الفلسفة في الأندلس ابن باجة وابن طفيل


فئة :  ترجمات

الفلسفة في الأندلس ابن باجة وابن طفيل

الفلسفة في الأندلس

ابن باجة وابن طفيل

منذ دخول الإسلام إلى إسبانيا في 92هـ/ 710م وإلى استعادة المسيحيين الكاملة لها في 1492؛ ظلَّت أيبيريا تحت الحكم الإسلامي، والتي كانت تقع عند أقصى نقطة في غرب الإمبراطورية الإسلامية المزدهرة. كانت الأجواء الفكرية والثقافية في الأندلس على مدى عقود كثيرة من بداية الغزو الإسلامي هامشية بالنسبة إلى مثيلاتها في الشرق، ولم تكن الفلسفة استثناءً من ذلك: إذ جاءت إلى الأندلس من الشرق، لكنها سرعان ما ازدهرت هناك وصارت لها حياة مستقلة. وهذا ما يظهر في تاريخ الفلسفة في الأندلس؛ الذي بدأ على خُطى الفارابي وابن سينا، لكنه سَلَكَ مسارات مختلفة تماماً بعد ذلك. فمن جهة، استمر فلاسفة الأندلس في مشروع الفارابي في إعادة بناء فلسفة أرسطو وتطويرها، وهو المشروع الذي وصل إلى ذروته في شروح ابن رشد على أرسطو. ومن جهة أخرى، انجذب مفكِّرو الأندلس للتصوُّف، إذ نجد ابن عربي الأندلسي علامة بارزة في التصوف. ولم يكن المفكِّرون الأندلسيون المنتمون للفلسفة بمنأى عن جاذبية التصوف. وسيعرض هذا الفصل تنافس التراثين الفلسفي والصوفي في أفكار وأعمال اثنين من أبرز فلاسفة الأندلس السابقين على ابن رشد، وهما: ابن باجة (المعروف لدى اللاتين باسم Avempace) وابن طفيل.

ابن باجة

يخبرنا صاعد بن أحمد الأندلسي (ت 462هـ/ 1070م) في كتابه «طبقات الأمم» عن دراسة العلوم في الأندلس، ويذكر المهتمِّين بالفلسفة حتى عصره([1]). وكان أغلبهم أطباء، والبعض منهم اهتم بالعلوم الطبيعية والمنطق. أما الذين برعوا في الفلسفة الطبيعية والميتافيزيقا؛ فكانوا قلَّة ولم تصلنا أعمالهم، سوى سليمان بن جبروال، المعروف باسم ابن جبيرول أو Avicebron [لدى اللاتين] (1021 - 1058م)([2])، والذي يضمه لعلماء اليهود.

ولم يكن ابن صاعد يعرف أبا بكر بن الصائغ (ابن باجة)؛ إذ وُلِدَ في سرقسطة بين 477هـ/ 1085م و483هـ/1090م. في ذلك العصر؛ كانت سرقسطة عاصمة إمارة بني هود، وربما كان ابن باجة في حماية أميرها عماد الدولة، لكنه ظل في الحكم حتَّى 503هـ/ 1110م. وعندئذ أسقطه علي بن يوسف بن تاشفين (500هـ/1107م - 537هـ/1143م)؛ أمير المرابطين في شمال أفريقيا، وأحَلَّ محله نسيبه أبا بكر بن إبراهيم الصحراوي، المعروف باسم ابن تافلويت([3]).

كان لابن باجة موهبة في الشعر، وبرع في الموشحات الأندلسية([4]). وقد كافأه راعيه ابن تافلويت على موهبته بكرم بالغ، ومكَّنته رجاحة عقله من تبوُّؤ منصب الوزير، لكن توفِّي ابن تافلويت مبكراً في 509 هـ/ 1116م في حربه مع المسيحيين؛ وقد ألَّف ابن باجة المراثي تخليداً لذكراه. وعلى إثر ذلك استولى ألفونس الأول ملك أرجونة على سرقسطة في 512هـ/ 1118م، وكان على ابن باجة الفرار. وقد عثر في البداية على حماية في مدينة خطيبة في بلاط الأمير أبو إسحق إبراهيم بن يوسف بن تاشفين؛ أخو الخليفة المرابطي وحاكم الجزء الشرقي من الأندلس. وظل ابن باجة بقية حياته في دائرة المرابطين، وتولى الوزارة في غرناطة لعشرين سنة في حُكم الأمير يحيى بن يوسف بن تاشفين. ونعرف أنه كان في إشبيلية سنة 530هـ/ 1136م، في صحبة تلميذه أبي الحسن بن الإمام الذي كان وزيراً هو الآخر. وكان ابن باجة يرغب في الذهاب لوهران بالجزائر، لكنه توفِّي في فاس بالمغرب في مايو 1139 (شهر رمضان سنة 533هـ). وقد شك البعض في أن ابن ميهوب خادم عدوِّه الطبيب ابن زُهْر قد وضع له السم في الباذنجان. ولم يكن ابن زهر هو عدوَّه الوحيد، فالمعروف عداوة ابن خاقان الشخصية له، إذ هاجم ابن باجة في أبيات شعر موجَّهة ضده، متَّهماً إياه بالتعطيل [تعطيل الله عن فعله وصفاته]. وقد نال العديد من العلماء المتحرِّرين دينياً حظوة المرابطين، وكان من بينهم مالك بن وهيب (453 - 525هـ) معلم ابن باجة. واستمر المناخ الإيجابي لازدهار العلم بالأندلس من عهد ملوك الطوائف وطوال عهد المرابطين كما يخبرنا ابن صاعد، رغم المواجهة العدائية من الفقهاء.

ونجد معلومات قيِّمة عن خلفية ابن باجة الفلسفية في دراسة مُفَصَّلة لمؤلفاته كتبها المرحوم جمال الدين العلوي([5])؛ الذي رتبها زمنياً، وعلى أساس هذا الترتيب درس تطور أفكاره. ويركز العلوي على رسالة أرسلها ابن باجة إلى صديقه أبو جعفر يوسف بن حسداي؛ يذكر فيها أنه درس في البداية العلوم الرياضية والموسيقى والفلك، ثم انتقل منها إلى دراسة المنطق مستعيناً بكتب الفارابي، وأخيراً تفرَّغَ لدراسة العلم الطبيعي. وعلى أساس هذا الترتيب لدراسات ابن باجة؛ قسَّم العلوي أعماله عبر ثلاث مراحل. فتنتمي أعماله في الموسيقى والفلك والمنطق للمرحلة الأولى، وتنتمي أعماله في العلم الطبيعي للمرحلة الثانية، أما أعماله المعبِّرة بوضوح عن فكره الخاص؛ فتنتمي للمرحلة الثالثة والأخيرة، مثل «تدبير المتوحد»([6])، و«رسالة الاتصال»([7])، و«رسالة الوداع»([8]).

الفلسفة وتصنيف العلوم

يمكننا قبول تصنيف جمال الدين العلوي [لمؤلفات ابن باجة] فقط من أجل تحليل فكره. اتَّبعَ ابن باجة غيره من فلاسفة الأندلس في الاعتماد على منطق الفارابي، وفي كتابته لشروح على منطق أرسطو دون أن يدَّعي لنفسه نظرية خاصة به في المنطق. فلابن باجة تعاليق وصلتنا على «المقولات» و«العبارة» و«التحيُّلات الأولى» [القياس] و«التحليلات الثانية» [البرهان]، وكذلك على مدخل فرفوريوس [الإيساغوجي]، و«الفصول الخمسة»، وهي تعاليق على الفارابي([9]).

ترجم أبو عثمان يعقوب الدمشقي كتاب «إيساغوجي» لفرفوريوس، واستخدم الفارابي هذه الترجمة في شرحه المسمَّى «كتاب إيساغوجي» والمسمَّى كذلك «المدخل»([10]). ويربط ابن باجة هذا الكتاب بكتاب آخر للفارابي هو «إحصاء العلوم»([11]). في كتابه «إيساغوجي» وضع فرفوريوس خمسة معانٍ كليَّة [الكليَّات الخمس] -الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض- وجعلها أساس المنطق؛ الذي يقف على رأسه القياس. أما ابن باجة؛ فكان له توجهاً آخر، إذ اهتم بصنائع القياس، ووضع تصنيفه الخاص للعلوم قبل عرضه للكليَّات الخمس: «الصنائع القياسية هي التي من شأنها أن تُسْتَعمل بعد التئامها وكمالها، ولا تكون الغاية منها عملاً من الأعمال»([12]). والصنائع القياسية خمس، أولها وأهمها الفلسفة، بما أنها تضم كل الموجودات «من حيث تعلم علماً يقينيَّاً». وبالتالي لدينا شرطان: اليقين والشمول في الرؤية، ويجب توافرهما في أقسام الفلسفة الخمسة: ما بعد الطبيعة والطبيعة والفلسفة العملية والرياضيات والمنطق.

يبحث علم ما بعد الطبيعة في المبادئ القصوى؛ ومن طبيعتها ألا تكون أجساماً ولا في أجسام. ويبحث العلم الطبيعي أو الفلسفة الطبيعية في الأجسام الطبيعية، غير المعتمدة في وجودها على الإرادة الإنسانية. وتبحث الفلسفة العملية -التي يُسمِّيها ابن باجة «العلم الإرادي»- «الموجودات الكائنة بإرادة الإنسان». وتبحث الرياضيات [التعاليم] في الأشياء المتجردة من المادة، وتتفرع إلى علم العدد وعلم الهندسة وعلم المناظر [البصريات] وعلم النجوم [الفلك] وعلم الموسيقى، وعلم الأثقال، وعلم التطبيقات الهندسية، وعلم الحِيَل [الميكانيكا] الذي يبحث في:

وجه إيجاد الكثير ممَّا يُبرهن في هذه التعاليم بالقول، ويبغي الحيلة في دفع عوائق ربما منعت من وجودها وضدِّه. فمنها حِيَل عددية، كالجبر والمقابلة، وحيل هندسية وحيل أثقالية([13]).

