المجموعَةُ القَصَصِيَّةُ "المرأة التي في الأعلى".. شوَاغلُ واقعِ الهَامشِ فِي المتخيَّلِ


فئة :  قراءات في كتب

المجموعَةُ القَصَصِيَّةُ "المرأة التي في الأعلى".. شوَاغلُ واقعِ الهَامشِ فِي المتخيَّلِ

المجموعَةُ القَصَصِيَّةُ "المرأة التي في الأعلى".. شوَاغلُ واقعِ الهَامشِ فِي المتخيَّلِ

ركّزت الكتابةُ في المجموعةِ القَصَصيّةِ (المرأة التي في الأعلى) للكاتب عبد الجليل الشّافعي، الصّادرة عن دار القرويين 2020، على آلية المزجِ بين الواقعيِّ والمتخيّلِ في سبكِ خيوطِ الكتابةِ، باعتبار أنَّ طبيعةَ البَسْط تستمِدُّ شرعيَّتها من الفضاء الرّيفيّ والهامشِيِّ في علاقته بمستوياتِ التّخييل والإبداع، وتكشف مستوياتُ الكتابة النّظرة التي تنفذ إلى المواضيع التي تشْغلُ هُمومَ الإنسان المحلّي الذي يعيش أزماتهِ الدّاخليّة ويبحث في الكتابة عن صدَاها بما تُؤَمِّنه المشاهِدُ والصّور القصصيّة التي تمتح من هواجس اليوميّ والواقعيّ، فضلا عن وجود المرأة بما أفضى لأنْ تشكّل موئلا سرديّا في تفاصيل الحَكْي، ولاسيما أنّ هاته القرينَة التي تربطها بالعالم والواقع وصدى الهامشِ يَصِلُ وُجُودها بالآخر، وفي هذا المزجِ الفريدِ الذي تتمرْكَزُ فيه الأنثى تطفُو قطف سرديّة تُشَيَّدُ بشكلٍ آليٍّ تحتَ طائلة الصّلة الوثيقَة بالعالمِ، وتظهرُ من خلالها، إمّا باعتبارها شريكةً أو فاعلةً أو عابرة أو عنصرا مؤثرا في السّرد، بما تشكّلُهُ من وساطةٍ بين ذاتها والآخر من زاويةٍ، وبين وجودها في سياقات متباينة تنفذ برؤيةِ المبدع لتمثُّل المرجعيّات الاجتماعيّة والثّقافيّة والسّياسيّة من زاوية أخرى. إذن كيف تردم الحدود بين الواقعيّ في الرّيف وبين المتخيّل في تشْكيلِ الحكايات السّرديّة وشواغلِها الثّقافيّة والاجتماعيّة في المجموعة القصصيّة؟

1. واقع الذّاتِ الرّيفيّة وذاتُ المتخيّل:

نلمسُ أنّ الكاتب مهما حاول الاشتغالَ على إنتاجاتِه الإبداعيّةِ في سعيٍ حثيث لفصل وجوده الذّاتي بالفضاء والعالم الذي ينتمي إليه إلّا أنّه يفشل في ردع همومه وشواغلِه التي تتسرّبُ للكتابة بشكل قسْري، باعتبار أنّ الأمم "لا تستطيع أنْ تتخلّص من نسج القصص حول ماضيها"[1]، لتتشكّل العلاقة الدياليكتيكيّة بين الواقعي والمتخيّل، وقاعدة المَدد في التّمثيل لا تنفصل عن طبيعة المَتْحِ من الواقعيّ بالنّظر إلى كون الكتابة في آخر المطافِ عالمًا رمزيّا مبثوثا في الورق، وتتجلّى هجنة الكتابة من خلال ردم حدود الواقعيّ بالمتخيّل في استهلالِ القصّ الذي نلمسُ فيه وجودا لذات الكاتب في فضائها وواقعها الهامشيّ الذي تتحرّك فيه، ونُسجّلُ قول السّارد: "قبل عشرين سنة من الآن، سأل أستاذ تلامذته في قرية نائية ذات موسم دراسي، في ابتدائية قرية تنبتُ في كبد سهل مبسوط مزركش زاهيَ الألوان كزربية أطلسية. سأل أستاذ القرية التي تصعب الحياة فيها وإن كانت على السّهل"[2]، ونخالُ أنّ في المعطى مقتطفا سيريّا يكاد لا يغادر ذهن الكاتب الذي أفصح داخل السّرد بالانتماء إلى الرّيف أولا، أمّا سياقات الحكي المتواترة في القصة فتُظهِرُ حُلْم أحد أولئك التّلاميذ بأنْ يصير كاتبا، في مقابل سيْر البقيّة في غير ذاك السّبيل، الأمر الذي جعله عرضة للسّخرية والمهانة من طرف زملائه لاحقا، ونذكر في سياق التّعبير داخل أطوار السّرد عن رغبة الفتى بشكلٍ صريح قولَه: "أستاذ، أنا أريد أن أصير كاتبا..."[3]، وفي المقطع يتوارى الكاتب خلف جبّة هذا التّلميذ الرّيفي، إذْ ذاك ارتأى في هندام السّارد تهجين الواقعة بتقنية الاستعادة ودمجها في قصص تنتمي إلى جنس آخر غير السّيرة الذّاتية أو الرّوائيّة، ممّا أودى بالكاتب إلى توثيق حدثِ الماضي في الحاضرِ كإجابة ضمنيةٍ خلّاقة تُبيّنُ فلاحَه في نيْل ما كان يصبو إليه، ويدمج صوت الكاتب في صوت السّارد المتكلّم، ليكون الحكي معْبَرا للاعتراف، وطريقة خلّاقة تستثمر المعرفة الذّاتية في التّسريد بشكل غير مباشر.

