العنف خاصية إنسانية


فئة :  مقالات

العنف خاصية إنسانية

ظل الاتصال سمة تميّزُ العلاقة بين الإنسان Homme والطبيعة الخيّرة التي تجعل منه الموجود المفضّل على الأرض. ولم تنفصل عن إنسانية هذا الإنسان معاني التمركز حول ذاته أنطولوجيًا، وخطابه أيديولوجيًا، لتتأسس على أعقاب ذلك بوادر الرغبة في الإخضاع والتملك والهيمنة. فإن كان التمركز حول الذات مؤسّسًا على قانون الطبيعة الذي اشترطَ على الإنسان البقاء، إذا استطاع المقاومة، فإن التمركز حول الخطاب هو ما جاء لتعويض نقص الأول، ليجعل منه وسيلة إخضاع جديدة قد لا تلحق الأذى بالغير بشكل مادي، ولكنها تدخله نفق التيه، وضياع كينونته.

لقد كان شعور الإنسان، في أول لحظة، بتفوّقه على جميع الموجودات، أهم نقطة يمكن منها التأريخ للتاريخ الإنساني نفسه، بما هو بعد زماني يكمل صورة الوضع البشري عمومًا. ومن لحظة بداية تأسيس مركزية إنسانية- إنسانية، أمكن الشروع في رصد أشكال الإفراط في استعمال وسائل الإخضاع والتملك بما هي عنف Violence. وهذا العنف ممارسة عدوانية، يمكن أن تتخذ شكلاً ماديًا أو معنويًا، والغاية من ورائها في الحالات كلّها، هي: إخضاع الآخر.

ربما لا يجوز مطابقة هذه المدلولات مع النوع الإنساني الذي يُصنِّف نفسه راقيًا ومميزًا، من خلال أشكال الوعي المتمثلة في: التفكير، والحرية، والمسؤولية...إلخ، ولكن ينبغي البحث في هذا المعرض عن حقيقة مغايرة تقبع داخل أكثر تجليات الإنسانية قداسة، فإذا تبيّن أن الخاصية التي استبدّ بها الحيوان دومًا هي العنف، والعدوان، وحالة من سيادة القوة والخوف داخل حياة الغابة، فإن ما ينسبُهُ الإنسان إلى تاريخه العريق هو الضد المقابل لهذا تمامًا، وكأنه رافض لحقيقة تُشركه بأحد الأنواع النشيطة على كوكب الأرض (الحيوان).

وإذا جاز القول جدلاً: بأن الإنسان حقّا كائن لا علاقة له بالعنف من حيث الفطرة، بل اكتسبه بفعل ضرورات حتّمت عليه ممارسته دفاعًا عن بقائه، فبمَ يمكن تبرير عصور متوالية من العنف؟ وكيف نبرّئ الإنسان من وقائعها؟ وما العلاقة الممكنة إذن، بين الميزة الحيوانية المتمثلة في العنف وبين الإنسان؟ وهل ثمة تنبؤٌ مسبق انتبه إلى ما ستؤول إليه البشرية على الأرض، وما سيحدث فيها، أم أن ما تحويه صفحات التاريخ الدموي البشري، جاء عَرَضًا ولضرورة كان لابد من الامتثال لها؟

إن إلحاق صفة "العنف" دلالة ومعنى بالنوع الإنساني أمر عويص؛ ذلك أن ما تحمله لفظة العنف لا يحفظ القيم الميتافيزيقية للإنسان، والمتمثلة في أشكال الوعي، والتفكير والاختيار. وإذا ما حصل وصدر إفراط في استعمال القوة من طرف هذا الإنسان، فإن كل تأمّل فيه، بما هو ممارسة لا إنسانية، يطرح سؤالين اثنين: أولهما: سؤال الماهية، والثاني: سؤال المشروعية. أما الأول، فيجيب على سؤال الإنسان في حقيقته الثابتة والجوهرية، وما الذي يجعل من هذا الكيان قيمة بين باقي الموجودات؛ إذ تصدر عنه هو الآخر السلوكات نفسها التي تحيل على وجود علاقة بباقي الأنواع الأخرى. ثم الانتقال إلى السؤال الثاني الذي يفتحنا أمام مسألة المشروعية التي تبحث في سبل تبرير الفعل العدواني، وطرق "شرعنته".

