المُتخيل والتسامح: جدل الأنا والآخر


فئة :  مقالات

المُتخيل والتسامح: جدل الأنا والآخر

1-

يؤشّر المتخيل إلى مجموعة من القواعد والمسلمات الصلبة التي تطلق صوراً أو نماذج محددة من التصورات والرموز والشفرات والدلالات التي يرقى الكثير منها إلى حدّ البدهيات الراسخة، وتملأ الوعي الخاص بالفرد أو الجماعة المؤمنة بهذه القواعد. ولا يكون المتخيل واحداً لدى الجماعات الإنسانية المختلفة في تجاربها التاريخية، إذ تلعب الثقافة الحيّة المغذية لوعي الجماعات، والتي يأتي أغلبها من سلاسل من التجارب الجمعية بل وحتى الفردية أحياناً، دوراً حاسماً في تشكيل المتخيل الخاص بها، إضافةً إلى أنّها تحدد آليات اشتغاله وتحافظ على الميكانزمات الخاصة بتجديد وظائفه وتجلياته في السلوك والأفعال، وفي شكل استمراريته ومداها، وكيفيات تطوره أو تعديله.

إنّ حقيقة صعود نجم المتخيل تعد اليوم من السمات المميزة للحساسية التاريخية، ومن الممكن رصد جميع الحقول التي ينشط فيها هذا المتخيل، إذ هو بحسب جيلبار دوران يوجد كاملاً في كل المجالات التاريخية وفي كل العصور والثقافات[1]، وبالتالي ليس مخصوصًا بثقافة معينة أو بقومية عرقية بعينها أو بجماعات دينية محددة دون أخرى، ولكنه بالحَرِيّ يمتد ليشمل التجربة الإنسانية برمتها، بيد أنّه بحكم الميكانزمات التي يتمتع بها عبر مسار تجلياته وتموضعاته التاريخية يتجاوز الحدود المرسومة لشروط التجربة، ومع أنّ هذا يعني أنّ المتخيل "يوشك أن ينتمي إلى كل ما يعدّ خارج الواقع المتعين وكل ما ليس حقيقة تدرك إما مباشرة وإما عن طريق الاستنتاج المنطقي أو عن طريق التجربة العلمية"[2]، فإنّه يحضر في جملة التمثلات الخاصة بالذوات الفردية والجماعية منعكسًا في السلوك والفعل والرمز والإشارة والسيمياء الجمعية، من غير استطاعة منا أن نشير إليه بوصفه شيئًا يمكن لنا أن نحدده بوضوح.

وبحكم هذه الميكانزمات، فقد يشكّل المتخيل عالماً مغلقاً من الأفكار والرؤى العصبوية والتحيزية الضيقة التي تتحكم في رؤيتنا لذواتنا وللآخرين وأسلوب تعاملنا معهم وتشكيل صورتهم النمطية وغير النمطية، تطرفاً أو انغلاقاً على الذات، أو أنّه قد يسمح بفضاء معقول من التسامح تجاه الآخر والقبول به مختلفاً عنّا.

لماذا يستدعي فهم المتخيل مشكلة الآخر، قبولاً أو رفضاً؟ يبدو أنّ المشكلة هنا تكمن في أنّ الذات الواقعة تحت ضغط هيمنة متخيلها الخاص، تعيش لحظة التجربة، وإذا لم يكن الآخر هو المتماثل معنا في تصوراتنا، فهو بالضرورة المختلف عنا لكونه يمتلك تصورات وقواعد مختلفة، ومن زاوية أخلاقية أو ثقافية فإنّ الذات تعتقد أنّ هذا الآخر لا ينطوي على أيّ فضيلة، لأنّ محددات الفضيلة وشرائطها بحسب رؤية هذه الذات تكمن في التماثل الذي يشي بأنّ الأنا تفرض امتدادها في الآخر، ليس بقصد استيعابه أو التفاعل معه أو العيش المشترك معه في هذا العالم، وإنّما بمعنى أن تحوز عليه أو تتملكه وتمتص ذاته، وتُفقده استقلاليته وحريته.

