رضوان السيّد: الفكر العربي الإسلامي ومطلب التجديد


فئة :  حوارات

رضوان السيّد: الفكر العربي الإسلامي ومطلب التجديد

 الفكر العربي الإسلامي ومطلب التجديد([1])

حوار مع المفكّر اللبناني رضوان السيّد


"رضوان السيّد" كاتب ومفكّر عربي من لبنان. وهو أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية، قسم الفلسفة. حاصل على الإجازة العالية من جامعة الأزهر، كُليّة أصول الدين (1970)، وعلى شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة توبنغن بألمانيا الاتحادية سنة 1977. له العديد من المؤلَّفات، والعديد من المقالات والدراسات والبحوث المنشورة في المجلات العلمية العربيّة والدوليّة. وهو يكتب أيضاً في الصحف والدوريّات.

وقد ارتأينا أن نُجري معه هذا الحوار الذي جاء تحت عنوان: "الفكر العربي الإسلامي ومطلب التجديد".

مولاي أحمد صابر: الدكتور رضوان السيد، أنت رجلٌ غنيٌّ عن التعريف، لكنْ كيف تُقدّم نفسك للقارئ؟

أنا قارئٌ ودارسٌ للتجربة الفكرية والسياسية العربية والإسلامية في القديم والحديث.

مولاي أحمد صابر: لقد اشتغلتم وما زلتم على سؤال التجديد في الفكر العربي الإسلامي منذ عقود. ما هو تقييمكم المعرفي والمنهجي لهذا الفكر في الوقت الراهن؟

