الفيلسوف الفرنسي هنري بينا: المتعصب لا يضع أية مسافة بين كيانه ومعتقداته


فئة :  حوارات

الفيلسوف الفرنسي هنري بينا: المتعصب لا يضع أية مسافة بين كيانه ومعتقداته

الفيلسوف الفرنسي هنري بينا:

المتعصب لا يضع أية مسافة بين كيانه ومعتقداته(*)

حاورته: روزا موساوي([1])

ترجمه: عبد الرحيم نور الدين 


هنري بينا - رويز Henri Pena-Ruiz فيلسوف فرنسي له العديد من المؤلفات، كان آخرها "القاموس العاشق للعلمانية" (منشورات بلون 2014)، بعد كتاب عن ماركس "ماركس مع ذلك" (منشورات بلون 2012).

يقوم هنري بينا – رويز في هذا الحوار، كمدافع متحمس عن العلمانية، وكمحب للعدالة الاجتماعية، بكشف أسباب التعصب الديني، كما يذكرنا بأن العلمانية والحريات ليست حكرا على حضارة دون أخرى؛ إنها، في الغرب، غنائم المعركة ضد الامتيازات العمومية للأديان ولهيئة الإكليروس (تفكير في مبدأ يبقى في فرنسا هو حجر الزاوية للعيش الجماعي).

روزا موساوي: ما المرآة التي تضعها الأفعال الإرهابية المقترفة في مقر "شارلي إيبدو" Charlie-Hebdo وفي "بوابة فنسين" La Porte de Vincennes، أمام وجه المجتمع الفرنسي؟

هنري بينا - رويز: الإرهاب الذي ذهب ضحيته أصدقاؤنا ورفاقنا في "شارلي إيبدو"، شاهد على عودة تعصب، اعتقد الناس أنه أصبح شيئا من الماضي. من هو المتعصب؟ سبق لفولتير أن كتب في رسائله الفلسفية Lettres philosophiques، المتعصب هو من لا يضع مسافة بين كيانه وبين معتقداته. يعتقد المتعصب خطأ، عندما توضع معتقداته موضع مساءلة، أو كاريكاتير أو هجاء وسخرية، أنه مسّ في شخصه. وبناء عليه، فهو مستعد لاستعمال عنف هائج. إن مظاهر التعصب، والعنف، والهمجية، ليست حكرا على دين دون آخر؛ فالتاريخ الطويل للغرب اليهودي-المسيحي هو أيضا وادي دموع، والشاهد على ذلك محارق محاكم التفتيش، كما كان المحقق الكبير الإسباني توماس توركيميدا Tomas Torquemeda يقطع ألسنة المهرطقين قبل قذفهم لتلتهمهم ألسنة النيران. ومن وجهة نظر أخرى، إن نشأة الاعتراف بالحقوق الإنسانية، وحرية الضمير، والمساواة في الحقوق بين المؤمنين والملحدين واللاأدريين تمت في خضم الصراع ضد هذا التعصب الديني. لم تنشأ هذه المبادئ المؤسسة للعلمانية، والتي توجد في قلب الجمهورية، من حضارة، بل من مقاومة الأحكام المسبقة التي كان شجعها الدين الكاثوليكي في الحضارة الغربية. وبالنتيجة، فعندما ندافع عن العلمانية، وعن مبادئ الجمهورية الثلاثة، الحرية، المساواة، الإخاء، فنحن لا ندافع عن خصوصية جماعة ثقافية، بل ندافع عن مكتسبات أصبحت ممكنة بفضل الصراع ضد الأحكام المسبقة للغرب اليهودي - المسيحي، وضد النظام البطريركي.

التعصب فعل لأقلية صغيرة جدا من المؤمنين، وفضلا عن ذلك، فالتعصب الإكليروسي لمحاكم التفتيش استهدف هو أيضا مؤمنين رفضوا العقائد المفروضة من طرف التنظيم الرسمي للكنيسة. الكاثار[2] Cathares الذين أغرقهم الصليبيون في الدم خلال حصار بيزيي Béziers، كانوا مسيحيين يرفضون فساد كنيسة مبتعدة، في نظرهم، عن الرسالة الأصلية للمسيحية. إنهم كانوا يريدون العودة إلى صفاء الرسالة الروحية التي رأوا أن الامتيازات الدنيوية للكنيسة الكاثوليكية قد أفسدتها.

