"اللّاهوت والثّقافة".. من التّمثّلات النّكوصيّة صوب الأفق الإنسانيّ المشترك


فئة :  قراءات في كتب

"اللّاهوت والثّقافة".. من التّمثّلات النّكوصيّة صوب الأفق الإنسانيّ المشترك

"اللّاهوت والثّقافة".. من التّمثّلات النّكوصيّة صوب الأفق الإنسانيّ المشترك

الملخص:

تسعى القراءةُ الوقوفَ عند أهم الأطر المرجعية الموجهة للدراسة التي اضطلع بها أسامة الصغير، الراصد لمركزيّة الخطاب اللّاهوتي كأرضية أيديولوجية إنشائية توجّه السلوكيات المعادية في الثقافتين العربية والغربية، عبر اعتداده بأهم أشكال المتخيل السردي بما تحوزه من وظائف حاملة لأثر لاهوتي مترسب ومغرض في الكتابة؛ أي تلك التي تتغذى على الصورة الثقافية النمطية وأنساقها من جهة الاستشراق أو الاستغراب على حد سواء، بغاية رسم صورة التفوّق. ونهتدي في القراءة إلى رصد مواقف الباحث وأفقه المتخلق انطلاقا من النصوص المجترحة من التّوجه الفاعل والأصيل في التفاعل مع الآخر وفق المشترك الإنساني غير المنفعل مع اللّاهوت، وتعيين الأفكار الرّامية إلى الدفع صوب قيم الشراكة الفعلية المتنائية مع أشكال الجبر المفضي إلى التطابق، والتسليم بضرورة استئصال البراديغم اللّاهوتي واستعاضته بالأفق الإنساني مقصدا ورهانا وأفقا حتميا لتقليص التوترات الكونية.

أولا: مفتتح

ينتظم العمل (اللّاهوت والثّقافة، للمؤلّف أسامة الصّغير، الصّادر عن دار الأمان، 2021) ضمن الخطابات النّقدية العميقة والرّصينة على صعيد التّحليل الأنثروبولوجيّ الذي يحفر في أركيولوجيا الثّقافة المادّية ذات البنية الإنشائيّة المُسيئة للإنسان، انطلاقا ممّا تؤسِّس له الكتابة السّرديّة، إلى جانب التّمثّلات النّكوصيّة المتضمَّنة في السّرود الإبداعيّة، وينطوي العمل على نوعٍ من الفكفكة المبنيَة على قاعدة العلوم الإنسانيّة المتأصّلة عن المركزيّات الدّينيّة ورواسب الإمبراطوريّات الاستعماريّة ذوات الأثر الواسع على العقليّات التي تعكس طبيعة النّزوع العرقيّ والتّكوّن العقائدي اللّاهوتي، تلك التي تطفو في إطار الاختراق النّقدي للنّصوص من المنظُور الثّقافي الذي يستمدّ منه النّاقد أسامة الصغير (Oussama Sghir) (1985) جملة من المعطيات من قِبل التّمثلات الدّونيّة والرّؤية المغلّفة بالتنميط بما يتبنّاه طرف في علاقته بالطّرف الآخر، ويظهر أنّ العمل النّقدي يستغوِرُ المنظورات التي تُعايَنُ بها الثّقافات ناظرةً أو منظورا إليها بما يُبَثُّ في الرّواية من ترميزات وسُنن وتمثيلات، ولقد توسّعت دائرة الرّؤية النّقدية لتشمل في إطار تقييم الأعمال الإبداعيّة ما يتّصلُ بالقضايا التّاريخيّة والعرقيّة كروافد مهمة صانعة لثقافة الأنا والغير، والوقوف عند المدارج الاستيهاميّة في رسم المُتخيّل بشكلٍ تطغى عليه سمة الانتقاص وتشويه صورة الآخر. إذن ما هي استراتيجيّة تفكيك النّاقد للسّرود الرّوائيّة؟ وكيف يمكن للسّرد من داخل السّرد أن يكون بديلا ذا فاعليّة في إفناء الصّور الاستيهاميّة التي تُركّبُها الأقوام عن غيرها؟