والمنطق هو القسم الخامس والأخير من الفلسفة، ويركز على خواص الموجودات [اللواحق] الحاصلة في ذهن الإنسان؛ «وبهذه اللواحق ومعرفتها تكون آلة في إدراك الصواب والحق في الموجودات»([14]). ويعلِّق ابن باجه بقوله: إنه لهذا السبب نظر كثير من الناس للمنطق على أنه مجرَّد أداة للفلسفة وليس جزءاً منها، لكنه يصرُّ على أنه الاثنان معاً.

ولأن ما يميز الفلسفة هو استخدامها للقياس البرهاني، وهو القياس الوحيد الموصل لليقين، فلا يمكننا اعتبار كل العلوم القياسية أجزاء من الفلسفة. ويُعدِّد ابن باجة أربعة من هذه الصنائع اللافلسفية، وهي صناعة الجدل، الذي يثبت وينفي اعتماداً على المقدمات المشهورة ولا يؤدي إلا إلى الظن، وصناعة السفسطة، التي تُموِّه وتغالط في تقديم الأشياء وتُصوِّر الحق على أنه باطل والباطل على أنه حق، ويضم ابن باجة إليهما الخطابة والشعر، معتمداً في ذلك على تراث الشُّرَّاح اليونان المتأخرين على أرسطو([15]).

وعلى الرغم من ذلك فليس هذا التقسيم للعلوم كاملاً؛ لأن الصنائع السابقة كلها نظرية ولا تشمل الصنائع العملية مثل الطب والفلاحة، لكن ابن باجة لا يعتبر هذه الصنائع قياسية، فرغم أنها تستعمل القياس، إلا أن «غايتها ليست المخاطبة واستعمال القياس، بل إنما غايتها عمل من الأعمال»، ولا يمكن للطب والفلاحة أن يكون غرضهما النهائي هو القياس. لكن في المقابل؛ يصرُّ ابن باجة على أن البصريات والميكانيكا يمكن تنظيمهما بالقياس. وبعبارة أخرى، فإن العلوم عند ابن باجة تنقسم إلى تلك التي تعتمد على القياس، والتي لا تعتمد عليه. والعلوم القياسية تتفرع إلى الفلسفة والجدل والسفسطة والخطابة والشعر. وتتفرع الفلسفة إلى منطق البرهان (التحليلات الأولى والثانية) والرياضيات والعلم الطبيعي والميتافيزيقا والفلسفة العملية.

والغرض الأساسي لمقدمة المنطق (الإيساغوجي) عند ابن باجة؛ هو شرح التصورات التي تضمُّها مقولات أرسطو العشر، حيث يكون جوهر «كتاب المدخل» هو نظرية في الفردي والكلِّي التي تتطور إلى تحليل المعاني أو المعقولات الكليَّة البسيطة والمركَّبة. ويوضح ابن باجة أن المقولات الخمس ليست تصورات أولية، بل تشكِّل علاقات بين كلِّيَّين يقعان تحت الأفراد والفئات. ويقول في ذلك: «... الجنس والنوع والخاصة والعرض... إضافات لحقت المعقولات من جهة كمِّيَّة موضوعاتها»([16]). إن الجنس والنوع والخاصة ماهيَّات تنتمي لموضوع مشترك بينها، أما العرض؛ فعلى العكس، إذ هو ليس ماهيَّة ويوجد خارج الموضوع. أما الخاصة التي تميز نوعاً عن نوع؛ فهي متَّصلة فالفرد ويمكن تعقُّلها دون إشارة للكلِّي.

في تعاليق ابن باجة على «كتاب المدخل» للفارابي إبداعٌ خاص به على الرغم مما يبدو للوهلة الأولى. فهو يهتم بالإشارة إلى أن مقدمة المنطق [الإيساغوجي] لا يجب أن تقتصر على تقديم المعاني الخمسة -ويمكن أن تكون ستَّة بإضافة مقولة الفردي([17])- وأن المطلوب هو علم مستقل لوضع أسس الأورجانون. وابن باجة ينظر إلى هذا العلم على أنه نظرية صوريَّة في الأفراد والأنواع؛ مندمجاً مع تقسيم فرفوريوس ومع قواعد التعريف والوصف، ويعتقد أن هذا العلم يجب أن يضم المقولات العشر الأرسطية ويبرهن عليها. لكن لسوء الحظ؛ لم يطوِّر ابن باجة هذه الفكرة التي ظلت مجرد مخطط نظري.

فلسفة الطبيعة

من بين إسهامات ابن باجة في فلسفة الطبيعة، تبرز تلك المتعلقة بالحركة باعتبارها الأكثر أهميَّة، ونجدها في معظمها في «شرح السماع الطبيعي». وقد استخدم شلومو باينز Shlomo Pines مصطلح «الديناميكا»([18])dynamics للتعريف بآرائه في الحركة، والتي تأثر فيها بتراث الشروح المرتبط بيحيى النحوي (ت 566)([19]). وفي شرحه على المقالة السابعة من «السماع الطبيعي» لأرسطو؛ ينظر ابن باجة في المقدمة القائلة: إن كل متحرك يتحرك عن شيء آخر، ويقول:

فظاهر أن سكون الجملة عن سكون الجزء إنما كان من جهة أن المحرك يكفُّ من قِبَل نفسه، أو من قِبَل أنَّ مضاداً يقاوم. وكفّه من تلقائه إما بفناء قوة المحرك أو كلالها أو بطلان سببه فقط، وإما بأن تكمل الحركة بوصول المتحرك إلى حيث يحرك*.

والحركات التي يقصدها ابن باجة في النص السابق هي الحركات القسريَّة، في مقابل الحركات الطبيعية* التي سنناقشها تباعاً. ويضع ابن باجة مخطَّطاً لنظرية في الديناميكا على أساس مفهوم للقوة يختلف عن مفهوم القوة الأرسطي dunamis، فما يقصده هو القوى الآلية التي يمكنها أن تجتمع مع قوى أخرى أو تُعيقها. وهناك حدٌّ أدنى من القوة المحركة لكل متحرك([20]). فعلى سبيل المثال: كي نحرك سفينة؛ فنحن في حاجة إلى حدٍّ أدنى من القوة المحركة، وإلا؛ استطاعت ذرة من الرمال أن تحركها. وحينما تتساوى قوتان محركتان؛ فلا حركة، أمَّا عندما تفوق قوة على قوة أخرى؛ يتحرك الجسم حتى يصاب بالكلال؛ لأن كل جسم يتحرك قسراً يخلق قوة تفوق قوة مُحركه؛ ما يصيب القوة التي تحركه بالكلال، كما تقابل القوة المحركة عوامل الزمن والمسافة، ولا يستطيع معها المتحرك مقاومتها، بحيث لا يكون هناك أي تناسب مطلق بين [القوة المحركة للجسم وعوامل إعاقتها].

كما يُحلِّل ابن باجة الحركات «الطبيعية»، مثل سقوط حجر في الهواء وفي الماء. ويحتاج الحجر لا لمجرَّد قوة تحركه، بل لمقاومة الوسط الذي يوجد فيه. فذرَّات التراب تظل عالقة في الهواء؛ لأن القوة المحركة لها لا تستطيع تحريكها لأسفل لمقاومة الهواء لها. وهنا يختلف ابن باجة عن أرسطوالذي اعتقد أن الوسط ضروري لأي حركة طبيعية، وأن الوسط ليس شرطاً ضرورياً للحركة، بل يشكِّل مقاومة فحسب. [أما عند ابن باجة] فتختلف سرعة الحجر في الهواء وفي الماء بسبب اختلاف كثافة الوسط، وللوسط العامل الحاسم لكن غير الطبيعي للحجر. وكدليل على أن الحركة ممكنة دون أي وسط؛ أي: في الخلاء، يضرب ابن باجة مثال حركة الأفلاك:

فلو لم يكن هناك قاسر ولا مقاوم، كيف كانت تكون الحركة؟ لكان يجب أن تكون لا في زمان، بل دفعة. فكيف يجب أن يُقال في المتحرِّك المستدير، ولا قاسر هناك؟ لأنه ليس هناك منحرف أصلاً. لأن مكان الدائرة واحداً أبداً بعينه، لا يملي مكاناً ولا يخلي آخَر. فكان يجب أن يكون تحرُّك المستدير إذن في الآن. وقد نجد فيها [الأجسام السماوية] البطء الشديد... كحركة الكواكب الثابتة، ونجد فيها السريع الشديد السرعة كالحركة اليومية. ولا قاسر هناك ولا مقاوم أصلاً، وإنما ذلك لبُعْد المحرك في الشرف عن المتحرك، فهو يتحرك أسرع. ومتى كان المحرك أقلَّ شرفاً؛ كان أقرب من المتحرك وكانت الحركة أبطأ([21]).

ليس دور الوسط جوهرياً، بل يشكِّل مقاومة وحسب، وبالتالي فالحركة في الفراغ ممكنة نظرياً، وتؤكدها مشاهدة الأفلاك. وهنا يخالف ابن باجة أرسطو ويقدِّم نظرية سوف يُثبت غاليليو صحتها[تجريبيَّاً]([22]). لكنه يعاود ليعطينا مجرَّد مخطَّط عام دون مزيد من البحث.

كانت نظرية ابن باجة في الحركة عماد فلسفته الطبيعية، وكان لها امتدادات في نظريته الميتافيزيقية*. ففي رسالته «في المتحرك»([23])؛ يُحيل ابن باجة إلى شرحه على «السماع الطبيعي»، حيث تبرهن هناك وجود محرك أول هو سبب الحركة الأزلية وحركات الأفلاك الوسيطة [بينه وبين عالم ما تحت فلك القمر]. أما النفس الإنسانية؛ فتتميز بالحركة الإرادية، وهي ممكنة له لأنها عاقلة، وبذلك تكون بتدبير لأجل غاية. وهذه الغاية هي للنفس الصالحة «الخير على الإطلاق»، والإنسان يقدر على معرفة الخير مجرَّداً من المادة، لا الخير الذي في المادة وحسب. ورغم أن النفس في بدن، إلا أن البدن هو آلتها للحركة إلى ذلك الخير، لكن تتوقف حركة النفس [مع بدنها] بعد أن تُفارق البدن وتصير واحدة مع الصور المفارقة، وهو ما سنتناوله في الفقرة التالية.

