وجه التحديد، إلا على أفعال القول، فهي بذلك مؤشّر ما لنا من الثّقة التي يمكننا أن نضعها في مقول ما.
  4. تلتحق التجربةُ الفلسفيّة والشعرية بالحسّ العام في افتراض الحقيقة صواباً للقول.
  5. لا وجاهة إذاً في الأطروحة القائلة بتحوّل طرأ على جوهر الحقيقة [وهي الأطروحة التي تحمل التأويل الهايدغري لأفلاطون ضمن النّص الذي نشر أول ما نشر سنة 1942: (مذهب أفلاطون في الحقيقة).

إنّ هايدغر يتأول إذن ما كان هو كتبه على أنّه يعني أن الـ ajlhvqeia لم تتجاوز حدود تسميتها. وبذلك لم يعد يُعتدُّ بما كان سابقاً ينظر إليه على أنه إحداثية تاريخية لها كإحجاب، بل يطفو من جديد السؤالُ المستفهم عن سبب كون التجربة الطبيعية للإنسان تمنع عن هذا الأخير أن يلتفت إلى غير «ما يحضره حضوراً مباشراً، وإلى حضوره الذي يأتي به يومياً»[4].

ومع ذلك، فإن الـ ajlhvqeiaكإحجاب قد تم إثباتها إثباتاً ضمن نص (مذهب أفلاطون) Platons Lehre جنباً إلى جنب مع الحقيقة كـ oJmoivwsi~، حيث تبدو أليغوريا الكهف، في الكتاب السابع من (الجمهورية)، متضمنة لهما معا. يقول هايدغر:

«Das im Sinne der άλήάεια anfänglich griechisch gedachte Wesen der Wahrheit, die auf Verborgenes (Verstelltes und Verhülltes) bezogene Un-verborgenheit, und nur sie hat einen wesenhaften Bezug zum Bild der unter Tag gelegenen Höhle. Wo die Wahrheit anderen Wesens ist und nicht Unverborgenheit oder wenigstens durch sie nicht mitbestimmt, da hat ein "Höhlengleichnis" keinen Anhalt der Veranschaulichung.»

«إنّ ماهية الحقيقة، في المعنى الذي تفكّرها به اليونانيون، الـ ajlhvqeia، (أي في معنى) الإحجاب الذي يتم ربطه بشيء محتجب (أي بشيء توارى حتى أصبح لا يُعرف)، هي وحدها في علاقة مع صورة الكهف المغمور الذي لا يلج إليه (نور) النهار. وحيثما كان للحقيقة ماهية أخرى، وحيثما لم تكن لا تحجبا، أو، على الأقلّ، لم يكن يصاحب تحديدَها لاتحجّب، فإنّ أليغوريا الكهف تكون فاقدة لأساسها كتمثيل»[5].

ويهدف التذكير بهاتين اللحظتين ضمن موقف هايدغر من مسألة الحقيقة إلى معارضتهما مع موقف هايدغر الأول زمن الأنتولوجيا الأساسية. ففي ز/س (= الوجود والزمان) تمت الإحالة على التّجربة الأصلانية للحقيقة بما هي إحجاب ضمن الفقرة 44. وانتهى ذلك إلى موضعتها ضمن البنية الأساسية للموجد:

«تنتمي الحقيقة في معناها الأكثر أصلانية إلى البنية الأساسية للموْجد. ويشير هذا العنوان إلى كياني. ولكنْ هكذا يكون قد رُسم من قبلُ جواب مسألة جهة وجود الحقيقة، ومسألة معنى ضرورة افتراض أنه "ثمة شيء من قبيل الحقيقة".

وإنما في سياق تحديد الحقيقة هذا بما هي كياني يجْلي هايدغر ظاهرة الحقيقة الأصلانية عن الحكم المسبق بأنها توجد داخل التلفظ، بل يدفع عن أرسطو أنه قد يكون قال بهذا. فليس أرسطو في أصل هذا الحكم المسبق، بل هو، على النقيض من ذلك، أفق تفسير كيانوية الحقيقة. ولكن الفقرة الرابعة والأربعين التي أشرنا إليها، والتي حملت هذا التقرير، تستشهد على هذه الكيانوية شذرات منظومة برمانيدس.

فلنعد قراءة هذا المقطع:

أَنّ إِلَـهَةَ الحقيقة التي تقود برمانيدس، تضعه لدى (ملتقى) طريقين، إحداهما طريق الإحجاب، والأخرى طريق الاحتجاب، فإنّ ذلك لا يعني أكثر من كوْن الموجد هو بعدُ في كليهما، في الحقيقة واللاحقيقة. ولا يحصَّل طريقُ الإحجاب إلا ضمن الـ krivvnein lovgw، ضمن التمييز المتعقِّل للطريقين، والحسم لأحدهما»[6].

وفعلاً، فإن إلهة برمانيدس تلقي على مريدها هذه الكلمات:

μηδέ σʹ ἔθος πολύπειρον ὁδὸν κατὰ τήνδε βιάσθω,

νωμᾶν ἄσκοπον ὄμμα καὶ ἠχήεσσαν ἀκουήν

καὶ γλῶσσαν, κρῖναι δὲ λόγῳ πολύδηριν ἔλεγχον

ἐξ ἐμέθεν ῥηθέντα … »[7].

«واصبر على العادة، وما أكثر تعللاتها، فقد تسحبك إلى هذي الطريق الماكرة

حيث العين العميّة، والأذن الصّماء،

واللسان (المهذار)، تدبر كل شيء؛ وليكن لك الحسم بعقلك في شجار الخصومات

التي عرضتها عليك الآن».

فأي مفهوم، أيّ مفاهيم، للحقيقة تدير إذن، في أفق هذه القراءة، التمييز المتعقل، «κρῖναι δὲ λόγῳ» البرمانيدي؟

قليلاً ما يُذكر برمانيدس في ز/س، ومع ذلك فهو يظهر في مناسبتين لافتتين؛ لأنهما ملتبستان إن لم تكونا متضادّتين: ونعني الفقرتين 21 و44. ففي الفقرة 21[8]، يعيّن مشروع القسم الثالث من الجزء الأول، «لدى برمانيدس تحديداً»، منطلق إخطاء ظاهرة العالم، أو إخفاق إدراكها، وحرفياً القفز من فوقها قفزاً يمنع عنا رؤيتها، Überspringen في عبارة هايدغر، ratage في عبارة شارحه الكبير جان غرايش[9])، هذا الإخفاق الذي سيظل يتجدد، والذي سيسعى هايدغر إلى عرض تفسيره له.

وأما في الفقرة 44، فإن المفهوم الأصلاني للحقيقة، بما هي «أليثيا»؛ أي بما هي حقيقة ولا حقيقة قائمتان ضمن البنية الأنتولوجية للموجد، إنما يعزى عبر كارل راينهارت (Karl Reinhardt) إلى برمانيدس، وتحديداً إلى الأبيات التي تقدم ذكرها. فبوجه ما يظهر أنّ برمانيدس هو الذي أعطى المفهوم الأصلاني للحقيقة الذي يأنس ضمنه الموْجد حالَه «وجودا- في-العالم»، وهو الذي أخطأ ظاهرة العالم أيضاً. فإن نحن أعدنا تركيب هذا الحكم بحسب ترتيبه الذي ورد عليه في ز/س، كان علينا أن نقول عوضاً من ذلك: إن برمانيدس الذي أخطأ ظاهرة العالم، قد أعطي مع ذلك مفهوم الحقيقة الأصلاني ضمن «التمييز المتعقل»، ضمن الـ krivvnein lovgw.

من الواضح أنّ هاتين الإحالتين على برمانيدس تقعان في لحظتين مختلفتين من تفكير ز/س، وأنهما مرتبتان، تبعاً لذلك، كشهادتين لقصدين «تحليليين» فارزين.

لقد كانت سنة 1916، تحديداً، سنة ظهور كتاب كارل رينهاردت: Parmenides und die Geschichte der griechischen Philosophie (برمانيدس وتاريخ الفلسفة الإغريقية)، وهو الكتاب الذي لا شك في تأثيره في ز/س، وفي عدة دروس مزامنة له، ولاسيما درس سداسي صيف 1926: (المفاهيم الأساسية للـفلسفة القديمة)[10]. وإننا لنكاد نجد ضمن هذا الدرس[11] نفس معجم الفقرة 44 من ز/س:

«Wahrheitsproblem ist im eigenste Zusammenhang mit Seinsproblem.»

«إنّ مشكل الحقيقة لفي أخص التعالق مع مشكل الوجود».

«Zu Sein der Wahrheit gehört wesenhaft Unwahrheit»

«إن اللاحقيقة تنتمي جوهرياً إلى الحقيقة في وجودها».

«Unwahrheit setzt für ihn eigenste Möglichkeit der Wahrheit voraus»

«تقوم اللاحقيقة عنده في مقام شرط الإمكان الأخص للحقيقة».

وتهدف هذه الملاحظة إلى التذكير بالتصفيف الهايدغري للإغريق في الأفق الأرسطي، وهو التصفيف الذي يوجه به هايدغر تأويليه لبرمانيدس. ورغم ما قد نحتاجه من التنسيب، فقد كان جاك تامينيو (Jacques Taminiaux) محقّاً في ملاحظته أنّ هايدغر لم يكن، زمن الأنتولوجيا الأساسية، يُبِين عن أي قطيعة أو انفصال بين مأثور ما قبل السقراطيين، وبين أفلاطون وأرسطو[12]. لا نريد بهذه الملاحظة إحياء ذلك الحكم التقليدي الذي بموجبه نكون نحن دائما متهمين بتأويل ما قبل السقراطيين وفق عرضهم الأرسطي. فهايدغر لا يتحدّث عن عرض أرسطي لهؤلاء، ولاسيما لبرمانيدس، وإنما هو يسعى إلى تمثل أنتولوجية هذا الأخير في صيغتها الأكثر نضجاً وصرامة، أعني في صيغتها الأرسطية: وهو ما يؤكد ما ذهب إليه تامينيو؛ لأنّ الأمر هنا يتعلق برجوع إلى الإغريق لا على جهة تراجع إلى ما قبل أرسطو، وإنما في اتجاه البحث عن شكلٍ مكتمِل لمبتدأ يَكشف لا محالة، ولكنه مجرد كشفٍ أولي. فهكذا ينبغي فهم الملاحظة التي وردت ضمن الفقرة 6 من ز/س، حيث يستأنف هايدغر على طريقته، عبارة مدرسة ماربورغ، التي كانت تقول إن النقد الأرسطي لأفلاطون إنما كان يعني أن أرسطو لم يعد يفهم شيئاً منه. يقول هايدغر:

«Deshalb wird die sich bei Plato ausbildende antike Ontologie zur "Dialektik". Mit der fortschreitenden Ausarbeitung des ontologischen Leitfadens selbst, d. h. der "Hermeneutik" des λόγος, wächst die Möglichkeit einer radikaleren Fassung des Seinsproblems. Die "Dialektik", die eine echte philosophische Verlegenheit war, wird überflüssig. Deshalb hatte Aristoteles "kein Verständnis mehr" für sie, weil er sie auf einen radikaleren Boden stellte und aufhob».