ثانيا: اللّاهوت موجّها للخطاب النّقدي

يُصاغ المناص الأول داخل الخطاب النّقدي: «اللّاهوت والثّقافة»، بنفس القياس الذي صِيغ به العمل التّأصيلي لإدوارد سعيد (Edward Saïd) (1935-2003): «الثّقافة والإمبرياليّة»، ومن زاوية المعطيات بما تكتسيهِ من تعلّقٍ على صعيد العتبة، فإنّ تثبيت مفهوم الثّقافة[1] يسند على طروحات الدّراسات الثّقافيّة في ظلّ العلاقات التي تقيمها مع "الدّراسات الإثنية والأنثربولوجيّة التي يلعب فيها مصطلح الثّقافة دورا حاسما"[2] الأمر الذي يجعل الثّقافة بذلك مفهوما عامّا وأساسيًّا يستوجِبُ الالتحام بمفهوم آخر يَستمدّ منه المشروعيّة، ويُكسِبُهُ نوعا من التّخصيص والانتساب، وهنا يبزغ مفهوم «اللّاهوت»[3] الذي يغدو بمثابة فعلٍ يوازي الإمبرياليّة بنفس الفاعليّة في توجيه السّلوكات والتّمثّلات الانتقاصيّة. مفهومٌ يضبطُ الثّقافة وأصالتها التي تتحرك في حدود المعطى اللّاهوتي، وبالتّالي يجعل النّاقد من اللّاهوت موجّها أساسيّا في التّفكيك الثّقافي للخطَاب السّردي، سيما أنّ اللّاهوت يشكّل مركزيّة موازية لمركزيّة القوة والهيمنة من زاوية السّيادة، وبالتّالي فوجوده يؤسّس للرؤية الثّقافية الإرضائيّة للإله، وإعادة تقديم الصّورة المثاليّة وفق ثنائيّة[4] المركز الدّيني السّامي في مقابل الهامش الديني الآخر المنحط، ويتموقع الأدب في هذا التَّجاذب، باعتباره وسيلة تخدم هذا التّمثّل الذي يُبجِّل الذَّات ويُفتّت قيم الآخر مع الانتقاص من وجوده وحاجته الدّائمة إلى التّأهيل من منظور لاهوتي محض ينشّط المقولات منذ الأزل، بل إنّ اللّاهوت حسب عبدالله إبراهيم ((Abdullah Ibrahim (1957) قد "تغلغل في تضاعيف التخيّلات العامّة، وتوارى في طيّاتها، واستنبطن التّصورات الجماعيّة، فتحكّم في توجيه المواقف تجاه الآخر"[5] بما ينتجه الأنا من استيهامات تتمركز في قطب إنماء الرّغبات الممركزة على قطبها، والنّاظرة إلى الغير باعتباره ذاتا رخيصة مبخّسة بصفاتٍ دونيّة، ولا سيما أنّ "القوة والأثر اللّاهوتي ظل يحمل تلك النواة الخفية التي توجّه لا وعي تاريخ الأدب وتشدّه إلى بداياته وأمشاجه الأولى"[6]، وبالتّالي فاللّاهوت أعم من الاستعمار، ومؤثر مباشر ومترسّب في الذهنيّة الفرديّة بما تنقلُه إلى فضاء الكتابة التي تنتجُ أفكارا ماضوية انتقاصيّة محكومة بالمركزيّات اللّاهوتيّة، كونها أيضا سببا وجيها في نشوء الصّدامات التاريخيّة والإمبراطوريات الاستعماريّة لينتقل هذا النّزوع من الاستعمار المذعن إلى ما بعد الاستعمار المرهون بتحطيم القيم، واستعاضتها بقيم جديدة وتمثّلات نمطيّة مبثوثة في الكتابة كأثرٍ ممتدّ لخلفيّة السّيادة اللّاهوتيّة.

