المدينة وأهلها: ليالي الأنس في فيينا


فئة :  مقالات

المدينة وأهلها: ليالي الأنس في فيينا

هبطت إلى أدنى نقطة من شاطئ الدانوب العريض الطويل الغزير، والمائج أحيانا بحنان ومن دون زبد وأشرت بيدي إلى الإوزة العملاقة البيضاء، فتهادت نحوي، وكأنها نسمة تداعب ماء النهر ولا تعكره، ووقفت حيث يمكن أن أطاولها وأمسد ريشها الناعم النقي بيدي، وناغيتها مصفرا، فردت بصفير يخالطه صوت من خياشيمها، يكاد يكون شخيرا لولا أنه في لحظة وداعة وحوار جعلته رخيما. ثم غادرت، لأنها يئست من هديتي لها من الطعام لفراغ يدي، ورأت رفيقها أو رفيقتها، وسبحا معا يمخران نسمات الهواء البارد وعباب الماء على صهوة النهر الخضراء، وكأنها تطمئن الناس والأشجار والطيور إلى أن صفرة أوراق الخريف وذهبها الذي يفرش الأرض ويطرز فستانها الصوفي على باب الشتاء، وعد بالورد، شرط الصبر إلى أن تصل شمس مارس... بعدما غادرتني الإوزة، حط النورس على سياج النهر قربي مطمئنا، كأنه يقيسني على من يراهم يوميا يمارسون رياضة المشي على الشط المعد لذلك، من دون أن يكون لديهم عادة أو رغبة في إيذاء طيورهم التي تشاركهم في المواطنة، وفي ساحات المدينة المكتظة بالناس والعصافير والحمام والنظافة والهدوء المشمس في يوم غائم، كدت أن أركل الحمامة الزرقاء بقدمي أو أفر منها كأنها أفعى، لأني لم أعتد على هذه الألفة، لولا الانتباه إلى أنني تحت طائلة القانون واستنكار الناس.

وقدرت أن حمامنا والعصافير، حتى الدورية والسنونو الوديعة، تجفل وتهرب منا مذعورة، لأنها لا تتوقع إلا الأذى...حتى من أطفالنا. أما هنا، فإن الأطفال لا يخافون ولا يخافهم الحمام. أما الكبار مع الحمام، فكأنهم أطفال أو كأن طيور الحمام أطفالهم.

كلما سافرت إلى بلد أوروبي في نشاط فكري، إذ ليس من شأني أو في قدرتي السياحة، وهذه ليست شكوى، ولا إحساس بالنقص، بل ربما لدي إحساس بالنعمة، بسبب الاستغناء الذي يعني الاستقلال والحرية في أن تحب وتكره، فلا تحب ولا تكره، إلا لأسباب غير شخصية، ما يمكنك ويلزمك بالمراجعة يوميا، حتى لا تجبر عقلك أو قلبك على الوقوع في فخ النهائيات المدمرة لكل شيء...كلما سافرت إذن، تعرفت كما بعض من يسافرون إلى شيء من عموميات الحياة في البلد الأوروبي، وبعض مما يتاح التعرف إليه من خصوصيات، كدماثة الناس في الشارع والتاكسي والمطعم والمطار والقطار وتلبيتهم السريعة، مع ابتسامة وافية، للمساعدة في الإرشاد إلى مكان أو التقاط صورة لك وحدك أو مع بعضهم، ما لمسته عدة مرات، حتى وجدت النسبة الأعلى في (فيينا) في الشهر الماضي، (تشرين الثاني ....).. واحتياطا لما يأتي في هذه المقالة، لا أريد أن أشوه سلوكيات المواطنين في أي بلد عربي أو إسلامي، غاية الأمر أني أريد أن أفرق بين المشهدين بأن الإيجابيات في سلوك الأوربيين تجاه بعضهم البعض وتجاه الزائر أو الغريب، هي أقرب بين بلد وآخر، في حين أن دماثة المواطنين على نسب متفاوتة كما ونوعا، في بلدان عربية وإسلامية، تبدو وكأنها خيارات شخصية أو ثقافة ذاتية أو بيتية ...أي أنها لا تأتي من ثقافة عامة فاعلة، لكان الالتزام بالاحتفاء بالغريب ومساعدته أعم وأقوى، إلى ذلك فإن ثقافة الغرب التي لا تخلو من السلبيات السطحية والعميقة مرتكزة في حيويتها وتجلياتها في الأعم والأغلب، إلى عقد اجتماعي راسخ بين الدولة والمواطنين، يحدث الإخلال به من هنا وهناك، ولكنه هو الحاكم على السلوك العام والفردي، بينما يتراجع وعي وفعل هذا العقد في أوساطنا، مع الشك في أنه أقرب قد أصبح قانونا عاما بالتفاهم المباشر بين الحاكم والمواطن، وأنه ما زال أقرب إلى أمنية تتجسد في أقوال سياسيين تقتضيها أكثر ما تقتضيها المواطنة والمسؤولية.