 وفي الإسلام أيضا، التعصب هو فعل أقلية. المجرمون الذين يريدون جعل الإيمان مصدرا للقانون، وفرض تواطؤ السياسي والديني، هم أقلية صغيرة جدا. الأغلبية الساحقة من المواطنين الفرنسيين الذين يدينون بالإسلام، يعيشون في انسجام تام مع الجمهورية العلمانية. لا وجود لحرية مطلقة في مجتمع عليه أن يضمن تعايش الحريات الفردية وتعايش الكائنات البشرية. يجب تسجيل إظهار المعتقد الديني في نظام الحق الذي يسمح لكل الكائنات البشرية بالعيش سوية.

روزا موساوي: ما هي الشروط المادية التي سمحت بعودة التعصب الديني؟

هنري بينا - رويز: يزدهر فقدان الأمل في هذه العولمة الرأسمالية، التي تهدم الحقوق الاجتماعية، والخدمات العمومية، وتخصخص كل شيء، مقدمة كل هذه التحولات كقضاء وقدر. مع تعميم المعتقد الليبرالي الجديد، ظهرت أشكال جديدة من الفقر والبؤس، مانعة قطاعات سكانية كاملة من الشروط الدنيا للاكتمال الإنساني. رجوع العصبيات السياسية - الدينية يتم في هذا السياق بالذات، لكن لا يجب أن نكون ميكانيكيين في تحليلاتنا. المتعصبون ليسوا جميعا بؤساء، إن بعضهم يتمتع بتمويلات سخية من أقوياء هذا العالم. علينا ألا ننسى أن الإمبريالية الأمريكية لم تكن تجد أية غضاضة في التعامل لمدة طويلة مع التيار الإسلاموي كما شجعت تطوره. لا ينبغي قراءة التعصب الديني فقط كمفعول، بل ينبغي البحث عن أسبابه دون السقوط في التفسيرات التبسيطية، التي تكتفي بالبعد الاقتصادي، ولا السقوط في القراءات الماهوية، مثل تلك التي يقترحها صامويل هنتنغتون Samuel Huntington في كتابه "صدام الحضارات". إن ما يميز الثقافة الإنسانية هو كونها تتحرك. هناك إسلام أنوار مثله فلاسفة القرن 12 م العرب، أمثال ابن رشد. وفي هذا الصدد، يأتي التأكيد الصائب لآلان دو ليبيرا Alain de Libéra على التوسط العربي في إنقاذ الدراسات والموروث القديم، وانتقالهم في وقت كانت العصبيات المسيحية تحرق المكتبات وتدمر المعابد.