«لذلك آلت الأنتولوجيا القديمة، كما صاغها أفلاطون، إلى "جدلية". وعلى قدر تقدُّم بلورة الخيط الموجّه الأنتولوجي، [وهو خيط] هرمينوتيقا الـ lovgo~، تعاظمت إمكانية إدراك مشكل الوجود إداركا أكثر جذريّةً؛ حتى باتت الجدلية، وقد كانت حرجاً فلسفياً حقيقيا، بلا جدوى. ولذلك "لم يعد أرسطو يفقه فيها شيئاً"؛ لأنه جذّر صعيدها الذي تقوم عليه، ورفعها (aufhob) إلى مقام جديد»[13].

فثمة رغم كل شيء، في ز/س، وحوله، انقطاع بين نصوص أفلاطون ونصوص أرسطو، من جهة، وبينهما وبين نصوص ما قبل السقراطيين، من جهة ثانية، والذي لا يفهمه، لا يفقهه، أرسطو من سابقيه، هو تحديداً ما يصبح عندهم بلا جدوى، من زاوية المنظور الجذري لا لـ «علم الوجود»[14]، وإنما لمسألة الوجود، تلك المسألة التي «يتعلق بها الأمر» (die genannte Frage)، والتي ما تزال تستدعي صراع العمالقة (gigantomciva peri; th͂~ oujsiva~) كسابقة لها، مهما كانت حَيِيَّة وبسيطة. ولكن ز/س يبتغي أن يتموقع في ما قبل الأنتولوجيا الإغريقية، وأن يحصّل «التجارب البدئية التي تمّ ضمنها درْك التحديدات الأولى للوجود، وهي التحديدات التي باتت من بعد ذلك موجهة»[15]. إن هذه المهمة هي ما يتيحه مفهوم «التقويض» (Destruktion): لا كوصل بسيط لوجهات النظر الفلسفية، وإنما كتحصيل لما يمكن تسميته، في إثر ريمي براغ (Rémi Brague)، «شيئاً من قبيل البقية المتبقية من تحليل ممكن لحياة الموْجد»[16]، ولو كانت فقط حياةً داخل العالم. ولذلك، فإن «على إشكالية الأنتولوجيا الإغريقية أن تستمدّ من الموْجد نفسه خيطها الموجّه»[17].

إنّ التحليلية بإجلائها أولاً 'للوجود في العالم' بنية أساسية للموْجد، توجّه هذا الأخير نحو معرفة العالم، وتجد في عين تلك المعرفة، بما هي معرفةٌ تحديداً، تفسير «إخطاء» ظاهرة العالم. لقد نسب الإعلان عن القسم الثالث من الجزء الأول من ز/س إلى برمانيدس، من دونما تفسير، بداية سلسلة «إخطاءات» العالم التي أشرنا إليها للتوّ. وإنما في درس سداسي صيف 1926، نجد تفسيراً لذلك. فهايدغر يقول، محيلاً على قراءة كارل راينهارت:

"Nach ihm ist der zweite Teil ein wesentliches Stück der Erkenntnistheorie des Parmenides. Erkenntnistheorie in der griechischen Philosophie - Vorsicht!"

«فيكون القسم الثاني [من منظومة برمانيدس] وفق رأيه [راينهاردت] مكوناً جوهرياً من نظرية برمانيدس في المعرفة. "نظرية معرفة" في الفلسفة الإغريقية - علينا أن نعي ذلك !»[18].

عندما يحمل هايدغر، في إثر راينهاردت، منظومة برمانيدس التعليمية على نظرية معرفة، فإنه لا يمكنه أن يجد في ذلك إلا تغريضاً للموجود 'الذي داخل العالم'، أعني الطبيعة، بما هي كثرة الأشياء التي لم تنتظم ضمن نسق من الإحالات؛ وذلك هو شكل إخطاء العالم.

ولكن هل تكون الشّذرة السّابعة، بما حملته من الـ krivvnein lovgw مجرّد تأكيد لهذا الموقف المعرفي لبرمانيدس؟ لو كان الأمر على ما قلنا لكان مفهوم الحقيقة الهايدغري في ز/س هو أيضاً مفهوماً معرفياً للحقيقة. ولكنّه ليس كذلك، بل يجري الأمرُ كله كما لو أن التفسير الهايدغري لهذه الوجهة المزدوجة للنظر البرمانيدي، في فترة الأنتولوجيا الأساسية، يتبنى هو نفسه منظورين اثنين:

-      منظور أول أرسطي يرتب وينقد آراء الفلاسفة الطبيعيين الأول بحسب مدى قدرتهم أو قصورهم عن تفسير الحركة. وقد كان تقرير ناتورب الشّهير (Natorp-Bericht)[19]، أعطى مدى هذا التأويل، فقال: «وإنما استردادياً فقط، وانطلاقاً من أرسطو، يمكن أن يتعين المذهب البرمانيدي في الوجود، ويمكنه أن ينفهم كمرحلة حاسمة على طريق تعريف المعنى والمصير اللّذيْن للمنطق والأنتولوجيا الغربيين». ولكن السؤال يظل مطروحاً عن تفسير ذلك، وهو تفسير مزدوج في الحقيقة، بالنظر، أولاً، إلى منطلق تفكير الأنتولوجيا الأساسية (تقرير ناتورب المشار إليه).

-      ومنظور ثان يتحدد بالنظر إلى منتهى هذا التفكير، وهو المنتهى الذي يعبر عن نفسه في النصوص التي ختمت مرحلة الأنتولوجيا الأساسية، بل التي كانت من أمارات نهايتها.

التملّك المستوعب للماضي الإغريقي

في تقرير ناتورب (1922)

لماذا أرسطو تحديداً؟

(warum gerade Aristoteles?)[20]

ماذا يقول تقرير ناتورب (1922)؟ لا بد من التذكير أولاً بأن هذا التقرير يحمل عنواناً ذا دلالة لا مناص من استحضارها عند الحديث عنه: تأويلات فينومينولوجية لأرسطو[21]. فهذا العنوان هو حرفياً عنوان درس شتاء 1921/1922، الذي صدر ضمن المجلد 61 من الأعمال الكاملة، مع اختلاف في العنوان الفرعي للعملين، حيث حمل تقرير ناتورب التّحديد التّالي: «لوحة الوضعية التّأويلية»[22]، في حين يتفرع الدرس المشار إليه إلى عنوان فرعي هو فقط: (مدخل في البحث الفينومينولوجي).

إنّ السؤال الذي يوجّه تفكيرنا لدى قراءة تقرير ناتورب هو سؤال عمّا يفسّر كون «البحوث التي تخدم (dienen) غرض تاريخ [تأويلي] للأنتولوجيا والمنطق»[23]، والتي تخضع ضرورة لشروط التأويل، بما هي شروط لا تعطي موضوع التّأويل ولا مؤوَّليته (Ausgelegtsein)[24]، إلا بالنّظر إلى وضعية تأويليّة (hermeneutische Situation)[25] واضحة المعالم، مضطرة إلى تملك الماضي تملكاً يستوعبه ويتفهمه ويحيط به (verstandenen Aneignung des Vergangenen)[26]، نائياً بذلك عن «تقاليد» المعرفة التاريخية (historischen Erkennens)[27]، وساعياً في نفس الوقت إلى إنطاق الماضي (um Vergangenheit zum sprechen zu bringen)[28].

ولعله يمكننا أن نحوصل القرارات التأويلية التي تقوم عليها قراءة هايدغر الأنتولوجية لدى هذه البدايات في القضايا البسيطة التالية:

  1. ليس حضور الماضي الفلسفي إلينا ناتجاً عما أفرزه ذلك الماضي من نتائجه الخاصة به، والتي قد يُظن بها أنها تُغلق، بل تختم نهائياً باب استئناف تسآلها الجذري، وإنما هو ناتج عن الإدراك التأويلي لأصلانيته ضمن حاضر هو الذي (في مُكنته أن = vermag) يوقظ قُدْويّة أسئلته.
  2. إن موضوع البحث الفلسفي هو الموْجد الإنساني، وحياته الحدثية في حركيتها الأساسية. على أنّ الحياة الحدثية رهينة نفسها، مثقِلةٌ عليها: يُثقل عليها أنها مفكّرة، وأنّ ذلك جوهرُها لا مجرّد عارض فيها، ولا يمكنها إدراك نفسها إلا بجعل التفكير في نفسها أشد عسراً عليها (Schwermachen)[29]. ليس البحث الفلسفي إذاً اهتماماً بكثرة وجهات النظر، وهروباً إلى اللافت، وإنما هو 'تزييد' (Steigerung) من شأن ما هو جدير بالتسآل.
  3. تتحدد خاصيات الحياة الحدثية على أنها: المبالاة (das Sorgen)، والنحو إلى الخسف (Verfallenstendenz) و'أنّ لنا الكون على جهة الموت' (das Wie des den Tod Habens)، وهذه الخاصيات هي عين حضور الحياة الحدثية لنفسها حتى في أقصى أوضاع النأي عن نفسها، وفيها تتمظهر حركية الحياة الحدثية المخصوصة[30] (ص. 26) حتى عندما تنهمك ضمن مشاغلها اليومية.
  4. يتحدد الكيان (Existenz) على أنه موقف إدراك النفس ضمن الحيرة التي تنتبه وتتيقظ إلى الحياة الحقيقية، في ضرب من «الهجوم المعاكس»[31] على المبالاة التي لم تعد تبالي بشي، والتي انخسفت إلى انهماك: يقول هايدغر: «إن هذا الحراك المضاد، على جهة الهوس والانشغال (Bekümmerung)[32] بأن لا تؤول الحياة إلى الخسران، هو الكيفية التي بها يتزمّن (zeitigt) وجود الحياة الأصيل من حيثما هو مدرك لنا. هذا الوجود المتاح في الحياة الحدثية والمدرَك لها على جهة الوجود للحياة الحدثية نفسها، سنعينه على أنه الكيان (Existenz). وإن الحياة الحدثية من جهة ما تكون انشغالاً بالكيان لتعتاص عليها السبل. فاحتمال درك الوجود الذي للحياة (das Sein des Lebens) في انشغالها (bekümmert)، هو في الآن نفسه (zugleich) احتمال لأن نخطئ الكيان (Existenz zu verfehlen). إنّ كيان (Existenz) الحياة الحدثية، الذي هو في كلّ مرة ممكنٌ لها، هو مشكليٌّ من جهة ما قد تُخطِئه الحياة الحدثية. وإمكان الكيان هو دائما إمكان الحدثية العيانية بما هي جهة إزمان (Zeitigung) هذه الأخيرة في زمانيتها (Zeitlichkeit). وليس ما يكشِف عنه الكيان مما في المكنة أن يُسأل على نحو مباشر وعام، بل إن الكيان لا يُشفُّ لنفسه [ولا بتبين لنفسه] إلا باستشكال Fraglichmachen الحدثية[33]، أعني التقويض الذي يكون في كلّ مرة تقويضاً فعلياً للحدثية، يعتبر ما يدفعها إلى الحركية، كما يعتبر وجهاتها واستعداداتها الإرادية»[34].