ميتافيزيقا الصور

كتب ابن باجة رسائل خاصة في الميتافيزيقا، لكن لم يصلنا شرحاً له على «ما بعد الطبيعة» لأرسطو، وهي حقيقة ذكرها تلميذه علي بن الإمام. تبدأ رسالة ابن باجة «في اتصال العقل بالإنسان» بتعليق على الفصل السادس من المقالة الخامسة من «ما بعد الطبيعة»، حول معاني «الواحد» و«الوحدة»([24])، وليس أكثر من ذلك، ولنا أن نتساءل عن سبب عدم وضعه لشرح كامل على «ما بعد الطبيعة» على أهمِّيته. ولعل أحد الأسباب أن هذا الكتاب لا يتناسب مع الرؤية الأفلاطونية المحدثة للفلسفة ودورها، وخاصة للميتافيزيقا ودورها في تحقيق المبدأ الأقصى للسعادة الإنسانية. لقد [تعلَّم ابن باجة من] الفارابي أن هناك صدوراً من الواحد [على مستوى الموجودات]، وصعوداً مقابلاً للفيلسوف، وربط ابن سينا بين الفلسفة والوصول إلى المفارقات عندما أكَّد على أن عليها تحقيق الرؤية العقلية للموجود الواجب وللصور الفائضة عنه.

يأخذ ابن باجة نظرية أرسطو في الصور العاقلة ويعيطها معنى جديداً مركزياً في فلسفته. وهو يعتقد في نسق صدوري للموجودات مثل سابقيه الفارابي وابن سينا، حيث تصدر عقول فلكية من الموجود الأول حتى العقل الأخير، وهو العقل الفعَّال الذي يعطي للأجسام الطبيعية صورها*. وأبسط الأجسام هي العناصر الأربعة: النار والهواء والماء والأرض، وصورها هي الأزواج الكيفية المتقابلة: الساخن، البارد، الرطب، اليابس؛ فعلى سبيل المثال: الماء هو البارد الرطب. وفي نظر ابن باجة فإن هذه الكيفيات هي في الأساس قوى، يمكنها أن تُحدِث الحركة([25]) [بتفاعلاتها مع بعضها البعض]. ومن هذه العناصر البسيطة تنشأ كل الموجودات الطبيعية وتتخذ صوراً أكثر تركيباً، وأعقدها هو النفس. وأبسط النفوس هي النفس الغاذية، وهي كمال لجسم النبات؛ تتبعها النفس الحاسة التي للحيوان، والنفس المتخيِّلة، وهي كمال الإنسان والحيوان معاً، وهي تركِّب صوراً حسيَّة من محسوسات سابقة([26])، وأخيراً النفس العاقلة. وكل صور النفوس هذه فاعلة؛ أي: قوى ومَلَكات، ووحدها النفس العاقلة تتجاوز قيود البدن.

وفي فصل «القول في الصور الروحانية»([27]) وهو الفصل الأخير من «تدبير المتوحد»، يُعدِّد ابن باجة الصور البريئة عن المادة في تسلسل هابط:

والصور الروحانية أصناف؛ أوَّلها: صور الأجسام المستديرة [الأجسام السماوية]. والصنف الثاني: العقل الفعَّال والعقل المستفاد. والثالث: المعقولات الهيولانية، والرابع: المعاني الموجودة في قوى النفس، وهي الموجودة في الحس المشترك وفي قوة التَخَيُّل وفي قوة الذِّكر [الذاكرة]([28]).

وهكذا، فإن «الروحاني» هو كل صورة لا تتعلق بالمادة، لكن لا تنفصل عن الجوهر المفرد؛ ويعكس المصطلح والمذهب الكامن وراءه تأثُّراً بالإسكندر الأفروديسي. وتنقسم الصور الروحانية إلى صور عامَّة وصور خاصَّة؛ وتوجد الصور الخاصة في الحس المشترك، وهي بذلك جسمية، في حين أن الصور العامة لا توجد إلا في العقل الفعَّال. ويمكن أن تكون الصور الروحانية الخاصة تخصيصات صادقة أو كاذبة [للصور العامة]، وهي لا تكون صادقة إلا إذا كانت محمولات لصور أجسام فردية. وبالتالي فَلِلصور درجات ثلاث من الوجود: الصور الروحانية العامة، والصور الروحانية الخاصة، والصور الخاصة المختلطة بالأجسام.

ويمكن للصور الروحانية أن تُحْدِث حالاً في النفس، إما حال الكمال الذي يحدثه الجمال، والفنون الجميلة أو الأخلاق الرفيعة، أو حال النقص، الذي تحدثه المذمومات المقابلة. وهكذا تقوم الصور الروحانية بأدوار في كل جوانب النشاط الإنساني. وحتى الإلهام الذي يتلقَّاه الأنبياء؛ ينتمي إلى مقولة الصور الروحانية الخاصة، والتي لا تمر بالحس المشترك، بل يتم تلقِّيها مباشرةً من العقل الفعال. وكما الحال مع الصوفية؛ فإن خبرة [الأنبياء] تنتمي لمستوى الصور الروحانية الخاصة، حيث تكون قوى النفس فاعلة مثل الحس المشترك والمخيِّلة والذاكرة. لكن الصوفية يخطئون في هذه الصور الروحانية الخاصة ويعتقدون أنها عامة، ولذلك يتوهَّمون أن السعادة القصوى هي في تناسب قوى النفس الثلاث([29]).

وعلى الإنسان تدبير قواه المتنوعة -من القوة العاقلة وحتى القوة الغاذية- ويتوزع الناس وفق سيادة كل قوة فيهم. ففي بعضهم تغلب القوة الجسمانية، وفي القليل المختار منهم تغلب القوة الروحانية -ويضم ابن باجة الصوفية والزُهَّاد ضمن هؤلاء- لكن لدى أغلب الناس؛ تكون هذه القوى مختلطة. ويتحرك الإنسان بالصور الروحانية التي يمكن أن تكون أساسية مثل الملبس والمسكن والمأكل، لكن الملبس مثلاً يوجد في مستويين، فهو يقي البدن ويُستَخدم للزينة. وتتَّصل الفضائل بالصور الروحانية التي في ملكة المخيِّلة؛ لأن هدف الأفعال الفاضلة هو خلق انفعالات إيجابية والسعي لمدح الذين يرون هذه الفضائل في الإنسان. وأغلب الأرواح الإنسانية متعلقة بالصور الخاصة، والفلاسفة وحدهم هم الذين يصِلُون للدرجة الروحانية القصوى، وهي المعقولات الكليَّة البريئة عن المادة. ورغم أن الفلاسفة عليهم رعاية الصور الروحانية الجسمانية والخاصة كي يعيشوا وبكرامة؛ إلا أن غايتهم الأساسية هي الصور الروحانية العامة:

كذلك الفيلسوف يجب أن يفعل كثيراً من الأفعال الروحانية، لكن لا لذاتها، ويفعل جميع الأفعال العقلية لذاتها... وبالروحانية هو أشرف، وبالعقلية هو إلهيٌّ فاضل. فذو الحكمة [هو] ضرورة فاضل إلهي. وهو يأخذ من كل فعل أفضلَه... وإذا بلغ الغاية القصوى، وذلك بأن يعقل العقول البسيطة الجوهرية التي تذكر في «ما بعد الطبيعة»، وفي كتاب «النفس» وكتاب «الحس والمحسوس»، كان عند ذلك واحداً من تلك العقول، وصدق عليه أنه إلهيٌّ فقط، وارتفعت عنه أوصاف الحسية الفانية وأوصاف الروحانية الرفيعة ولاقَ به وصف إلهي بسيط([30]).

وكلمة «إلهي» هنا لا تعني أنه في هوية مع الله، بل تعني حصوله على صفات إلهية، وقد يأخذ أعداء ابن باجة هذه العبارات على أنها هرطقة. وبذلك يصل الفيلسوف إلى الحكمة الإنسانية القصوى، حيث تتصل بالعالم الإلهي.

الفلسفة السياسية

إذا قارَنَّا بين ابن باجة ومعلِّمه الفارابي؛ وجدنا أن الفيلسوف عند ابن باجه يصل للكمال الأقصى وهو «متوحِّد»، دون أن يعيش في مدينة فاضلة. يشرح ابن باجه في بداية «تدبير المتوحِّد» المقصود من كلمة «تدبير» باعتباره تنظيماً للأفعال من أجل غاية؛ والتدبير الأساسي سياسي، وهو تنظيم حياة المواطنين لمساعدتهم للوصول إلى الكمال الخاص بهم. وقد ميَّز الفارابي، متَّبِعاً أفلاطون، بين أربعة أنواع من المدن غير الفاضلة: الجاهلة والضالَّة والمتغالِبة والمتقاهرة، في مقابل المدن الفاضلة التي تتطلَّب الفلاسفة([31]) [لتدبيرها]. ويتبعه ابن باجة حينما يذهب إلى أن المدن الفاضلة هي التي لا يحتاج سكَّانُها إلى طبيب أو قاضٍ: «وذلك أن المحبَّة بينهم أجمع، فلا تشاكُس بينهم أصلاً»([32]). وكل الأفعال صواب في المدن الفاضلة: إذ يتجنَّب الناس المأكولات والمشروبات الضارَّة، ويمارسون الرياضة، ويسلكون بصدق. أما المدن غير الفاضلة؛ فهي التي تحتاج للأطباء والقضاة، وكذلك للنوابت. و«النوابت» هم أناس ليست آراؤهم من آراء الجمهور؛ وآراؤهم الشاذَّة عن الجمهور يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة، والذين تكون آراؤهم صادقة؛ هم سبب المدينة الفاضلة التي يمكن أن تأتي، والتي لا شقاق بين سكَّانها. وهؤلاء النوابت أصحاب الآراء الصادقة هم هدف ابن باجة، إذ يسعى لتدبيرهم في رسالته، خاصةً وأن المدن في عصره صارت فاسدة ولا يمكن إصلاحها. وبذلك خالف الفارابي في هذه النقطة، وكما ذهب ستيفن هارفي، فقد اعتقد ابن باجة في أن السعادة العقلية وحدها هي الممكنة، في حين أن السعادة السياسية مستحيلة([33]).

