الغرب والإسلام: شبكة من المفاهيم التأسيسية


فئة :  مقالات

الغرب والإسلام: شبكة من المفاهيم التأسيسية

ثمة أرضية مشتركة، سواء أكانت توفيقية أم تفريقية بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، حاول "أنتوني بلاك" في كتابه " الغرب والإسلام" * أن يُسلّط الأضواء عليها، بهدف استجلاء القديم بغية الوصول إلى فهم الحاضر؛ الحاضر التشابكي بين العالَم الغربي والعالَم الإسلامي. وقد كان للفترة ما بين العام 632م والعام 1450م التي اختارها المؤلّف عينة لغرضه العلمي، أثر بالغ في خلق تقاطعات بين العالمين، بما شكَّلَ إرهاصاً لتخليق الحاضر بينهما.

وقد ركَّزَ الفصل الأول الذي حمل عنوان " الدين والسياسة" على المحاولات التي جرت في كل من العالم الإسلامي والعالم الغربي، لإحداث توفيق أو تفريق بين المؤسسة الدينية والدولة المدنية؛ فقد "كان للمسيحية والإسلام وجهات نظر مختلفة بشكل أساسي حول الصلة بين الدين والسياسة، وكانت المسيحية المبكرة غير سياسية، في حين كان للإسلام الأصلي مهمة سياسية بالإضافة إلى الدينية. لكن ضغط الظروف التاريخية دفع بأفراد كل دين إلى تعديل هذه المواقع الأصلية، مؤدياً من حين إلى آخر إلى التلاقي تقريباً.

فعبر التاريخ ميز المسيحيون بشكل واضح بين الروحاني السماوي الكنسي والدنيوي المادي العلماني، ورأى المسيحيون أن السياسة الحالية مريبة أخلاقياً وتافهة روحياً"، في حين "تولى الإسلام، عن طريق المقارنة، تنظيم السلوك الشخصي والاجتماعي بالتفصيل على أساس شرعي ديني سماوي موحى به، مستندا إلى القرآن والحديث". وقد شغلت، حسب المؤلف، قضايا، مثل الزواج والطلاق والميراث...إلخ، جانباً من التشريع الإسلامي.

إلا أن محاولات للتململ قامت في كلا العالمين؛ الغربي والإسلامي، إذ تمَّ الانقضاض على الميراث المسيحي البِكْر، من خلال إخضاع السلطة الدنيوية أو سلطة الحاكِم للسلطة اللاهوتية أو السلطة الروحية أو سلطة الكنيسة، واعتبار السلطة الأرضية أو الدنيوية أقل شأنًا من السلطة الروحية. لذا، والحال هذه، من الأولى إخضاعها للسلطة الروحية، وقد بقيت هذه المسألة في حالة شدّ وجذب حتى العصور الحديثة، إذ تمّ الفصل بشكل كامل ونهائي بين السلطتين الروحية والدنيوية، ولم يعد ثمة تأثير للكنيسة على مسارات الدولة المدنية.

أما في العالم الإسلامي، فقد "بدأ المسلمون الأوائل إنجاز مهمتهم العالمية بالفتح والحكم بالإضافة إلى الدعوة والقدوة، كان محمد، صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه يعتقدون أن لديهم الحق في حكم العالم كله، واعتبر القادة المسلمون أنهم كانوا يؤسسون نوعاً جديداً من الحكومة، يستند إلى الوحي الذي تضمن تصورات عن العدالة الاجتماعية والاقتصادية. وكان دور الخليفة، في التعبير الغربي، علمانيًا بالإضافة إلى كونه روحيًا".

إلا أن العلاقة بين الدين والدولة؛ بين السلطتين الروحية والدنيوية، انتابتها بعض الاختلالات البنيوية في العالم الإسلامي؛ فقد جرت محاولات عدّة لشدّ الدين إلى الدولة أو لجذب الدولة إلى الدين. وكانت تلك المحاولات، التي يأتي المؤلف على ذكرها، محاولات السلاطين العثمانيين استخدام الدين ذريعة للحصول على الدعم الشعبي نحو العام 1600م، كذلك في القرنين التاسع عشر والعشرين.

وإذا كان الفصل الأول قد تناول علاقة الدين بالسياسة والدولة، فالفصول اللاحقة للكتاب تناقش، ضمن الإطار المقارن بين العالم الإسلامي والعالم الغربي نفسه، مفاهيمياً لا تبعد كثيرًا عنها، مثل مفهوم السلطة القضائية، وما احتمله من اختلافات في التأطير المصطلحاتي، مثل الخلافة والدولة المدنية، والمجتمع والقبيلة والأمة، والعائلة، والأنظمة؛ أنظمة الحكم، والحق والقوة والعلاقة بين العدالة والسلطة. فقد استغرق المؤلف عبر خمسة فصول من كتابه لتفصيل، مثل هذه المصطلحات ووضعها ضمن سياقية مفاهيمية، سواء أكانت مفاهيمية إسلامية أم مفاهيمية غربية. من خلال استجلاء سياقاتها ضمن مجالها الداخلي، ومن ثم إجراء مقارنة، سواء أكانت توفيقية أم تفريقية، بين منظومتين تتعاملان مع ذات المصطلحات، ولكن بمفاهيميات مُغايرة ومختلفة.

وهكذا، يتطور استجلاء المفاهيم ويحاول "أنتوني بلاك" أن يبيّن إلى أي حد كان ثمة توافقية بينها، إلا أنه ابتداءً من الفصل السابع يُقرّ ببداية التباعد، ابتداءً من القرن الحادي عشر، بين العالمين الإسلامي والغربي، إذ بدأت أوروبا بتمييز نفسها عن بقية الثقافات. ومع بداية القرن السابع عشر أصبح الإسلام والغرب أكثر اختلافاً في ثقافتيهما وقيمهما السياسية، مما كانا عليه من قبل. ومع بدايات القرن الثامن عشر أصبح الغرب يُشكّل قطبية أحادية بالنسبة للعالم للحديث، وهذا ما أثرّ بطريقة أو بأخرى على الروس والمسلمين، وهذا ما يُوْجَز في خاتمة الكتاب. "وقد وجد الروس أنه من السهل التعلم من الغرب، إلى حد ما، لأن دينهم لم يكن مختلفاً، ولكن قبل كل شيء، لأن المعتقدات الدينية الأرثوذوكسية لم تكن، في حد ذاتها، عائقاً للاقتباس من والاندماج بحرية مع معتقدات ثقافة أخرى، وبخاصة التي هي أو كانت، على أي حال، مسيحية". في حين "كانت العلاقة بين الفكر الغربي والإسلامي في الحقيقة مختلفة جدا. وأي شيء يأتي من الغرب كان، للوهلة الأولى، عمل كفار، سواء كانوا مسيحيين أو (أسوأ بكثير) ملحدين". لكن ذلك لم يمنع من الاطلاع، والإعجاب أيضاً، ببعض الأفكار الغربية، ولكنها كانت دائماً ما تُبرَّر ضمن مرجعية إسلامية، لكي تلقى قبولاً ورواجاً.


* كتاب (الغرب والإسلام: الدين والفكر السياسي في التاريخ العالمي) من تأليف أنتوني بلاك، ترجمة فؤاد عبد اللطيف، صادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، العدد 394 نوفمبر 2012، دولة الكويت.