على أنّ الحراك المضادّ الذي يقف ضدّ[35] منحى الخسف لا ينبغي أن يحمل على أنه هروبٌ من العالم. فمن طبع كل هروب من العالم أنه لا يتقصّد (فهم) الحياة في طابعها الوجداني (existentiellen Charakter)، أعني أنّه لا (يتقصد أن) يدركها بما هي جذرياً حقيقةٌ بأن تُسأل، وإنما (من طبعه) أن يستقدمها إلى صورة (hineinzubliden) عالم جديد، هادئٍ ومطمئن. فمع المهمومية بالكيان لا شيء يتغير في الوضع الحدثي لما هو في كل مرة الحياة. وأما الذي يتغير، بالمقابل، فهو كيفية حراك الحياة الذي بما هو كذلك لا يستطيع البتة أن يصبح من شأن العموم أو من شأن «الـهُم». إن الوجس الذي في التعاملات هو وجس مهموم بالنفس[36]. وأما مهمومية الحياة الحدثية بكيانها فليست، في ما يخصها، اجتراراً لأفكار أنانية حول النفس؛ وإنما هي ما هي فقط من جهة ما تكون حراكاً في مواجهة منحى الخسف الذي في الحياة، أعني أنها تحديداً تقوم في كل مرة ضمن الحركية الفعلية للتعامل (مع الناس) وللانشغال (المصاحب له). وهاهنا يكشفُ «الضدُّ» بما هو «النقض» عن عمل (Leistung) أصلاني مقوِّم للوجود. وبالنّظر إلى معنى التّقوُّم فيه يحوز النقض أولوية أصلانية على الطرح (Position)، مادام الطّابع الأنتولوجي للإنسان يحدده حدثيا سقوطٌ وانحدارٌ إلى العالم. إن معنى هذا الحدث الأصلي (Urtatsache) نفسه، ومعنى هذه الحدثية بما هي حدثية، لا يمكنهما أن يُتأولا، إن كان يمكن أن يُتأوَّلا أصلاً، إلا ضمن الحدثية كما تُدرَك، وبالنظر إليها. إنّ لإنجاز هذا التّبصر، كما لتحقيق مطلب الحياة في أن تُتناول بتبصّر باعتبار ممكناتها الوجدانية، طابع التأويل المهموم للحياة بالنظر إلى معنى وجودها. إن الحدثية والكيان لا يعنيان الشيء هو هو (dasselbe)، كما أن سمة الوجود الحدثية التي للحياة لا تتلقى تعيينها من الكيان (Existenz)؛ لأن هذا الكيان هو فقط إمكان يتزمن (zeitigt) في وجود الحياة التي تتسم بكونها حدثية. على أن هذا يعني أن إمكان إشكالية الوجود الذي للحياة، إنما يتمركز في الحدثية.

فأولاً، إذا لم تكن الفلسفة، نشاطا مصطنعا يكتفي بإيقاع الحافر على الحافر مع الحياة، والانهماك في ما اتفق له من «العموميات»، وفي ما اعتسف من المبادئ، وإذا هي لم تكن، على خلاف ذلك، وبما هي معرفةٌ مُسائلة؛ أي بما هي بحثٌ، غير التحقيق الصريح والأصيل لمنحى تبيين الحراكات الأساسية للحياة، التي يكون رهان الأمر فيها هو عند نفسها (um sich selbst) عينُ وجودها، وإذا كانت الفلسفة، ثانياً، قاصدة إلى إظهار الحياة الحدثية والقبض عليها في إمكان وجودها الحاسم، أعني أنها، من دون تصحيف النظر (Seitenblick)[37] جانب رؤى العالم، إذا عزمت من نفسها وعلى نحو جذري وواضح، على أن تضطلع لنفسها ووفقا لإمكاناتها الحدثية المخصوصة، بالحدثية؛ أي إذا كانت الفلسفة جذريا ملحدة، وكانت تدرك ذلك عن نفسها، فساعتها تكون الفلسفة قد حسمت واختارت لنفسها أن يكون الموضوع لها هو الحياة الحدثية باعتبار حدثيتها. وإنّما يتم بحثها على نحو (Wie) التأويلِ لمعنى الوجود هذا في بناهُ المقوليةِ الأساسية؛ أي على مختلف الجهات التي تتزمن ضمنها الحياةُ الحدثية وتخاطب نفسَها، وهي متزمنة (kathgorei͂n). لا يحتاج البحث الفلسفي إلى بهرج (Aufputzes)[38] رؤى العالم، ولا إلى تعجّل الهوس بأن لا يأتي متأخراً، أو بأن يظل مرافقا لفوضى الحاضر. وإنما هو يظل في غنى عن ذلك، فقط، طالما فَهمت الفلسفة، انطلاقاً مما تدركه من موضوعها، أنه قد عُهد لها، مع ذلك الموضوع، أن تسائل ما يتعلق به من شروط الإمكان الأصلانية لكل رؤية من رؤى العالم، بما هي شيء لا يصبح جلياً إلا ضمن صرامة البحث. وما هذه الشّروط بالصور المنطقية، وإنما هي كذلك بعدُ، بما هي مفهومةٌ مقولياً ومحصّلة في أصالة انعطائها، إمكانات التزمّن الحدثي للكيان.

إن إشكالية الفلسفة تدور على وجود الحياة الحدثية. ومن هذا المنظور، فإنّ الفلسفة أنتولوجيا مبدئية؛ وذلك حيث إنّ الأنتولوجيات الجهوية التي تعينت مفردة وعلى جهة كونها من العالم (welthaften)، تتلقى من أنتولوجيا الحدثية أساس مشكلاتها ومعناها. وتتعلق إشكالية الفلسفة بوجود الحياة الحدثية في كيفية مقاربتها وكيفية تأويلها. ويعني هذا أن الفلسفة، بما هي أنتولوجيا الحدثية، هي التأويل المقولي للمخاطبة (مخاطبة الحدثية لنا) والتفسير في آن واحد، وهو ما يعني أنها المنطق.

على الأنتولوجيا والمنطق (إذاً) أن يسترجعا إلى الوحدة الأصلانية لإشكالية الحدثية، وأن يفهما على أنهما ما ينتأ من البحث المبدئي الذي يمكن تخصيصه كهرمينوتيقا فينومينولوجية للحدثية.

يتعين على البحث الفلسفي أن يرفع إلى المقولي (أن يُمقْولَ) إجلاء التفسيرات العيانية للحياة الحدثية، أعني تفسيرات المبالاة التي تروِّي، وتفسيرات الانشغال الذي يَتبصّر، حتى يجعلها شفافة في وحدتها الحدثية ضمن تزْمِنة (Zeitigung / temporalisation / temporalizing) الحياة؛ وذلك من جهة الـ Vorhabe 'الذي لها من قبل' (ما هو المعنى الأساسي للوجود الذي تتنزل فيه الحياة؟)، ومن جهة الـVorgriff 'السابق إلى الفهم' (ضمن أي ضروب المخاطبة والمناقشة تحدِّث الحياة الحدثية نفسها، وتتحادث معها؟). إنّ الهرمينوتيقي هو فينومينولوجي، ما يعني أنّ حقل موضوعه؛ أي الحياةَ الحدثيةَ من حيث جهةُ وجودها ومن حيث حديثُها، إنما يُرى بما هو غرض وبما هو منهج بحث، على أنّه ظاهرة. إنّ بنية الموضوع التي تخصّص شيئاً ما على أنه ظاهرة (phenomenon)، أعني القصدية الكاملة (= [عنصر] 'الكون - بالإضافة - إلى'؛ [عنصر] 'الذي بالنظر إليه (تكون) الإضافة بما هي كذلك'؛ [عنصر] تحقّق الإضافة؛ [عنصر] تزمنة التحقّق) ليست إلا البنية التي لموضوع له خاصية وجود الحياة الحدثية. إنّ القصديةَ محمولةً على بساطة معنى 'الكون مضافاً إلى' لهي أول خاصية ظاهرتية للحراك الأساسي للحياة، قابلة من البداية للتنتئة والإبراز، ألا وهي المبالاة (Sorge). إنّ الفينومينولوجيا كما كانت لدى بروقها الأول ضمن البحوث المنطقية لهوسرل، لهي عين البحث الفلسفي الجذري. إن المرء يظل لا يدرك الفينومينولوجيا في دوافعها الرئيسة، طالما ظل، على غرار ما يجري جزئياً حتى داخل البحث الفينومينولوجي نفسه، لا يرى فيها إلاّ 'ما قبل علم' فلسفيّ تمهيدي من شأنه إعداد مفاهيم واضحة يفترض أنه يمكنها وحدها إطلاق عمل فلسفة أصيلة؛ لكأنه في مكنتنا أن نجلي وصفياً مفاهيم أساسية من دون تملك متجدد دائماً للوجهة الأساسية والمركزية للإشكالية الفلسفية عينها في علاقتها بالموضوع.

بهذا نكون قد أشرنا إلى زاوية النظر التي تتخذها التأويلات اللاحقة بما هي تأويلات فينومينولوجية وبما هي بحوث من أجل تاريخ الأنتولوجيا والمنطق. ففكرة الهرمينوتيقا الفينومينولوجية للحدثية تنطوي على المهمات الراجعة إلى نظرية صورية ومادية للموضوع وللمنطق، ولنظرية العلم، و«لمنطق الفلسفة»، و«لمنطق القلب»، ولمنطق الفكر «ما قبل النظري والعملي»، وكل هذا لا على سبيل مفهوم جامع وموحد، وإنما تبعاً لقوّة فاعليته التي له بما هي مبدأ مقاربة الإشكالية الفلسفية.

وإنما لدى هذا الحدّ يطرح هايدغر سؤاله الحاسم: لماذا تحتاج التّأويلية الفينومينولوجية إلى تاريخ الفلسفة؟ ولماذا تحديداً أرسطو (warum gerade Aristoteles in das Thema der Untersuchung gestellt ist)؟

وتتمدد الإجابة الهايدغرية التي ستنتهي إلى تبرير «الحامل» الأرسطي لتأويليات الحدثية على النقاط التالية:

1)   في الحياة الحدثية، تلك التي تخص زماناً وجيلاً بعينه، ميلٌ إلى اللاأصيل بما هو مجرد ما ينقل إليها من «التقليد المتروك» (Überkommen) مما تتقبله في محدوديتها المتوسطة، بل "تنخسف في هذا الميل أخصّ المخصوصات إلى نكرات المتوسط والعمومي (Öffentlichkeit) مضيّعة معنى مأتاها ... غائمة في مبذول الــ "هم"»[39]. إن هذا الابتذال المعمم يمس كل شيء، وحتى الفلسفة نفسها «بما هي التفسير الصريح للحياة الحدثية» لا تفلت من حراك الحدثية هذه.

2)   إن تأويلية الحياة الحدثية تنغرس في منطلقها ضمن هذه الوضعية التأويلية، وتستند إلى ما تجد من تفسيريات[40] (Ausgelegtheit) تلك الحياة، ولا تستطيع استبعاد بداهتها المعطاة والمسلّم بها، ويظل كل ذلك يتحكم، على نحو غير أصيل، في استشكال الحياة ومساءلتها.

3)   هكذا «تتلقّى» الحياة الحدثية نهجها في مخاطبة[41] نفسها من موضوعية «ما في العالم» (welthaften)[42]. فهذه الموضوعية تتبدى في تالدنا، وفي «عُدّتنا» المسبّقة (Vorhabe)[43] على جهة كونها «الطبيعة»، «الطبع»، (طبيعة الحياة، طبيعة الموجد، طبيعة الإنسان..)