في كل سفرة ننشغل مجددا لأيام، بالمقارنة بين البلد الذي نزوره، وبين بلدنا لبنان، والبلدان العربية الشقيقة والإسلامية الصديقة، والآسيوية البعيدة والقريبة، على ما يصفها ويختلف في وصفها زائروها، من كورية الجنوبية (طبعا) إلى اليابان إلى ماليزيا، فأكون قد ذكرت من هذه الدول الآسيوية أفضلها حسب الشهادات، ومن دون أن أتورط في احتمال أن يكون الوضع في كوريا الشمالية محببا،إلا إذا كف الملهم عن اغتيال إرادة شعبها السجين، ورغبته في التعبير عن أفكاره وأوجاعه وأحلامه وأخلاقه، ودائما، أو أكثر الأحيان نرى فرقا كبيرا بين أوروبا المدينة وأهلها، وبيننا (مدنا وأهلا مع محبتي واحترامي)، ولكن هذا الفرق يقل كثيرا في تصورنا الذي قد لا يكون دقيقا، بين تركية العلمانية المتزمتة في علمانيتها، على مستوى الدولة، سابقا، أو بين تركية العلمانية على إسلامية، على مغالبة بين الأمرين، نرجو ألا ينتهي إلى غلبة كاسحة لأيهما على الآخر حتى لا تقع هذه الدولة العريقة والضرورية لنا، على إشكاليتها، في التزمت العلماني أو الديني. ما يعني أن الإدارة والتدبير ونظم الحياة، قد ارتقت بالقابلية والقبول الشعبي والفوائد المجتناة، إلى ثقافة عامة يفترض أن يكون وراءها أو أمامها قانون ناظم ومرعي بنسبة كافية لدى الدولة، حيث يصبح القانون مصدر طمأنينة للشعب الذي يجد نفسه معنيا وراغبا بالحفاظ عليه، وإن خالفه أحيانا قليلة أو كثيرة، فإنه يبقى موافقا على مرجعيته ... ويقل الفرق أكثر بالمقارنة مع إيران التي يكتشف من زارها قبل الثورة وبعدها، أن خللا طفيفا حدث بعد الثورة، ولمدة وجيزة، ثم حدث ثانية في السنوات الأولى لحرب مع العراق، في التزام السلطة والمواطنين بالقانون (خارج المجال السياسي)، لتعود الأمور بعد نهاية الحرب، إلى نصابها مع تراجعات كبيرة أو محدودة كانت وتبقى متوقعة، باعتبار أن الشعوب وحكامها ليسوا معصومين، وعندما يستشعر الحاكم أنه عادل تماما، يبدأ انحداره نحو الجور، فإذا ما اعتقد بالعصمة أصبح جائرا بقول مطلق وأصبحت الولاية استيلاء. والخلاصة أن من يقرأ المشهد العام واليومي في إيران، يكتشف أن الثقافة التعددية المركبة من الموروث القديم والتركي الإضافي إضافة إلى العري الواسع والكردي، هي السبب الأول للحيوية الفائضة في سلوك وأنظمة علائق وحياة ووعي الشعب الإيراني المتقدم دائما على دولته حتى ولو كانت متقدمة، إلى نسق أو أنساق عمرانية جامعة بين الحداثة والتقليد في مظهرها، وفي التقسيم اللطيف لوظائفها الداخلية، وفي احتلال جنائن الورد للفسحة بين عمارة وأخرى،إلى ازدهار هذه الجنائن في مدن كثيرة، أكثر من العادة في طهران وغيرها، إلى العلاقة التفصيلية بالورود البرية خاصة، زهرة (الإله) التي يتلخص فيها معنى (النوروز)؛ أي اليوم الجديد؛ أي الواحد والعشرون من مارس، بداية السنة الشمسية الإيرانية (في إيران ثلاث روزمانات هجرية شمسية وميلادية وهجرية قمرية)...إلى العباءة السوداء التي لا تعني كما أصبحت تعني المقلدين في الشكل وفي لبنان خاصة، من استحكام الحزن حتى البؤس المقيم في الروح والجسد، ولا كما تعني في بلاد عربية أخرى من حجب للمرأة عن الحياة، أو تهميش لها، ولا يسمح الذوق النسائي الإيراني الرفيع، والمتأتي من جمع راق بين كل ما يخص المرأة في الموروث وفي الشرع وفي الحداثة، وتحويله إلى حيز تحتله المرأة براحة تامة، ويجعلها إلى جانب الشباب؛ أي الطالعين لتوهم من أحضان أمهاتهم، مصدرين دائمين غزيرين للحيوية والمتعة بالحياة والفن والعمران والقانون والجهوزية الدائمة للموالاة على أساس الإنجازات والاعتراضات على أساس المخالفات.