يمكن الاستناد في البحث عن أصول تفضيل الإنسان كموجود مميز في العالم، على نصوص قرآنية، انطلقت هي الأخرى من أن خلق الإنسان جاء وفق حكمة بعيدة ما كان لباقي المخلوقات الأخرى أن تدركها، خصوصًا وأنها كانت ضد فكرة خلقه، واستخلافه في الأرض. وقد بين النص القرآني التالي هذا المعنى، إذ يقول: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌۭ فِى ٱلْأَرْضِ خَلِيفَةًۭۖ قَالُوٓا۟ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّىٓ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴿30﴾» (البقرة، الآية: 30). يظهر من هذا المنطلق، أن خلق الإنسان فكرة إلهية غير مرغوب فيها من طرف المخلوقات السابقة، لوجود تنبّؤ مسبق بمصير الأرض في ظل وجود الإنسان، ويتجلى هذا المصير أساسًا في "الفساد" و"سفك الدماء". وقد رامت آية الاستخلاف إبراز بعدين اثنين:

أولهما: تفضيلي يعكس موقف "الله" تجاه فكرة خلق الإنسان، حين أظهر حكمة بعيدة يستعصي على الملائكة فهمها، مما يبين وجود نظرتين لمستقبل الأرض قبل خلق الإنسان؛ حيث تنطلق نظرة الملائكة من افتراض وقوع تغير في نمط الحياة على الأرض بمجرد إضافة نوع جديد إلى الأنواع الموجودة سالفًا، وكذا افتراض يمكن أن يبين لنا وجود تجربة مسبقة خلق بموجبها مخلوق قبل الإنسان وصدر عنه فساد، وكلا الفرضيتين، لم ترد بخصوصهما معطيات كافية لإثباتهما أو نفيهما. ويمكن أن نضيف في هذا المعرض نظرة "الله" التي تعالت على نظرة الملائكة على مستوى الاستشراف الزمني.

ثانيهما: تَبْيِينِيٌّ يتغيَّا إبراز نزعة لا إنسية يؤسس لها موقف الملائكة المتمثل في استشرافها "الواقعي" للتغيرات المحتملة على مستوى الحياة في الأرض بمجرّد خلق الإنسان. ويمكن اعتبارها أول موقف حاول إسقاط فكرة مركزية الإنسان في العالم.

لقد أظهرت اللحظات الأولى من خلق البشر صدق نبوة الملائكة، في ما نقله النص القرآني بخصوص ما جرى بين ابني "آدم": "قابيل" و"هابيل"، من صراع لا يمكن وصفه، سوى بأنه صدمة أنطولوجية. لم يعبر القرآن في روايته التاريخية عن نزاع حول موارد العيش أو ما شابه، حتى يتسنى لنا تقديم تبرير موضوعي يفسر وقوع العنف بين الأخوين، بل حين نقرأ النص التالي الموثّق لهذا الحدث: «وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَىْ آدَمَ بِٱلْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًۭا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ﴿27﴾ لَئِنۢ بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَآ أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّىٓ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَـاٰلَمِينَ﴿28﴾ إِنِّىٓ أُرِيدُ أَن تَبُوٓأَ بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلنَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَآٰءُ ٱلظَّـٰلِمِينَ﴿29﴾ فَطَوَّعَتْ لَهُۥ نَفْسُهُۥ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُۥ فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ﴿30﴾» (المائدة، الآيات: 27-28-29-30)، نستشف أن ثمة تجليا واضحا لبعض الإشكاليات التي تطال عملية الوجود مع الغير في العالم. فإن معاني الوجود، وإشكالاته، وعوائقه، وما تطرحه من أزمات وصعوبات في تقبل "الغير" بما هو تهديد للذات، هو ما يمكن أن نفسّر به حالة العنف الأولى في تاريخ الإنسان (قتل "قابيل" لـ "هابيل"). وهذا كله بعيدًا عن كل اعتبار، وفهم عقديين لهذا النص الذي يحمل في طياته بُعدًا يوثِّق لمشهد الدفاع عن الحقيقة والمعنى اللذين يتبناهما الإنسان، ويضطر فيما بعد للمنافحة عنهما بكل الوسائل. فإن ما نجح فيه "هابيل" وفشل فيه أخوه "قابيل" من نيل تواب وأجر الله، وكذا الزواج من الفتاة المتنازع عليها، هو واحد من التجارب التي ستستفيد البشرية منها فيما بعد، لتكون تأسيسًا فعليًا لمبدإ الصراع أثناء الوجود مع الغير، والذي يفرز بالضرورة شعورًا بخطورته الدّائمة. وليست العوامل التي أثرت في وقوع هذا الحدث، سوى عناصر جانبية لا يمكن اعتبارها أساسًا في بناء المشهد، ذلك أن الأمر يتعلّق بأزمة حقيقية في الوجود الإنساني، كان الحل الممكن لتجاوزها هو: العنف.