يتواتر استمرار وجود الذّات في المتخيّل السّردي، ونصِلُ بدورنا مرحلة الطّفولة بمرحلة الشّباب، بما فيه امتدادٌ للذّات داخل الإنتاج القصصيّ ولو تحت رداء أحد الفواعل داخل السّرد بما تضمنه سعة المتخيّل في تمويه القارئ، ونسجّل قول السّارد: "اختار عمر أن يدرس الأدب العربي متمسكا بحلمه الطّفوليّ في أن يصير أستاذا، وتحمّل، لأجل ذلك، عتب والده سنين الجامعة كلّها: غير قولي، آعُمَرْ فاش غادي تفيدك اللغة العربيّة، واش العربيّة كتوكل طرف الخبز هاد لوقتْ"[4]، إنّ وظيفة تمثيل الواقع غير قابلة للتّجرّيد من ذهن المبدع، وأطوار السّرد تبوح بمكنونات الذّات في اتّصالهَا بفضائها وسياقها، ولعلّ الذّات تعرض تمثلات الذّاكرة العربية التي تبخّس أدوار اللّغة العربيّة، حيث يُنظر إليها في الأرياف برؤيَةٍ تبخيسيّةٍ تزدري فعلَ ممارستِها وتدبّرها والسّير في مساقاتِها، ولعلّ هاته النّظرة تُعزى إلى طابعها التّجريدي، باعتبار أنّ ما يحوم بالأرياف مرهون بالمادّي، والمخيال ينصرف إلى كلّ ما يتغلّف بالجهد البدنيّ، وأنّ استثمار الفكر يظلّ قاصرا على الأداء وضمان أفقٍ أكبر للحياة، ممّا يُغلِّب التّوجهات النّفعية المهْنيّة اليدويّة على أنقاض ما يرتهن بالعقل، وهاته صورة نهَلَهَا المبدع في ارتباطه الوثيق بوسطه وبفكرة تدريس اللغة العربيّة التي تحتلّ هامشا أكبر في حياته، وبتجربة فرديّة تُدغم في المتخيّل.

2. الهَامشُ وتسريدُ الرّيفِ:

مالتِ المجموعة القصصّيّة في طيّاتِها إلى تشخص واقع الأرياف عبر جملة من الحكايات القصيرة التي تستمِدُّ رُوحَها من الهامش الذي يُشكّل بدوره نسقًا يُلامسُ حدود الواقع ومظاهره المختلفة، ونستشفّ في أطوار السّرد الطّبيعة المرآتيّة التي تهتدي إلى رصد المشخّصات الواقعيّة للهامش، والتقاط المواقف السّاعية إلى تمثّل مختلف الوضعيّات الاجتماعيّة والثّقافيّة والسّياسية، والكشف عن كمون الذّات وهواجسها، لأنّ "هذا الاقتراب من هامش الحياة بجزئيّاتها وتفاصيلها، يظهِر أنّ الكتابة التي تتعيّن جديرة باسمها هي تلك التي تمضي بالمتخيّل إلى أفق التّمثيل الثّقافي لأسئلة الجماعات والثقافات التّحتية"[5]، ونسجِّلُ في هذا الصّدد:

1.2. الانتسابُ للرّيف:

تغتني التَّجربة الإبداعية بانطلاق الكتابة من هموم المبدع وشواغله بما يُنتجه الانتساب للمكان، ولعلّ هذه السّمة تضمن الفرادة والتّميّز في الكتابة، وبالانصرافِ إلى العمل نتوقّف لنثير عديد العبارات التي تُستقى من واقع المبدع، ويسعى إلى استثمارها في الكتابة، ونسجّل قول السّارد: "سأل أستاذ القرية التي يعانقها نهر سَبو المقدّس"[6]، إنّ رمزية الفضاء تُنتدب إثر عامل الانتماء، ولعلّ وظيفةَ الجغرافيّة تكتنز مشاعر ذاتيّة بليغة، وتُبرهن تجلّيات الشّعور وما يوليه المبدع من عناية للفضاء المكاني الذي يتغلغل في وجدانه، ويمثّل هذا الحضور في مكنونات المبدع أهميّة ترتهِن بالخلفيّة الثّقافيّة التي ينطلق منها من أجل تمثيل الوقائع، وهي استراتيجيّة تبتغي بعث الهامش من خلال الاهتداء إليه في الصّوغ الأدبي، بما يجعله فضاءً متميّزا وأصيلا يغني التّجربة، ولا سيما هو يحملُ صفات القداسة كما عبّر السّارد عن ذلك، وبالتّالي فهو لا يدعُ مجالًا للشّكّ في ذلك الوصف لموقفه الرّمزي الذي يعبّر عن وثاقة الارتباط بالمكان بشكل روحيّ.

تستمدّ الكتابة تجلّياتها من داخل الانتماءِ، ويتسرّب المكان إلى المبدعِ في كثيرٍ من الأحَايِين بالنّظر لوجود المكان في خلده، ولعلّ تمثّل المكان في علاقته بالانتساب يطّرد في أطوار السّرد، إذْ يقول السّارد: "تبرعم حمّان وسط الدّوار"[7]، وهذا التّمثّل يظهر بجلاء هواجسَ الكتابة في اتّصالها بالفضاءِ المكانيِّ، وكذا تجلّيات انتماء الشّخصية للدّوار/الرّيف، باعتبار أنّ شخصيّة «حمّان» تستمدّ عمقها ومقوّماتها من الهامشِ، وتبرم مع الرّيف نفس دلالاتِ الماهية والتّكامل، وهو مبلغ آخر من وظيفة صوغ اسم الشّخصية بما يلائم المشّخصات العامّة وتدقيق التّطابق الرّمزيّ بشكلٍ يومئ إلى الانتساب الكامل للرّيف.

يعدّ الانتساب للرّيف مستوى آخر يَعبُر بالكتابة إلى استيعاب الهامش من طرف المركز، ونتوقّفُ في السّرد لنثير ما يلي في قول السّارد: "في الطريق النصف معبّدة، الطريق الطويلة مثل وجع الفقراء والتي كنّا نقطعها، نحن أطفال القرية بشكل يوميّ شتاء وصيفا، حرّا وبردا"[8]، ويتعيّن علينا الإشارة إلى اللّمح التي يضمّنها السّارد في الحكي، حيث يتماثل الفضاء الجغرافيّ المهشّم بمآسي الجماعة الهامشيّة التي يعتصرها الوجع، ويمثّل هذا التّقابل التّمايز الاجتماعيّ والمكاني بين المركز والهامش الذي تستمرّ فيه الحياة بأدنَى شروط العيشِ، وهنا فإنّ الهامشيّ يقاوم مصيره الجماعيّ خصوصا وأنّ السّرد جاء بصيغة ضمير الجماعة الدّال على المتكلّمين (نحن)، وينهض هذا التّمثيل بتعريةِ البنية الجغرافيَّة المهترئة بما يُوزاي المعاناة التي تحيط بالطّفل في سياق البحث عن الذّات والنّهوض بوضعها بما يؤمّنه التّعليم، وهكذا فإنّ رمزية المكان تُعبّأ بكثير من المحمولات الدّلالية التي تَبسط الانتماء أولا، وباعتباره أداة لتعرية التباينات الاجتماعيّة والمفارقات التّراتبيّة بين المراكز والأرياف.

2.2. تلفّظات الهامشيِّ:

يَنبعُ من السّرد صوتٌ هامشيُّ يبتغي السّارد إثْره ضمان مساحة كبرى لسماع صرخته، بما يجسّد هيئة الخطاب الرّيفيّ الذي يأذن لمعرفة طبيعة الصّدى الذي يحتاج لمن يتعرّف عليه، ولعلّ أشكال الملفوظات تترك انطباعًا للهواجس التي يحملها المتكلّم، لأنّ كلمات المتكلّم "هي دائما عيّنة أيديولوجيّة (Idéologème)"[9] ونقرّ بأنّنا سنركّز على الملفوظات التي تنتمي للكلام الدّارج، والتي استعان السّارد فيها بتقنية السّرد المعروض المباشر، حيث نسجّل ملفوظ الصّغار في سياق البحث عن ارتواء فضولهم: "السيمو، وآلسيمو، شنو بغيتي، علاش غادي ديما وجاي هاكا، واش مكتعياش؟"[10]، وهنا فإنّ احتفاظ السّارد بالنّبر ذاته دون أن يُقْدم على فعل التّحويل، يجسّد طبيعة بنية اللّغة ودلالاتها، ولعلّ هذا التّمثّل الثّقافي يظهر فضول الطّفل الهامشيّ دون أن يحمل همّا يكبُره، لينحصر تفكيره السّاذج في تفاصيل الحياة البسيطة التي تهتمّ بما يشغل نوازعه الصّبيانيّة، دون أن ينسلخ فكره إلى واقعه الاجتماعي أو الثّقافي أو الاقتصادي، ويظلّ متقوقعا بما يثيره في الآخر.

نذكر أنّ استمرار الخطاب المشترك يحمل موقفا معينا، حيث إنّ اللغة التي يكتبها السّارد هي التي "يتكلّمها بكيفيّة مشتركة متوسط النّاس المتعايشين في بيئة معيّنة، ويتعامل معها الكاتب كأنّها الرأي العام، أو الموقف اللّفظي العادي لوسطٍ اجتماعيّ معيّن"[11]، وسنتصل بهذا المنظور في ما سنأتي عليه، وفي ظلّ ازدياد تجلّيات الفصح عن صوت الرّيفي/ الهامشيّ، نعرض بعض الخطابات ذات الصّلة بالسّياقات والمرجعيّات داخل السّرد، ونسجّل قول السّارد على لسان أحد الشّخصيّات: "الميّت ما عندو ما يدير قدّام غسالو..."[12]، وقد جاء هذا الملفوط في إطار النُّصح في ظلّ التّماطل الذي تعرفه خدمة المؤسسات، ويغدو استثمار هذا النّموذج لما يُعزى إلى المخيال الثّقافي الشّعبي المغربي، الذي مفاده التّسليم بالواقع في غياب حلّ يمكن الاسترشادُ به في ظلّ الوضع السّائد، ما يؤكّد بالملموس دلالات الرّضوخ والانقياد من جهة، والعوز في تحقيق المقاصد من جهة أخرى نِتاج الاستحالة أمام مؤسسات داخليّة.

ننصرِفُ لإثارةِ أنواع جديدة من الخطاب الهامشيِّ، "لأنّ الاعتراف بالتّعدّد اللّغوي والثّقافي والسّرديات المختلفة ذات الصّلة بالجماعات المتخيّلة"[13]، ويتجلّى ذلك مع «أحمد» الأب كأحد الشّخصيات في السّرد، إذْ يسعى للهيمنة وإخضاع الابن بكلام فجّ ساقطٍ، يتجسّد في قولهِ مخاطبا ابنه البئيس: "ياك أولد القحبة، بغيت دير فيها بطال، ليوما غنقطع امك، بغيت معاك الحبس..."[14]، وهذا المستوى الاجتماعي الدّنيويّ في الخطاب، إنّما يعكس صورة الانحطاط التي تتنافى مع قيم الأصالة والرّفعة، وهذا الملفوظ يمثّل بعض أصناف البنية الأبويّة في الأريافِ، تلك التي تميل إلى الخروج عن دائرة الصّواب، وتُعمّق مآسي الأسرة في ظلّ السّيادة والهيمنة. وإلى جانب هذا التّمثّل، نسوق نموذجًا لصنفِ الآباء الذين يكشفون على مستواهم الثّقافي، ونُسجّلُ قول أحد الآباء: "حمّان، نتا ولدي مغاديش تقرا، قابل غلمكم أحسن ليك، نتا ماشي ديال لقراية..."[15]، ما يعكس الأفق الثّقافي المحصور عند الأب، وارتهان ذهنيّته بضرورة تقليد توجّهه والاستجابة لمقاصده، في ضرب صارخٍ لحقوق التّعلّم، والانقياد صوب النّقيض في إطار الدّعوة إلى عكسِ الواجب، وكّل ذلك مردّه طبيعة الذّهنية الكلاسيكية التي لا تؤمن باقتصاد المعرفة، وهو نوع من التّفكير الهامشيّ الرّيفي الذي يحتكر الأمر والنهي، وينصرف إلى الأفق الضّيّق، في غياب وعيٍ تنويريّ مستحدث.