4)   وهاهنا يعمد هايدغر إلى ربط الفلسفة في الوضعية الراهنة بما تقوم عليه من المفاهيم، فيبين أنها تعود، عودا غير أصيل (uneigentlich)[44]، إلى مفاهيمية إغريقية (griechischen Begrifflichkeit)[45] «أضاعت وظيفتها التعبيرية التي كانت نحتت لبعض الجهات المخصوصة من تجارب الموضوع». قد يعود ذلك إلى تتالي التأويلات المتفرقة التي عُركت ضمنها هذه المفاهيمية. وعلى كلّ، فهايدغر يسارع إلى الاستدراك بأنّ هذا الضياع الذي اتخذ أشكالا من التبسيط حرصاً على تقريب تمثل المفاهيم الإغريقية من خلال إجراء التناسبات (Analogisierung)[46]، أو من خلال الرفع إلى الصورية (Formalisierung)[47]، لم يكن ضياعاً قاطعاً، بل احتفظت تلك المفاهيم بشيء من طابع مأتاها المخصوص الحامل لشذرة، لقطعة، من مأثور معناها الأصلاني (ein Stük echter Tradition ihres ursprünglichen Sinnes)[48]. لا بد أن ندرك هنا مدى ما تمتد جذور الدستروكسيون (Destruktion) الهايدغرية إلى هذه النصوص الأولى. ولكم تُذكرنا هذه المقاطع بأولى فقرات ز/س التي أكدت أنّ ما غنمته الفلسفة من التجارب الإغريقية الأولى للوجود قد بقي بشكل أو بآخر حتى ضمن القضية النظرانية الهيغلية؛ وذلك هو تحديداً ما يبرر التقويض الهايدغري كإجراء منهجي في التعامل مع تاريخ الأنتولوجيا. إننا هنا لدى رسم أولي، مصدري لهذا الإجراء، يريد أن يبرر العودة إلى أرسطو: إنها ليست عودة تمليها ضرورات تاريخ الأفكار أو المفاهيم، وإنما عودة تمليها ضرورة فهم الأصلاني في ما نتداوله اليوم منها، في كثير من المجالات: تحديد فكرة الإنسان (Idee des Menschen)، تعيين مثُل الحياة (Lebensideale)، تمثلات الحياة الإنسانية الأنتولوجيةُ، وتحديد كل ذلك كامتدادات «للإيثيقا الإغريقية» وللتحديد المسيحي «لفكرة الإنسان»؛ ذلك هو إذاً ما يفسر العودة إلى التجارب الإغريقية الأصلانية، وهو ما يبرر إجراء الدستروكسيون، بل ما يبرر خاصة تعيين الهرمينوتيقا على أنها هي هي الدستروكسيون.

5)   فلنصغ إلى هذا المقطع الذي يذكر حدّ النسخ بما كان بلوره هايدغر في الفقرة السادسة من ز/س: «(هكذ) فإنّ هرمينوتيقا الحدثيةِ الفينومينولوجيةَ، إذا ما هي أرادت المساعدة، عبر التأويل (Auslegung)، على إمكان تملّك الوضعية الراهنة[49] تملكاً جذرياً، وذلك على جهة التبصرة بالمقولات العيانية، تجد نفسها وقد تعين عليها أن تخلخل التفسيريات المتوارثة والمهيمنة من حيث دوافعها الخفية، ومنازعها الصامتة، وطرقها التفسيرية، وأن تحلحلها، فتنفذ من طريق رَجْعة مفككة (abbauenden Rückgang) إلى منابع الدوافع الأصلانية (ursprünglichen, Motivquellen) للتفسير. فالهرمينوتيقا لا تحقق مهمتها إلا على نهج التقويض».[50]

هكذا تؤول الفلسفة إلى معرفة تاريخية جذرية. إن التقويض الذي هو التفلسف ليس اطلاعا على كيفيات الماضي في التفكير ولا تصنيفا لتلك الكيفيات، وإنما هو «الطريق التي يلتقي عليها الحاضر نفسه»، من خلال سؤال التاريخ الذي ينبجس مواجهاً له (entgegenspringt): ما مدى ما ينشغل (bekummert ist) هذا الحاضر بتملك الإمكانات الجذرية والأساسية للتجربة وبتأويلاتها؟ إنّ الأمر لا يتعلّق بالانتماء ولا بالتّموقع داخل أثر ما، وإنما يتعلّق بالكيفية (Wie) التي يتم بها ذلك. وهذه الكيفية هي التي يصوغها هايدغر في هذه القاعدة التأويلية المبكرة:

Was wir nicht ursprünglich auslegen und ebenso ausdrücken, das haben wir nicht in eignetlicher Verwahrung

ما لا نؤوله على الأصل، ومن ثم لا نعبّر عنه على الأصل، فذلك ما لا نحفظه (Verwahrung) على الحقيقة[51]. ومتى تعلق الأمر بالحياة الحدثية كان عدم حفظها، وعدم جعلها «بأعيننا»، يعني عدم أخذها بنفسها، ويعني «تخلّيها عن أن توجد»[52].

وأنتولوجيا تقوم الحياة الحدثية ضمن الاضطلاع الإغريقي المسيحي بها. ويتحدّد الإنسان فيها من خلال الأنثروبولوجيا الفلسفية لكانط وللمثالية الألمانية من جهة قيام هذه الأنثروبولوجيا على المأثور اللاّهوتي المسيحي، رغم أنّ لوثر قد مضى فيها شوطاً أبعد بكثير أهّله إلى موقع أكثر جذرية مما حفظه تقليد الإصلاح الدّيني نفسه، وهو موقع قام على تأويل لبولس (Paulus)[53] ولأوغسطين (Augustinus)[54]، وعلى حوار مع اللاّهوت المدرساني المتأخّر.

إن قيام الثيولوجيا المسيحية المشار إليها على مفاهيم توماس الأكويني (Thomas von Acquin)[55] وبونافنتورا (Bonaventura)[56] يعني في الحقيقة رجوع هذه الثيولوجيا إلى التنظير الأرسطي (الطبيعة، النفس، الأخلاق، الأنتولوجيا) الذي تمت إعادة صياغته (Verarbeitung) نحو خيارات (Auswahl) جديدة[57]. أما قيامها على تعاليم أوغسطين، فتعني رجوعها إلى تقليد أفلاطوني محدث هو أيضاً مدين لأرسطو بأسسه الحقيقية. ولكنّ معرفتنا بهذه التشابكات (Zusammenhänge) معرفة غليظة (rohen) بلا لطائف، ومن البيّن هنا حاجتنا إلى تأويل فلسفي. فكل ما يتوفر لنا لا يتجاوز اضطلاعاً مدرسانياً لا يرى من الأرسطية أكثر من أطرها السكولائية المحدثة[58]. ولكن هايدغر يعترض على هذا التقليد ويرفع في وجهه ضرورة «فهم البنية العلمية للاهوت الوسيط، وفهم شروحها وتعليقاتها، على أنها تأويلات غير مباشرة (موسوطة) للحياة»[59].

إن اللافت في هذه المقاطع من تقرير ناتورب (1922!) هو المناضلة الشديدة التي يتكبد من خلالها هايدغر الشاب صعوبة اختراق حُجب اللاهوت المسيحي الوسيط، من خلال العمل المجهد لإرجاعه إلى تجارب الحياة البسيطة، واستشفاف العنصر الإغريقي، ولاسيما الأرسطي، في مفهمة تلك الحياة. فهو يستجلي ما لم تقع بلورته ضمن البنية الهرمينوتيقية لشروح الأقاويل المأثورة (Kommentation der Sentenzen)[60] لبيتروس لومباردوس (Petrus Lombardus)؛ لأنها على ما يقول، تحكمت في التطور الحقيقي لللاهوت المسيحي: فهذه البنية تضمنت اختيارات لمقالات بعينها، وتقريبات بين تلك المقالات دلت على بنية هرمينوتيقية ماتزال غير مجلاة. إن دور أنثروبولوجيا أوغسطين هاهنا دور أساسي، ولا يمكن الاقتصار في إدراكها على بعض المقتطفات السيكولوجية، بل يوجه هايدغر الانتباه إلى خصومات أوغسطين مع البيلاجيين، أو إلى تعاليمه في مذهب الكنيسة (Lehre von der Kirche): هناك تحديداً يظهر مفهومه للإنسان، وهناك يتجلى انتساب تلك الفكرة إلى الفلسفة الإغريقية، ولاهوت الآباء، وأنثروبولوجيا بولس، وإنجيل يوحنا[61].

إن مبدأ التأويل الهايدغري للحياة الحدثية، التقويض الفينومينولوجي، ليس استعراض تاريخ التـأثيرات، وإنما هو الرجوع «بالمنعطفات الحاسمة للأنثروبولوجيا الغربية» إلى «بناها المنطقية والأنتولوجية» ضمن المنابع اليونانية؛ ذلك ما يقتضي «تأويلاً فعلياً لفلسفة أرسطو» من جهة «توجهها نحو مشكل الحدثية»؛ ذلك ما يسميه هايدغر: «الأنثروبولوجيا الفينومينولوجية الجذرية»[62].

هكذا يفضي تأويل الحياة الحدثية إلى ضرورة استقراء بناها الأنتولوجية عبر المرور بالأنثروبولوجيا الوسيطة وبلاهوت القدامة المتأخرة واللاهوت الوسيط الذي أعطى رسوم هذه الأنثروبولوجيا عوداً إلى التجارب المنبعية الإغريقية. وهكذا يتجلى أرسطو أساساً لكل هذه الأنثروبولوجيا. ولكن أرسطو ليس أساساً أنتولوجيا للاهوت الوسيط ولما قام عليه من الأنثروبولوجيا التي امتدت إلى لوثر إلا لكونه قد غنم موقعا جديدا ضمن الفكر الإغريقي، ألا وهو ظاهرة الحركة. إن الموجود داخل الفيزياء الأرسطية يتعين جوهرياً على أنّه «موجود - في - حركة».

وهاهنا يتحدد موقع برمانيدس بالنظر إلى الإشكالية الفينومينولوجية الهايدغرية مثلما تتبلور في هذه البدايات. فإن هايدغر يلقي هذه الجملة التي تجيب عن سؤالنا الذي كنا انطلقنا منه: فبرمانيدس ليس في قطيعة لا مع أرسطو - ولا مع أفلاطون. ولكن كيف؟ إنه ليس في قطيعة معهما «استرداديا» (im Rückgang)[63]، وضمن الخطوة التي تتقهقر إلى الوراء، لترى الإمكان الأول. ولكن الإمكان الأول ليس أولا إلا بما يتيحه، بما يجعله ممكناً. هذا ما يقوله هايدغر:

«وإنما انطلاقاً استردادياً من أرسطو يمكن للنظرية البرمانيدية للوجود أن تتحدد وتنفهم على أنها مرحلة حاسمة في تعريف الوجهة والقدر اللذين للمنطق والأنتولوجيا الغربيين»[64].