إن التجرّد من حالة الفضيلة كما يحددها المتخيل في صورة المطابقة، يعني تسويغ إسقاط مجموعة من الصور والإكراهات على الآخر، وهي التي تشكل بالتالي سياجاً حمائياً مغلقاً أمام الذات يجعلها لا تفكر في موضوع التسامح، بما هو موقف للذات أو الروح تجاه الآخر يسمح لنا قبوله كما هو، أي في الحقيقة كونه مختلفاً عنّا وليس متطابقاً معنا، أو أنّه يمثل امتداداً لتصوراتنا الخاصة حول الأشياء والعالم والقيم، وهكذا فإنّ الآخر الذي لا يشاركنا قيمنا وتصوراتنا وأفكارنا، كما نعتقد بصحتها في التعبير عن الحقيقة وبثبات قواعدها، لا يمكنه بسبب عدم قدرته أن يفلت من إسار مقولاتنا الثقافية الخاصة بنا وأن يشكل بنظرنا كينونة مكتملة تخصه، تماماً مثلما نعتقد أنّ كينونتنا وحدها هي المكتملة وأنّ ثقافتنا وقيمنا هي وحدها الناجزة بالتمام، والمرشدة الأمينة لفكرة الحقيقة، ولكي يحوز هذا الآخر على كينونته المماثلة أو الموازية لكينونتنا فإنّه لا بُدّ أن ندمجه في متخيلنا نحن، وإلاّ فإنّه لا يمكن له إلاّ أن يكون أحد الأمرين: إمّا أنّه ناقص الكينونة الثقافية والأخلاقية والاجتماعية، أو أنّه يبقى الآخر- الغريب عنا، الذي ننظر إليه بريبة وخوف وشك وعندئذ يكون مُبرراً أن لا يحظى بالتسامح.

-2-

على جبهة النفسانيين، ثمة تصور خاص يرسم العلاقة بين المتخيل وصورة الآخر في هذا المتخيل، وكذلك حدود التسامح واللاتسامح. إنّ هذا التصوّر يخصّ نوعيْن من الأنا تقومان بأدوار مختلفة مُستمدة من وحي المتخيل الخاص بهذه الأنا. ثمة أوّلاً وجود للأنا التي تنطبق على الكينونات الفردية في هذا العالم الإنساني، ثمة ثانياً الأنا المرآوية التي تكون في موقف أشدّ تمسكاً وإصراراً بمفهومي المطابقة أو التماثل بين الذوات ولا تعترف بالفوارق بينها. وهذه الأخيرة غالباً ما تكون غير متسامحة تجاه الآخر كائناً من كان هذا الآخر، لأنّها لا تستطيع أن تفهم التماثل أو المشابهة من وحي الثقافة الخاصة بالجماعة، ولكن بالأحرى من وحي التصورات المركزية الخاص بها، وتكون هذه الأنا المرآوية المتمركزة حول الذات من أكثر الأنماط المتعصبة والرافضة وربما المتطرفة إلى حدّ ممارسة العنف تجاه الآخر، وتبقى محكومة بشكل من اللاعقلانية بإصرارها تبني أنموذج وحيد من نماذج المطابقة يضيق إلى أبعد الحدود. إنّ الآخر في هذا الأنموذج، هو دائماً غريب، سواء كان قريباً في المكان أو الزمان أم بعيداً لا فرق، والغريب لديها يكون مرفوضًا في حدود درجات اختلافه عنا، وفي أفضل الأحوال، فإنّنا نستطيع أن نملك من الذرائع ما يكفي للارتياب منه، أو رسم صورة سلبية عنه، ولكنه إذا شاء أن يغير في رسوم الصورة النمطية عنه في أذهاننا، فإنّه يتوجب عليه أن يغير درجة اختلافه عنا، لأنّه بنظر الأنا المركزية يُعدّ هو المسؤول عن هذا الاختلاف وليس موقفنا من المحكوم بالمتخيل وقواعد هذا المتخيل، وفي هذه الحال فإنّ عليه أن يمر أو أن يعبر كل قواعد متخيلنا ومسلماته، وبمعنى آخر أن ينتمي إلى هذا المتخيل لكل ما يحمله من رأسمال رمزي، وعندئذ لا يبقى الآخر الغريب، وإنّما الشخص المطابق أو المتماثل معنا.

-3-

إنّ الإشكالية التي يطرحها المتخيل في إطار قضية التسامح، تنطوي على مُعضلتين أمبريقية وإيبستمولوجية. الأولى تخص قضية الأنسنة بما هي في واحد من أهم أبعادها قضية تطبيقية وسلوكية أكثر من كونها قضية نظرية، فبالأنسنة يتجسد فعل التسامح ويتحقق السلوك التسامحي مع الآخر بصورة عملية وواقعية، بما هو إنسان وحسب، فبمقتضى إنسانيته بالتعريف يتطلب منا هذا موقفاً عملياً يتسم بمساحة جيدة من التسامح، أما الثانية فتخص مسألة أو وهم التطابق بين المتخيل والحقيقة، فالموقف الذي يكون فيه الشخص لا متسامحاً، هو موقف يسمح له إقامة مثل هذا التطابق بين المتخيل والحقيقة بحسب مصادراته الخاصة لهذه الحقيقة، وعندئذ يكون تعريف الحقيقة سهلاً مُيسراً، فالحقيقة هي دائماً كل ما يتطابق مع قيمنا وثقافتنا وتصوراتنا للأشياء والمواقف والأفكار، وإذا كان موقف الشخص الذي يقابلنا متفقاً مع هذه التصورات أو القيم، فهو بالتأكيد يجب أن يحظى بالتسامح، لأنّه شريك في الحقيقة التي يرسمها متخيلنا وندافع عنها.