حازت فلسفة ابن باجة السياسية على اهتمام بالغ في الآونة الأخيرة([34])، لكنها ليست بأهمِّية نظريته في الصور. كان ابن باجة تلميذاً للفارابي، لكنه كان كذلك قارئاً حاذقاً لأعمال أرسطو المتاحة في زمانه، بحيث يمكننا القول إن الأرسطية دخلت الأندلس على يديه. وقد سعى بنظريَّته في الصور الروحانية إلى التوليف بين نظرية الصدور والرؤية الأرسطية للعالَم؛ إذ تصير الصور الأرسطية لدى ابن باجة قوى تُحَرِّك الأجسام، ومقاصد تُحرِّك الإنسان، وماهيَّات نوعية في البشر، وجواهر مفارقة. وطالما كان الإنسان صورة روحانية؛ فهو يقدر على تعقُّل المعقولات، رغم احتياجه للعون من العقل الفعَّال. والعقل الفعَّال وحدَه هو القابل لأن يُعْقَل دون مصاحبة صور روحانية:

فأما العقل الذي هو معقوله بعينه؛ فليس له صورة روحانية موضوعة له. فالعقل يفهم منه ما يفهم من المعقول، وهو واحد غير متكثِّر، إذ قد خلا من الإضافة التي تتناسب بها الصورة في الهيولى. والنظر من هذه الجهة هو الحياة الآخرة، وهو السعادة القصوى الإنسانية المتوحدة([35]).

لا تسعى فلسفة ابن باجة لتغيير العالم أو تفسيره، بل تبغي سعادة الإنسان الحقة. ويمكن للسعادة أن تتحقق جزئياً بتدبير حياة فاضلة بعيداً عن الصور الجسمانية، مثل التي يعيشها الزُّهَّاد والمتصوِّفة. لكن لا تكفي مثل هذه الحياة، فالطريق الحق [نحو السعادة الحقة] هو كمال القوة العاقلة وتَمَلُّك المعرفة الفلسفية.

ابن طفيل

في مقدمته لرسالته «قصة حي بن يقظان»؛ يرسم أبو بكر محمد بن طفيل القيسي (ت 581هـ/ 1185م) صورة مختلفة عن حال الفلسفة في الأندلس عن تلك التي قدَّمها صاعد. ينتمي ابن طفيل للجيل اللاحق مباشرةً لابن باجة، وهو يذكُره بإعجاب كبير، لكنه يشتكي من أن «أكثر ما يوجد له من التآليف، إنما هي [غير] كاملة ومجزومة من أواخرها..»([36]). ولا يذكر ابن طفيل أيَّاً من معاصريه، إذ لم يصل ولا واحد منهم إلى الكمال النظري حسب كلامه، أو لأنه لم يُقَدِّر بعد قيمتَهم الحقة. وبالنظر إلى أن اثنين من أهم معاصريه، وهما: موسى بن ميمون (529هـ/1135م - 600هـ/ 1204م) وابن رشد (520هـ/ 1126م - 595هـ/ 1198م) ينتميان لنفس جيله، فالغالب أنه كتب هذه السطور قبل 554هـ/ 1159م، حيث أتمَّ ابن رشد جوامعه على كتب أرسطو الطبيعية؛ التي جَلَبَت له الشهرة. ومن غير المحتمل معرفته بابن ميمون؛ نظراً للاضطهاد الذي تعرض له هو وأسرته، ما أجبره على الهجرة لمصر.

وبعد صاعد بقرن كامل؛ يخبرنا ابن طفيل عن كتب الفلسفة المتاحة في الأندلس وما ظهر فيها من تيارات فلسفية. وبجانب ابن باجة؛ عَرفَتِ الأندلس في عصره ثلاثة من كبار الفلاسفة: الفارابي في أعماله المنطقية أساساً، بجانب كتبه «كتاب الملَّة» و«السياسة المدنية»، وشرحه لأخلاق أرسطو؛ وابن سينا وموسوعته «الشفاء»، بجانب «الحكمة المشرقيَّة»؛ والغزالي وكتبه «تهافت الفلاسفة»، و«ميزان العمل» و«مشكاة الأنوار» و«المنقذ من الضلال» (لكن للغرابة؛ لم يكن «إحياء علوم الدين» معروفاً لابن طفيل). وإذا أضفنا إلى ما سبق عدداً كبيراً من أعمال أرسطو؛ نتبيَّن أن ابن طفيل ومعاصريه قد توافرت لديهم مصادر كافية للبحث الفلسفي.

لا نعرف الكثير عن حياة ابن طفيل([37]). وما وصلَنا عن حياته أن أسرته من مدينة المرية، وأنه ولد في قرية قادش بالقرب من غرناطة بين 503هـ/ 1110م - 510هـ/ 1116م، حينما كانت الأندلس تحت حكم المرابطين. وصار طبيباً وكاتباً لأمير غرناطة أبو سعيد؛ ابن الخليفة الموحِّدي عبد المؤمن (524هـ/ 1130م - 558هـ/ 1163م)، ثم صار طبيباً لأخيه؛ الخليفة الموحِّدي التالي أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن (558هـ/1163م - 580هـ/ 1184م)، وخدم الموحِّدين بشِعره، ودعا المسلمين للانضمام لقوات الموحِّدين في قتال المسيحيِّين. وكان أبو يعقوب يوسف وابن طفيل صَديقيَن مُقرَّبَين، وقدَّم ابن طفيل له العديد من العلماء من بينهم ابن رشد؛ الذي حل محل ابن طفيل بوصفه طبيباً للخليفة، عندما اعتزل ابن طفيل الخدمة في 578هـ/ 1182م. وتوفِّي ابن طفيل في 580هـ/ 1185م بمراكش، وحضر جنازته الخليفة الموحِّدي التالي أبو يوسف (580هـ/1184م - 594هـ/ 1198م).

ولا يمكننا الحكم على كفاءته في الطب اعتماداً على العمل الطبي الوحيد الذي وصلَنا، وهو «الأرجوزة»، المحفوظة كمخطوط في مكتبة القرويِّين بفاس. وقد ارتبطت معرفة ابن طفيل بالطب والعلوم اليونانية الأخرى، بما فيها الفلسفة التي تعلَّمها من أعمال ابن باجة وغيره من سابقيه [الفارابي وابن سينا والغزالي]. وقد ذكر عبد الواحد المراكشي في 1224 أن ابن طفيل قد وضع كتباً في الفلسفة والعلوم الطبيعية وما بعد الطبيعة، ويذكر رسالته «حي بن يقظان» التي بحسب المراكشي تشرح أصل النوع البشري وفق مذهب الفلاسفة، وكذلك يذكر «رسالة في النفس». كما يؤكد المراكشي على أن ابن طفيل كان حريصاً على الجمع بين الحكمة والعلوم الإسلامية([38]).

وأكَّدت دراسات معاصرة على اهتمام ابن طفيل بالتصوف، وهو ما يلقي ضوءاً على فكره. كانت الأندلس في ذلك العصر مليئة بالصوفية، وكان أهمُّهم محيي الدين بن عربي (ت 1240). وقد تحدَّى الصوفيةُ الإسلامَ الرسميَّ التقليدي كما تمثَّل في فقهاء المالكية ومتكلِّمي الأشعرية، وذلك بممارساتهم في الزهد وتعليمهم الروحي. وأرادوا الوصول بذلك إلى درجة عُليا من الكمال والسعادة في هذه الحياة الدنيا، وهي حالة غير قابلة للوصف حتَّى في أرقى لغة شعرية. وقد وافقهم ابن طفيل في هذا الغرض، لكنه رأى أن الطُّرق إليه متنوِّعة للغاية [ولا تقتصر على الطريق الصوفي]. فمن جهة؛ كان ابن طفيل يعلم أن ابن باجة أصرَّ على الطريق العقلي المحض، واعتقد ابن طفيل أن ابن باجة قد وصل إلى هذه الحالة، لكنه اعتقد أن طريقته في التأمُّل والتفكير غير كافية. ومن جهة أخرى؛ رأى ابن طفيل أن الصوفية يصلون إلى ذلك الغرض بطرائق غير عقلية، ولَمَّا كان أغلبهم ينقصهم التعليم الفلسفي المناسب؛ فقد تحدثوا عن الكمال والسعادة بطرائق مشوَّشة. أما الطريق الأنسب؛ فقد وجده ابن طفيل في «الحكمة المشرقية» لابن سينا؛ التي تتطلَّب تعليماً فلسفياً وتدريباً صوفياً في وقت واحد([39]).

ولشرح مذهبه كان أمام ابن طفيل خيارات عديدة، بما فيها الشِّعر. وكان أحد الخيارات هو طريقة ابن سينا الموسوعية، وخيار آخر هو النوع التمثيلي الذي استخدمه ابن سينا في «رسالة حي بن يقظان»([40])، حيث يقوم حكيم يمثِّل العقل الفعَّال برحلة رمزية روحية. أما ابن طفيل؛ فقد فَضَّل الأسلوب الروائي، أو القصة؛ وذلك كي يُضفي تلويناً واقعياً على أفكاره. وقد استعار عنوان ابن سينا وأضاف إليه عنواناً فرعيَّاً «في أسرار الحكمة المشرقية»، وهي إحالة أخرى لابن سينا. وتحمل الشخصيات الثلاث للقصة أسماء مأخوذة من أعمال ابن سينا: البطل وهو حي بن يقظان، وزميلاه أبسال وسلامان([41]). ولأن خطَّ سير القصة يتبع ترتيب المعرفة الفلسفية وتنظيمها [في العصرين الهلينستي والإسلامي]؛ فمن المناسب الحفاظ على هذا الخطِّ في عرضنا التالي لها. (لا يخصِّص ابن طفيل فصلاً عن المنطق في قصته، لكن يستخدم «حي» المنهج المنطقي في الجزء الأول من بحثه).