بهذا المعنى، لا يمكن الجزم بأن العنف ممارسة جاءت من خارج الذات الإنسانية، كما يصعب - أيضًا- إرجاعها إلى الفطرة، فنقول: إن العنف فطرة إنسانية، اللهم إلا إذا سلمنا مع الطرح الفرويدي(Sigmund Freud) (1856-1939م) القائل بأن الحل الذي كانت البشرية تنتهجه دومًا لفك نزاعاتها عبر التاريخ كان هو العنف، وهذا الطرح الأخير يعيدنا إلى كلام أشرنا إليه سابقًا، حين ربطنا ممارسة العنف من طرف الإنسان بالخصوصية الحيوانية، فاعتبرنا الرابطة الممكنة تمتحُ مما هو سيكولوجي وسوسيولوجي أكثر مما تعبر عن وجود علاقة بيولوجية أو فزيولوجية؛ فالمعنى الذي نريده بمحاولة الكشف عما يربط الإنسان بالعنف، يجعلنا لا نفصل عناصر التوثيق التاريخي الديني، الإسلامي أنموذجًا، عن النظريات التي حاولت البحث عن حقيقة العنف والإنسان. وكذلك، تفرض علينا ألا نبحث عن المشترك بين الإنسان والحيوان انطلاقًا من خاصية العنف، بقدر ما ينبغي مقاربة العنف على مستوى إنساني محض. إلا أن ما نود إضافته في هذا المعرض لا يَسْتَنِدُ على الطرح القائل بفطرية العنف في الإنسان، ولا على الطرح الذي يبحث عن تفسير للعنف من داخل مكوناته الخاصة، سواء منها: السيكولوجية، أوالسوسيولوجية، أوالفيزيولوجية، أوالبيولوجية، بل باعتباره قضية أنطولوجية محضة، تتغيا الدفاع عن الوجود، والحقيقة، والمعنى. وإن كان ما اشتهر في تاريخ البشرية هو أن العنف كانت وراءه دواع مادية تتعلق بظروف العيش. إن حادثة ابني آدم، مؤشر واضح على منطلق ومستقبل الحياة البشرية على الأرض، في علاقتها بالعنف بما هو إخضاع. ولعل البداية التي أسَّسَت لها هذه الواقعة، هي افتتاح لعصور أكثر دموية، وستبقى العوامل المفسِّرة تدور في فلك: الاستغلال المادي، والنزاع حول الثروات، في وقت ينبغي فيه الالتفات، والانتباه إلى أن المعنى الذي يعكسه العنف أبعد من ذلك، إنه العنصر الذي يدافع به ومن خلاله الإنسان عن معناه، ووجوده، ومركزيته التي ورثها عن وصايا السماء المدونة في الصحائف المقدسة، ومن هنا ينبغي الفصل كلية بين ممارسة الإنسان للعنف، وبين تلك الممارسة التي تصدر عن النوع الحيواني.