يبقى أن نقول بأنّ تحدّينا الخاص هنا في مشكلة التسامح، يتعلق بمفهوم التسامح نفسه، الذي يتجلى أولاً بين الثقافات المختلفة، أو بين الثقافات القومية - الوطنية - الإثنية - الطائفية. والواقع أنّ كل أشكال الارتياب والصور السلبية تنشط في المخيال الجمعي من خلال هذه الفضاءات المشبعة بالأسطرة المدعومة بقوة القيم التي تؤطر متخيلنا الواسع الممتد، الذي تسمح به هذه الفضاءات، حيث بإمكاننا أن نكون في هذه الحال مطمئنين إلى أنّ خاصية عملية الإنتاج التكراري المضاعف لصورة الآخر كفيلة بحمايتنا من نواياه التي غالباً ما نتصورها مُهددة لوجودنا وقيمنا الخاصة التي نؤمن بها، أي أنّنا نجعل من مسألة سلوكية طبيعية، قضية مصيرية، تهدد بديهياتنا الثقافية أو الدينية أو القومية أو الوطنية، بصورة مباشرة.

في مثل هذه الوضعية المربكة التي تكون عليها ذواتنا الحالمة دائماً بوهم المطابقة والتماثل، بوصفها ضمانة أكيدة من كل النوايا التي يمكن أن يحملها الآخر تجاهنا، فإنّنا نكون أقرب ما نكون من موقف(صناعة الخصم)، فإذا لم يكن الآخر متماثلاً معنا بالتعريف، فهو بالتأكييد خصم حقيقي أو مفترض، وفي هذه الحال تصبح القيم عملية تطابق مع مطلقها، وتكشف عن لا نسبيتها، وبالتالي لا تسامحيتها، فالآخر إمّا أن يكون مثلنا، وعندئذ يكون متمثلاً لقيمنا، أو أن يصبح تحدياً لنا وشكلاً من أشكال التهديد لقيمنا الخاصة النسبية.

وهكذا فإنّنا نعود إلى الأمر الدوري في المنطق مرة ثانية كما أوضحنا سابقاً، لأنّ هذه المعادلة الأخيرة، تعيد طرح مسألة المطابقة على المستوى المعرفي بين (الحقيقة والقيم) التي نؤمن بها، فالافتراض الأساس الذي نمتلكه في هذا الموقف ينطوي على وهم بمطابقة الحقيقة لقيمنا وتصوراتنا. والنتيجة أنّ الواقع الذي يبين أنّ الثقافة والقيم أمران نسبيان فيما يتعلق بالحقيقة يجري حذفه واستبعاده أثناء لعبة الأنا مع المرآوية التي تعيشها. إنّ هذا الحذف بما هو إيديولوجيا يسهل للبشر أو لفئة مجتمعية أو طائفة دينية أو عرقية، أن تنتج ثقافتها العصبوية الخاصة بها، وتصادر تسويغها وفقاً لقواعد هذه الثقافة.

-4-

كيف يمكن الحديث عن الاختلاف وثقافة الاختلاف؟ الاختلاف أمر واقع يتطلب التسليم به- إنّ الأمر يتعلق بضرورة فحص الإسقاط العصابي الذي ترى فيه الذات نفسها متضخمة ولا محدودة، وإعادة تفسيره بطريقة مختلفة. والمسألة تتعلق كما يبدو بالتاريخ والثقافة والرأسمال الرمزي المتمثل بالدين والعقائد والقوميات والأعراق والأجناس، وغيرها من الأشكال الثقافية التي تشكل رأسمال الجماعة التي تخصها، المسؤولة عن تشكيل هويات صلبة ومغلقة، تجلب معها بعض أنماط الصراع والتنافس بين الفضاءات الثقافية المختلفة.