رضوان السيد: أوّل كتبي في مسألة التجديد أو الظواهر الجديدة في الفكر العربي الإسلامي صدر عام 1987، وكان بعنوان: الإسلام المعاصر. ومنذ ذلك الحين صدرت لي عدة كتب وعشرات الدراسات والمقالات في المسألة ذاتها. وكنتُ قد بدأْتُ حياتي العلمية أواخر السبعينات من القرن الماضي بدراساتٍ وكتبٍ ومقالاتٍ في التجربة الفكرية التاريخية للإسلام من الجوانب المفهومية، وما يزال هذا الاهتمام حاضراً بقوةٍ في عملي العلمي. لكنْ وكما سبق القول فإنني تنبّهْتُ بعد أواسط الثمانينات إلى مشكلات وإشكاليات الأزمنة المعاصرة على الأمّة والدين. ومنذ ذلك الحين، وبعد "الإسلام المعاصر"، وإلى جانب الدراسات والاستطلاعات التي نشرتُها في المجلات التي ترأستُ تحريرها، ظهرت لي كتبٌ في قراءة الظواهر الحديثة والمعاصرة، مثل: "سياسيات الإسلام المعاصر" (1997)، والصراع على الإسلام (2004)، ومقالة في الإصلاح العربي (2004)، والتراث العربي في الحاضر (2014)، و"أزمنة التغيير: الدين والدولة والإسلام السياسي" (2014)، "والعرب والإيرانيون" (2014). وهكذا فقد كانت لي متابعاتٌ لمسألة التجديد مظاهرَ وضرورات على مدى عقدين وأكثر. وقد ظهرت لي، كما سبق القول، دراساتٌ في المجلات التي حرّرتُها عن الإشكالية ذاتها، مثل الفكر العربي (1979- 1985)، والاجتهاد (1988-2004)، والتسامح/ التفاهُم (2004-2014). وحُكْمي على التفكير في المسألة العربية/ الإسلامية الحديثة والمعاصرة أنه يعاني من فصاماتٍ هائلةٍ بين التشدّد الخارج عن كلّ حدّ، والغربة الخارجة عن كل حدٍ أيضاً. فهناك هُوامات متصاعدة عبر أربعة عقود في سياق ما صار يُعرفُ بظاهرة الإحياء الإسلامي، وهناك من جهاتٍ أُخرى تأليفٌ كثيفٌ في لعن الموروث الفكري لأمّتنا، وتجربتها الحديثة والمعاصرة. وبالطبع فإنّه ضمن هذا الفصام أو الانفصام يظلُّ سؤالُ التجديد وارداً أو ملحوظاً، وإنْ بأشكالٍ مختلفةٍ خفيّة أو ظاهرة. إنمّا لأسباب بنيوية وأُخرى جدالية لا يتحقق شيء من ذلك. اليساريون الذين صاغوا منظومات فكرية ضخمة في قراءة التراث وتفسيره يكرهون الدين أو يضيقون به ذَرعاً، وهم يقصدون بالتجديد أو النهوض تفكيك الدين تحت اسم تكسير الأرثوذكسيات. لكنهم لا ينجحون في ذلك، ليس لأنه مستيحل فقط؛ بل لأنّهم أيضاً مخطئون في الفهم والتشخيص للمشكلات والرهانات. هم يقولون إنّ الجمود متأصِّلٌ في الموروث القروسطي والمتخلِّف والمفوَّت والمفوِّت، ولذلك ظهرت الأُصوليات أو استمرّت، وتفاقمت في الحاضر تحت وطأة الحداثة. وهذا تشخيصٌ مُخطئٌ تماماً. فالأصوليات الانشقاقية باتجاهاتٍ مختلفة جاءت أو ظهرت على أنقاض التقليد وليست استمراراً له، وهي لا تستظلُّ به ولو شكلاً. أمّا الإسلاميون على اختلاف فِرَقِهم وتنظيماتهم فقد ظهروا قبل قرنٍ باعتبارهم أعداءَ التقليد، وأرادوا وعملوا - كما يقولون ـ على العودة للكتاب والسُنّة مباشرةً. والطريف أنهم وهم يعملون على التحويل في المفاهيم بقصد العودة لنصوص الشريعة أو مقاصدها في مواجهة التقاليد البالية والبدعية؛ عمدوا لإنتاج إسلاماتٍ جديدةٍ تماماً قائمة على أمرين: استعادة الشرعية الدينية والسياسية (فكر الهوية)، وأسلمة "الدولة" بالاستيلاء عليها من أجل تطبيق الشريعة على المجتمع وإقامة الخلافة. ولذلك فإنّ أفهامهم ومسالكهم وتصرفاتهم أسوأ من أفاعيل الحداثيين الذين يتجاهلون الدين أو يكافحونه. بالطبع فإنّ التفكير في التجديد أو التغيير ليس منحصراً في هذين الفصامين، لكنهما غالبان فيه. والملفت أنّ الأمر آل إلى هذين الانسدادَين في العقود الأخيرة، أمّا قبل ذلك فقد كان هناك ما صار يُعرف بالتيار الإصلاحي، والذي انصبَّ عملهُ على نقد التقليد الذي اعتبره مغلقاً، وعمل على فتح منافذ للاجتهاد والتجديد. وقد أنجز إنجازاتٍ كثيرةً على مدى حوالي القرن من الزمان. ومعظمُ الاتجاهات المُشرقة والواعدة في شتى مجالات التفكير في المسألة الإسلامية هي من إنتاج ذلك التيار بأجياله الثلاثة. وقد واجه بدءًا بخمسينيات القرن العشرين تحدياتٍ شرسةً من أصوليات الحداثيين والإسلاميين، إلى أنْ قضى نحبه أو كاد في الثمانينات من القرن الماضي.

مولاي أحمد صابر: سؤال التجديد في جزءٍ كبير منه ينصبّ حول إشكال التراث والمعاصرة. ماذا يعني التراث بالنسبة لك في علاقته بالتجديد وروح العصر؟ وهل المعاصرة نقيضٌ لكلِّ ما هو موروث، أم على العكس من ذلك؟ وماذا تعني المعاصرة بالنسبة لك؟