إنّ طبيعة النّزعة الاستعماريّة جزء مباشر من النّازع اللّاهوتي، وبالتّالي فإنّ اللّاهوت يمثل المحور المؤسّس والذي ينْظُم العمل النّقدي، ولا سيما أنّ مدراج الاستشراق والاستغراب المرتبط بالقوميّات تتحرّك ثقافيّا من أجل توسيع المعطى اللّاهوتي ورسم صورلوجيا أو ما أسماه الناقد "علم الصّورة الثقافيّة"[7]، المحكومة بنرجسية الذّات ببعد دينيٍّ مشحون بالنّسق الثّقافي وضروب الانجذاب إلى الأصول العرقيّة بما يُفضى إلى تسريب مجموعة من المواقف الازدرائيّة التي سعى النّاقد إلى عرضها بالدّرس والتحليل.

ثالثا: تقويض التّمثلات الاستشراقيّة

يتغيَّا الاستشراق النّظر بشكلٍ صاغرٍ ومبخّس إلى المشرق باعتباره "أسلوبا غربيا للهيمنة على الشرّق، وإعادة بنائه، والتسلّط عليه"[8]، ويأتي الخطاب النّقدي لأسامة الصغير (Oussama Sghir) (1985) من أجل اختراق النّكوصيّة الاستشراقيّة المبثوثة في التَّمثيل الرّوائي، خصوصا في ظلّ تقفّي أثر النّسق اللّاهوتي الموجِّه للفكر الثّقافي في نظرة الغربي للشّرقي، والأيديولوجي الذي يؤطّرُ منطِقَه المعبّأ بالاستيهامات والأفكار المفترضة، وتوطيد البنية التي تسعى إلى تنميط الصّورة التي خلّفتها البنية التّقليديّة المتأمّلة للشّرق كعالم متخلّف محدود غير قادرٍ على تجاوز مستواه، ويحتاج إلى إعادة البعث بيقين غربيّ استعلائي، ومن منظور منحازٍ يتبدّى في خطاب الناقد داخل التّمثيلين الرّوائيين الأنجلوأمريكيين «المغفور له/ The forgiven» لـ(لورنس أوسبورن) (Lawrence Osborne) (1967) و«السّيدة فاطمة/ Being Madam Fatima» لـ(آن أوكنر) (R. Ann O'Connor) (1952)، حيث تهتدي الرّؤية إلى تعميق الغرابة في المغرب بمرجعيّة تنقيصيّة، ويتواتر رصد أصناف الإساءة للعرب بشكل مستباحٍ، سيما وأنّ النّاقد يعمل على فضح الادعاءات المرتبطة بطانة الكمون المتأصّل من منظور التّحديث على أنقاض التّخلّف، ولاشكّ أنّ الخطاب النّقدي ركّز على تتبّع النّسق الثّقافي في بناء التمثّلات التي انتقلت إلى فعل القتل المادي بما يتلاءم مع دراسات ما بعد الإمبرياليّة، ويبتغي النّاقد الوقوف عند المركزيّة الغربيّة التي تبلورت في إطار تسويغ الدونيّة في كلّ ما هو خارج دائرة التّمركز، ولعلّ تنشيط المقولات اللّاهوتيّة والعرقيّة سببان وجيهان لهاته النّظرة.