3.2. ثقافةُ الرّيفِ في التّفاعلِ النّصيِّ:

سعى المبدع إلى إيراد نصوص رمزيّة تحمل طابعا هامشيّا على صعيدي الشكل والمضمون، من خلال الاعتناء بنصوص مجاورة تستجلي من خلالها المادّة الأدبية أصالتها، وتنتدب بشكل مستعارٍ جوهرَها، حيث شكّل "المتخيّل الشَّعبي المستند إلى الثقافة الاعتياديّة للناس العاديين سندا للرّواية المغربية منذ نشأتها خلال الستينيات من القرن الماضي"[16]، ليندلق هذا البعد التّداوليّ إلى مجرى السّرد القصصيّ الذي يستهيم بالنّموذج الرّوائي، ونذكر قول السّارد وهو يتقمّص كلمات من أغنية ملتزمة في المذياع: "يا جبار الرّيف علاشْ تكذبي، وتباني قدامي فرحانة، يا جبال الرّيف، أنا شفتك تبكي ودموعك ذايقة لمرارة، تكتمي همك ولا تشكي، من لونك بان البرهان..."[17]، وفي سياق هاته الأبعاد التّفاعليّة في "المتعاليات النّصّيّة"[18] يبرز تمثيل الهامش في وجود هذا التّفاعل النّصي بين استثمار بعض كلمات النّصوص السّابقة/ الكلمات الموسيقيّة، وتضمينها في النّصوص اللّاحقة/ القصّة السّرديّة، وجرى الانتقال من أدب العوام إلى نسقٍ أدبي خاص يحتفظ بمقومات الثّقافة التي تسترعي وجود الأرياف، ولعلّ السّارد لا ينتحل الكلمات بشكلٍ كلّي لكي لا يسقط في خندق التّوثيق الجافّ، بل يترك مساحة للذّاكرة في السّرد، والتي لم تستطع تقرير الأغنية، بيد أنّ ما نُراهنُ عليه هُو شكلُ التَّفاعُل الذي يركّز بالدّرجة الأولى على الرّيف، وينطوي على أشكال التّقصير في حقّه، وهذا الاغتراف إنَّما يمثّل ضروب المعاناة وصِنوًا لقيم الخيبة، ولعلّ استحضار رمزيّة كلمات سعيدة فكري[19] يُشيِّد مواقف تتّصل بشكلٍ مركزيٍّ بهموم المبدع ورؤيته لنفسه ولعالمه ولفضائه الرّيفيّ.

3. عالمُ الأنثى عالمُ السّرد:

تربط الأنثى حلقات السّرد على امتدادها، ويشكّل حضورها هاجسا ينبثق من المقام الذي تحوزه في الهندسة الاجتماعيّة تارة، ويتأطر السّرد بوجودها في خندق التّعسف تارة أخرى، ومن خلال هاته الأشكال تُجسر النّظرة صوب سياقات اجتماعيّة تنتصب فيها ويتأثر مجرى الأحداث بأثَرها وسكونها وحركتها، ويتجسّد ذلك في علاقات تتباين فيها صورتها في وشائجها مع الآخر (الزّوج/ الابن/ الصّديق/ الخليل..) وفي خضّم هاته العلاقة الإنسانيّة بمنأى عن حدّتها أو ليونتها تُنشَأُ حبكة سرديّة رمزيّة تستمدّ مقاصدها من هناءة الواقع، أو من فتنته وأزماتهِ ونمثّل في هذا الصّدد ما يلي:

1.3. الأنثى وخشونَة الذّكورةِ:

تتجسّد الذّكورية في أشكال الهيمنة والإخضاع التي يُمارسها الذّكر على الأنثى بأفكاره الماضويّة، وتتمثّل هاته الصُّورة في سطوة الأبِ المانح للمقاصدِ والشّرعية بمنأى عن طبيعته مواقفه وأحكامه المطلقةِ من الأشياء، بما تفرّخه ذهنيتُه الرّجعيّة، "ذهنية امتلاك الحقيقة الواحدة التي لا تعرف الشّك ولا تقر بإمكانيّة إعادة النّظر"[20]، ولعلّ شواغل الواقع وأزماته عبَرتْ للكتابة القصصيّة التي تفشي هذا الكمُون، حيث يبرز الأب الذي يشكّل صنوا للتّعسف والإذعان على الأم بنفس درجة اضطهاد بقيّة أسرته الصّغرى، وفي أطوار الحكي يقول السّارد عن الأب المخمورِ المعربِد: "... من الفزع الذي عمّ البراكة، صراخ الأب، نواح الأم التي لم تعد قادرة على الوقوف بعد أن أسقطها بلكمة على وجهها، لم تستطع زهرة أن تتوقّف عن البكاء. فإذا بالأب يحمل هراوة مستطيلة، كان قد أتى بها من الدّوار، ولا تفارقه، ويتوجه نحو الطّفلة"[21]، إنّ الأنثى تحضر في السّرد كجسدٍ منهكٍ، وروحٍ منكسرةٍ، وفي شخصِ «زهرة» حيّة بيد أنّها ذابلة، تخضعُ للاضطهاد الذي يمارسُه الأب التّقليدي القاسي على محيطه الأسري في الأحياء القصديريّة بما هي امتداد للعقليّة الرّيفية والبدويّة، ويتجلّى فعل التّسلّط في قسريّة فرض الرَّأيِ ومسارات الهوى التي تحكمهُ على بنيتِهِ الأسريّة الصّغرى داخل بنية كبرى رجعيّة ينهل منها مشروعيَّة التّعنيف، ممّا يؤكد طبيعة النّظام الأبوي في المجتمع الرّيفي بشكل خاص، إذْ "الرّجالُ يتمتعون بالسّلطة في جميع المؤسسات المهمة في المجتمع، وأنّ النّساء محرومات من الوصول إلى هذه السلطة"[22]، خصوصا في المؤسّسة الزّوجيّة.