فالبحوث التي أعدّت من أجل استكمال مهمة التقويض الفينومينولوجي إنما تضع هدفاً لها المدرسانية المتأخرة والفترة اللاهوتية الأولى للمصلح لوثر. ومن هنا، فإن مثل هذا الإطار يتسع لمهام لا قبل لنا بتقدير صعوبتها. فإنما بالنسبة إلى وِقفة النظر (أي بالنسبة إلى نقطة البدء وبالنسبة إلى عرض مشكل الحدثية) يتحدد الموقف الأساسي بالنظر إلى تاريخ تحقيقنا عن أرسطو ووجهته. ستطلق هذه التأويلية من جهة ما هي تقويض في المعنى الأولي للتقويض تفقدا لأرسطو من جهة ما هو نقطة البدء التي تحددت بوجهة النظر. تتحدد نقطة البدء (Ansatz) من خلال أداتين أولاهما السّؤال الموجه، وثانيتهما وِقفة النظر/ النِّظرة (Blickstand)[65]. ما هو السّؤال الدّليل (führende Frage) لقراءة أرسطو؟ إنّ صياغة هايدغر لهذا السؤال، تنضبط إلى تقنية تأويلية فينومينولوجية يفصّلها «نظرياً»، ضمن معجم ضوئي مخصوص، لعلّه يناظر مفهوم البداهة (e-videncia) الديكارتي بشكل جديد. ولعل هذه التقنية الفينومينولوجية، التي تمثل كيفية في ممارسة النظر، هي التي تمثل وقفة النظر، ثانية الأداتين المشار إليهما، وتتركب من لحظتين اثنتين[66]:

-      إضاءة الموضوع إضاءة مكثفة (Überhellung) في ضوء معرفة (سابقة؟) بمضمونه.

-      تعديل هذه الإضاءة المكثفة في اتجاه العودة إلى ضبط حدودها بما يتناسب مع موضوعها.

إن القاعدة التي يهتدي بها هايدغر في هذه البدايات قاعدة لافتة؛ فهو يستلهم مفهوماً للحقيقة وللوضوح لعله «برمانيدي»: ليس ثمة من وضوح إلا وهو نصف وضوح، ونصف عتمة، قد سبقتهما إضاءة باهرة للموضوع. ولا يقدر على الرؤية في العتمة إلا من كان رأى في الضوء الباهر قبل ذلك. ويعني ذلك أنّ على الإدراك التأويلي للموضوع، ولاسيما التاريخي (ولاسيما ضمن تاريخ الفلسفة)، أن يتخلّى نهائياً عن حلم الإمساك بالموضوعية كما لو كان يمسك بضرب من «الشيء في ذاته»؛ وذلك من دون أن يحيل هذا التخلّي على أي سقوط في الريبية التاريخوية. ولعل النتيجة المباشرة لهذا المفهوم المعتدل للتأويل هي ما ينعكس على مفهوم الترجمة (ولاسيما ترجمة نصوص الفلسفة الإغريقية) التي يقدم لها هايدغر منذ 1922 تعريفاً من أول تعريفاتها: «إنّ ترجمة ما تأوّلناه من النّصوص، وبخاصّة ترجمة مفاهيمها الأساسيّة الحاسمة ما هي إلّا ما ينجم عن عين تأويلها ذاك، تحتويه (تلك التّرجمة) على نحو يشبه أن يكون جنينيّا (in nuce). ولا يصدر سكّ الألفاظ إذن عن شغف الإدمان على إحداثها، بقدر ما يصدر عن مضمون النّصوص». هكذا تتلازم التّرجمة والتّأويل تلازما، فمتى جنحت التّرجمة نحو البحث عن تجديد الألفاظ عدّلتْها مضامين النّصوص التي تثبتها تأويلاتنا.

إنّ هذه القاعدة التي تراوح بين المعرفة «التاريخية» بما هي الإضاءة القصوى، وبين الإضاءة «المطابقة» المحدودة بما يستلزمه موضوعها، تقتضي أنّ الموضوع الذي لم يظهر لنا دائماً إلّا في ضرب من نصف الإضاءة، أو من نصف العتمة، هو موضوع لا يصبح متصوَّراً إلا متى عرّضناه قبل ذلك إلى الإضاءة القصوى.

ثمة نوعٌ من المراجعة التّأويلية (ولعلّ المقصود بها هنا المراجعةُ التّأويلية لأرسطو)، التي لا يمكن أن تحصُل إلا متى تقدّمتْ على التعهد بالموضوع المعْتِم، أو نصف المعتِم، إضاءةٌ قصوى له: لا يمكن أن يبصر في الكهف أنّ الذي في الكهف ظِلالٌ إلّا الذي غادر الكهف مغادرةً أضاءت له الكون إضاءة قصوى. ساعتها فقط يمكنه أن يعود إلى تلك العَتَمة المخيّمة، وأن يتبين أن ما فيها هو ظِلال؛ ساعتها: أي بعد أن رأى على ضوء النّور الأقصى للشمس.

ما المقصود (بالنسبة إلى تأويلنا لأرسطو) بهذه الإضاءة القصوى؟ أين يعيّنها هايدغر؟

تنتشر هذه «الإضاءة القصوى» على امتداد الفقرات التي تسبق تأويل كتاب الزاي من (أخلاق نيقوماخوس)، ومقطعي مقالتي الألف 1 و2 من (ما بعد الطبيعة)، وكتب الألف، والباء والدال 1-3 من (السماع الطبيعي).

ما هو مضمون هذه الإضاءة القصوى، وبماذا يتعلق الأمر فيها؟ هي أوّلاً تتحدّد بالنّظر إلى سؤالٍ قَدّمْنا أنّه هو السّؤال الدليل؛ يقول هايدغر:

«على السّؤال الدّليل (die führende Frage) أن يكون كما يلي: بأيٍّ ما هي الموضوعيةُ التي يُخبَر ويفسَّر ضمنها الـ 'أنّه إنسان'، «الـ 'أنّه 'في الحياة'، ووفق أيّة خاصّية أنتولوجية له ؟ ما يكون معنى الموْجد الذي يَضبط ضمنه تأويلُ الحياة مسبَّقاً الموضوعَ الذي هو الإنسان؟ وباختصار، ما هو 'الوجود الذي لنا من قبل' الذي تقيم فيه هذه الموضوعية؟ وفوق ذلك، على أيّ نحو يتمّ تفسير وجود الإنسان هذا مفهومياً؛ ما هو الصعيد الظاهرتي (phänomenale) للتفسير، وما هي مقولات الوجود التي تَنْشأ عن ذلك تفسيرات[67] لما يُرى هذه الرؤية؟

أترى معنى الوجود، وهو الذي يخصص في النهاية الحياة الإنسانية، هو معنى يُمتح حقّاً من تجربة أساسية محض لهذا الموضوع ولوجوده، أم ترى الحياة الإنسانية تؤخَذ كموجود داخل حقل وجود أشمل؛ أي إنها توضع تحت معنى للوجود يتم تعيينه لها على جهة المعنى المهيمن عليها (archontisch). وبعامّة ماذا يعني الوجود عند أرسطو، كيف يكون قابلاً للنفاذ إليه، وتحصيله، وتحديده؟ إن حقل الموضوع الذي يعطي معنى الوجود الأصلانيَّ، هو حقل الموضوعات التي يتم إنتاجها واستعمالها في التبادل. فليس إذاً مقصود (abzielt) تجربة الوجود الأصلية هو حقل وجود الأشياء بما هو نمط موضوعات بعينها يتم تحصيلها نظريا في مضمونهىا الفعلي، وإنما هو العالم الذي نلاقيه ضمن معاملات الإنتاج (herstellenden) والإنجاز (verrichtenden) والاستعمال (gebrauchenden). فذاك الذي تم الفراغ منه ضمن حراك أعمال الإنتاج (poivhsiõ)، وانتهى إلى وجوده اللّدوي (Vorhandensein)[68] حتى صار متاحاً للاستعمال، هو ذاك الذي يوجد حقاً. فيعني الوجود (الذي لشيء ما) الـ 'أنّه منتَجٌ'، وبما هو منتج، فهو يعني شيئاً دالاً (Bedeutsames) ضمن المعاملات والبيع[69]، إنه يعني أنّه متاح ومعروض. وفي حدود ما هو موضوع اعتبار (Umsehens)[70]، وحتى موضوع تفحص مدرِك مستقل (hinsehenden)[71]، فإنّ الموجود يخاطب بحسب مظهره (ei\doõ). والتفحّص المدرك إنما يُفصح ضمن المخاطبة والمجادلة (levgein). إن 'الماهو' (Was) الذي للموضوع، أعني 'الماهو' المطلوب (lovgoõ)، والمظهر الذي له (ei\doõ) هما بكيفية ما نفسُ الشي. إلّا أنّ ذلك يعني أن المخاطَب (Angesprochene) في الـ lovgoõ، بما هو كذلك، إنما هو الموجود على الحقيقة. وفي الموضوع المخاطَب يَحملُ الـlevgein، الموجودَ إلى مقام التعهدّ/ الأمانة الحافظة له (Verwahrung)[72]، في موجودية هيئته (aussehensmäßigen Seinshaftigkeit)، أعني في الأوسيا (ousiva). على أن للــ ousiva المعنى الأولي لمنزل الأهل، والحوزة، والمتاع المستعمل في محيطنا، وهو المعنى الذي ما يزال يجري مع أرسطو نفسه، وحتى لاحقاً من بعده: فتعني الأوسيا ما نملك، الذي لنا (die Habe). فالذي هو، من حول الموجود بما هو وجود الموجود، ينْحفظُ، عندما يتعلّق الأمر بالبيع والمعاملات، هذا الذي يخصص وجود الموجود[73] على جهة المتاع، إنما هو مُنتَجيَّتُه/ مصنوعيته. فمن الصناعة (Herstellung) يرشح موضوع المعاملات إلى مظهره (Aussehen)»[74].

إن ما يمرّ إليه هايدغر من بعد ذلك من كشف البنى الأنتولوجية لموضوعات المعاملات ضمن حقلها الأنتولوجي هو الذي سيسمح بالمرور إلى النّصوص الأرسطية الأساسية الثلاثة التي تحظى بالتحليل لدى هذه البداية (أخلاق نيقوماخوس، كتاب الزاي/6)، الميتافيزيقا، مقطعا الألف 1 والألف 2)، كتاب السماع الطبيعي، مقالات الألف، والباء، والدال/ 1-3)[75]. فهذا الحقل الأنتولوجي يخصِّص بموضوعاته (poiouvmenon = ما نصنعه / pra;gma = ما نعمله/ kinhvsewj ergon = عمل التّغيـر/ التغيير/ الحركة) وبكيفيات مخاطبتها[76] في ضرب مخصوص من الخطاب، عُدّتَنا التي نستبق بها ومنها رسم تعريفاتنا ومخاطباتنا لهذا الموضوع الذي هو «الحياة الإنسانية» (menschliches Leben).