وإذا ما شرعنا في التحليل والمقارنة والتعليل، من دون عقد أو تهويل أو نكران لإيجابياتنا المهددة بالتراجع والتناقض والتشوه، بسبب غياب الدولة وامتهان القانون والعودة المرضية إلى حضن الطائفة أو المذهب وإغلاقه على المتمذهبين، والاستقالة من الشراكة التي وحدها الكفيلة بإنتاج المعرفة البانية والغنية المغنية، وترجيح الرديء الثقافي ونشره، والإلحاح عليه، لأنه يناسب الكسل والبطالة وتبادل الكراهة، ولا يحتاج إلى شراكة ولا يطمح لها. إذا حللنا وعللنا إذن، نظلم الدين أو المذهب الديني، إذا اعتبرناه مسؤولا عن هذه الحال وهذا المال، إلا لدى من يصرون على التخلف وإلغاء الآخر، ويقرأون ظاهر النصوص الدينية بما يلائم رغباتهم العدوانية أو الانتحارية، متجاهلين عمدا سعة المساحة التأويلية العظيمة في النص الديني المظلوم والمتهم بالظلم.

ولا يمكن إضافة كل إيجابيات الغرب إلى العلمنة، لأن العلمنة ليس بإمكانها، أن تأتي بالأمور من الفراغ، وقصارها أن تتيح للمحمولات الشعبية والفردية الحضارية أن تظهر وتنمو بالقانون، وقد يحدث أن تصبح العلمانية شمولية؛ فتمد يدها إلى القانون، ولكن الشعوب المعتادة على القانون تعترض، وإن وافق البعض لعلة فيه ... وتكون المدارس الرهبانية في فرنسا أكبر وأشد المعترضين على الجانب الظالم وغير الإنساني وغير العلماني، في قانون الحجاب قبل سنوات ...وعليه، فإن الانتظام الشعبي أو اختراق الشعب لنظم بما فيها نظام القيم، لا يجوز نسبتهما إلى الحكام وحدهم، من دون إعفاء لأية طبقة حاكمة في أي بلد في العالم من المسؤولية الكبيرة أو الصغيرة عن الخلل الذي يحدث، خاصة في مجال تملص أهل السلطة من الالتزام بالقانون، والمخالفة العلنية الجارحة والوقحة له، وإغراء أهل الشر المبيت أو الخير الهش، بالمخالفة التي تصبح وكأنها من معززات الشعور بالذات ...وماذا لو أن شعب مصر البالغ اللطف والقهر والحرمان، استقر في حضن القانون وحمايته، واستمتع بنيله وحريته، خيرا يربو على العدالة ويتضاءل بالفساد؟

أرجو ألا أكون في ما قلت وسوف أقول في هذه المقالة، متجنيا على أهلية واستعداد شعوبنا للانتظام، والحرص على كل مصادر ومظاهر الجمال في الحياة والطبيعة والسلوك، وأنا أتذكر ما كتبه (دومنيك شوفاليه)عن قرطبة ونظام عمرانها وتفاصيل الحياة الهادئة والهانئة، وأدب الناس فيها، واحتشاد الفكر التوحيدي الإبراهيمي (الإسلامي والمسيحي واليهودي) في معاهدها، حيث تزدهر الشراكة في إنتاج الفن والمعرفة... حتى سماها (روجيه غارودي) في كتاب له عنها (عاصمة الروح) ... لست متحمسا إلى بدايات الوصول إلى الأندلس، ولكني محب للثمرة الحضارية التي ضيعها الجور والجهل والاستبداد بعدما استنبتتها المعرفة وسقاها الفن.