إنّ استغوار طبيعة الخطابات الاستشراقيّة من طرف النّاقد يدفع إلى رصد ثنائية القوّة والقهر بين الغرب والشّرق تواليا، مادامت وظيفة الاستشراق رهينةَ "التزوير التّاريخي، وخلق صورة ملتويَة للشرق تنسجم ونيّة الغرب في استعباد الشّرق"[9]، ويتبدّى الموجّه قائما على الثّقافة اللّاهوتيّة المسنودة بالثّقافة ما بعد الكولونياليّة بشكلٍ متّسق غايته تفريغ ذات النّوازع اللّاأخلاقيّة، في ظلّ التّوغّل المستباح في الثّقافة الشّرقيّة، واستعراض الفحولة الغربيّة من موقع الاستعلاء والتّجبّر، وبالتّالي تسريب قيم التبخيس والازدراء للعربي تحديدا في سياق النظر الغربي المتمركز على الهامشيّ المنظور إليه بشكلٍ مهينٍ، خصوصا مع التّمثيل الرّوائي «السيّدة فاطمة»، ويرنو استكناه التمثيل الرّوائي داخل الخطاب النقدي تفتيتَ طبيعة التّضخُّم والتّعالي والسّعي إلى إلصاق صفات تطبعُها الاستشراقيّة المكرّسة من المُخلص في مواجهة المُرهِبِ، وتفكيك الأفكار المؤدلجة المتمثّلة في طهارة اللاهوت والعرق الغربي في مقابل فوبيا الإسلام، وذلك بما يعْلقُ من أفكار مسبقة في أذهان المستشرق، وهو انتقال تالٍ من العنف المعنوي إلى الإبستيمي، خصوصا وأنّ التّفكيك أوغل في بيان تمركز الخطاب على رُهاب المشرقي، سيما وأنّ المستشرق يُقارب نظرته في سياق الترميز إلى الجماعات الإرهابية في مقابل براءة الأنثى الغربيّة، وصولا إلى ممارسة العنف المادي المتمحور في رفع الشاي باعتباره تمثّلا من بين عديد التمثّلات بما تصوّره إحدى فواعل التمثيل، ويرى الناقد في المعطى "موقفا اسشراقيا بامتياز"[10].

بُنيَ الاستشراق في التّمثيلين الرّوائيين على مقام التّفوق من منظورٍ أمريكيّ منحازٍ، بما يحرّكه من نوازع مسيحيّة موجّهة إلى المشرق الذي تُبتَسر الرّؤية إليه، من زاوية كون الأرض المشرقيّة وبائيّةً مفجِّرة للأمراض، وبصفاتٍ بربريّة مهينة، تمّت في إطار منظورات تعنيفيّة ثلاثيّة في الاستشراق، ترتكز على: العنف المعنوي، والعنف الإبستيمي، والعنف المادّي.

رابعا: فكفكة الخطاب الاستغرابي

يطفو خطاب الاستغراب من موقع الذّات العربيّة، باعتبارها ناظرة إلى الآخر الأمريكي الغربيّ بشكلٍ يطبعه الرّد عن سمات الانتقاص، وفي ظلّ الاستغرابِ اسْتُبدلَت الأدوار، فأصبح الشَّرق دارسًا وأمريكا موضوعا مدروسُا، وبالتّالي "تحول جدل الأنا والآخر من جدل الغرب واللّاغرب إلى جدل اللّاغرب والغرب، مهمة علم الاستغراب هو فكّ عقدة النقص التاريخيّة في علاقة الأنا بالآخر، والقضاء على مركب العظمة لدى الآخر الغربي"[11]، الأمر الذي تقفّاه النّاقد أسامة الصغير (Oussama Sghir) (1985) باعتبار الاستغراب منطقا مضادا للاستعلاء الغربي؛ وذلك بما يجرّه الفاعل المركزي في رواية «أمريكانلي» لصنع الله إبراهيم (Sonallah Ibrahim) (1937) شكري المسكون بالعطبِ، وبكونه رجلا "فيه من النّفور والسّوداويّة ما لا يتوفّر في غيره"[12]، وبالتّالي فالنّاقد استشعر وجود هذا الانتقاص الذّاتي إثر ما ترسَّب إلى الفاعل من مشاعر الدّونية والعَلمانيّة بفعل الإمبرياليّة وما بعدها، ليستفرغ النّاقد نسق بطانة الشّبق عند شكري الممعن في النّساء والهائم في ضروب الاشتهاء، وهذا النّسق الاستغرابي إنّما يعكُس عند النّاقد نوعا من الاستباحة الجسدية للآخر في شخص الأنثى بمردّ النّسق اللّاهوتي المؤطّر للفعل من منظور إسلامويّ مسنون بإوالية الاغتنام بالكفرة، وفي إطار المقاربة التّفكيكيّة للنّاقد فإن طبيعة القراءة تستحضر سؤال ثنائية دار السّلام ودار الكفر أو المركز والهامش، وتُستعاض القيم الدونيّة بقيم مستباحة غايتها التعويض عن الأزمات النفسية والإخفاق القيمي.