روزا موساوي: ما الذي ينبغي فهمه من فكرة "المساس بالمقدس"؟

هنري بينا - رويز: لا يمكن تقبل أن تُفرض مفاهيم من هذا النوع نفسه في وسط النقاش العمومي. إنه تراجع مرعب، لا يوجد شيء مقدس، إلا بالنسبة للمؤمنين. الملحد ذو النزعة الإنسية سيتخذ احترام الكائن الإنساني كشيء مقدس، لا إلها ما. البوصلة الوحيدة هي الكوني، بيد أن الاعتقاد الديني ليس كونيا؛ لذلك لا يمكن أن يكون مصدرا لأي قانون. جنحة التجديف غير مقبولة بالمرة في جمهورية علمانية. أن يشعر مؤمن ما بتعرض مشاعره للإيذاء جراء هجاء أو كاريكاتير أو نقد عنيف، فهذا مفهوم تماما. لكن الشيء نفسه سيحدث لو تعلق الأمر بملحد! إن المتدينين لا يمتنعون من جهتهم عن توجيه الانتقاد القاسي للملحدين، وتقديمهم كناقلين للا أخلاقية. لا يتحرج كاردينال مدريد، المشهور بكونه من الأتباع الجدد لفرانكو، غنكو فاريلاRonco Varela، من وصف الملحدين بالوحوش؛ فهل ينبغي منعه من التفوه بمثل هذه الألفاظ؟ لا! لنتركه يتحدث، وبالمثل يجب أن نترك الملحدين أحرارا في نقدهم وتهكمهم من الأديان وجعلها موضوعا للكاريكاتير. أجل إن الكاريكاتير يجرح إحساس المؤمنين، لكن منذ متى كانت العواطف الخاصة لجزء من الساكنة هي التي تملي القانون الجمعي؟ إذا نجح المؤمنون في جعل القانون يعاقب كل نقد أو كاريكاتير للمعتقدات، سيكون من حق الملحدين أيضا فرض معاقبة القانون لكل نقد موجه ضد الإلحاد، كما سيمكن للشيوعيين المطالبة بتجريم الخلط بين الشيوعية والستالينية. لن يقف الأمر عند هذا الحد! ستطال الرقابة كل رأي كيفما كان. هل ينبغي فرض الرقابة على رواية "الراهبة" La Religieuse لديدرو Diderot، أو على كتاب "رسالة في التسامح" Traité sur la tolérance لفولتير Voltaire؟ ليس بإمكان الديمقراطية منع التعبير عن وجهة نظر لمجرد كونها تؤذي مشاعر أحد الأشخاص. المطالبة بالحماية القانونية للمعتقدات لا تتعلق فقط ببعض المسلمين. عندما كان الكاردينال لوستيجير Mgr Lustiger مطرانا لمدينة باريس، أسس جمعية الاعتقاد والحرية، وقد كانت هذه الجمعية تتابع قضائيا كل مساس بالكاثوليكية وبالمسيحية. لنتذكر أن القاعة السينمائية المسماة فضاء "سان ميشال"، في الحي اللاتيني بباريس، تم إحراقها لأنها عرضت فيلم مارتن سكورسيزي Martin Scorsese  "الإغراء الأخير للسيد المسيح".

روزا موساوي: وهل للهجاء نفس الوقع عندما يستهدف ديانة أقلية، تمارسها أغلبية ساكنة فقيرة وخاضعة للتمييز العنصري؟

هنري بينا - رويز: المساس بأشخاص أو بمجموعات أشخاص بسبب أصولهم أو معتقداتهم الدينية يقع تحت حكم العنصرية، وبالتالي تحت حكم الجنحة. أما نقد ديانة ما، فإنه يستهدف الأفكار والمعتقدات لا الأشخاص. ولذلك، فإن وضع قانون يُجَرِّم التجديف لن يحل مشكل أنواع التمييز العنصري التي تقفل باب الشغل في وجه أبناء المهاجرين الذين يعيشون في منطقة سين سان- دوني Seine Saint-Denis.

روزا موساوي: لماذا يتعرض مبدأ العلمانية، الذي يسمح للمؤمنين وغير المؤمنين بالعيش سويا وبحقوق متساوية، لهجوم مكثف؟

هنري بينا - رويز: كل مثل أعلى يشكك في الامتيازات يحارب من طرف المحظوظين. العلمانية لا تهاجم الديانات، بل تهاجم الامتيازات العمومية للديانات. وعلى أي حال، فإن مؤمنين من كبار المفكرين دافعوا عن هذا المبدأ، كفيكتور هوغوVictor Hugo الذي كان مسيحيا، وعادى مجموعة تجاوزات رجعية معينة للكنيسة الكاثوليكية، إلا أنه اتخذ مبكرا موقفا مساندا للعلمانية بقوله: "أريد أن تكون الدولة في بيتها والكنيسة في بيتها". فقد كان تصريحه هذا خلال مناقشة قانون فالو Falloux بالجمعية الوطنية. هذه هي الصيغة الكاملة لفصل الكنيسة عن الدولة، خمسة وخمسين سنة قبل قانون 1905. العلمانية ليست معادية للدين كمسعى روحي، إلا أنها، وفي إطار اهتمامها بالتحرير، تهاجم النزعة الإكليروسية كإرادة هيمنة سياسية.