لا يعدو التمثيل السّابق إلا أنْ يكون إسقاطًا لمبلغ الهيمنة التي تتغلغل في الأوساط الهامشيّة، ولا يتوقَّف السّارد عند حدود الأم، بل إنّ فعل القهر الأبوي ينتشر على امتداد الوسط الأسري بألفاظ خادشة وفاجرة، وعنفٍ مزمجرٍ، الهدفُ منهما ترهيب الأسرة واجتذابُ الولاء، وقد توقّف السّرد عند هذه الحدود، في غياب أفق حيّ يجرّد الأب الرّيفي التّقليدي من طبيعته الحادّة واستعباده للأنثى، وخَفْر الأحادية التي لا تقبل الحوار، بل وتمتنع عن القيم المتّصلة بالشّراكة. إنّ السّرد يُظهِر انعدام أفقٍ يقوّض الحظوة الأبويّة التي تتجسّدُ في أبلغ تجلّيات التّحقير والاستغلال البشع الذي تتواطؤ فيه الأنظمة الذّكوريّة المتصلّبة التي تأبى الانحلال.

2.3. الأنثى والجسدُ:

يصدّ تمجيد الجسد الأنثوي مقولة النّوع من منظور الذّكوريّة بما يفرغه هذا النّظام من معان ثقافيّة دونيّة ودلالات تعود للتّمثلات الكلاسيكيّة التي تجعل من الاختلاف البيولوجي أداة لقمع المرأة، ويدحض هذا التّبجيل إدراج الجسد الأنثوي في بوتقة التّنازعات الدّينيّة والثّقافيّة؛ لأنّ الجسد لم يكن يوما سببا للمفارقة وتشريع الحقوق والواجبات، ويشكّل الاحتفاءُ به عنصرا مركزيّا في منظومةِ المواقف والقيمِ التي من شأْنِها تعزيز كينونة المرأة، وضمانِ حقوقِها باعتبارها عنصرًا فاعلا وشريكًا ومؤثّرا في الواقع والعالِم، ونجدُ السّرد يهتمّ في مواقع متباينة بوجود المرأة المتمثِّل أساسا في حيوات الجسد الذي لا يغرقُ السّارد في وصفهِ خشيةَ الوقوعِ في خندقِ الإغراءِ والإساءةِ وجعلها أداة للرّغبة والإثارة بما يؤول إلى تشيِيئها، وفي سياق تبئِير الجسد نذكر قول السّارد: "دخلت وفاء لابسة جلبابا مغربيّا أزرق اللّون، جلباب زاد جمالها جمالا، وأظهر، على خجل، تضاريس جسمها الرّشيق، وفاء شابّة فارعة الطّول كنخلة، ظلّت هيفاء الخصر، منذ عرفتها، وكأنّها امرأة لا تخرج من صالات الرّياضة، ناهدة الصّدر، مكتنزة العجز، تجعل الناظر إليها حالما بها... كانت تضع على كتفيها كوفية فلسطينيّة أضفت عليها بهاء أخاذا لا يقاوم، والعينان كانتا بشساعة وجمال المها، عيناها كانا أكثر ما يحب أمجد ويأخذ بلبه"[23].