يستغور النّاقد مقولات السّخرية والتّهكّم والحكم القاسي فضلا عن الرّغبات الإفنائيّة للآخر، في رواية المثلبة الأمريكيّة بسند التّوصيف جرّاء قوله: "لا نكاد نجد صفحة واحد تخلو من تبئير مثلبة أمريكيّة"[13] ممّا يجعل الخطاب السّردي يأتي صنوا بالاستشراق، وتستقوي هاته الرّغبة الاستغرابيّة في جملة من العناصر من قبيل: عدم استواء المقارنة بوجود الفارق الحضاري بين مصر ولوس أنجلس، وطفْو الضَّواغط الإسلامويّة والقوميّة، ونمثّل بالوجود الإسرائيلي داخل السرد الذي لم تستطع الذّات أن تنفصل عنه أو أن تتخلّص من الآنويّة في التّمثيل والحمولة الأيديولوجيّة في النظر إلى المستعمِر، فضلا عن النّظر إلى أمريكا بكونها صانعة للدّمار ومصدّر الإبادة. ويمتدّ هذا الأفق الاستغرابي في رواية «حكاية العربي الأخير2084» بذات المنظور المركزيِّ اللّاهوتي المضادّ للذّات المسيحيّة الأوروأمريكيّة، واستمرار ذات الرّغبة الإفنائيّة والانتقاميّة بمرجعيّة سيكولوجيا الإنسان المقهور، لاسيما فيما يحوزه الخطاب من "حركة ذهنية نكوصيّة ارتداديّة نحو التمركز الذهنية العربية الإسلاميّة"[14]، حيث يتأطّر الوجود اللّاهوتي بجلاء في طبيعة النظرة التي ترمق الآخر باعتباره خطرا إنسانيّا قابلا للتّشريخ والتشويه، بما ينطوي عليه الفكر العربي من مدارك تتغذّى على الماضويّة المتمثلة في "المفاضلة التقليديّة بين دار الإسلام ودار الحرب"[15] في استمرارٍ ظاهرٍ للتّمركز المهيمن على المتخيّل، وبعظمة الذّات في مقابل ذم الآخر، داخل واقعٍ في حاجة ماسّة إلى تذويب التّمثلات النّمطية والسّعي لصهْر العلاقات الإنسانيّة بمنطق الاشتراك والتفاعل الإيجابي.

خامسا: أفق النّاقد الإنساني

يرى إدوارد سعيد (Edward Saïd) (1935-2003) أنّ الاستشراق "فشل إنسانيّ بقدر ما هو فشل فكري"[16]، ومن منظوره فالاستغراب لا يمثّل حلّا للاستشراق، بل يرى في فكّ شفرة الأزمة الإنسانية أفقا ممكنا، وهو الّسبيل الذي سلكه النّاقد الإنساني أسامة الصغير (Oussama Sghir) (1985) الذي لا يكتفي بتحليل النّصوص ودراستها من منظور مزدوج غايته استنطاق الاستغراب من خلال نظرة الشّرقي للغربي، والاستشراق من خلال نظرة الغربي للشّرقي، بل راهن على بناء تصّور لطبيعة السّرود من زاوية تراهن على استراتيجيّة التّفكيك الذي ينتقل من خلاله الدّراسة والعرض إلى البحث عن سرديّات بديلة بعيدا عن المنحنيات المنحازة وفق التّمثُّلات النّمطيّة، صوب التَّمثِيلات التي تبحث عن الأفق الإنساني المشترك، الأمر الذي يظهر في نماذج مختارة في الرّوايات الأمريكيّة التي تجعل العربي موضوعا لها من قبيل: «ملابس الغوّاص تظلّ فارغة/ The Diver's Clothes Lie Empty» لـ(فانديلا فيدا) (Vendela Vida) (1971)، و«تولستوي في الرّياض/ Tolstoy in Riyadh» لـ(كريس كراير) (Chris Cryer). تمثيلان يظهران مبلغ التقدير والاهتداء للغير بحثا عن الهويّة البديلة، وتقفى النّاقد في التّمثيلات أهمية الخروج عن القوالب الغربية النّمطيّة لإرساء العالم المشترك المؤمن بالانفتاح والود الإنسانيّ، بما يتجاوز السّلطة الإنشائيّة والنّسقيّة والتّحرّر من الجاهز والأيديولوجيّات اللّاهوتيّة.