روزا موساوي: توظيف العلمانية من طرف اليمين المتطرف لحجب معاداته للمواطنين ذوي الانتماء الديني الإسلامي، حَوَّل أنظار اليسار عن المعركة العلمانية...مع أن النائب الشيوعي إتيين فجون Fajon Etienne هو من كان اقترح سنة 1946 دسترة هذا المبدأ، فكيف يمكن لليسار استعادة العلمانية مجددا؟

هنري بينا - رويز: جزء فقط من اليسار هو من تخلى عن المعركة العلمانية، وأساسا داخل الحزب الاشتراكي، في اليسار الثاني، الذي أفسد مبدأ العلمانية بدافع الزبونية الانتخابية أو بسبب مقاربة ميالة إلى الرحمة. أما مارين لوبين Le Pen Marine والجبهة الوطنية، فلا يحق لهما بأي حال من الأحوال ادعاء الانتماء إلى المعركة العلمانية. وفضلا عن ذلك، فإن التصريحات الأخيرة لجان ماري لوبين Jean-Marie Le Pen واضحة جدا، فهو يؤكد بأن ابنته لم تستعمل مفهوم علمانية سوى بطريقة "عارضة". الرجل الثاني في الجبهة الوطنية، برونو غلنيش Bruno Gollnisch، عارض بكل قواه، في البرلمان الأوروبي، تعديلا اقترحته نائبة أوروبية برتغالية، يعترف بالحق في الإجهاض لكل نساء أوروبا. وقد قام بهذا باتفاق مع لجنة الندوات الأسقفية للاتحاد الأوروبي. ولم أسمع قط بمهاجمة الجبهة الوطنية للمعاهدة البابوية لألزاس – موزيل Alsace-Moselle، التي تثقل كاهل دافعي الضرائب بأجور الكهان والأحبار والقساوسة، ولا بمهاجمتها لجنحة التجديف التي ما تزال سارية المفعول في هذه المنطقة بمقتضى قانون ألماني. كما أن الجبهة الوطنية لم تطلب أبدا إلغاء قانون دوبري Debré الصادر بتاريخ 31 دجنبر 1959، الذي ينظم التمويل العمومي للمدارس الخاصة الدينية. وإذن، فإن مارين لوبين لا تجسد وجها من وجوه العلمانية، إنها توظف مجرد استدعاء العلمانية وليس العلمانية ذاتها، لإخفاء رفضها لجزء من الساكنة الفرنسية.

روزا موساوي: أربعة ملايين شخصا تظاهروا يوم 11 يناير (2015) للدفاع عن حرية التعبير، بينما النقاش السياسي يتركز حول الأجوبة الأمنية...

هنري بينا - رويز: ليس بإمكان سياسة أمنية أن تكون مشروعة، سوى إذا كانت متمفصلة مع سياسة وقائية، فانعدام الأمن هو دائما نتيجة لسبب اجتماعي. وطالما لم نحارب هذا السبب الاجتماعي، يبقى من غير الممكن ادعاء محاربة انعدام الأمن. عندما كان نيكولا ساركوزي Nicolas Sarkozy يدعي الاستجابة لتطلع الناس إلى الأمن، بوضعه شرطيا في زاوية كل زقاق، فهو في الحقيقة كان يتيه عن الطريق. "مناطق الانفلات الأمني" هي قبل كل شيء مناطق بدون خدمات عمومية، وبدون مناصب شغل، مناطق سمحت فيها قلة التصنيع لأنواع الاقتصاد الموازي وللجريمة بالازدهار، هذه المناطق محتاجة أكثر للرابط الاجتماعي لا إلى القمع. بيد أن إعادة نسج الرابط الاجتماعي تحتاج إلى إعادة بناء اقتصاد إنساني، خالق لمناصب الشغل، وقادر على القطيعة مع ظاهرة تركيز الثروة في قطب وتركيز الفقر في قطب آخر.


[1] المصدر: جريدة "لومانيتي" L’Humanité الفرنسية، الجمعة 6، السبت 7 والأحد 8 فبراير 2015

* نشر هذا المقال في العدد 14 من مجلة "ذوات" الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث

[2] حركة دينية لها جذور غنوصية بدأت في منتصف القرن الثاني عشر، وقد اعتبرتها الكنيسة الرومانية الكاثوليكية آنذاك أنها طائفة خارجة عن الدين المسيحي. كانت الكاثارية موجودة في معظم مناطق أوروبا الغربية، وهي من أصل فرنسي جنوبي (ويكيبيديا).