إنّ المقطع السّرديّ يجسّد نوعًا من المصالحةِ في مقاربة النّوعِ التي امتنعتْ في المجتمعات التّقليديّةِ التي تنْظرُ إلى المرأةِ بشكلٍ دونيّ، ممّا يُضيِّقُ من أشكالِ وجودها في الحياة العامّةِ، ويعزّز ضُعفَها من زاوية الذّكوريّة بما يُعزى إلى طبيعةِ جنسِها، وبالتّالي تواتر ادّعاءات الذّكر في عدم قدرتها على المشاركة في بناء المجتمعات التقدّميّة، لذلك شكّل الرّدّ عن طريق هذا التّمجيد معطًى يُشرّع التّوازن الذي تمّ تغيبه في سياق حظر الانخراط في التّعبير عن خصوصيّة الأنثى الجسديّة، وقد أقبَلَت كتابةُ إطراءِ الجسدِ وتعظيمِ جلالِه في السّرد بتشتيت أنظمة التّمركز الذكوريّ التي تجعل الخوض في الجسد خطيئة، ويسعى تمثيل الجسَد الأنثوي في ظاهره وباطنه إلى "تأكيد الخصوصيات المتفرّدة للمرأة وللأدب الذي يقوم بتمثيل عالمها وجسدها"[24]، بما يعجّل بضبط النّسق القيميّ والثّقافيّ الذي أنتجته سلبيّة الهندسة الاجتماعيّة، واحتساب طبيعة الجسدِ هويّةً أنثويّةً خالصةً تضمن به الاختلاف والتّنوّع، ما من شأنه إعادة ترميم ما تمّ تهشيمه في الماضوية التقليديّة عن طريق السّرد، وتصحيح الصّور المشوّهة والمسكوكة التي ألِفها الذّكر في نظرتِه التّقزيميّة للمرأة التي يسعى جاهدًا إلى حجْبِ جسدِها، ممّا يُنتج حجْبا لوجودِها وتواريها خلفَهُ، وبالتّالي ضمان استمرار فعل الهيمنة، وتخليد التّبعيّة.

3.3. الأنثى مانحةً للحَياةِ:

ندرك في سياق تمثيل الأنثى داخل العالم السّرديّ أنّها تمنحُ للذّكَر وجودًا صريحًا في ظلّ إحساسه بالفقْد والاغتراب عن ذاتِه، ولعلّ هموم الذّكر تَبرأُ في اتّصاله بالأنثى التي تشكُّل له السّر الضائع في رأب الصّدع وتشذيبِ شتاتِه، ويتقدّم السّرد بإحدى أبلغ صور هذا التَّمثُّل في إحدى القصَص التي أظهر فيها الذّكر نوعا من النّشاز من قتامة الواقع الذي يعيش فيه، ويتأجرأ هذا المعطى في استعداد الذّكر كأحد الفواعل داخل الحكي لاستقبال أَجرتِه المهنيّة الأولى التي تزامنتْ مع العطبِ الذي لحق أجهزة المؤسسة البنكيّة في غياب صبيب الأنترنيت، ممّا أفضى إلى امتعاضه، ليهيج بما تلقفته مقلتاه من سوء الاعتناء بالزّبناء، ومحدوديّة الكراسي التي يسع المكان أضعافها، ولعلّ مقام التّذمّر اتّسعتْ بؤرتُه في ظلّ هاته التّراكمات التي احتبست في كيانه ووجدانه، وامتدّت حالة اليأس التي اعتمرَتْه ولم تندثر سوى بعد أن جاءه قدَرُه بفتاة ستل لها مكانة عظمى في صباه، ما أودى إلى تفريغ اهتياجِه بعد اللّقاء وأثناء سماعها بعد أن أفصح عن اشتياقه لها قائلة: "أنا أيضا، وجدّا، وحمدتُ الرّب لأني لم أتزوّج، وإلا ما كنت لأراك ثانية..."[25]، ولعلّ تجديد الصّلة بها مجدّدا أفضى إلى نقله من حالة الاشمئزاز من الوضع إلى قبوله وتفهّمه، وهو ما برز في شكره للموظفة بعد انفعال لم يضمرهُ في ما قبل ذلك، واستطرد في سياق استغرابها: "لا، ليس الشّكر لك في الحقيقة، بل لصبيب الأنترنيت الذي انقطع، الذي وصل..."[26]، ومن هنا نقر بأنّ الصّبيب الأول يمثل صبيبا فعليّا وسببا مباشرا في أطوار اللّقاء، في حين أنّ الصّبيب الثاني هو إسقاط انزياحيّ أعاد الذّات من حالة الارتياب إلى الهدوء، ومن كُرهِ الواقع إلى عِشقه، وبالتّالي ضمان الأنثى لهذا الانتقال الشّعوري، وحيازتها لمُمكنات الفعلِ ومنح الحياة للآخرين، وقدرتها على تبديل المشاعر الوجدانيّة ممّا يسوء الفرد إلى ما يُسعده، دون إغفال عظمة هذا الاتصال الذي أسقط المادّي ورجّح العلاقات الإنسانيّة في وهْبِ الاغتباط وما يتّصل بالقيم النبيلة.