إنّ تجربة الأشياء في حركيتها وتغيّرها هي منشأ تفسيرات تجربة البحث الأساسيّة في الوجود. ويتم هذا البحث في كتاب (السّماع الطبيعي). إنه البحث في تجربة أساسية هي تجربة الأشياء والموضوعات المتحرّكة، وهي التي ستسمح بتحديد كيفية التوجّه إلى الحياة الإنسانية في حقيقتها على أنها حراك (وهذه الكيفية هي عدّتنا المسبقة =Vorhabe = زادنا المسبّق، «الذي هو لنا من قبل» كل مخاطبة للحياة الإنسانية)[77]. على أنّه يتطلب إلى جانب ذلك، ومن النّاحية الفينومينولوجية، تحديداً لكيفية البحث في تلك الموضوعات، وهو ما يفي به كتاب (ما بعد الطبيعة)، ولاسيما في بدايته. فيقدّم هايدغر توصيفين للبحث بحسب موقفه، ثم بحسب منشئه. فمن جهةِ ما هو موقفٌ يتحدّد البحث على أنه تعاملٌ مع الأشياء تعامل النظر وتصويب النظر والتمحيص (hinsehenden Umgangs)[78] في معنى الإبستمي (ejpisthvmh)، وهو يصدر عن التعاملِ المتلفّت صوب ما يشغل (besorgend gerichteten Umgang)[79]، تعاملاً يسأل الأشياء عن 1) الـ «Inwiefern»، عن الـ «بـِمَ ؟» الذي يخصّها، في المعنى العام للحيثيات، وللكيفيات التي صاحبت وقوعها، وعن 2) الـ «Vonwoaus» في معنى المبدأ. إن هذه العبارة الأخيرة عبارة مركبة تجمع بين أسئلة ثلاثة: سؤال ما عنه يأتي شيء ما (von)، سؤال المكان والجهة والأين الذي وقع فيه ذلك الإتيان (wo)، وسؤال العنصر الذي ينشأ عنه شيء ما أو الجهة التي ينتمي إليها (aus): وهذه المعاني الثلاثة هي التي يرجع إليها هايدغر المعنى الإغريقي الأرسطي للمبدأ (arch).

إنّ الفصلين اللّذين يعتبرهما هايدغر ضمن مقالة الألف من كتاب (ما بعد الطبيعة) لأرسطو (وهما الفصلان الأوّلان) يكلّفان بإعطاء روح البحث الإبستيمي الذي يجري في الكتاب. ويعطي الكتاب السّادس من (أخلاق نيقوماخوس) جهة أخرى غير الجهة الإبستيمية في التعامل مع الموجودات التي ليست فقط موجودات كائنة عن ضرورة وجودها، بل ثمة موجودات يمكنها أن تكون غير ما هي؛ أي أن لا تكون وفق ضرورة ذاتها، وإنما بعمل على أن تكون، أو بمعالجة تستصلحها أو بإنتاج ينتجها؛ ذلك ما يسميه أرسطو صناعة (tevcnh)، إشارة بالكلمة إلى أنموذج في وجود الأشياء[80] ندركه ونحفظه، نتعهّده (Seinsverwahrung) في الصناعة.

ويجمع أرسطو وجوه الإضاءة القصوى لمختلف جهات الوجود التي ذكرنا - الاعتبار (Umsicht التعقّل المروّي (Einsicht)، التفحّص المدرِك (Hinsicht)) ضمن وحدة إشكالية أصلانية هي كيفية تحقق «الإدراك المحض» من جهة ما هو علاقة بالأشياء تفتحنا على الوجود وتعهد به لنا. وإنما هاهنا يشرع أرسطو في تحليلاته للنصوص الثلاثة التي أشرنا إليها.

علينا إذن أن نجيب الآن، عن السؤال المتعلق بالتراجع من أرسطو إلى برمانيدس: فمن البين أن الإمكان الوحيد لاسترجاع برمانيدس، وتعيين موقع له هو إشكالية الحركة عند هذا الإيلي المؤسس، وهي الإشكالية التي ناقشها أرسطو منذ المقالة الأولى ممّا بعد الطبيعة. وإنما ضمن تحليله لهذه المناقشة الأرسطية لمسألة المبدأ (ajrchv) في (السماع الطبيعي) (المقالات الثلاث الأولى) يتعرض هايدغر إلى برمانيدس والإيليين منذ المقطع الثاني من الكتاب الأول، في 184ب15. ولعله يمكننا إجمال هذه الإجابة في القضايا المختصرة التالية:

1)   لقد نَقل إلينا التقليد (überliefert) الإجلاء الأنتولوجي للحركة في صورة «بحث» يحمل عنوان «الطبيعة»[81].

2)   ويخصّص هذا البحث على أنّه تحقيق في «الأرخي» (في المبدأ، على معنى «الذي انطلاقاً منه» = ajrchv)[82].

3)   تتعين نقطة الانطلاق في هذا التحقيق على أنها نقدية، من جهة كونها مبدئياً تتحرك ضمن تفسير معطى من قبل عن الحياة وعن العالم

4)   ولذلك، فالسّؤال يُطرح أولاً على الماضي المعطى من قبل: أترى الماضي قد استشكل "الموجود المقصود بالطبيعة" على صعيد البحث، حيث تعهد به وخاطبه وقصده "من جهة مضمونه كحركة"، وحدد هذه لحركة كتفسير أولي له؟ هل تحدد الموجود في ماضي البحث الأنتولوجي على أنه «المتحرك» (kinouvmenon) أم هل "سُدّت" على ذلك البحث منافذ الإدراك الأصيل للموجود فلم يتمكن من النظر إلى موضوعه إلا عبر المذاهب الغريبة عنه؟[83]

5)   إنّ روح النقد الأرسطي، ومغزاه (Sinn)، يكمن في هذا السّؤال. فنحن نسلّم في من البدء (hJmi͂n uJpokeivstw) بوجود موجودات متحرّكة ونسأل عن مواقف الأقدمين من هذا الكيف الذي نرى عليه الموجودات.

6)   وهاهنا تحديدا نفهم موضع الإيليين من النقد الأرسطي: أ/ فهؤلاء لا ينتمون إلى القول بالحركة ولا يمكن إدراجهم ضمن غرض النقد الأرسطي، بل هم يسدّون كل نفاذ إلى الموجودات بما هي متحركة؛ ب/ ومع ذلك، فإن أرسطو في قراءة هايدغر «يجذب» الإيليين إلى عرضه لا استسهالاً لدحضهم، وإنما «تأمينا» (sichern) في قلب نقده لهم لحقل نظر سيكون حاسماً لكل إشكالية مقبلة: أعني تأمين اللّوغوس من جهة ما يكون كل متحرك هو مقول بما هو موجود، مسمًّى، منطوق (legovmenon)، أعني من جهة ما يكون موضوعاً لعلم (Gegenstand der ejpisthvmh)[84]. لا يمكننا هنا أن لا نتذكر أن المكسب الأنتولوجي الأقصى لبرمانيدس قد كان ضمن المقطع السابع من منظومته:

Crh; to; levgein te noei͂n t jejo;n e[mmenai: e[sti ga;r eŒnai

حتمٌ (علينا) أن نقول و(حتمٌ علينا) أن نتعقّل الموجود في الوجود: فإنّ الوجودَ يوجَد

فمقالة الإيليين بأن الواحد هو الكل (e{n ta; pavnta) إنما تمثل إجابتهم عن سؤال المبدأ. ولا شك، كما سيقول هايدغر، أن فكرة المبدأ، بما هو «ما عنه يوجد»، ستكون ممتنعة على الفكر إذا ما هي لم تقبل فكرة أن الوجود كثير، ولم تتمفصل وفقها[85]، وأقدمت على فكرة علم الطبيعة بأطروحة الوجود الواحد واللامتحرّك: «e[n kai; ajkivnhton to; o[n».

على أن تحليل منظومة برمانيدس يبرز في نفس الوقت كيف إن برمانيدس قد شهد لأول مرة الوجود بما هو وجود الموجودات، وكيف إن هذا النظر المفعم بالوجود قد انتهى عند ذلك الحد ليشهد موجودات الواقع على جهة «الموضوعات»: ذلك ما يفي به البيت الذي تقدمت الإشارة إليه والذي يجمع بين الفكر (noei͂n) والنداء المحادِث (fa;nai) / القول (levgein)، من جهة إفضائهما معاً إلى الوجود. إن ظاهرة الحركة ليست غرضاً برمانيدياً ولكنها تظهر من تلقاء نفسها كأفق للمبدأ. فالتحقيق في المبدأ يموضع بشكل ما الواقع في منظور الحركة: «يبرز التأويل .. كيف إن أرسطو يستشكل آراء الطبيعيين القدامنى وتفسيراتهم وكيف إنه يفحص في آن مدى ما يتركون ظاهرة الحركة تتكلم من تلقائها» في حين تكذبهم وتسد عليهم منافذ الحركة أحكامهم المسبقة عن معنى الوجود. فلأن برمانيدس ينطلق من أن الوجود واحد وأنه هو كل شيء، لا يرى الأشياء المتحركة ولا يرى خاصة أن البحث عن المبدأ لا بد أن يتعلق بها.

إن هذه الجملة الأخيرة هي التي تعطي مفتاح القراءة الأرسطية: فاستشكال أرسطو للقدامى يعني خاصة أنه يطرح عليهم سؤاله هو لا سؤالهم، ويبرر ذلك بأن النظر الأنتولوجي البرمانيدي قد توقف عند الوجود وكأنما الأشياء لا تجري أمامه. ولذلك، فإن هذا الظهور التلقائي لسؤال مبدأ الحركة، إنما هو تلقائي لأنه نتيجة استشكال أرسطي يوقظ تفكير الطبيعيين القدامى على سؤال متى طرحوه تبينت لهم الظاهرة التي لم يروها، ظاهرة الحركة، وكأنما تنطق عن نفسها بنفسها. إنّ هذه القراءة التي لا تخلو من بنية هيغلية في مساءلة تاريخ الفلسفة هي التي تجعل سؤال الإيليين هو (أيضاً) سؤال الحركة، حتى وإن لم يغرّضوه كسؤال.

في استئناف لعين هذا التفسير سيقول هايدغر في 1931، من بعد تقرير ناتورب بما يناهز السنوات العشر، ومن بعد عدة دروس[86] تكاد تردّد نفس العنوان:

«وأوّل من نعرف عنه أنّه ساءل الموجود، حيث سعى إلى إدراك الوجود، وهو كذلك أول من أعطى جواباً عن السؤال: ما هو الوجود - إنما هو برمانيدس.

وما الذي أُعطي له أن يدركه عندما سأل كما سأل، فأتاح للموجود أن يستعلن في ثقل إلحاحه؟ (ما أعطي له أن يدرك) هو تحديداً هذا الواحد (الحاضر الملحّ)، حيث لم يمكنه أن يقول شيئاً غير ذلك، ولزمه أن يقول: to; o[n to; e{n - الموجود، هو تحديداً هذا الـواحد: الوجود. الوجود هو الواحد الذي الموجود بما هو كذلك هو. فترك نفسه تنغمر بهذا الـواحد؛ بل أعظم من ذلك: فقد تحمل هذا الانغمار بـالـواحد، بالوجود، وإنما انطلاقاً مما ائتلف من الوضوح البسيط لتلك الحقيقة قال كل ما قال عن الموجود...