البحث عن أصل الحياة الإنسانية

تبدأ القصة بمولد «حي»، ويترك لنا ابن طفيل حرية اختيار روايتين لمولده: الأولى أن شقيقةَ حاكمٍ غيور لإحدى الجزر تزوجت سرَّاً بجارٍ لها هو يقظان، وولدت له طفلاً. وخوفاً من أن يقتل شقيقُها المولودَ؛ تضعه في تابوت وترميه في البحر، وتُلقيه أمواج البحر إلى جزيرة أخرى. ويجذب بكاء الطفل ظبية فقدت ولدها، فتتبنَّى الطفل وترضعه. وتعكس هذه الرواية قصة موسى المذكورة في سِفر الخروج وبالصيغة الواردة في القرآن (طه 39). والرواية الثانية هي التي يُفضِّلها ابن طفيل العالم والطبيب. ففي هذه الجزيرة تخمَّر جزء منها يملأه الطين على مر السنين، ووفي الوسط من هذه الطينة كان المزاج معتدلاً بين الحار والبارد والرطب واليابس؛ ما يناسب نمو الجسم الإنساني؛ فتولَّدت عن هذه الطينة في وسطها فقاعة [نفَّاخة] صغيرة جدَّاً([42])، منقسمة في وسطها إلى قسمين داخليين، ونما فيها «جسم لطيف هوائي في غاية الاعتدال» كان قابلاً لاستقبال الروح من الله. ويظهر تأثير ابن سينا هنا في أن الروح [أو النفس] تأتي من الله، ويقارنها ابن طفيل كما فعل ابن سينا بنور الشمس. وكعادته؛ لا يذكر ابن طفيل مصادره في هذه الرواية، وفَضَّل ذكر آيات قرآنية مثل: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا" (الإسراء 85).

وما أن تتَّصل النفس [الروح] بالفقاعة الرحمية؛ حتى تنمو منها كل الـمَلَكات الإنسانية. وداخل هذه الفقاعة [النفَّاخة] تنشأ ثلاث فقاعات، إحداها ينمو فيه القلب الذي هو المصدر الأصلي لحرارة الجسم الطبيعية، والثانية ينمو فيها الكبد الذي يمدُّ الجسم بالطاقة، والثالثة ينمو فيها المخُّ الذي يسيطر على عملية التغذي والإخراج. وكان على ابن طفيل أن يتبع جالينوس ويضيف الخصيَتين، لكنه أشاح عن ذِكر الجنس. وما أن اكتملت الأعضاء؛ حتى جفَّت الفقاعات ومحيطها اللَّزج وانشقت، ووُلِد الطفل. ومن هنا يعود ابن طفيل إلى سرد قصة «حي».

يقسم ابن طفيل حياة «حي» إلى أقسام يستغرق كل منها سبع سنوات([43])؛ في السبع الأولى ينشأ «حي» مع الظبية وأولادها، ويتعلَّم لغتها ولغة الطيور وباقي الحيوانات. ويكشف ابن طفيل هنا عن حياة التناغم بين الإنسان والطبيعة، وهو موضوع يتكرَّر في قصته. ويكتشف «حي» أفضلية الكثير من الحيوانات عليه؛ إذ هي أقوى منه وأسرع ومحميَّة بالطبيعة أكثر منه. وهنا يعتمد ابن طفيل على موسوعة «إخوان الصفا» وبحثها في أفضلية الحيوان على الإنسان.

وتموت الظبية؛ ما يفتح أمام «حي» فرصة التعرُّف على القلب، باعتباره مركز الحياة. ويغامر «حي» بتشريح الظبية ويجد القلب وصمامَيه، أحدهما ممتلئاً بالدماء والآخر خالياً. ويستنتج «حي» أن موت الظبية من خلو هذا الجزء من الدماء، وأنها هي المادة التي تملأ الجسم كلَّه، والضرورية لحياة الكائنات الحية. وهنا نرى كيف أن «حي» يستخدم المنهج المنطقي في اكتشاف ماهيَّة ما يراه وأسباب تغيُّره.

ويكتشف «حي» أن العنصر الذي فارق الجسم هو من طبيعة حارَّة، ويقضي السنوات السبع الثالثة في ملاحظة الطبيعة بحثاً عن مبدأ الحياة. وعندما يشاهد نشوب حريق؛ يتعجَّب من صفات النار ويبدأ في الاحتفاظ بالنار في كهفه. وبجانب فوائد النار العملية؛ يتأملها «حي» نظرياً، ويتوصَّل إلى أن النار والجزء الذي فارق قلب الظبية ينتميان لمقولة واحدة، لكنه يحتاج لدليل على ذلك، ويشرِّح حيواناً آخر. وعندما يفتح قلبَه، يجد في جزئه الأيسر بخاراً أبيض، يموت الحيوان باختفائه. ويستدل من ذلك على أن هذا البخار هو روح الحيوان أو نفسه التي تنظِّم الجسد.

ويُخصص «حي» السباعية الرابعة من حياته لتأمُّل عالم ما تحت فلك القمر، ويلاحظ ثلاثة مجالات فيه: الحيواني والنباتي والمعدني، ثم يبحث في صفة مشتركة في كل مجال. ويجدها في «الجسمية»، وأن كل جسم إما ثقيل وإما خفيف. ويجعل ابن طفيل بطلَه «حي» يتبنَّى النظرية الأرسطية في المادة والصورة، فكل أشياء عالم ما تحت فلك القمر مكوَّنة منهما، لكنه يتبع ابن سينا في رفضه لمادة أولى خالصة. فالمادة دائماً ما تحوز على الأبعاد الثلاثة، ودائماً ما تكون في جسم، لكنه يلاحظ أن أبسط الأجسام يمكن أن تفارقها ماهيَّاتها. فالماء بارد وثقيل (وليس بارداً ورطباً كما قال أرسطو)، ويمكنه أن يصير ساخناً، وخفيفاً أيضاً. وبمجرَّد ما أن يفقد الماء صفاته الأولية؛ حتى يتوقف عن أن يكون ماء ويفقد صورته المائية ويستقبل صورة أخرى. ويكتشف «حي» أن كل العناصر تسلك بهذه الطريقة، وأنها متولِّدة زمانياً، «فعلم بالضرورة أن كل حادث لا بُدَّ له من مُحْدِث، فارتسم في نفسه بهذا الاعتبار فاعل للصورة ارتساماً على العموم دون تفصيل»*.

وعلى الرغم من [هذا السياق الواحد في استدلال ابن طفيل، إلا أنه] مزدوج؛ فالصورة لديه هي مجرد استعداد أو قدرة على التسبُّب في حركات معيَّنة دون أخرى. وبالنظر إلى هذا التحديد للصورة، فإن الذي يَهِب الصورة للمادة يَهِب كذلك الأفعال المناسبة لهذه الصورة**. وبالتالي، فإن الفاعل الحقيقي ليس هو الفاعل القريب المباشر، بل هو «خالق الصور»، وهي النظرية التي يؤكدها ابن طفيل بالاستشهاد بالقرآن***. وكان «حي» في الثامنة والعشرين من عمره عندما توصَّل إلى وجود المبدأ الأول الفاعل**** وضرورته، وعندئذ عكف على البحث في طبيعته. وتوصَّل إلى أنه بما أن عالم ما تحت فلك القمر خاضع للكون والفساد؛ فقد تحوَّل إلى عالم ما فوق فلك القمر، فشاهد الحركات الدائرية للأجسام السماوية، وتوصَّل إلى أنها كلها تشكِّل جسماً كُريَّاً محدود الأبعاد، وأن الكون مماثل لكائن حي واحد. ويكشف ابن طفيل عن ازدرائه لعالم ما تحت فلك القمر بمقارنته ببطن الكائن الحي؛ التي تحوي «أصناف الفضول والرطوبات التي كثيراً ما يتكوَّن فيها أيضاً حيوان كما يتكون في العالم الأكبر» (المرجع السابق ص68).

البحث عن الخالق والاتحاد معه

واجه ابن طفيل خياراً صعباً في مسألة قِدَم العالم وحدوثه، بين موقف الغزالي المتكلِّم الأشعري الذي كان موضع تبجيل من الموحِّدين، وابن سينا الفيلسوف المفضَّل لديه. حاول «حي» الإجابة عن أسئلة طرحها الغزالي في «تهافت الفلاسفة»، لكن دون نجاح. وعندما تَحَيَّر في الإجابة هرب من هذه النقيضة *Antinomy بذهابه إلى أن النتائج المترتِّبة على [القدم والحدوث] واحدة. وهو يقوم بذلك بالبدء بافتراض حدوث العالم وتَكَوُّنه في الزمان، ما يستدعي فاعلاً أحدثه، وأنه لا يمكن أن يكون جسماً، ثم يفترض قِدَم العالم وقِدَم حركته كذلك، حيث يحتاج إلى محرك قديم [يحركه هذه الحركة القديمة؛ لأنه لا يمكن أن يتحرك أزلاً من ذاته]، ويتوصَّل إلى أن هذا المحرك القديم ليس جسماً. والحقيقة أن ابن طفيل يعتمد في حجَّته على فلاسفة كثيرين سبقوه، لكنه كان مبدعاً في الحل الوسط الذي قدَّمه.

ويقدِّم ابن طفيل برهانين آخَرين على وجود الله؛ البرهان الأول: هو من تركيب كل أشياء عالم ما تحت فلك القمر من مادة وصورة، وأنها تبقى موجودة بفضل الصورة وحدها. ويستنتج «حي» أنه بما أنها في احتياج للصورة في وجودها، فهي في حاجة إلى فاعل يهب لها هذه الصور، وأن هذا الفاعل هو خالقها. والبرهان الثاني: هو من تناهي ومحدودية طبيعة العالم وأشيائه، وافتقاره إلى قوة لامتناهية لإدامته في الوجود. ويعترف ابن طفيل بأن العلاقة بين العالم وفاعله لحظيَّة غير زمانية، وأن الفاعل مُتقدِّم على فعله [العالم] بالرتبة وبالتَّقدم المنطقي والأنطولوجي للعلة على معلولها. وكلا البرهانين ينتمي إلى تراث نظرية الصدور؛ الذي يمثِّله الفارابي وابن سينا، لكن كي يؤكِّد ابن طفيل على أن العالم مخلوق لله لا في زمان؛ يستشهد بالقرآن: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون" (يس، 82)([44]). وعند هذه المرحلة من المعرفة وصل «حي» إلى الخامسة والثلاثين وأتم السُّباعيَّة الخامسة من عمره.