إذن ماذا؟ وأين نلتمس العلل و الأسباب؟ يمكن أن نذهب إلى المورثاث، حيث يقول عدد محترم من علماء النفس بأن السلوكيات والاستجابات الذهنية للأحداث والوقائع والنظم، إذا تطاول الزمن عليها، وهي مستقرة في حياة شعب من الشعوب تدخل في الجينات، وتصبح مورثات، كما لو كانت مكونات أولية وأصيلة في البنية النفسية والذهنية والمنظومة القيمية لدى الجماعة وأفرادها، من هنا يمكن الاعتماد على الأصول السلالية بنسبة عالية في تفسير السلوكيات، يراجع هنا (اشلي مونتاكو) في دراساته المعمقة لطبيعة الفرد البيولوجية الاجتماعية. وعليه، فإن بإمكاننا أن نعتبر أن الانتظام الغالب على سلوك المثالين التركي والإيراني هو معطى من معطيات الأصل الآري أو الهندوأروبي، في حين أننا نحن العرب آتون من الصحاري، حيث الهجير والصهد الذي يعقبه صقيع وزمهرير من دون مطر أو مع مطر قليل بالكاد يسقي الشيح والقيسوم وأشواك حسك السعدان، ولم نلبث أن أمسكنا وتمكنا من الإسلام كمشروع حضاري وتحضيري ملح على المدينة والتمدين، ومحرم للتعرب؛ أي التصحر أو التبدي بعد الهجرة؛ أي التحضر، لنضع في وجهه العوائق التي لم تفد في علاج إعاقاتها، الفتوحات المفهومة في عهد الرسول والعهد الراشدي، والتي امتدت إلى ما بعد العهد الراشدي استجابة لشهوة القبيلة الحاكمة إلى المال والجاه والتسلط، ما لم ينفع أن ننجز ما نعتز به، من دون قدرة على المحافظة عليه امتدادا حتى الآن، حيث ثرواتنا الطبيعية العظمى لا تنتج إلا فقرا وجهلا وتخلفا وكسلا، وصرفا للمال في معظمه على الحروب الداخلية، وأعدناه؛ أي الإسلام مرغما إلى سياق القبيلة ونظامها الموروث، وبدل أن يطورها من داخلها كما هو المرجو والممكن، ويتطور معها بالتكييف العميق بين الأصول والمستجدات في الحياة والمعرفة، شاركت القبيلة بأرجحية لصالحها أو انفردت كثيرا في إعادة إنتاجه على قياسها، بدل أن ينتجها على قياس قيمه ومقاصده، وفي رأسها العقل؛ أي العلم الذي يتجسد دأبا وحرصا على حفظ النفوس والأخلاق والثروات، وبعمق العلاقة التبادلية بين الدين والدولة والمجتمع بعيدا عن الخلط العشوائي بينها، وبحرص على إنتاج الثروة بالعلم والعلم بالثروة تماما كالذي حصل في الغرب على سوء كثير في مضاعفاته،لا بسبب النهب وحده، لأن الذي تبقى لدينا من الثروات التي تعرضت للنهب هو أضعاف ما نهبه المستعمرون، ولم نفلح في استثماره، بل نجحنا في تبديده، ولكن بسبب سوء الإدارة ونظام القيم الذي يرجح الفساد على السداد...ولم تكن إيران وتركية منذ تأسيس الدولة العثمانية وتأسيس الدولة الصفوية المقارب زمنيا، مثلا، أكثر اتساقا بلحاظ النظم لا الوقائع و المجريات الميدانية التي تحققت لصالح التركي أكثر من الإيراني، وكان يمكن أن تكون أكثر لصالح الطرفين، لولا أن الصراع انفجر بينهما في أوائل القرن السادس عشر ميلادي، بعدما تبين التعارض بين الطموحات الامبراطورية القومية لديهما، والتي جعلت كلا منهما يغطي أهدافه السياسية وصراعه بمذهب من المذاهب الإسلامية (الحنفية والتشيع الاثنا عشري في إيران)، مع ما لزم من فتاوى بالاجتثاث للمعاندين على الجانبين ... ليعود الحال في إيران بقليل من الإيجابية التحضيرية في زمن الأسرة البهلوية و القاجارية قبلها موصولة ببعض المنجزات الصفوية، وفي تركية بعد الحرب الأولى وإقامة الدولة الحديثة، على حساب الخلافة الملغاة، وعلى أساس علمانية ساعدتها على النهوض ووضعتها في سياق شمولي وإيديولوجي ضيق لم يمنعها أن تنجز بناء تركية على مستوى يقترب ولا يصل إلى النموذج الذي يحقق في اليابان بعد الحرب الكونية الثانية...

أما في إيران، فقد حصل جمع غير تلفيقي وبإدارة شعبية وذرائعية سلطانية بين الإسلام الشيعي والتراث الفارسي مرة وبين الإسلام والحداثة مرة أخرى، مضافا إلى ذلك منطق القوة المتحدر من تراث أو تكوين آري، كان مظهره فاقعا ومدمرا في ألمانيا النازية، وأصبح نموذجا نهضويا في ظروف قاسية في ألمانيا بعد الهزيمة في الحرب الثانية إلى أن انتهى الأمر قبل عقود، إلى توليفة إسلامية حداثوية في إيران، وإسلامية حداثوية أخرى، استبقت الضروري من العلمنة أو ما يصعب الخلاص منه سريعا في تركية.

واستوى الحال في إيران إلى حد ما، مع قلق واضطراب الرؤية والأداء، على نسق حضاري وحياتي، شعبي وطني، فتمكن إلى حد قدرته على إلزام الحاكم بمراعاته وإبداء الحرص عليه، مع التمسك الشعبي بمنطق دولة القانون الذي يمكن خرقه ولا يسمح بتقويضه، مع حق الاعتراض حتى لو كان مكلفا، على السلطة عندما تخل بموجبات العقد الاجتماعي، مع عدم ضرورة للدم، ومع الضرورة يقتصر على أقله، وعلى سبيل المثال، لم يستخدم شاه إيران محمد رضا بهلوي القوة المفرطة ضد الثائرين إلا جزئيا، ولم يرتكب ما يمكن دعوته مجزرة إلا مرة واحدة حدثت في ميدان (زالة) (أي الندى) الذي أصبح اسمه بعد الثورة ميدان (...شهر يور) اليوم والشهر الذي حدثت فيه المجزرة حسب التقويم الهجري الشمسي، وهي الثانية بعد التي ارتكبها أبوه القاسي رضا شاه في مسجد كوهرشاد، حيث هدم على رؤوس المصلين والعلماء المحتجين على العابث والعصابي تطبيقه للتحديث، في التغيير القسري لملابس النساء والرجال (القبعة بدل العمامة). وعلى ما كان النظام العلماني، خاصة في محطاته العسكرية، قمعيا في تركية الحديثة، فإن سجل المجازر ليس طويلا أو حاشدا بعيدا عن الأرمن وأحداث تسجل في حق بعض الإثنيات.