رضوان السيد: لقد كان من "سوء الطالع" كما يقول الأُدباءُ القُدامى أنّ قسطاً كبيراً من جهد المفكرين العرب في القرن العشرين انصبَّ على معالجة هذه الإشكالية، سواء بالتركيز على التوافق أو التنافي أو التوسط بين هذا وذاك. ولم يظهر سوءُ تلك المقاربة إلاّ عندما ازداد ارتباطها بالدين أو اعتبار الدين جزءًا من التراث الذي لا بد من دخوله في معالجة هذه الإشكالية. وقد كان شيخنا محمد أبو زهرة يفرّق بين الاجتهاد والتجديد. ويرى أنّ الاجتهاد خاصٌّ بالمسلك الديني، والتجديد الفكري والثقافي هو عملٌ من أعمال العيش المباشر في العصر والعالم. والطريف أن يكونَ ذلك رأي محمد أبو زهرة الشيخ المعمَّم؛ بينما كان أُستاذنا محمد البهي يرى - تبعاً لمحمد عبده الذي كتب عنه أُطروحته للدكتوراه- أنّ الإصلاح الدينيَّ ضروريٌّ ضرورةً مطلقةً للدخول في العصر والعالم. والذي أراه أنّ هذه الإشكالية مستعارةٌ أصلاً من المستشرقين، وما بدت استعارتُها منذ أواخر القرن التاسع عشر سلبيةً أو سيئة. فقد حمل المفكرون الاستعماريون على الإسلام باعتباره سبباً لتأخُّر المسلمين، وردَّ عليهم كثيرون منهم جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورفيق العظم ..إلخ. وكان ذلك سبباً للتأسيس لتلك الإشكالية في الفكر العربي كُلِّه. لكنّ تلك الإشكالية كانت وقتها: الدين والعصر. بينما عنى المستشرقون بالتراث الإنجازات الفكرية والثقافية والأدبية واللغوية والتاريخية في الأزمنة الكلاسيكية. وكما انصرف المفكرون الأوروبيون في سياق التاريخانية وصناعة الانتماء والهوية إلى إحياء التراثين اليوناني والروماني؛ فإنّ المستشرقين في القرن التاسع عشر بالذات اعتبروا أنّ الموروث الفكري والأدبي العربي والفارسي والتركي ..إلخ يمكن أن يكون له دورٌ بارزٌ في النهوض وفي إعادة تحديد الهويات والانتماء. وإلى هذه النظرة في نشر النصوص ودراستها استند المثقفون النهضويون في أعمالهم الأُولى، دون أن يكونَ هناك تمييزٌ واضحٌ بالطبع أو تدقيق في علائق أو وشائج الفكري بالديني في الأزمنة الكلاسيكية. وازداد التدامُجُ بين الموروثين أو المواريث في المشكلات التي حصلت في حقبة ما بين الحربين العالميتين وبعدها؛ بحيث صار الحديث في الموروث أو التراث حديثاً في الدين، وصار الحديث في المعاصرة يقتضي اتخاذ موقفٍ من الدين أو المسألة الدينية. وقد درستُ هذه المسألة الإشكالية في كتابي الأخير (2014): "التراث العربي في الحاضر: النشر والقراءة والصراع". والذي أراه بعد كلّ ما حصل أنّ المسألة الدينية في الحاضر ليست هي ذاتُها المسألة الفكرية والثقافية، والأمر أَوضح في الأزمنة الكلاسيكية. فالكتابةُ في التاريخ الثقافي العربي لا تختلف عن الكتابة في التاريخ الثقافي لأيّ أُمةٍ أُخرى. والتراث هو موضوع ذلك التاريخ الثقافي. وبالطبع فإنّ التفكير الديني والعلوم الدينية داخلةٌ في قسمٍ منها على الأقلِّ في التاريخ الثقافي. لكن هذا شيء، وما آلت إليه إشكالية "التراث والمعاصرة" شيءٌ آخَر. لقد فسد الموضوع، وينبغي تجاوُزُهُ، أو نظلّ نعمل في نطاق الفصاميات والقطائع. ليست المعاصرة "جوهراً"، وكذلك "التراث". بل إنّ المعاصرة هي مناهجُ وطرائقُ وأساليبُ حديثةٌ في قراءة الموروث. وإن لم نحاول ذلك فسنظلُّ نعيد ونكرّر تجربة أو تجارب اليساريين والإسلاميين في إنتاج مقولاتٍ ضخمةٍ في تفسير التراث تفسيراً دينياً أو دنيوياً أو بين بين. الزمن زمن التاريخ وزمن الحاضر والمستقبل، والعرب يعيشون في هذه الأزمنة كُلِّها. ولا مكان لإشكالية التراث والمعاصرة فيها، بل للتاريخ الثقافي والعمل الفكري التجديدي والإبداعي. وليس معنى ذلك أنني أُحرِّمُ على الإسلاميين وخصومهم الحديث في الدين، لكنّ العقائديات والفصاميات سادت لدى الطرفين، ولا أرى مجالاً لقول المزيد.