وفي السُّباعيتين التاليتين من عمره؛ ركز «حي» على الاتحاد الصوفي بخالقه عبر تَأَمُّله في ماهيَّة الله وصفاته. وكما ذهب ابن سينا؛ فإن اللهَ عند ابن طفيل هو واجبُ الوجودِ، وليس لوجوده سببٌ، وهو سبب كل الموجودات. ويُشدِّد ابن طفيل على مفارقة الله للمادة كي يبرهن بالمثل على لامادية النفس البشرية. تنتمي مفارقة الله للمادة لماهيَّته، وكل ما يعقل شيئاً مفارقاً للمادة يجب أن يكون هو نفسه مفارقاً لها وليس جسماً: «فتبين له بذلك أن ذاته التي أدركه بها أمر غير جسماني لا يجوز عليه شيء من صفات الأجسام»([45]).

لكن لا يجب أن نبالغ في الحماس [لهذا البرهان على لا جسميَّة النفس]؛ لأن ابن طفيل يُنبِّه قارئه على أنه ليست كل النفوس خالدة. وكما أوضح الفارابي من قبله([46])، فالنفوس التي لا تتحصَّل على تعقُّل للموجود الواجب وهي في أبدانها لا يمكن أن تبقى بعد فناء هذه الأبدان. أما النفوس التي عرفت الله لكنها انحرفت عنه؛ فتبقى لكنها تُعاقَب، إما أبداً وإما لفترة حسب خطاياها. أما النفوس التي عرفت واجب الوجود وأخلصت له؛ فتبقى وتنال لذَّة رؤيته؛ لأن سعادتها هي في هذه الرؤية.

وتؤدي حجج ابن طفيل إلى نتيجة تقول: إن حالة الاتحاد الصوفي التي يسعى إليها الإنسان ستكون ممكنة في حياة آخرة، لكنه يريد بيان إمكانها في هذه الحياة الدنيا. ويصل «حي» لهذه الحالة -لكن لا يقول لنا ابن طفيل أي شيء عن كيفية وصوله لهذه الحالة- ويريد الحفاظ عليها باستمرار.

النقطة الفاصلة: انتصار التصوف

يصل «حي» لرؤية واجب الوجود في لحظة ما، لكنه لا يستطيع المحافظة عليها دوماً؛ لأن حواسَّه ومخيَّلته وبدنه يُعيقونه عن ذلك، وهو لا ييأس ويستمر في البحث عن موجودات تضمن له دوام الاتصال بواجب الوجود كي يحاكيها، ويجد أن الأجرام السماوية وحدَها تكشف عن الانتظام في حركتها واستمرارها. ومن هذه الملاحظة يأتي بهذه المماثلة: فإذا قدر على رؤية مفارقة رغم انحباسه في بدنه؛ فسوف يكون مثل النجوم وأفلاكها، القادرة على الرؤية المستمرة للمبدأ الأول رغم كونها أجساماً. ويريد «حي» التأكُّد من أن جسميَّته قريبة من جسميَّة الأجرام السماوية كي يتمكَّن مثلها من الاتصال الدائم بالمبدأ الأول وهو في الجسد. ويكتشف أن نفسه الحيوانية مماثلة لنفوس تلك الأجرام؛ لأنها تُحرِّك ذاتها، ولأنه مختلف عن الأجسام الطبيعية ذات الحركة الطبيعية القسرية إلى أعلى أو أسفل؛ فهو مثل الأجرام السماوية يمكنه الحركة دائرياً. ويستدل من ذلك على أنه إذا حاكى السماء في حركتها الدائرية؛ يمكنه أن يشاهد واجب الوجود على الدوام.

وهذا ما يتطلَّب إعداداً واعياً؛ فبما أن طبيعة الإنسان ثلاثية، حيوانية ونفسية-حيوانية (مثل السموات) وروحية خالصة، فعلى «حي» أن يُخْضِع الأولى للثانية أولاً، ثم يُخضِع الاثنين معاً للقوة الثالثة الروحية. وهذا يعني حياة من الزهد، لكن بمراعاة نظام الطبيعة الذي وضعه الله، بالامتناع عن تناول اللحوم أولاً. وللاقتراب من التَّشبُّه بالأجرام السماوية؛ عليه أن يقوم بثلاثة أفعال، أحدها يتوجَّه للعالم السفلي، وثانيها يتوجَّه لنفسه، وثالثها لواجب الوجود. فعليه أن يكون رحيماً بكائنات العالم السفلي من نبات وحيوان، وأن يكون طاهراً في نفسه مراعياً لها كما لو كان يدور حول نفسه مثل الجِرم السماوي، وأن يُرَكِّز فكره على الخالق؛ كي تذوب ذاته وتتَّحد به.

=

  ويجب أن نأخذ في اعتبارنا أن ابن طفيل يفترض أن الأفلاك السماوية عقول، وأنها النموذج الذي على «حي» أن يحتذيه. وإذا سلَّمنا بذلك؛ فسيبقى السؤال عن كيفية حصول «حي» على رؤية دائمة لواجب الوجود. ويشرح ابن طفيل ذلك بذهابه إلى أن «حي» يفقد وعيه الفردي ويصل إلى فناء ذاته بالكليَّة، حيث: «المشاهدة الصرفة والاستغراق المحض الذي لا التفات فيه بوجه من الوجوه إلا إلى الموجود الواجب الوجود، والذي يشاهد هذه المشاهدة قد غابت عنه ذات نفسه وفنيت وتلاشت»([47]).

وقد يتوقَّع القارئ أن ابن طفيل قد وصل بذلك إلى نهاية القصة، لكنه يفاجئنا بأن «حي» يستمر في رحلة سماوية. ومن دون أي برهان منطقي أو تجريبي؛ يخبرنا ابن طفيل أن «حي» يشاهد أولاً الفلك الأقصى وماهيَّته التي تشبه صورة الشمس المنعكسة على مرآة صافية، حيث ترمز الشمس لواجب الوجود. وبعد ذلك يتأمَّل الأفلاك التالية، بدءاً بفلك النجوم الثابتة والكواكب، مع ما يتصل بها من عقول. وبعد ذلك يهبط إلى عالم ماتحت فلك القمر، حيث يهب العقل الفعَّال أشياء العالم بصورها. ورغم أن النفوس الإنسانية تأتي من العقل الفعَّال، إلا أن مصائرها متنوِّعة. فيرى «حي» أن بعض النفوس التي ماتت مثل «المرآة المتَّسخة»، وهي نفوس الملعونين التي تعاني العذاب الأبدي. والبعض الآخَر من النفوس تلمع ببريق جمال وسعادة أبدية، ومن بينها نفس «حي». والكثير من النفوس فنى بفناء أبدانها.

والمعرفة التي يحصل عليها «حي» في هذه الرحلة السماوية الأخيرة مماثلة للتي حصل عليها بعد وصوله للفلك الأقصى، لكنها مختلفة عنها كيفيَّاً؛ لأن «حي» صار يتأمل ويشاهد مقام الألوهية دون تفكير عقلي؛ فموضوعات مشاهدته تظهر له من زاوية جديدة وبوضوح لامع([48])، لكن يستيقظ «حي» من مشاهدته الصوفية ليجد نفسه محبوساً في العالم الدنيوي، وتكرار الرحلة الصوفية على الدوام هي وحدها التي تضمن له البقاء في حالة المشاهدة لأطول فترة ممكنة. وفي هذه المرحلة يُتِمُّ «حي» سباعيَّته السابعة.

خلاصة: الدفاع عن النشاط الصوفي والفلسفي

بعد ذلك يتناول ابن طفيل مسائل قد يُتَّهم من أجلها بالهرطقة، عندما يأتي على تَعَرُّف «حي» على الإسلام عندما يلقى أبسال وسلامان، وهما من سكَّان جزيرة مجاورة. ورغم أن ابن طفيل لا يشير في البداية إلى أن دينهم هو الإسلام، إلا أن هذا ما يتَّضح ضمناً في سياق السرد:

فأما أبسال منهما؛ فكان أشد غوصاً على الباطن وأكثر عثوراً على المعاني الروحانية وأطمع في التأويل. وأما سلامان صاحبه؛ فكان أكثر احتفاظاً بالظاهر وأشد بُعداً عن التأويل وأوقف عن التصرف والتأمل. وكلاهما مُجِدٌّ في الأعمال الظاهرة ومحاسبة النفس ومجاهدة الهوى([49]).

وللاختلاف الشديد بينهما؛ قرر أبسال الانتقال لجزيرة «حي» كي يمارس التأويل المجازي للقرآن. ويلاحظه «حي» في صلاته وسرعان ما يكتشف أنه قريب منه، وبعد أن يتعلم لغة أبسال؛ ينقل إليه كل ما تحصَّل عليه من معرفة في عزلته في جزيرته دون أي معلِّم ودون أي كتاب سماوي، وبالعقل الإنساني وحدَه. ويرمز «حي» وأبسال للعقل الفطري الطبيعي، وترمز صداقتهما للاتفاق بين العقل والوحي [الـمُؤَوَّل مجازياً].

ويعتنق «حي» الإسلام (دون أن يعرفه تمام المعرفة)، ويتبنَّى عقائده وشعائره، لكن مع تحفُّظه على شيئين؛ أولهما: السبب في استخدام النبي للصور والتمثيلات المجازية بدلاً من التصريح بالحقيقة الإلهية مباشرة، وثانيهما: السبب في سماح النبي لأتباعه بالسعي نحو الخيرات الماديَّة*. إن استخدام التمثيلات والسعي لاقتناء الأموال عند «حي» يمنع الناس من الاقتراب من الله. وتؤدي هذه التحفُّظات إلى المرحلة الأخيرة من رحلة «حي»، وكي يدفع ابن طفيل المسلمين إلى تبنِّي الإسلام الحق؛ فعليه أن يتطرَّق لمسائل سياسية. فيذهب «حي» مع أبسال لجزيرة سلامان، لكنه يفشل تماماً في سعيه لهداية الناس هناك للطريق الحق**. وليس علينا الاعتقاد في أن الخليفة الموحِّدي هو الوحيد المقصود، فنهاية القصة يمكن أن تنطبق على أي حاكم مسلم، فابن طفيل يوجِّه نقداً عاماً لكل المجتمعات الإسلامية، مثلما فعل الصوفية.