إذا قارنا حالنا في عهود الحكام المستبدين الذين أسقطوا أخيرا، وما زال بعضهم ينتظر السقوط، مضافا إليهم القوى التي خلفت بعضهم أو قد تخلف آخرين منهم لا سمح الله، نصبح شبه مضطرين إلى الاعتقاد أو الظن على أقل تقدير، بأن هناك فرقا تكوينيا بين العرب وغيرهم، وإذا ما كنا نحاول إيجاد المبررات أو الأسباب التخفيفية بالقول إن عقودا متطاولة من الاستبداد تقضي على أو تقلل من قدرة الشعوب المستبد بها على ممارسة الديمقراطية وتجاوز الماضي إلى الحاضر والمستقبل ...فإن الانفصال السلمي بين تشيكيا وسلوفينيا وسلاسة الانتقال في ألمانيا من التجزئة إلى الوحدة في ظل الليبرالية، وكذلك الهدوء الذي تم به التغيير في هنغاريا وغيرها، ما عدا عنف قابل للنسيان في بلونية ورومانيا وروسيا، رغم تطاول زمن القمع والمنع والتدمير النفسي والاجتماعي السوفياتي إلى سبعة عقود من الزمن، أمور تسمح لنا بتقوية ظننا بأن الفارق أعمق بكثير من ظواهر الأمور، حيث إنه يبدو كامنا في الجينات، ما قد يعني أننا لا بد أن ننتظر طويلا جدا حتى نعدل خارطة جيناتنا من دون داع إلى اليأس.

في عصور بعيدة، شهدت أمريكا عنفا حتى الإبادة، ولم يقصر ستالين في الإبادة أيضا ولكن شأن الشعوب هو غير شأن المستبدين .

أطلت لأن مسألتنا ذات شجون ..فلأعد إلى ما بدأت به من معطيات تساعد على جعل الانطباع إيجابيا إلى حد الاندهاش لدى الزائر العربي إلى أكثر المدن الأوروبية، مقابل سلبية كا ن لبنان في طريقه إلى الخلاص منها و مازالت قابليته لذلك موجودة، ولكنها تتناقص يوما بعد يوم، ولا تجد في المشهد العربي ما يقويها ويمكن أن يقال الكلام ذاته بتوكيد أقل أو أكثر عن الوعود الحضرية التي أحبطت في مصر منذ عقود، و ما زالت في خطر، وكذلك تونس التي أنجزت كثيرا في عهد بورقيبة الذي يبقى في حاجة إلى النقد. وفي سورية التي يجدر بنا أن نعدل في حقها، فننسب استعدادها التاريخي ولياقتها المهدورة لنهوض وصناعة حضارة مستفيدة من العراقة، وكذلك العراق الذي يملك كل المعطيات الملموسة للنهوض وتقديم الأمثولة، ولكن ينقصه العقل والذمة الضرورين لكل تقدم حقيقي بعدما كان غنيا بالعقلاء.

ولن يفوتني هنا أن أثمن نجاح تجربة حركة التحرر العربي وأفكار أو شعارات أو خطابات الحداثة العربية في تهريب المستقبل انتقاما من الماضي ...وأعود،وإن استطردت فعذرا، فأقول : إننا نشاهد في أوروبا ما يتيسر في المتاح من فرض التجول أو التسكع أثناء المؤتمرات التي يدركها الملل، حتى لا نكتفي برخاوة وحلاوة الفراغ والمكوث في الفنادق الفارهة، والتي لا تمنع فراهتها مع التكرار، من الملل، ونعود من التجوال العشوائي أكثر الأحيان، إلى حلقات البحث، وننشغل في فرز ما لا يلائمنا من موضوعات البحث كمطلقات الديمقراطية (تشريع المثلية مثلا)، ونردد في كل مناسبة تبرمنا من الجفاف في العلاقات الأسرية أو الجيرة في الغرب، علما بأن الفايروس قد انتشر في مدننا، على الرغم من تزييفنا لها ؛ أي معالجة الأورام بالأعشاب، وتعداها إلى الريف الذي كفت الأرض فيه عن أن تكون وسيلة إنتاج جامعة، من دون أن تنهض الصناعة والعلاقات العمالية (البروليتارية) بديلا لها، ويبقى النمط الاستهلاكي المشوب بالربعية والزبائنية يحكم أنساق علاقاتنا وعيشنا المشترك، حتى داخل الجماعة أو المذهب الواحد في اتجاه الانفراد والعزلة في المدينة الخدمية والريف المقال من دورة الإنتاج، بما تشكل العزلة من بيئة حاضنة للاكتئاب الذي تزيده العصبيات والصراعات المذهبية بؤسا، كاشفة زيف الفرح الذي يعترينا عندما نشرع في تقديس الذات الفرعية و تمجيد انتصاراتها الوهمية، وأبلسة الآخر وتوقع نهايته .