ومن جهة دراسة العربي للغربيّ نجد التّمثيلين الرّوائيين العربيين: «إنّها لندن يا عزيزي» لحنان الشيخ (Hanan El-Cheikh) (1945)، حيث يتجسّد من منظور قراءة الخطاب النّقدي لأسامة الصغير (Oussama Sghir) (1985) مدى التّفاعل البيني القائم على المشترك الإنساني، ويفكّك رمزيّة الإيمان الغربي بالتّساوي الممثل تحديدا في شخصيّة (نيقولاس) الذي يفعّل الاختلاف والاحترام وتغييب الاستعلاء بإنفاء نبرة التّفوق المسنود بالقطيعة مع التّمثلات اللّاهوتيّة، فضلا عن الوقوف عند حاجته الماسّة لمعرفة الآخر بشكل عرفانيّ إنسانيّ ينطوي على الإلمام بالتّراث واللّغة كمفاتيح ومداخل مفصليّة من أجل الانصهار والتّقرّب من المشرقيّ، وفي الجهة المقابلة نجد الذّات العربيّة تنفتح في الحضن الغربي بعيدا عن تعصُّب الأجداد، في رغبة وجيهة للاندماج مع الغربي، بل وجعل الغربيّ مطلبا فعليّا لإلغاء الشّرنقة العربيّة في ظلّ سياق تاريخيّ معيّن. و«يوسف الإنجليزي» لربيع جابر (Rabee Jaber) (1972)، حيث يدرس النّاقد تفاصيل الانجذاب العربي للغربي بشكلٍ مقابل للتّمثيل الأوّل، بولع الفاعل المركزيّ يوسف بالآخر، الذي يخترق حدوده ويتلهّف لمعرفة الغربيّ من مناحي عديدة، وتصلُ درجة الهوس إلى الانسلاخ عن الهويّة في ما يظهر مبلغ التّعلّق بالآخر بعيدا عن التّمثّلات النّكوصيّة التي تخلق جدلا مرجعيّا ولاهوتيّا، وبالتّالي نيل اعتراف الآخر من وسط العمق الغربي بشكل رمزيّ، ويتعلّق الأمر بخلقٍ إبداعيّ عربيّ محض مرهون برسم الخطّ العربي، الذي لقى المحبّة والاستحسان.