وعلى الرغم من أن عبد الواحد المراكشي قد ذهب إلى أن هدف ابن طفيل في رسالته هو التوفيق بين الإسلام والحكمة الإنسانية؛ إلا أنه تناولها عرضاً؛ ما يُبْقِي لدينا انطباعاً بأن هدفه الأساسي اعتذاريٌّ apologetic، مخصَّص لتبرير الفلسفة والتصوف معاً. ولا شك في أن غرض ابن طفيل الأساسي هو بيان إمكان الاتحاد الصوفي بالله، وهو نهاية رحلة «حي» العقلية والروحية معاً، إلا أن الاعتقاد الذي يكمن في هذه الرحلة يبدو أنه مختلف: كان ابن الخطيب (ت 776هـ/ 1375م) يعدُّ ابنَ طفيل من بين المعتقدين في قدرة العقل الإنساني (الفطرة) على معرفة الحقيقة بالبراهين، وأن الأنبياء لا ضرورة لهم، وأن معرفة الله تكمن في النفس الإنسانية [لا في الوحي النبوي]([50]). ووفق هذا التفسير، فإن «حي» يمثِّل الإنسانية كلها، وتوضح قصته كيف على العقل أن يسلك [للوصول لحقيقة الألوهية]؛ وذلك عن طريق المنهج المنطقي والبرهان العقلي الصادق. لكن يبقى هدفه النهائي الاتحاد الصوفي [بالله]، وتستطيع الفلسفة قيادته لهذا الهدف، طالما استطاعت إيصاله لمرشد آخر [غير العقل وهو الحدس]. لقد نظر ابن طفيل إلى الفلسفة على أنها طريق للاتحاد الصوفي، بإيضاحها لإمكان هذا الاتحاد، وحمايته من التشوُّش خلال رحلته، لكنه لم ينظر إلى طريق الفلسفة على أنه جزء من حالة الاتحاد النهائية.

وبذلك نستطيع الاتفاق مع ابن الخطيب في الهدف المتضمَّن في رسالة «حي بن يقظان» لابن طفيل، وهو قدرة العقل المستقل على الوصول للحقيقة، لكن مع التأكيد على ضرورة مصاحبة الطريق الصوفي لهذه القدرة وهدايته للاستدلال العقلي نحو الغاية النهائية في الاتحاد. وعلاوة على ذلك؛ فإن ابن طفيل يُقدِّم لنا الطريق الصوفي على أنه الطريق الأساسي للوصول إلى خبرة الاتحاد بالله. فبعد السلوك في طريق التصوف؛ سيَخْبر الإنسان الصور اللامادية نفسها والتي توصلت إليها الفلسفة بالعقل، لكن بمشاهدة مباشرة؛ ما يدل على أن طريق التصوف لم يكن لازماً من البداية لإدراك المعقولات الأزلية.

وهكذا اشترك ابن باجة وابن طفيل في الاعتقاد في قدرة العقل الإنساني، وفي فقدان الثقة في مجتمع الأندلس الذي كان ينكمش تحت أقدام الأعداء المسيحيين، ويفقد اهتمامه بالعلوم بما فيها الفلسفة. وكما رأينا؛ فهناك اختلافات شاسعة بينهما: تمسَّك ابن باجة بالأرسطية، في حين فَضَّل ابن طفيل فلسفة ابن سينا التي رآها مُجدِّدة. وتمسَّك ابن باجة بإمكان تحصيل السعادة بالجهد العقلي وحده، في حين وجد ابن طفيل هذا الإمكان في الخبرة الصوفية. وكلاهما وضع الإنسان في مركز اهتمامها، وأرادا إيصاله لكماله الخاص به، في إطار لا يتعارض مع الدين لكن في استقلال عنه، لكنهما اختلفا في كيفية تحقيق هذا الكمال، كما في طبيعة هذا الكمال نفسه.

وكان كلاهما مؤثِّراً فيما بعده: فإلى ابن طفيل يرجع الفضل في سعي متصوِّفة الأندلس لإدماج الأفكار الفلسفية في مذاهبهم. أما ابن باجة؛ فلا شكفي أن تأثيره في ابن رشد في شبابه كان فارقاً في فهمه لأرسطو، وفي توضيح الكثير من المسائل الأرسطية الغامضة أمام فيلسوف قرطبة.

([1]) صاعد الأندلسي، طبقات الأمم، تحقيق حسين مؤنس، دار المعارف، القاهرة، 1998، ص96 – 108

([2]) M. Milla, Selomoh Ibn Gabirol: como poeta y filósofo (Grenada: 1993), S. Pessin, “Jewish Neoplatonism: Being Above Being and Divine Emanation in Solomon Ibn Gabirol and Isaac Israeli,” in Frank and Leaman [234], 91–110

([3]) حول حياة ابن باجة انظر: J. Lomba, Avempace (Zaragoza: 1989); D. M. Dunlop, “Remarks on the Life and Works of Ibn Bajja, Avempace,” in Proceedings of the Twenty-Second Congress of Orientalists (Leiden: 1957), 188–96. واسمه الكامل هو أبو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ بن باجة التجيبي.

([4]) الموشح هو قصيدة شعرية موضوعة للغناء، وتتميز بتعدد الوزن وتغير القافية، يجمع بين الفصحى والدارجة العامِّيَّة والأعجمية.

([5]) جمال الدين العلوي، مؤلفات ابن باجة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، بيروت، 1983.

([6]) Partial edn. and Engl. trans. by D. M. Dunlop, Journal of the Royal Asiatic Society (1945), 61–81. Full edn. and Spanish trans. by M. Asín Palacios, El régimen del solitario (Madrid: 1946). New edn. by Fakhry in Ibn Bajja [128], 37–96. Partial English trans. by L. Berman, “The Governance of the Solitary,” in Lerner and Mahdi [189], 122–33. New Spanish trans. by J. Lomba (Madrid: 1997). Edn. and Italian trans. by M. Campanini, Il regime del solitario (Rome: 2002).

([7]) Arabic edn. and Spanish trans. by M. Asín Palacios, “Un texto de Avempace sobre la unio´n del intelecto con el hombre,” in Al-Andalus 7 (1942), 1–47. Ed. in Ibn Bajja [128], 153–73.

([8]) “Carta del Adiós,” Al-Andalus 8 (1943), 1–87. Ed. in Ibn Bajja [128], 113–43

[هذه الرسائل منشورة في: ماجد فخري، رسائل ابن باجة الإلهية، دار النهار للنشر، بيروت، 1991. (المترجم)].

([9]) ماجد فخري، تعاليق ابن باجة على منطق الفارابي، دار المشرق، بيروت، 1994؛ المنطقيات للفارابي، تحقيق محمَّد تقي دانش بزو، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي (المجلد الثالث، الشروح على النصوص المنطقية، 3 - 219)، قم، 1990.

([10]) Edn. and English trans. by D. M. Dunlop in Islamic Quarterly 3 (1956), 117–38

[رفيق العجم، المنطق عند الفارابي، الجزء الثالث، دار المشرق، بيروت، 1986، ص125 – 143. (المترجم)].

([11]) Catálogo de las ciencias [Iḥṣāʾ al-ʿulūm], (Madrid: 1953).

[الفارابي، إحصاء العلوم، تحقيق عثمان أمين، دار الفكر العربي، القاهرة، 1949. (المترجم)].

([12]) ماجد فخري، تعاليق ابن باجة على منطق الفارابي، ص27

([13]) المرجع السابق، ص28

([14]) المرجع السابق، الصفحة نفسها.

([15]) للتعرف على هذا التقسيم القديم لأورجانون أرسطو، انظر، Black, D. L. Logic and Aristotle’s “Rhetoric” and “Poetics” in Medieval Arabic Philosophy (Leiden: 1990).

([16]) المرجع السابق، ص50

([17]) تُعْزى إضافة مقولة الفردي إلى المقولات الخمس باعتبارها السادسة إلى إخوان الصفا؛ انظر في ذلك، Netton, I. R. Muslim Neoplatonists: An Introduction to the Thought of the Brethren of Purity, 2nd edn. (London: 2002).

([18]) بدأ باينز بحثه في ابن باجه بالتمييز بين المعاني المختلفة للقوة لديه، انظر “La dynamique d'Ibn Bajja”, in Mélanges Alexandre Koyré, vol. II (Paris: 1964), 442–68; repr. in Pines [36], 450–74.

([19]) M. Wolff, “Philoponus and the Rise of Preclassical Dynamics,” and F. W. Zimmermann, “Philoponus’ Impetus Theory in the Arabic Tradition,” in R. Sorabji (ed.), Philoponus and the Rejection of Aristotelian Science (London: 1987), 84–120 and 121–9

* ابن باجة، شروحات السماع الطبيعي، تحقيق معن زيادة، دار التنوير، القاهرة 2014، ص148

* انظر في ذلك، سعيد البوسكلاوي، مفهوم الحركة التلقائية، أو من الحركة الطبيعية إلى الحركة الاختيارية، لدى ابن باجة. الفكر العربي المعاصر، (عدد 144 – 145) 2008

([20]) ابن باجة، شرح السماع الطبيعي، في: Lettinck, P. Aristotle’s “Physics” and its Reception in the Arabic World: With an Edition of the Unpublished Parts of Ibn Bajja’s “Commentary on the Physics” (Leiden: 1994)، ص114. كان سمبليكيوس قد تحدث عن هذا الحد الأدنى للقوة في CAG X, 1108–10.

([21]) شرح السماع الطبيعي، 116

[ابن باجة، شروح السماع الطبيعي، ص189. (المترجم)].

([22]) A. Maier, Studien zur Naturphilosophie der Spätscholastik, 5 vols. (1943–58), esp. vol. V (Rome: 1958); E. A. Moody, “Galileo and Avempace: The Dynamics of the Leaning Tower Experiment,” Journal of the History of Ideas 12 (1951), 163–93 and 375–422

[انظر أيضاً، إدوارد كرانت، أرسطو، يحيى النحوي، ابن باجة، وديناميكا جاليلي «البيزية». ترجمة وتقديم سعيد البوسكلاوي، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 15 مارس 2017. (المترجم)].

* انظر في ذلك، معن زيادة، الحركة من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة. دراسة في فلسفة ابن باجة الأندلسي، دار اِقرأ للنشر والتوزيع، بيروت 1985/ دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة 2014

([23]) جمال الدين العلوي، رسائل فلسفية لأبي بكر بن باجة، دار الثقافة، بيروت/ دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1983، ص135 – 139. هذه الرسالة هي عمل متأخر لابن باجة، إذ يذكر فيها رسالتيه «تدبير المتوحد» و«رسالة الوداع».