ويسدنا في أوروبا دفق الحب نحو الأطفال والعناية بالأمومة والطفولة، حتى البلوغ القانوني واستحقاق الحرية التامة، لتتولى الدولة بعد ذلك شأن تقديم العلم والعمل على صعوبات متصاعدة،لا تأتي من جهة الفساد الذي يحدث ويتلقى العقوبة المناسبة، بل من تعرجات حركة التنمية كثمن اضطراري لتغول رأس المال وفشل اليسار إلى الرفق بالحيوان، الحقيقي والعمومي، والذي نتمنى أن يشمل المشردين وسكان علب السردين والشعوب التي تتعرض إلى الاضطهاد اليومي من أقصى المعمورة إلى أقصاها، مرورا بفلسطين التي لا تساعدنا أوروبا إلا في إعادة إنتاج مآسيها. ونتمنى في داخلنا وفي أحاديث المائدة، أن نضيف شيئا من إيجابيات أوروبا، كما هي أو معدلة، إلى ما تبقى من إيجابياتنا، ونشغل أنفسنا في البحث عن مدارك في عقيدتنا وشريعتنا و تاريخنا، لتأصيل التفاعل والتواصل في الحدود التي لا تجردنا من خصائصنا الثابتة أو المرنة، أسوة بأهلنا الذين لم يخسروا ولم يجعلونا نخسر ـ عندما حولوا بغداد والأندلس إلى جامعة عالمية لإنتاج العلوم والعمران بالأبواب المفتوحة أمام الكفاءات المسيحية واليهودية والمجوسة والهندوسية واليونانية وغيرها، على شعور لدينا بنقص في الحرية وغياب أو تغييب أو امتهان للقانون، وعدم الإيمان بقوة العلم والعمل وقيمة الوقت والموعد والعقد والهدوء ونظافة الشارع وسلامة البيئة ودور المرأة وجمال التعدد وخفض الأصوات، بسبب مسألة حقوق الإنسان مزاحا غريبا لإزعاجنا، وتسجيل النقاط علينا وعلى إسلامنا .. وتستوقفنا طويلا عمومية عشق الموسيقى التي تمرن الأذن على سماع الهمس ذي الصدى الناعم العميق والموصل للفظ والمعنى إلى العقل والقلب. ويسترعي انتباهنا وغيرتنا وحسرتنا جمع غير قسري ولا مفتعل بين الأصالة والحداثة في طرز البناء عموما وفي فيينا خصوصا، حتى لتبدو الأحياء، كأنها لوحات أو نوتات فيلهارمونية، وهذه الطمأنينة البادية في تصرفات الناس ومسامرتهم المحسوبة بدقة من دون حرمان من اللذاذات، على العكس منا إذ يتراوح أمرنا بين الحرمان التام أو شبه التام من التمتع بالمجال العام وفرص الترفيه البسيط والضروري، وبين المبالغة في التبذير والاستمتاع إلى حدود الملل، واختراع الكيف والفرح الفج أو الفاجر لدى أغنياء الحروب ...ونحزن ونحن نرى ما نرى من بنى تحتية وفوقية منسجمة ومتكاملة، ونحن نقرأ أخبار التدمير المبرمج لعواصمنا وحواضرنا، والفتك بكنوزها العمرانية وذاكرتها الثقافية ومستقبلها المقتول في أطفالها أمواتا وأحياء في ليالي الصقيع ونهارات المرض والجوع الطويلة في المنافي ولا بد في فيينا أن تعود مرارا إلى نهر الدانوب الذي كان من حظنا أن إقاماتنا كانت في فندق على حافته، وكنا ننام على هسيسه ونصحو على تسبيحه وترتيله، و المراكب التي اعتادت المرحة فيه منذ مئات السنين بين مجموعة من الدول التي يمر بها، ومنها هنغاريا التي يقسم عاصمتها الرائعة إلى قسمين تأخذ اسمها من الجمع بينهما (بودابست)، والتي يعتبر جنسها الإثني المجري من أعمدة تاريخ النمسا التعددية بسبب عمقه وعرضه وغزارته وكأنه بحر، وفي اللغة العربية يسمى كل ماء فسيح بحرا، ومن هنا لا يقال للنيل في الكلام الشعبي في مصر إلا (بحر النيل) الذي يتردد بكثرة في الإنية المصرية، وإن كان النيل، وفي المدن التي يمر بها، وفي القاهرة خاصة، يميل إلى السواد بسبب ضخامة كميات النفايات المرمية فيه، حيث يصعب على الموسوس بالنظافة والصحة أن يسبح فيه أو يأكل من أسماكه، وهذا يذكرني بالفرات الضحل بداية العهود الثورية في الخمسينيات حتى الآن، حيث تتعاظم ضحالته وقذارته، إلا في مواعيد ذوبان الثلوج في طريق مروره من ينابيعه ...ولأسابيع معدودة، حيث يتحمل الأسود إلى رمادي، ويتمكن البط البري من السباحة في عمق مائي كاف، ودجلة الذي لا يتخلف حاله كثيرا عن حال الفرات في الفقر المائي وانحسار الزرع على الضفاف، فضلا عن ارتفاع مستوى الطين والنفايات المتراكمة منذ عشرات السنين، من دون أن يفعل العهد الحالي شيئا لمعالجة هذه الحال المزرية، حيث يمكن أن نصف عمق النهر في منطقة بلد في قضاء سامراء، والتي سميت مصغرة باسم النهر (دجيل) نصف العمق للطين والنفايات، والنصف الثاني للمياه التي لا تبلغ مستوى اليابسة حتى في الأيام التي كانت في الماضي أيام طوفان، وعندما تصل إلى بغداد يقول لك أهلها بأنهم كفوا عن أكل الأسماك الدجلوية، فانتعشت مزارع السمك الصناعي الذي يكاد بالكاد أن يصلح (للمسقوف) وبقليل من النكهة ...أما لماذا ؟ فلأن ألفا وثلاثمائة عراقي بين شيخ وشيخة، وفتى وفتاة وطفل وطفلة، سقطوا خلال دقائق من جسر الأئمة إلى قاع النهر، لأسباب سياسية محشوة بالمذهبية أو أسباب مذهبية مدهونة بالسياسة...والله أعلم .