مولاي أحمد صابر: ألا يقتضي الواقع اليومي في نظركم، أكثر من أي وقت مضى، نوعاً من التأسيس للفكر الإسلامي يأخذ بآليات المعرفة الحديثة والمعاصرة، ويستفيد من مختلف التجارب الإنسانية في التعاطي مع مرجعية الفكر الإسلامي بغية النظر إلى العلوم بشكل متكامل بدل تجزئتها إلى علومٍ شرعية وأُخرى عقلية؟

رضوان السيد: هذه التجزئة وقعت للأسف، وقد كان التقليديون والإصلاحيون والسلفيون ضدَّها ولأسباب مختلفة. فالإصلاحيون يرون أنّ الدراسات الدينية تستفيدكثيراً من العلوم العقلية القديمة ومن الفلسفات المعاصرة. أمّا التقليديون والسلفيون فقد وقفوا ضدّ تلك التجزئة؛ التقليديون لتفرقتهم القاطعة بين الأصيل والدخيل، والسلفيون لأنهم رأوا أنه لا مدخل للعقل في النصّ، باستثناء جزئيات الفقه المحدودة بحدودها. ونحن نعلم أنّ الدول الناشئة هي التي أحدثت هذه القسمة، وطعّمتْها من أجل التسويغ ببعض الأدوات والموضوعات التراثية. فجاءت المناهج هجينةً لأنّ التعقيل الفيبري (على سبيل المثال) لم يُداخِلْها. وعلى أي حال لقد فات الأوان. ونحن أمام واقع الفصام، وحتى الاجتهاد الديني يُعاني من أزمة مع أنه كان يسعى للملاءمة بقوة. اقرؤوا معي كتاب "الدولة المستحيلة" لوائل حلاّق، الصادر عام 2013 (قرأْتُه بسرعة في كتابي: أزمنة التغيير، الدين والدولة والإسلام السياسي، 2014). فقد كتب عشرات الكتب والمقالات عن جهود الملاءمة في الدراسات الفقهية الحديثة (بل والقديمة)، لكنه يقول الآن إنّ تلك الجهود ما كانت كافية، وإنه لا بد من الدولة العلمانية الحديثة بدون رتوشٍ ولا تلاؤمات: إمّا أنّ تقبلوا الدولة الدهرية، وتعتبروا الدين أخلاقيات وحسْب (على منهج طه عبد الرحمن) أو تقعوا ضحايا الفوات والتفويت والأُصوليات. تماماً مثلما قال لنا برنارد لويس وهنتنغتون بشأن صراع الحضارات. وقد كان لويس مذهولاً بالنموذج العلماني التركي، ولستُ أدري الآن ماذا يقول عن أردوغان وإسلاموياته غير المسالمة على الإطلاق. لقد انفجرت الفصاميات الدينية بأيدي الطغاة والمؤسسات الدينية التقليدية المحدَّثة. فماذا نفعل؟ هل نَعِظ في عظمة العلمانية المتدهِّرة، أم نظلُّ نعتبر الأصوليات عدواً للإمبريالية ونظام العالم المهيمن؟ أنا مع الدولة العصرية، ومع نقد المفاهيم الدينية المحوَّلة والمحوَّرة، وإعادة بناء المؤسَّسات الدينية لاحتضان الشباب وتهدئة غضبهم وإزالة مخاوفهم. ولا ينبغي التهيُّبُ أمام الطغيان القاتل سواء أكان دينياً أم سلطوياً. نحتاج إلى سلطاتٍ عاقلةٍ وحاضنة وغير قاتلة. ونحتاج إلى مفكرين ملتزمين بحقّ الأمة في الأمن والاستقرار والتنمية، لكي نعمل مع المؤسَّسات الدينية الناهضة على صرف الشباب عن أوهام الدولة الدينية سواء أكان النموذج داعشياً أوكان النموذج ولاية الفقيه.

مولاي أحمد صابر: كيف تفسِّرون الفصل المنهجي القائم بين العلوم الشرعية والعلوم الإنسانية في مختلف الجامعات في الوطن العربي؟