([24]) ماجد فخري، رسائل ابن باجة الإلهية، ص155 – 156. انظر أيضاً رسالته «في الوحدة والواحد» في، جمال الدين العلوي، رسائل فلسفية لأبي بكر بن باجة، ص140 – 149. والواضح أن سابقه في البحث فيهما هو الفارابي، انظر، الفارابي، كتاب الواحد والوحدة، تحقيق محسن مهدي، دار توبقال، الدار البيضاء، 1990

* وهي نظرية «واهب الصور» السينوية.

([25]) عرض ابن باجة هذه النظرية في، «كتاب الكون والفساد لابن باجة (محمد بن يحيى)»، تحقيق محمد صغير المعصومي، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، العدد 42، 1967، ص255 – 274، و426 – 450؛ الترجمة الإسبانية، J. Puig Montada (Madrid: 1995).

([26]) ابن باجة، كتاب النفس، تحقيق محمد صغير المعصومي، مجلة مجمع اللغة العربية بمدشق، العدد 34، 1959، ص655 – 656، والترجمة الإنجليزية، (Karachi: 1961), 106–7.

([27]) ماجد فخري، رسائل ابن باجة الإلهية، ص49 – 96

([28]) المرجع السابق، ص49. حول مفهوم «المعاني»، انظر الفصل الخامس عشر من هذا الكتاب.

([29]) المرجع السابق، ص55 [أي: إن الصوفية اعتقدوا خطأً أن الصور الروحانية أجسام تُرى بالعين، في حين أنها صور معقولة وحسب].

([30]) المرجع السابق، ص ص79 – 80

([31]) الفارابي، كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة، تحقيق ألبير نصري نادر، ص151 – 154. يوازي تصنيف الفارابي تصنيف أفلاطون في Republic 445d–573c.

([32]) ابن باجة، تدبير المتوحد، في رسائل ابن باجة الإلهية، ص41

([33]) Harvey, S. “The Place of the Philosopher in the City according to Ibn Bajja,” in Butterworth [187], 199–234

([34]) انظر أعمال M. Campanini, E. I. J. Rosenthal, O. Leaman, S. Harvey, and others

[وفي العربية: محمد المصباحي، الذات في الفكر العربي الإسلامي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2017 (الفصل الثالث: «المواطنة الفلسفية للمتوحدين - ابن باجة»). المترجم].

([35]) ابن باجة، اتصال العقل بالإنسان، في ماجد فخري، رسائل ابن باجة الإلهية، ص166

([36]) Ed. and French Ibn Tufayl [129], at 12–13. English trans. in Goodman [131]. Partial trans. by George N. Atiyeh in Lerner and Mahdi [189], 134–62

[حي بن يقظان لابن سينا وابن طفيل والسهروردي، تحقيق أحمد أمين. دار المعارف بمصر، بدون تاريخ، ص62. (المترجم)].

([37]) من أهم الأعمال المعاصرة: Gauthier [130], Conrad [123]؛ عاطف العراقي، الميتافيزيقا في فلسفة ابن طفيل، دار المعارف، القاهرة، 1995

([38]) عبد الواحد المراكشي، المعجب في تلخيص آثار المغرب، تحقيق محمد سعيد العريان ومحمَّد العربي العلمي، مطبعة الاستقامة، القاهرة، 1949، ص239 -242؛ الترجمة الفرنسية: E. Fagnan, Histoire des Almohades de Merrakechi (Algiers: 1893), 207–9.

([39]) كان هذا هو تأويل ابن طفيل للحكمة المشرقية لابن سينا، وهو تأويل خاطئ حسب ما ذهب غوتاس: D. Gutas, “IbnTufayl on Ibn Sina’s Eastern Philosophy,” Oriens 34 (1994), 222–241

([40]) Ed.A. F. Mehren, Traités mystiques d’Abou Ali al-Hosain ben Abdallah ben Sina ou Avicenne, fasc. 1: Risala Hayy Ibn Yaqzan (Leiden: 1889), 1–23. French trans. by A-M. Goichon, Le récit de Hayy Ibn Yaqzân, (Paris: 1959). Spanish trans. by M. Cruz Hernández, Tres escritos esotéricos de Avicenna: Risala de Hayy Ibn Yaqzan, R. del Pájaro, Qasıda del alma (Madrid: 1998).

[حي بن يقظان لابن سينا وابن طفيل والسهروردي، تحقيق أحمد أمين، وضع فهرسه وكشافاته محمَّد زينهم محمَّد عزب، تقديم سليمان العطار. دار المعارف، القاهرة، الطبعة الرابعة، 2008؛ يوسف زيدان، حي بن يقظان: النصوص الأربعة ومبدعوها. دار الأمين، القاهرة 1998. (المترجم)].

([41]) قصة أبسال وسلامان منشورة في: ابن سينا، تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات، دار العرب، القاهرة، 1989، وهي منسوبة بترجمة حنين بن إسحق.

([42]) حول الأصول الأرسطية لنظرية التولد الطبيعي، انظر، R. Kruk, “A Frothy Bubble: Spontaneous Generation in the Medieval Islamic Tradition,” Journal of Semitic Studies 35 (1990), 265–82.

([43]) يرجع تقسيم حياة الإنسان إلى فترات من سبع سنوات لكل منها إلى أصول قديمة، فقد قسم صولون عمر الإنسان إلى عشر مراحل سباعية السنوات، انظر fr. 19 (27) in E. Diehl, Anthologia Lyrica Graeca, 3rd edn. (Leipzig: 1949), 38–40. ولأبقراط كتاب مترجَم للعربية في الموضوع نفسه عنوانه «الأخلاط»، والمحتمل أنه المعروف باسم Hippocrates, De Septimannis، انظر H. Roscher, Die hippokratische Schrift von der Siebenzahl in ihrer vierfachen Überlieferung (Paderborn: 1913).

* حي بن يقظان لابن سينا وابن طفيل والسهروردي، تحقيق أحمد أمين، سبق ذكره، ص65

** وهنا يظهر أثر نظرية ابن سينا في «واهب الصور».

***"فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (الأنفال 17).

**** المبدأ الأول فاعل عند ابن طفيل متَّبعاً في ذلك كل فلاسفة الإسلام السابقين عليه، والذين اختلفوا عن المبدأ الأول عند أرسطو الذي لم يكن فاعلاً بل كان محرِّكاً أول لا يتحرك ولا يفعل بذاته بل بتوسُّط الأفلاك والعلل الطبيعية.

* استخدم المؤلف مصطلح «نقيضة» Antinomy لوصف إشكالية القِدَم والحدوث، وهو ما يذكِّرنا بالنقيضة الكوزمولوجية الأولى من كتاب «نقد العقل الخالص» لكانط، والتي توقَّف فيها كانط عن إصدار الحكم، مكرِّراً ما فعله ابن طفيل، ومن بعده موسى بن ميمون في «دلالة الحائرين».

([44]) يقدِّم ابن طفيل برهاناً ثالثاً وهو ما يكشف عنه العالم من آثار الحكمة وبدائع الصنعة، التي يجب أن ترجع إلى حكيم مبدع. المرجع السابق، ص70

([45]) المرجع السابق، ص71. تستبق عبارات ابن طفيل استدلال ديكارت على خلود النفس في التأمل الثالث: superest tantum ut examinem qua ratione ideam istam a Deo accepi [يبقى أمامي أن أفحص في كيفية تلقِّي هذه الفكرة من الله]. [أي: إن الله نفسه هو مصدر فكرة لامادية النفس وخلودها. (المترجم)].

([46]) الفارابي، كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة، تحقيق ألبير نصري نادر، ص ص111 – 112

([47]) حي بن يقظان لابن سينا وابن طفيل والسهروردي، تحقيق أحمد أمين، سبق ذكره، ص77. هذه الحالة هي ما يُعرَف في أدبيات التصوف بالفناء، انظر تعريف الفناء من متصوِّف مبكِّر هو الجنيد، A. H. Abdel-Kader, The Life, Personality and Writings of al-Junayd (London: 1962), 31–9 (Arabic) and 152–9 (English).

[علي حسن عبد القادر، رسائل الجنيد، القاهرة، 1988، ص31 وما بعدها. (المترجم)].

([48]) هناك إشكالية متعلقة بإدخال الرؤية الصوفية في هذه المرحلة من رحلة «حي»؛ فهو يصل إلى مرحلة الفناء التام بالزهد، بحيث تكون قيمة تأمُّلاته الفلسفية السابقة ثانوية، وهو يُحقِّق مشاهدة حقيقة الألوهية مباشرة دون جهد عقلي، فما الحاجة للفلسفة في هذا السياق؟ يعوِّل ابن طفيل هنا على نظرية ابن سينا في الحدس، حيث يتم الحصول عليه بعد جهد عقلي طويل، وحيث لا يكون هناك تناقض بين الحدس والعقل.

([49]) حي بن يقظان لابن سينا وابن طفيل والسهروردي، تحقيق أحمد أمين، سبق ذكره، ص86

* المرجع السابق، ص89

** انظر في ذلك، فؤاد بن أحمد، الفلسفة والفشل عند ابن طفيل: مقالة في نقد التواصل بين الفيلسوف والمدينة، دار الهادي، بيروت، 2007؛ إبراهيم بن عبد الله بورشاشن، مع ابن طفيل في تجربته الفلسفية، دار الثقافة، الدار البيضاء، 2010

([50]) لسان الدين بن الخطيب، روضة التعريف بالحب الشريف، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، دار الفكر العربي، القاهرة (بدون تاريخ)، ص ص275 – 276؛ تحقيق محمد الكتاي، دار الثقافة، بيروت، 1970، ص280 – 283. كان ابن الخطيب ضد هذه الرؤية بالطبع، لكن فلاسفة عصر التنوير الأوربي سوف يتبنوها، ورآها لايبنتس في توافق تام مع حقيقة الألوهية. انظر، Die philosophischen Schriften von G. W. Leibniz, ed. C. J. Gerhard, vol. II (Berlin: 1879), 563 (Letter 12, Feb. 15, 1697).