لقد نطق برمانيدس بالحقيقة الحاسمة والأولى للـفلسفة، فحدَثَ الفكر الفلسفي منذئذ في الغرب. الحقيقة الأولى، لا فقط الأولى التي عثر عليها في الزمان، وإنما الأولى، تلك التي تقوم قبل أي حقيقة سواها، ويلوح بريقها عبر كلّ الحقائق الأخرى. لا هي «تجريد مُصْفِق»، ولا علامة شيخوخة، وإنما اجتماع الفكر إلى نفسه مكتظاً فوق الحدّ من الواقع. لم يدرك نيتشه، على ما كان عليه من الوثاقة في تميُّز خلفيات الفكر والحكم، مدى ما كان كامل فكره الذي له محدَّداً بسوء فهمه لبرمانيدس.

ومنذ برمانيدس اندلعت معركة الموجود، ولكنها لم تنشَب كما تنشَب أية خصومة، حول أيّ آراء اتفق، وإنما كما الـ gigantomaciva (صراع العمالقة) كما قال أفلاطون، معركةً من أجل ما هو أول وأخير في موْجد الإنسان. أما اليوم، فلم يعد لنا غير ألعاب كلمات لأقزام طموحين دهاة تعلموا أن يقولوا إن جملة برمانيدس «إنّ الوجود هو الواحد» هي كاذبة على قدر ما هي بدائية؛ أي إنها على خُرق كخُرق الأوّلين، وأنها تبعاً لذلك منقوصةٌ ضعيفةُ القيمة... أمّا عن بدائية القضية «to; o[n to; e{n» فهي لا شكّ كذلك: بدئية في صرامة معنى البدئي. وإن الابتداء في الفلسفة كما في كلّ ما يتعلّق بأقصى الإمكانات الجوهرية للموجد البشري لهو الأعظم عظمة ليس فوقها من عظمة تأتي بعدها: ليس فقط أنه لا يمكن للثاني إضعافه ولا التراجع به، وإنما متى كان هذا الثاني أصيلاً اشتد به قيام الابتداء قياماً حقاً صريحاً واضحاً في عظمته. وأما العمل الإنساني فإنه كلما اتجه نحو التقدم، كان البدئي والأقدم أقل قيمة وأضعف فاعلية وكان الأحدث أجود وأفضل».

فإذا ما اعتبرنا أرسطو هو الثاني واللاّحق في مقصود هايدغر، لم يكن هناك من قطيعة بينه وبين برمانيدس. لا شك أن أرسطو هو الذي يمكّن من تأويل الحياة كحركة وكحراك، ولا شك أن برمانيدس لا ينتمي إلى فلسفة للحركة، ولكنه ينتمي إلى الفكر الحاسم للـفلسفة، هذا الفكر الذي استحضر الموجود في الوجود من خلال «to; o[n to; e{n»، هذا الموجود الذي سيمْكن من بعد ذلك أن تقول عنه الميتافيزيقا كل مقالاتها.

[1]- مقتطف من كتاب التأويليات وتاريخها، نحو بدايات أخرى، تحرير وإشراف فتحي إنقزو، مؤمنون بلاحدود للنشر والتوزيع، 2023

[2]- Heidegger: Das Ende der Philosophie und die Aufgabe des Denkens, in GA XIV, Zur Sache des Denkens , Herausgegeben von Friedrich-Wilhelm von Herrmann, Frankfurt am Main, 2007, S. 87-90

الترجمة الفرنسية، ص 135 وما يليها:

La fin de la philosophie et la tâche de la pensée, in Questions IV, Gallimard, Paris, 1976, pp. 107-139

[3]- يقول: «كيف إنّ محاولة التفكير في حال من الأحوال يمكنها أحياناً أن تضل الطريق، فتحيد عما كان أجلاه نظر حاسم، فذلك ما يشهد عليه النص الذي يلي من الوجود والزمان [1927، ص 219]: «إن ترجمة لفظةajlhvqeia بكلمة "حقيقة" وبخاصة ما ينتج من حدودها المفهومية والنظرية، تغطي معنى ما كان اليونانيون يسلمون بأنه "واضح بذاته" لدى استعمالهم الاصطلاحي للـ ajlhvqeia (S/Z. §44)». (النص الأصلي، ص 86، الترجمة الفرنسية لفرانسوا فوزان، غاليمار، باريس 1986، ص 134).

[4]- هايدغر، المصدر السابق هو هو، النص الأصلي، ص 87، الترجمة الفرنسية، ص 136

[5]- مذهب أفلاطون في الحقيقة، الأصل الألماني، ص 224:

Heidegger: Platons Lehre von der Wahrheit, GA 9: Wegmarken,Herausgegeben von Friedrich-Wilhelm von Hermann, Vittorio Klostermaim, Frankfurt am Main, 1976

[6]- ز/س، الفقرة 44:

„Daß die Göttin der Wahrheit, die den Farmenides führt, ihn vor beide Wege stellt, den des Entdeckens und den des Verbergens, bedeutet nichts anderes als: das Dasein ist je schon in der Wahrheit und Unwahrheit. Der We g des Entdeckens wird nur gewonnen im κρίνειν λόγω, im verstehenden Unterscheiden beider und Sichentscheiden für den einen“.

[7]- H. Diels, Fragmente der Vorsokratiker, Neute Auflage herausgegeben von Walter Kranz, Weidmannsche Verlagsbuchhandlung, 1960, Erster Band, 28, Parmenides, S. 234-235

[8]- يقول هايدغر:

“Warum wurde im Anfang der für uns entscheidenden ontologischen Tradition — bei Parmenides explizit -das Phänomen der Welt übersprungen; woher stammt die ständige Wiederkehr dieses Überspringens?“

«لِـمَ تَـمّ، لدى ابتداء التقليد الأنطولوجي الذي كان حاسماً لنا، وعند برمانيدس صراحةً، القفز من فوق ظاهرة العالم؟ وكيف كان لهذا القفز أن يتكرر دون انقطاع؟»

[9]- J. Greisch, Onbtologie et temporalité, PUF, Paris, 1994, p. 147

[10]- M. Heidegger, GA 22, Grundbegriffe der antiken Philosophie, Vittorio Klostermann, Frankfurt am Main, 2004

[11]- وتحديداً في فصله الثالث: «برمانيدس والإيليون» (Parmenides und die Eleaten) الفقرات 21-22-23

[12]- J. Taminiaux, Lectures de l’ontologie fondamentale (Essais sur Heidegger), Millon, Grenoble, 1989, p. 78.

«غير أن الواقع هو أنّ التشكيلة النظرية التي تدير التأويل الهايدغري الأول للإغريق –أعني الأنطولوجيا الأساسية– لا مكان فيها لأيّ من هذه الأغراض، وهو ما يعني أولاً أن هايدغر لا يبين عن أية قطيعة بين الكتابات ما قبل السقراطية وكتابات أفلاطون وأرسطو، وهو ما يعني بعد ذلك أن الأنطولوجيا الأساسية لا تطمح بأي وجه من الوجوه إلى التراجع إلى ما قبل الميتافيزيقا نحو فكر يكون أشد تفكرا، ويغتذي من ما قبل السقراطيين، وإنما هي تطمح، على النقيض من ذلك، إلى تحقيق الميتافيزيقا برفع معنى الوجود إلى ضياء المفهوم، وهو ما يعني أخيراً أن تاريخ الميتافيزيقا لا ينظر له هناك بمثابة تاريخ الطمس المتزايد لانسحاب الوجود، بل بمثابة تناضج لعلم الوجود، تناضجاً يلعب ضمنه انبجاس الذاتية الحديث دوراً رئيساً مادام مفتاح هذا العلم إنما يوجد فينا نحن».

[13]- هايدغر، ز/س، الفقرة 6 (التشديد منّا م.م.، والترجمة لنا، مثل جميع ترجمات شواهد هذا المقال).

[14]- ج. تامينيو، المرجع المذكور هو هو، المعطيات هي هي.

-[15]هايدغر، ز/س، الفقرة 6

[16]- Rémi Brague, «La phénoménologie comme voie d’accès au monde grec», in Phénolménologie et métaphysique, PUF, Paris, 1984, p. 271: «… comme le résidu d’une analyse possible de la vie du Dasein».

[17]- هايدغر، ز/س، الفقرة 6

[18]- Heidegger: GA22, Grundbegriffe der antiken Philosophie, §21, S. 64

[19]- Heidegger: Interprétations phénoménologiques d’Aristote: Tableau de la situation herméneutique, texte allemand et trad .fr. par J.-F. Courtine, Préface de H.G. Gadamer, TER, Mauvezin, 1992, p.33

وسنحيل، في ما يلحق، على هذا النص في نشرته تلك، وهي النشرة التي استعملناها، بعبارة «تقرير ناتورب»، مع ذكر الصفحة وهي الصفحة ذاتها في النص الألماني والنص الفرنسي الموازي لها. على أننا نشير كذلك إلى صدور هذا النص ضمن المجلد 62 من أ. ك. (2005) في ملحق يحمل عنوان:

Phänomenologische Interpretationen zu Aristotees (Anzeige der hermeneutische Situation) – Ausarbeitung für die marburger und die göttinger philosophische Fakultät (Herbst 1922): Text des Tuposkripts mit den handschriftlichen Zusätzen und Randbemerkungen des Autors aus seinem Exemplar, hrsg. von Günther Neumann, S. 341-399

[20]- هايدغر: تقرير ناتورب، المعطيات المذكورة، ص 29

[21]- M. Heidegger, GA61, Phänomenologische Interpretationen zu Aristoteles (Einführung in die phänomenologische Forschung), hrsg. von Walter Bröker und Käte Bröker-Oltmans, Vittorio Klostermann, Frankfurt am Main, 19942

[22]- لوحة (أو مشهد) الوضعية التأويلية: Anzeige der hermeneutischen Situation

[23]- تقرير ناتورب، المعطيات المذكورة، ص 17

[24]- المصدر السابق هو هو

[25]- المصدر السابق هو هو

[26]- المصدر السابق هو هو

[27]- المصدر السابق هو هو، ص 18

[28]- المصدر السابق هو هو.

[29]- المصدر السابق هو هو، ص 19

[30]- المصدر السابق هو هو.

[31]- ذلك ما نظنه مقصود هايدغر بعبارة Gegenbewegung (حرفيا: الحراك المضاد)

[32]- ويمكننا أيضاً أن نقترح عبارة «المهمومية» على جهة ما يكون المرء مهموماً بأمر ما، وهي كلها من مقصودات الـ Bekümmerung الهايدغرية لدى هذه النصوص الأولى التي تنتمي في تصنيف الباحث الهايدغري العارف ثيودور كيزيل إلى فترة هايدغر الأول من سنة 1919 إلى سنة 1929. ومعلوم أن تحقيبه للـفكر الهايدغري يرتبه على النحو التالي:

قبل 1919 = هايدغر الشاب

1919-1929= هايدغر الأول The early Heidegger

من الثلاثينات إلى الخمسينات = هايدغر اللاحق The later Heidegger

ما بعد الخمسينات، عندما أصبح هايدغر أكثر ميلاً إلى الكتابة على أسلوب السيرة الذاتية = شيخوخة هايدغر The old Heidegger

راجع:

Th. Kisiel, The Genesis of Heidegger's Being and Time, University of California Press, Berkeley, Los Angeles, London, 1993, p. Xiii

[33]- التشديد مني م.م.