رضوان السيد: ما عاد الفصل حادّاً. فقد قرأنا في كُليّة أصول الدين بجامعة الأزهر في الستينات نصوصاً فلسفيةً حديثةً وعقلانيات معتزلية وأشعرية. حتى في جامعة الإمام محمد بن سعود كُتبت أُطروحات في أُصول الفقه المعتزلي، وفي أعمال المجدِّدين المسلمين في الفقه والأُصول. وقد قرأْتُ عشرات الأُطروحات النقدية بالجامعة التونسية والجامعات المغربية، والتي تتوسَّل المناهج التاريخية الحديثة، وعلوم نقد النصّ، واللسانيات في "تحطيم" الأرثوذكسيات؛ وبخاصةٍ الأرثوذكسية السنيّة حتى في مسائل مثل تدوين القرآن والسيرة النبوية. وقرأتُ من جانب غير مختصين عشرات التفاسير العصرية للقرآن، حتى مللتُ وتعبتُ. فالمشكلةُ ليست في نقص الدراسات النقدية ذات المناهج الحديثة، بل هي في الروح الفصامي الخصوصي والمقاتل، والذي يؤثر في شبابنا ويدفعهم للاستشهاد والقتل بحجة حماية الدين من التحريف والتهميش. ومثقفونا بدلاً من التأمّل النقدي لهذا الوعي القاتل للدين والمجتمع ينصرفون إلى نقد "التقليد" الإسلامي الأشعري باعتباره المسؤولَ عن أُطروحات "أنصار الشريعة" والقاعدة وداعش وغيرها من الأُصوليات الانشقاقية القاتلة. إنها أُصولياتٌ منشقةٌ عن التقليد وليست استمراراً له. وقد كنتُ أستشهدُ بكارل ماركس بشأن استحالة تكرار التجارب التاريخية، وأنها إن كانت فهي إمّا مأساة أو مهزلة. لكنني أعرفُ الآن أنّ هؤلاء لا يقولون باستعادة التجربة التاريخية في مقولات مثل تطبيق الشريعة أو الخلافة. بل إنّ بينهم وبين التقليد والتجربة التاريخية وأفهامها أكثر من مائة سنة، جرت خلالها عمليات تحويل ضخمة للمفاهيم، بحيث صارت الشريعة في أفهامها (وهي الدين ذاتُه) غير مطبَّقة، وبحيث صارت الخلافةُ ركناً من أركان الدين؛ بينما هي حتى في زمن الراشدين نظام إنساني مصلحي وتدبيري كما قال كلُّ المتكلمين والفقهاء عبر العصور. لا بُدّ من استخدام الأدوات والمناهج الحديثة في قراءة التقليد ونقده بالطبع، وهذا ما أقصده بالتاريخ الثقافي والفكري. إنّما لا ينبغي التسليم للأصوليين بأنّهم عندما يقتلون الناس باسم الشريعة أو الخلافة إنّما يستعيدون "التقليد الأصيل". التقليد الأصيل كان شأن المؤسسات الدينية في المذاهب الأربعة. لكنّ هؤلاء القتلة، ومنذ أكثر من قرنٍ، أعداؤه عودةً فيما يزعمون للكتاب والسنة، أي إلى ما قبل التقليد أو ما فوقه. لقد صار الجو كله عقائدياً، وما يزال مثقفونا الكبار ينعون على التقليد المتساقط جموده واستغلال الأُصوليين له. لقد أراد الإصلاحيون ـ كما سبق القول- إدخال الدرس الحديث لفتح التقليد، وإخراجه من جموده وانحطاطه كما قالوا. وقد حصل ذلك بعد جَهدٍ جهيد، لكنّ الإحيائيين الأوائل والثواني تجاوزوا ذلك كلَّه إلى اصطناع إسلامٍ جديدٍ باسم الكتاب والسُنّة.

مولاي أحمد صابر: هل هذا (الفصل) يرجع لطبيعة التعارُض بين هذه العلوم؟ وهل بالإمكان توظيف آليات العلوم الإنسانية في تفعيل العلوم الشرعية؟