الدانوب أخضر والبحار في أوروبا زرقاء صيفا خضراء شتاء، رمالها في شواطئها متحررة من الملكيات الخاصة الجشعة ومن قساوة الباطون والأبراج الحاجبة للأفق ولمنظر الشمس، وهي تغرب بتأن من حيث يلتقي ضوءها البرتقالي بغيمة من جانب ومو جة بحرية من جانب آخر ..وعلى ضفاف الدانوب يحلو لك أن تنادي الإوز، فيأتي مترعا بالأمان لأنه حر، وهو حر لأنك حر، أو تشبه المواطن النمساوي الحر، ولا تدري الإوزة بما في داخلك من جوع إلى الحرية التي لا تكون ولا تسلم ولا تنمو إلا بالقانون نصا وروحا والتزاما ...والنهر حر أيضا يرافقك زبده الخفيف أو رذاذه اللطيف إلى قاعات هايدن بتهوفن وموزارت وباخ وفاغنر يوميا (أعني هنا شخصا يشبهني من أهل فيينا) سوى شرقي آسيوي سألته عن موزارت فقال : لا، أنا لا أسمع ولا أحب إلا موسيقى عشيرتنا.

علما بأنه قضى عشر سنوات من طفولته في فيينا ونال جنسيتها. النمسا بلد رأسمالي بلا تردد أو مواربة، ولكن الحديث عن الثورات المتغولة وصاروخية نموها بالحرام والحلال، وفي غفلة من أعين مصلحة الضرائب،قليل، وتسمع أكثر عن الثروة و الثراء بالإنسان وفيه، والتي تنمو بمعدلات متزايدة، مع قليل أو كثير من المشاكل التي لها علاجات سريعة وغير باهظة. وقد يصبح بعضها عضالا، من دون أن يقوض الوطن والمواطن والدولة ودورها وضرورة تجديدها بالديمقراطية تحت سقف الحقوق والقانون الذي يخالفه البعض جراء الفهم الخاص للحرية، ولكن مصيره يكون إلى قاعة المحكمة، حيث القضاء مستقل يعدل في الثواب والعقاب، ويخطئ عمدا فيحاكم أو سهوا فيحاسب، ليعود من على المنصة، ومن وراء ستائر التداول والشورى، عمودا للاجتماع ورافعة للدولة، تخدمه السلطات ولا ملموسة، لا افتراضية كما هو في بلدك بأن الثروة والنمو لا تعني مقادير النفط ولا النقد الذي يختزنه البلد، بل يعني الإدارة القائمة على العلم والمعرفة والتعاقد الوثيق بين الدولة والمجتمع.

وتستوعب ذلك بوضوح لا التباس فيه، وتتحسر على حالك، وتحس بالإعجاب والمرارة معا، عندما يحدثك معمر نمساوي، أنهم في زمن الحروب، وحتى بين حرب وحرب، كانوا، إلا قلة ضئيلة منهم، يخرجون يوميا تحت الثلج ليحفروا بأدواتهم الفقيرة في جبال الجليد بحثا عن عروق النبات والحشرات في القاع، ليقتاتوا عليها ويسدوا جوع أطفالهم الذين لا تهدأ أسنانهم الطرية في حلوقهم، بل تبقى مضطربة، حتى بعد تناول الوجبة التي لا تسد جوعا، بل تمكن الطفل من النوم، انتظارا لصباح آخر عل عرق نبات أكبر يكون من نصيبه.