وبالتّالي، فإنّ أطروحة النّاقد تستمدّ مشروعيّتها من إحداث رجّة في القراءة بما يتلاءم وتمثيلات الكتابة الإبداعيّة التي لا تكفّ عن رسم الحدود بين الذّات والغير بشكلٍ مبخّس، والتنقيص من بعض التمثلات النمطية بنوازع لاهوتيّة في الكتابة بحثا عن تمثيلات روائيّة تلغي الحدود وتنفصل عن الصّدامات الثنائيّة، بشكلٍ يتلاءم وبعض المواقف التي تبحث عن ضرورة الانتقال من "نمط التّخيل اللّاهوتي إلى نقد متحرّر من أية مرجعيّة ثابتة، سواء أكانت عرقيّة، أم كانت دينيّة، أو كانت ثقافيّة"[17]، وفي ضوء هذا المسار نقرأ الناقد، باعتباره يقدّم موقفا من داخل الخطاب النّقدي غايته التنازل النّسبي عن المفترض والجاهز في جرد الأحكام المبثوثة في التمثيلات الرّوائيّة من جهة الشّرق أو الغرب، والانكفاء بالنّقد البنّاء بوعي أبستيمولوجي، يتفاعل فيه الأنا مع الآخر أو بشكل معكوس يتفاعل فيه الآخر مع الأنا بإبدال جديد يراهن على الأفق الإنساني، ويطيح بالفكرين الاستشراقيّ والاستغرابيّ.

سادسا: خاتمة

لقد شكل السّرد الجديد فجوة لصوغِ عوالم تُصّور ثقافة الإنسان بشكل جدليّ يتناوب فيه وجوده بين الاستعظام والاستخفاف، أو بالأحرى صوغ خطابات يتجاذبُها تيّارَا الاستشراق والاستغراب المعبّآن بالإواليّات التي تُحاك بشكل مغرض، وبالتّالي رسم صورة الأنا بشكل لا يحيد عن الاستعلاء واستصغار الآخر بشكل دنيوي يُدغَمُ فيه التّحيّز بنزعةٍ تؤطّرها اللّاهوتيّة، وهو ما تبدّى مع النّاقد وهو يستهدف نمطين من الإنتاج السّرديّ داخل خطابه النقديّ المزدوج: سرد ينظرُ إلى الأنا بما يُقيمُه الآخر من تمثّلات، وسرد يُنْظَرُ بِه إلى الآخر وفق تمثّلات الأنا، ليتمّ اللّجوء بشكلٍ مُستعَاضٍ إلى سرد ثالثٍ يتحقّق فيه البعد الإنسانيّ البعيد عن أشكال النّكوصيّة والازدراء ويسعى إلى خلق أفقٍ لا تُحَرِّكُه الأهواء ولا تتقاذفُه الكراهيّة، بل يسمو إلى التّعبير عن الآصرة البشريّة المنصهرة في بوتقة المشترك بما يُلغي الحدود بين الثّقافات.

 

المراجع:

*- العربية:

سعيد، إدوارد. الثّقافة والإمبريالية، ترجمة كمال أبو ديب، ط4. بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثّقافي العربي، 2014

البازغي، سعد وآخرون. دليل النّاقد الأدبي، ط3. بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2002.

أشكروفت، بيل وآخرون. دراسات ما بعد الكولونيالية، ترجمة أحمد الروبي وآخرون، ط1. القاهرة: المركز القومي للتّرجمة، 2010

إبراهيم، عبدالله. موسوعة السّرد العربي، ج3، ط1. الإمارات: قنديل للطّباعة والنّشر والتوزيع، 2016.

الصغير، أسامة. اللّاهوت والثّقافة: بين الذّات العربية والآخر الأنجلوأمريكي، ط1. الرّباط: دار الأمان، 2021

سعيد، إدوارد. الاستشراق المفاهيم الغربية للشّرق، ترجمة محمد عناني، ط1. القاهرة: رؤية للطباعة والنشر، 2006

حنفي، حسن. مقدمة في علم الاستغراب، ط1. مصر: الدار الفنّية، 1991

إبراهيم، عبدالله. موسوعة السرد العربي، ج7، ط1. الإمارات: قنديل للطّباعة والنّشر والتوزيع، 2016

*- الأجنبية:

Honderich, Ted. The oxford companion to philosophy, second edition. New York: Oxford university press, 2005

*- الدوريات:

الجبر، محمد. "مفهوم الاستغراب عند صادق جلال العظم"، آفاق المعرفة، ع529، (2007).