[34]- المصدر السابق هو هو، ص ص 26-27

[35]- ولو جازفنا لاستعملنا فعل «يقاوم»، على أن هايدغر يستعمل الظرف gegen.

[36]- وربما استبحنا لأنفسنا أن نقول إنه مهموم بـ«الأنا نفسي».

[37]- التصحيف في المعجم التحريف. استصلحنا اللـفظة هنا للدلالة على تحريف النظر جانباً بما يؤدي في اعتقادنا معنى Seitenblick النظر إلى الصفحة الأخرى، النظر إلى الجانب الآخر.

[38]- وكان بالإمكان أن نترجمها بالزينة أوالوشي والتزويق، وفضلنا «البهرج» تذكيراً بـ«الفيلسوف البهرج» عند أبي نصر (تحصيل السّعادة، نشرة د. جعفر آل ياسين، دار الأندلس، بيروت، 1983، الفقرة 26).

[39]- المصدر السابق هو هو، ص29

[40]- تقرير ناتورب، المعطيات هي هي، ص 29

[41]- وهذه فرصة إضافية، من بين عدة فرص سابقة، يمكننا من خلالها تأييد اختيارنا للـفظة الحدثية ترجمة لـ Faktizität: فهي الحياة وهي ما يقع فيها ولكن من جهة مخاطبتها لنفسها وحديثها عنها (التفسيريات المختلفة) إليها (المخاطبة، المرافقة الخطابية للحياة).

[42]- المصدر السابق هو هو، المعطيات هي هي، ص 30

[43]- المصدر السابق هو هو، المعطيات هي هي.

[44]- المصدر السابق هو هو.

[45]- المصدر السابق هو هو.

[46]- المصدر السابق هو هو.

[47]- المصدر السابق هو هو.

[48]- المصدر السابق هو هو.

[49] - ولعلها الوضعية الفلسفية الراهنة (مثلما تلاحظ الترجمة الإنجليزية، رغم غياب هذا التدقيق في النص الألماني). راجع هذه الترجمة في:

« Phenomenological Interpretations with Respect to Aristotle: Indication of the Hermeneutical Situation », by Martin Heidegger, transl. Michael Bauer, in Man and World, 25, 1992, p. 355-393

[50]- المصدر السابق هو هو، المعطيات هي هي، ص 31. إن العبارات التي تصاحب مفهوم التقويض وترد هذا السياق هي عبارات ستظل في الحقيقة ملازمة لتفكير هايدغر حتى مراحل متأخرة من حياته: Abbauenden Rückgang، destruktive Auseinandersetzung.

[51]- معطيات الهامش السابق هي هي.

[52]- معطيات الهامش السابق هي هي.

[53]- القرن الأول (توفي حوالي سنة 67 م)

[54]- القرن الرابع / الخامس (354- 430)

[55]- القرن الثالث عشر (1225-1274)

[56]- القرن الثالث عشر (1221 – 1274)

[57]- تقرير ناتورب، المعطيات هي هي، ص 32

[58]- معطيات الهامش السابق هي هي.

[59]- معطيات الهامش السابق هي هي.

[60]- لا نعلم ترجمة عربية لهذا الكتاب لبيتروس لومباردوس (حوالي 1096 -1160)، والعنوان في ترجمته من اقتراحنا: والعنوان اللاتيني الكامل هو Libri quatuor sententiarum (حرفيا = كتب الأقاويلِ المأثورةِ الأربعةُ)

[61]- تقرير ناتورب، المعطيات هي هي، ص 33

3- معطيات الهامش السابق هي هي.

[63]- معطيات الهامش السابق هي هي.

[64]- معطيات الهامش السابق هي هي.

[65]- وِقفة النظر (على معنى اسم الهيئة بكسر الواو): ذلك أن عبارة Blickstand الألمانية هي تركيب لهايدغر يربط بين الكيفية، والأسلوب في الوقوف من جهة، والنظر من جهة أخرى: فهي تعني حرفياً «كيفية الوقوف للنظر». وهو ما نعتقد أن الصيغة الصرفية لاسم الهيئة تؤدية: «النِّظرة» أو «وِقفة النظر».

[66]- معطيات الهامش السابق هي هي، ص 34

[67]- تفسيرات = Explikate

[68]- حرفيا: 'وجوده الذي بأيدينا'.

[69]- طبعا تؤخذ كلمة «بيع» التي ترجمنا إليها عبارة «Umgangstendenz» هنا في المعنى المشترك للبيع والشراء وهو معنى المعاملات (انظر مثلاً القرآن، الجمعة 62: 9: «وذروا البيع» التي تعني البيع والشراء، التجارة).

[70]- في الترجمة الإنجليزية: Circumspection = Umsicht (الاعتبار)

[71]- في الترجمة الإنجليزية: Inspection = Hinsicht (التفحص المدرِك) – أما عبارة Einsicht (التعقل/ التبصر) فيؤديها المترجم الإنجليزي: Insight / phronetic insight

[72]- يستعمل ثيودور كيزيل لترجمة هذه العبارة الصعبة – التي تحتوي لا فقط على معنى الأمانة بل كذلك على معنى الصدق - لفظة تجمع في الإنجليزية بين معنيي الحقيقة /الصدق (Truth) والائتمان (Trust) وهي عبارة Troth (ص. 265) ناقلاً بذلك معنى «الأمانة الصادقة» على الموجود، أعني أمانة تأديته/ ردّه إلى أفق وجوده الذي سيتجلّى هنا على أنّه الأوسيا، الجوهر.

[73]- فضلنا، بحثاً عن الوضوح، عدم ترجمة «es» بالضمير المتصل «ــه» لعدم وضوح عائده، وخيرنا ترجمته بتكرار المقصود به: «وجود الموجود».

[74]- تقرير ناتورب، المعطيات هي هي، ص ص 34-35

[75]- راجع حول تحليل هذه المقاطع المهمة من نص هايدغر: ج. غرايش: الأنتولوجيا والزمانية، خطخطة تأويل جامع للوجود والزمان (قيد ترجمتنا إلى العربية، ص 40- من النص الأصلي وما يليها)؛ ثيودور كيزيل: نشأة الوجود والزمان لهايدغر (قيد ترجمتنا)، القسم الثاني: في مواجهة التقليد الأنتولوجي، ص 252 وما بعدها.

[76]- المقصود بالمخاطبة (ansprechen) هنا، وفي الاستعمال الهايدغري عموماً، المقاربةُ بواسطة الخطاب، «التوجه (خِطابياً) إلى ..»، بما في ذلك من «خِطابية» أو من «قوْلية»؛ أي من صياغة تقوم على المعقولية، وعلى الاستعقال (راجع مفهوم الديانويا divanoia الإغريقية).

[77]- يقول ثيودور كيزيل: «إن حقل وجود الموضوعات التي نتردد عليها وننتشر حولها (ما نصنعه، ما نعمله، عمل الحركة)، وكيفية مخاطبتها، ضمن نمط خاص جدّاً من اللوغوس، يخصص عُدّتنا المسبّقة التي ترتسم عنها طرق تعريف الموضوع الذي هو 'الحياة الإنسانية' وكيفيات مخاطبته»، المرجع المذكور هو هو، المعطيات هي هي، ص 265

"The field of being of the objects with which we get about (poiouvmenon, pra͂gma, e[rgon kinhvsewj~) and how they are adressed, a very particular type of lovgoj, specifies the prepossession from which the ways of defining and adressing the object „human life“ are drawn“.

[78]- تقرير ناتورب، المعطيات هي هي، ص 28

[79]- تقرير ناتورب، المعطيات هي هي، ص 28

[80]- انظر حول جهة الوجود «الصناعوية» هذه، تحليلاتنا ضمن: محمد أبو هاشم محجوب، استشكال اليوم الفلسفي: تأملات في الفلسفة الثانية، دار كلمة للنشر والتوزيع، سلسلة حروف الفلسفة، تونس 2021، الباب الثالث، التأمل السّابع، ص 175-233

[81]- وذلك في تصاد – لا يشير إليه هايدغر – مع بداية كتاب الطبيعة، 184أ 15 وما بعدها.

[82]- الطبيعة، 184أ 10 -16: «لما كانت حال العلم واليقين في جميع السبل التي لها مبادئ أو أسباب أو أسطقسات، إنما تكون من قِبل المعرفة لهذه، وذلك أنا حينئذ إنما نعتقد في كل واحد من الأمور أنا قد عرفناه متى عرفنا أسبابه ومبادئه الأولى حتى نبلغ إلى أسطقساته – فمن البيّن أن في العلم بأمر الطبيعة أيضاً قد ينبغي أن نلتمس أولا فيه تلخيص أمور مبادئها». (ترجمة اسحق بن حنين، ضمن كتاب الطبيعة لأرسطوطاليس، حققه وقدم له عبد الرحمان بدوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1984، ط. 2، 184أ 10 وما يليها).

[83]- انظر في هذا الخصوص: تقرير ناتورب، المعطيات هي هي، ص 48

[84]- لا بد من الإشارة إلى اختلاف صيغة النص في تقرير ناتورب ضمن النشرة التي نعتمدها عن تلك التي اعتمدت (بشيء من التصحيح على ما يبدو) ضمن نشرة أ.ك. 62، والتي حققها غونتر نويمان (Günther Neumann) ونشرت عن دار Vittorio Klostermann, Frankfurt am Main سنة 2005 ضمن الأعمال الكاملة. وقد حاولنا الجمع بين النشرتين ضماناً لأقصى ما يمكن من الأمانة لفكر هايدغر.

[85]- تستشهد نشرة أ. ك. المشار إليها في الهامش السّابق بعبارة أخرى لأرسطو تعود إلى كتاب الطبيعة: «e[n kai; ajkivnhton to; o[n». إلا أننا لم نعثر على الإحالة التي ذكرها هايدغر وهي «الطبيعة»، 2، 184أ ب 26، حيث لا وجود لها في نص أرسطو، ولعل في الأمر ارتباكاً ناتجاً عن كون المحقق لم يعثر على مرجع عبارة «e[n ta; pavnta» التي كان استشهد بها هايدغر فقرّب لها المحقّق بأقرب العبارات الدالّة عليها ولكنّه أخطأ مرجع الإحالة.

[86]- ونذكر منها خاصة: GA61 – GA 62 – GA 18 GA 22 وفي ما عدا هذه الأعمال المنشورة أو المعدة للنشر يمكننا أن نذكر كل الدروس التطبيقية التي أعطاها هايدغر والتي عددها ث. كيزيل في كتابة المشار إليه (ص469 وما يليها) وهي على التوالي:

- درس تطبيقي حول أرسطو، كتاب النفس / 1921

- درس تطبيقي حول أرسطو، الأخلاق النفس، الميتافيزيقا 7 / 1922-1923

- درس تطبيقي حول أرسطو، الأخلاق إلى نيقوماخوس / 1923

- ندوة حول تأويلات فينومينولوجية لأرسطو / 1923

- درس تطبيقي حول أرسطو، الطبيعة، الباء / 1923-1924

- محاضرة حول أرسطو، الأخلاق 6/ 1924

- ندوة حول أنتولوجيا أرسطو ومنطق هيغل/ 1927

- ندوة حول أرسطو، الطبيعة 3/ 1928

- ندوة حول أرسطو، كتاب النفس، وكتب أخرى لأرسطو/ 1929