تذييل لابدّ منه

إنّ العملَ القصصيَّ كُتِب بلغةٍ انسيابيّة بتيمات يسودها هاجس القلق المنشغل بالرّيف، ولعلّ عالم السَّرد يعجّ بقضايا تنهل من التَّجارب الواقعيّة التي تُستثمر بشكل أصيل في المتخيّل، أمّا ناصية الخلقِ فهي رهينة بما يُضمّنه المبدع من تخييلات بديعَة مركّبة في قطف قصصيّة قاسمها الأول مرهون بثقافة الهامشِ، وبالمرأةِ، إلى جانبِ الاضطرابات التي تَشْغل بال المبدعِ في ظلّ التّجاذبات الاجتماعيّة والثّقافيّة في الأريافِ؛ لأنّ الكاتبَ يحملُ أيديولوجيَا تتسرّبُ إلى الحكي دون قصدٍ، وأفضتْ نتيجةُ الفعلِ إلى رسم الكتابة لمسارات غايتها تفكيك البنيةِ التّقليديّة، ومساقات التّفكير في قضايا وشؤون الحياة، وخلخلةِ الأنظمة السّائدة التي غدت قابلة للمساءلة والتّجديد في طبيعة قيمها المَاضَويّة واستبدالِها بقيمٍ مستحدثة، بل إنّ السّرد أُمثُولة غايتها تمثيل الاضطراباتِ داخلَ الفضاء المكانيّ، وفضْح العقليّة المستبدّةِ في المؤسَّسة الزّوجيّة، ورسم أفقٍ ينفض غبار الرّجعيّة ويؤمِن بالعالم الجميل من منطق التّشارك واحترام الخياراتِ والقناعاتِ الفرديَّة للإنسان بما هو إنسانٌ حرٌّ ومختلفٌ.

[1] بول ريكور، الذّات عينها كآخر، ترجمة جورج زيناتي، ط1 (لبنان: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005)، 661

[2] عبد الجليل الشّافعي، المرأة التي في الأعلى، ط1 (المغرب: دار القرويين للنّشر والتّوزيع، 2020)، 5

[3] الشّافعي، المرأة، 8

[4] الشّافعي، المرأة، 34

[5] إدريس الخضراوي، سرديات الأمّة تخييل التّاريخ وثقافة الذّاكرة في الرّواية المغربيّة المعاصرة، ط1 (الدّار البيضاء، أفريقيا الشّرق، 2017)، 234-244

[6] الشّافعي، المرأة، 5

[7] الشافعي، المرأة، 69

[8] الشّافعي، المرأة، 22

[9] ميخائيل باختين، "المتكلّم في الرّواية"، ترجمة محمد برّادة، فصول، المجلد5، العدد3، ماي يوليو (1985)، 105.

[10] الشافعي، المرأة، ص22

[11] ميخائيل باختين، الخطاب الرّوائي، ترجمة محمد برّادة، ط1 (القاهرة: دار الفكر للدّراسات والنّشر والتّوزيع، 1987)، 73.

[12] الشّافعي، المرأة، 36

[13] الخضراوي، سرديات الأمّة، 18

[14] الشّافعي، المرأة، 55

[15] الشّافعي، المرأة، 72

[16] الخضراوي، سرديات الأمّة، 256

[17] الشّافعي، المرأة، 12.

[18] يؤطرُ (جيرار جنيت) المتعاليات النّصية Transtextulity، في حدود التعلّق المباشر مع النّصوص وبشكل ضمنيّ، انظر:

Gérard Genette, Palimpsests literature in the second degree, translated by Channa Newman and Claude (London: University of Eraska press, 1997), 1

[19] يمكن الإطلاع على كلمات يا جبال الرّيف المرتبطة بالمخيال الشعبي الشّفهي في الرّابط الآتي: (اطلع عليه بتاريخ 17/11/2021)

https: //www.youtube.com/watch?v=dT3N77XN4P0&ab_channel=SaidaFikri

[20] هشام شرابي، النظام الأبوي وإشكاليّة تخلّف المجتمع العربي، ط2 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 1993)، 6

[21] شرابي، النظام الأبوي، 117

[22] Gerda Lerner, The creation of patriarchy, (New York Toronto: Oxford university press,1986), 239

[23] الشّافعي، المرأة، 103

[24] عبد الله إبراهيم، موسوعة السّرد العربي، ج6، ط1 (الإمارات: قنديل للطباعة والنّشر والتوزيع، 2016)، 248

[25] الشّافعي، المرأة، 109

[26] الشّافعي، المرأة، 110