رضوان السيد: هناك شيء من ذلك، وقد ظهر في النقاش بين الفيلسوف يورغن هابرماس والبابا السابق بنديكتوس السادس عشر. وقد بدا البابا منفتحاً ويريد إدخال العلوم الإنسانية في كلّ الدين مستنجداً بالمناهج التأويلية التي ما كان يقرّها من قبل، وبخاصةٍ في كتابه عن المسيح. لكنّ هابرماس بدا متكبراً وبعيداً، ورأيه أنّ البشرية ما عادت بحاجةٍ للدين في الحقيقة، لكنْ لم يكن لديه مانع في اقتراب الدين من الفلسفة وليس العكس. والذي أراه أنّ الفلسفة الحديثة كلّها لاهوت مسيحي أو يهودي، ومن ضمن ذلك تداولية هابرماس، واعترافية تلميذه أكسِل هونيت. أنا مع توظيف آليات العلوم الإنسانية في مجالات العلوم الدينية. وهذا أسهَل في الإسلام منه في اليهودية والمسيحية. فالعقائد الإسلامية الأساسية هي: الوحدانية، واليوم الآخر، والكتب والنبوات. وقد دُرست كثيراً في النقد التاريخي والموضوعي للعلوم الكلامية، وما تزال التجربةُ الفقهية الهائلة تحتاج إلى درس كثير، وكذلك مجموعات الأحاديث النبوية. ولا أرى أنّ الدراسات النقدية أثّرت أو تؤثر في إيمان الجمهور، وأنا شديد الاهتمام بذلك. وهناك دعواتٌ حادّةٌ منذ قرابة القرن للتجديد في علم الكلام مناهج وموضوعات. وأرى أنّ كتاب محمد إقبال (تجديد التفكير الديني في الإسلام) هو الأكثر جدوى وجدية.

مولاي أحمد صابر: فقدت الساحة الفكرية في العالم الإسلامي في الآونة الأخيرة مجموعةً من الوجوه الفكرية... مثل الجابري وأركون ونصر أبو زيد. ما هو تقييمك العلمي والمنهجي لطروحات هؤلاء بشكل عام؟

رضوان السيد: لقد كتبتُ عن تجربتَي الجابري وأركون، ولم أكتب عن أعمال أبي زيد. ورأيي أنّ هؤلاء جميعاً وغيرهم من الأحياء ـ أطال الله أعمارهم ـ مثل حنفي وأومليل وسعيد بنسعيد وجدعان والشرفي، أسهموا على اختلاف اهتماماتهم في تقدّم الدرس الأكاديمي العربي والإسلامي. كلّ عمل أركون استحثاثٌ على استخدام العلوم الإنسانية في الدرس القرآني والإسلامي، وله تلامذةٌ في هذه الاتجاه. أمّا الجابري فقد صاغ أُطروحةً تأويليةً هائلة الاتساع للفكر العربي والإسلامي كلّه، وقدّم قبل وفاته بسنواتٍ قليلةٍ تفسيراً للقرآن. وأنا آخُذ على الراحلَين الكبيرين التسرُّع في قراءة التقليد، بل والعداء له من جانب أُستاذنا أركون على وجه الخصوص. ولا اعتراض لي على دراسات أبي زيد القرآنية ـ رحمه الله ـ، وهو مُحافظٌ بعكس اتهامات الأُصوليين له. ولا يُقارَنُ طرحه بأطروحات التونسيين الشديدة الجرأة على القرآن والسُنّة والسيرة. وأظنّ أنّ الدراسات الأكاديمية في الإسلام بشكلٍ عام أفادت من أُطروحات العروي والجابري وأركون. لكنها تدخل الآن بتأثير الغربيين في أطوار جديدةٍ ما أفاد منها غير العروي في السنة والإصلاح وديوان السياسة. وقد راجع فيهما أطروحاتٍ له من الستينات والسبعينات والتسعينات. أمّا الدراسات القرآنية ففيها زلازل وثورات بين الأُصوليات الجديدة الرامية لتحطيم النصّ، والأُخرى التي أحالته من جديد على اليهوديات والنصرانيات والمراحل الكلاسيكية المتأخرة. ولا يستطيع الأكاديميون العرب الذين يعرفون النصَّ القرآني معرفةً جيدةً أو جيدةً جداً أن يسايروا أحد هذه التوجهات الثلاثة. وكما يقول ابن خلدون في خواتيم بعض فصول مقدمته: (والله غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون).

مولاي أحمد صابر: وفقاً للتحولات الثقافية والسياسية التي عرفها العالم في القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين والتي أفضت إلى نظام العولمة الذي تجاوز كلّ الحدود إلى درجة صار العالم فيها بفضل تكنولوجية الاتصال شبيهاً بالقرية الصغيرة، وفقاً لهذه التحولات ماذا يمكن أن تقول لنا ـ بصفتك أحد أبرز المشتغلين والمتخصصين في الفكر الإسلامي ـ عن الإسلام كمعطى تاريخي وحضاري وما سيحتاجه العالم الإسلامي ليكون في مستوى الزمن الحالي الذي تطبعه روح الفلسفة والعقل والعقلانية وكل ما له صلة بالحداثة؟ ألا تقتضي كلّ هذه التحولات بناء فكر ديني جديد ينسجم مع خصوصيات الزمن المعاصر في الوقت الذي نجد العالم الإسلامي اليوم مقسّماً بين سنة وشيعة و.. وهذه تقسيمات تشكلت وفقاً لأسباب ومتطلبات غير موجودة اليوم؟