المثقفون والمفكّرون الذين يقدمون التسامح فضيلة أخلاقية وإنسانية تتمتع بها الذات أمام مُطلق الضمير الإنساني، يقترحون برامج عمل تؤسس لإعادة إغناء التسامح، وجعله علاقة تواصل إنسانية متبادلة حية بين الأفراد والجماعات، برامج عابرة للقوميات والإثنيات والثقافات المغلقة، وكافة صور وأشكال المؤسسات والنظريات التي تؤكد التعصب للثقافة اللاتسامحية، للوصول إلى ترسيخ قيم التسامح.

وبطبيعة الحال فإنّ هذا البرنامج يقترح حلولاً سياسية واجتماعية وثقافية وحقوقية قانونية وأخلاقية، بعضها يمتلك صفة الإلزام المستمد من الدولة والمجتمع والهيئات الوطنية والقومية والأممية، وبعضها الآخر يبقى في إطار الإلزام الأخلاقي، والموقف الخاص بالضمير الإنساني.

إنّ الديمقراطية الواسعة، والمبادئ العلمانية، والمؤسسات المدنية، الثقافية الإنسانية جميعها فضاءات أثبتت جدواها ونجاحها في تعميق مساحة التسامح وتوسيعها، وتعميق ثقافته. وقد يكون من المستغرب لدى بعضهم أن يطرح العامل الديني باعتباره مساهمًا في مسألة التسامح، بسبب اعتقادهم أنّ الأديان ينظر إليها بوصفها مُحفزًّا ومنتجًا لثقافة التعصب واللاتسامح، بل إن الكثيرين نظروا للأديان باعتبارها عاملاً معيقاً للتقدم في فكرة التسامح، ولكن هذا الموقف بطبيعة الحال، نظر إلى العامل الديني انطلاقاً من بعض الأحداث والمواقف التاريخية، فضلاً عن ممارسات أتباعه، والقائمين على تسيير شؤون المقدس من العلماء ورجال الدين، ولكن النظرة إلى الدين بوصفه شريكًا في هذه المسألة، تنطلق من المبادئ الروحية العميقة والصافية للدين، ومن طبيعة الوعود التي يُطلقها تجاه الإنسان وحقوقه، بحيث أنّه إذا ما تم تفسيرها في بُعدها الكوني الإنساني، فإنّها تُعد مساهماً حقيقياً في قضية التسامح.

من هنا يمكن القول إنّ مسألة التسامح على صلة وشيجة بالقضية الدينية، فقد ارتبطت مقولة التسامح بالقضية الدينية عند جون لوك بوصفها الحل العقلاني الوحيد لمشكلة الخلاص التي نشأت داخل المسيحية. وعبّر عبد الرحمن بدوي عن فكرة التسامح الديني في مقدمته لرسالة جون لوك في التسامح فقدم عرضًا وتحليلاً لأهم الأفكار في التسامح الديني.[3]

لكن التحدي الأساس يبقى قائماً في طبيعة التفجرات العنيفة التي تحصل هنا وهناك في مناطق مختلفة من العالم لاعتبارات عديدة: دينية وسياسية واقتصادية وعرقية وثقافية، تعيد طرح المشكلة من جديد، وتحمل معها دورة جديدة لعوامل الإنتاج المتبادل للمتخيل، وتبقى صورة الآخر ضمن المعادلات التقليدية، الصراع - التنافس - التاريخ - الثقافة، ومعها كل الأوهام الخاصة بالمطابقة والتماثل، وأخيراً أوهام القيم المعبرة عن الحقيقة، كل الحقيقة. وهكذا فإنّ سردية الحقيقة وما تمثلة من انحراف نحو العنف والتعصب والثقافة الأيديولوجية وما تنطويه من التمثلات الخاصة بالعلاقة بين الأنا والآخر لم تنحصر في الواقع بتاريخ الأديان وأتباعها، بل هي بالأحرى مرافقة للوجود البشري في جميع استراتيجياته ومؤسساته القومية والوطنية والقبلية ومصالح الدولة القومية التي أقامت سرديتها ونشطت سيما في حقبتها الكولونيالية الاستعمارية في تغذية المخيال الجمعوي عند الغرب نفسه وباقي الشعوب على حد سواء.


[1] أنظر: مقالة لوسيان بُوَا، من أجل تاريخ المتخيل، مجلة العرب والفكر العالمي، العددان29-30، 2010، مركز الإنماء القومي، بيروت.

[2] المرجع السابق نفسه.

[3] أنظر: كتاب رسالة في التسامح لجون لوك مع التقديم الخاص لعبد الرحمن بدوي، دار الغرب الإسلامي، 1988