[1] في موقعين يمكن تمثيل الثّقافة حسب إدوارد سعيد باعتبارها مفهوما "يضمّ عنصرا منقيّا ودافعا إلى السّمو، هو مخزون كلّ مجتمع من أفضل ما تحققت المعرفة به والتفكير فيه...وهي مسرح من نمط ما تشتبك عليه قضايا سياسيّة وعقائديّة متعدّدة متباينة. هيهات أن تكون مملكة ساجية ذات رقّة أبوللويّة، بل تكون ساحة عراك فوقها تعرض القضايا نفسها لضوء النّهار وتتنازع فيما بينها كاشفة"، انظر:

إدوارد سعيد، الثّقافة والإمبريالية، ترجمة كمال أبو ديب، ط4 (بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثّقافي العربي، 2014)، ص ص 58-59

[2] سعد البازغي وآخرون، دليل النّاقد الأدبي، ط3 (بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2002)، ص 139

[3] "علم اللّاهوت الطّبيعي: اكتساب الحقائق عن الله من خلال القدرة البشريّة الطّبيعية على المعرفة، وليس بالوحي. أي دراسة الإله من خلال ممارسة العقل البشري، لاسيما كما أقرّته الرّومية وما يليها، ويشمل اللّاهوت الطّبيعي دراسة الإله من خلال أعماله واستخلاص استنتاجات حول الإله من الافتراضات حول الخلق، وتنتمي جميع البراهين المفترضة لوجود الإله وطبيعته إلى اللّاهوت الطّبيعي، ويعتقد كانط والوضعيّون المنطقيّون أنّ اللّاهوت الطّبيعي تتغلّفه الاستحالة، على أساس أنّ سوء الاستخدام المتسامي للفئات يولد التناقضات"، أنظر:

Ted Honderich, The oxford companion to philosophy, second edition (New York: Oxford university press, 2005), p 643

[4] استثمرت ثنائيّة المركز والهامش في طبيعة الوجود الإمبريالي، بل "لم يكن ممكنا للكولونيالية أن توجد على الأقلّ إلا من خلال افتراض وجود مقابلة ثنائيّة ينقسم إليها العالم، وقد اعتمد التأسيس المتدرّج للإمبراطوريّة على العلاقة الهرمية الثابتة بوجود المستعمَر بوصفه الآخر بالنسبة للثقافة المستعمِرة"، انظر:

بيل أشكروفت وآخرون، دراسات ما بعد الكولونيالية، (مترجم) أحمد الروبي وآخرون، ط1 (القاهرة: المركز القومي للتّرجمة، 2010)، ص 93

[5] عبدالله إبراهيم، موسوعة السّرد العربي، ج3، ط1 (الإمارات: قنديل للطّباعة والنّشر والتوزيع، 2016)، ص 9

[6] أسامة الصغير، اللّاهوت والثّقافة: بين الذّات العربية والآخر الأنجلوأمريكي، ط1 (الرّباط: دار الأمان، 2021)، ص 14

[7] المرجع نفسه، ص 10

[8] إدوارد سعيد، الاستشراق المفاهيم الغربية للشّرق، ترجمة محمد عناني، ط1 (القاهرة: رؤية للطباعة والنشر، 2006)، ص ص 45-46

[9] محمد الجبر، "مفهوم الاستغراب عند صادق جلال العظم"، آفاق المعرفة، ع529، (2007)، ص 230

[10] الصغير، اللّاهوت، ص 133

[11] حسن حنفي، مقدمة في علم الاستغراب، ط1 (مصر: الدار الفنّية، 1991)، ص 29

[12] عبدالله إبراهيم، موسوعة السرد العربي، ج7، ط1 (الإمارات: قنديل للطّباعة والنّشر والتوزيع، 2016)، ص287

[13] الصغير، اللّاهوت، ص 190

[14] المرجع نفسه، ص 216

[15] إبراهيم، موسوعة، ج3، ص 175

[16] سعيد، الاستشراق، ص 497

[17] إبراهيم، موسوعة، ج3، ص 9