إن كان ما تحويه صفحات التاريخ من أحداث، والتي يمكن إطلاق صفة "العنف" عليها هو ما اشتهر من خلال أشكال الاقتتال الدموي؛ فإن العنف بما هو ممارسة إخضاعية، انتقل في العصور الأخيرة إلى قوة لا مادية تستطيع استمالة، وتغيير آراء مجتمعات بدون "فساد في الأرض"، ولا "سفك دماء". إنَّ العنف الذي بدّل به الإنسان اليوم عنف الأمس، الذي مثّلناه بحادثة ابني آدم، هو إخضاع يتكون فيه تراض تام من طرف جانب المُخْضَع، وهو ما يطلق عليه في الفلسفة المعاصرة بـ "سلطة الخطاب"، هذه السلطة التي طور بها الإنسان نمط ممارسة العنف، ليهذّبها، حتى تتطور فاعليتها في الغير. ولم يكن هذا الشكل الجديد من العنف بغائب في كل العصور، ولكن الانتباه إليه، وإلى خطورته، جاء بعد أن تم التخلّص من السلطة الفيزيائية Macro-Pouvoirالتي يمكن الشعور بها، لينتقل البحث والتنقيب عن السلطة الميكروفيزيائية Micro-Pouvoir، المحتفظة بالعنف داخل الخطاب، والمؤسسة.

إنَّ ما تشهده المجتمعات اليوم من أشكال التغيّر في نظم القيم، لا يمكن تفسيره بعيدًا عن أشكال التأثير الذي يتعرض له: الدين، والثقافية...، وهذا ما يجعل هذه المجتمعات - نفسها- تخضَعُ لأنموذج جديد يأتي بمفاهيم ومدلولات، وفهم مستحدث للقيم "الأصلية" التي كان المجتمع حاضنًا لها. وبهذا المعنى، يحصل ما يُطلق عليه اليوم بـ"الغزو الثقافي" الذي يوحد الرؤى، والتصورات عبر العالم، ويُمَحْوِرُهَا حول معنى وقيمة ومفهوم واحد تحدده القوى التي تهيمن ثقافيًا، وسياسيًا، واقتصاديًا، وعسكريًا.

لا ينفصل هذا الشكل الجديد من العنف عن الشكل السابق، ذلك أن ثمة امتدادًا تاريخيًا يستجيب كل نوع للفترة التي جاء فيها، وحسب ما تتطلبه سياقاتها النظرية. فقد يكون الاقتتال باسم الدين، أو اللغة، أوالعرق، جائزًا في العصور السابقة، ولكن يعتاص اليوم البحث عن مبرر له. لذلك، فإنَّ أنماط الإخضاع المادية ما عادت تجدي نفعًا مع تقلص الهوة بين المسافات الثقافية والاجتماعية والسياسية بين المجتمعات في العالم، وهذا ما جعل منابر الإعلام بشتى أصنافها، تتجنّد لنشر وغرس الآراء التي تريد بها إقناع مجتمع معين أو مجموعة من المجتمعات. وكيفما كان الحال، سواء في مثال العنف المادي أو العنف الرمزي، فإن مسألة الإخضاع تظل حاضرة، وإن اختلفت أشكالها، وكذا الغاية التي تبقى مرتبطة بالدفاع عن المعنى والحقيقة والوجود، إضافة إلى المصدر الذي نبعت منه، والذي يحرص على استمرار الشعور بالتمركز حول الذات القادرة، والمقوِّمة، وحول الخطاب الذي يجسد شكلاً آخر للإرادة الإنسانية في التملك والإخضاع. وبهذا يتحدد الإنسان في كل مراحل تاريخه، وليس يُنكر هذه الحقيقة، سوى من أراد إخراج الإنسان من أهم وأوضح مقومات هويته التي هي ممارسة العنف. إن ما يربط الإنسان والعنف هي علاقة تلازم منذ البداية، وحتى النهاية، هذا إذا لم يكن العنف أحد عناصر بداية النهاية الآتية.

ولكن إذا صح قولنا: إنَّ أشكال العنف تتغيّر بتغير السياقات الزمنية والنظرية للمجتمعات، فأي عنف يمكن أن نتنبأ به للأجيال اللاحقة؟