رضوان السيد: هناك خمسة أحداث وقعت، واتخذت لشدّة تأثيرها أبعاداً رمزية في الوقت نفسه: الثورة الإيرانية (1979-1980) التي أقامت دولةً دينية. وهجمة القاعدة على الولايات المتحدة عام 2001. واحتلال الولايات المتحدة لأفغانستان والعراق 2002و2003، ومحاولات توريثهما لإيران. والتدخل الطائفي الإيراني في خمس أو ست دول عربية لشرذمة المجتمعات والإسلام. وفشل الموجة الأولى من الثورات (2011- 2014) في إقامة أنظمةٍ مدنية، وظهور الإخوان وداعش والإيرانيين في قلب تلك الثورات ومن حولها، بحيث جرى حصارها بين الطغيان والأصوليات والإيرانيات والتركيات. هذا في المشرق، أمّا في مغرب العالم العربي فالوضع صعب بين الفوضى الليبية والعسكريتاريا الجزائرية. ولو فرضنا أنّنا سنستطيع التخلُّص من هذه الظواهر القاتلة والمحبطة خلال السنوات الخمس القادمة؛ فإننا نحن المشارقة سنكون مرهقين جداً، وقد خرب عمراننا التقليدي والجديد، وفقدنا نصف مليون إنسان نصفهم سقطوا على يد النظام في سورية، إضافة إلى اثني عشر مليون مهجَّر بالداخل والخارج. وإذا ظلّ أردوغان على هياجه وشعبوياته فإنّ المستقبل القريب لتركيا غير واعد. ولذا أرى أنّ الأمل (القريب دائماً) ينحصر في الدائرة الخليجية، وفي شرق آسيا، أي إندوينسيا وماليزيا. أمّا باكستان وأفغانستان وآسيا الوسطى فأوضاعها في المدى القريب ليست أفضل من أوضاعنا بالمشرق العربي.

ولدينا مشكلتان أُخريان فظيعتان: الملحمة التي يكون علينا أن نخوضها في وجه الأًصوليات وإيران، والوجه الأسود للإسلام (السنّي) في العالم.

لقد أصدرتُ ثلاثة كتب عام 2014 كلها تدرس هذه المشكلات. والأوضاع الآن أسوأ من أوضاع العام 2004 الذي أصدرتُ خلاله كتابي: الصراع على الإسلام، وأنا أُتابع الأحداث عن كثبٍ في مقالاتٍ أُسبوعية، وأقترح بحسب الوسع والطاقة مخارج من الدم والطغيان والداعشيات والإيرانيات. وقد بلغتُ من الكبر عتيّاً (عمري خمسة وستون عاماً). وعندما أسترجع ما كتبتُهُ بمجلة (الفكر الإسلامي) عام 1968 عن المصالحتين مع الدين والجمهور ومع العالم، أجدُ أننا نحن ـ المثقفين ـ لم ننجز الكثير. ولله الأمر من قبل ومن بعد، وهذه الآيةُ أيضاً من تسليمات ابن خلدون في خواتيم فصول مقدمته.

مولاي أحمد صابر: كيف تنظر لمستقبل الفكر العربي والإسلامي؟

رضوان السيد: أعتقد أنني أجبتُ عن السؤال، ولا مزيد عندي. لقد سألوني الليلة (4/9/2014) في فضائية العربية عن أسباب ظهور الانتحاريين بين شباب السُنّة بلبنان، وقد فجّر أحدهم نفسَه قبل أيام مع داعش ببغداد، فبدأْتُ أذكر الأسباب: من الفقر إلى الخوف إلى حسن نصر الله، ثم قرّرتُ التوقف، وقلتُ مرةً واحدة: نحن مذنبون في جهازنا الديني والتربوي، أو لأقل لكِ بصراحة: لا أعرف، فقد صارت المعرفةُ مخيفةً مثل الجهل ذاته.


[1] نشر هذا الحوار في مجلة يتفكرون عدد 5