وعندما رآني الطبيب العراقي مطرقا، قال لي : بأن الدولة السويدية آوته وعلمته ومنحته الجنسية، قبل سنتين من استحقاقه القانوني لها، بسبب التزامه بالقوانين ومداومته على تسديد ضرائبه في مواعيدها. فسألته إن كان قد علم بما قاله جمال الدين الأفغاني عن تجربة مباشرة، من أنه وجد في أوروبا إسلاما من دون مسلمين، وفي أقطار الإسلام وجد مسلمين من دون إسلام ؟ فهز رأسه موافقا.

من أين يأتي الهدوء إلى بعض العواصم ؟ أنه يأتي من منابع كثيرة، ويأتي من الموسيقى هواية وحرفة وعلما منقوشا في الصغر، ومن هنا بإمكانك أن تصغي وتسمع حوار العمارة مع العمارة، وبينهما أصالة وحداثة، وبين الشجرة والشجرة والحشرة والحشرة، وبين النحلة والوردة، والنملة وحبيبها، وهمس العشاق في الحدائق والحوار بينك و بين الناس بلا لغة، و تسمع كلام الأعمار إلى الأعمار والألوان إلى الألوان والماضي إلى الحاضر والحاضر إلى المستقبل، بإمكانك أن تصغي إلى الصمت، وبإمكانك أن تقرأ وتسمع الكلام المكتوب لفرط الهدوء من حولك، وتتذكر أنك تجبر في ليالي الصيف أن تغادر الشرفة التي تلذ لك القراءة والكتابة عليها، رغم ازدحام السير نهارا وبعض الليل، وزعيق منبهات السيارات، لأن أصحابها مستعجلون الوصول إلى مكان لا يبعد أكثر من مئة متر أحيانا، ومن دون ضرورة، وفي فييينا لم نسمع شيئا، حتى ولا صوت ماكينة السيارة أو الترامواي، ولا صوت صفق أبواب السيارات والمنازل .. تضطر إذن إلى مغادرة الشرفة، بعدما يثور الرصاص من كل مكان، تعقيبا على خطاب أو ابتهاجا بختان عزيز، أو نجاح تلميذ في الابتدائي أو تجريبا لسلاح يراد بيعه في ساعة متأخرة من الليل، عندما ينام الشرطي الذي لا يستطيع أن يصحو ويرى ويسمع و يفعل ... ومن العاشرة وما فوق، يخلو ميدان الكورنيش الطويل العريض للدراجات النارية الضخمة التي تأتي أرتالا من دون عادمات، يمتلىء فضاؤك وفضاء الأطفال النيام والمرضى والعجز والطلاب الذين يقرأون للامتحان غدا، وعشاق الروايات والشعر والقرآن ...يمتلئ الفضاء بالزعيق والجعير ...ولا تنس المفرقعات التي تملأ الفضاء لسبب أو لغير سبب .

في لحظة هدوء قاتل لشدة هدوئه، لا يقوى على استيعابه جسدي ولا أذني ولا عضلاتي ولا عيني ولا ملابسي ولا أحزاني وإحباطاتي، تذكرت أن فيينا مدينة (الفالس) وسرا تذكرتن أسمهان وفالسه (ليالي الأنس في فيينا) وعندما لوحت من بعيد لأحد المشايخ بما خالجني، ذكر أسمهان من دون حرج، فدلني على الفرق بين شيخ مثلي متحدر من أسرة دينية وشيخ مثلي متحدر من أسرة زراعية وعرفت سر تأثمي من الحلال، والجميل الذي لا يفارقني، وإن حاولت فراقه، وسر استمتاع غيري بالحلال وغيره ... وتذكرت قصيدة صلاح عبد الصبور الأثيرة لدي، والتي يمكن أن أكتب بعضا منها هنا أو كلها، لولا أن جرعة الغزل الحسي المباشر والرائع فيها كبيرة ... عندما أعود إلى بيروت، سوف أقرأ القصيدة كاملة عل مسامع زملائي المشايخ المعروفين بالتقوى والعلم والذوق كما كنت أفعل...سأقرأها لهم في خلوة كما تعودنا ... فإن دخل علينا دخيل نسيناه، أنساناه الشعر واستمرت القراءة والاستحسان والتأوه الذي يصدر عن شارب الشعر وكأنه وجع الاكتشاف ...استمرت القراءة، وثنينا بنزار قباني، خاتما بغزليات سعيد عقل والجواهري، وقرأناه سورة النور من القرآن، لنقول للإثم أن يبقى بعيدا، وللروح أن تزهر فرحا ...أو حزنا إن شاءت، ولكنه حاشد بالفرح.

لا أعرف، ولست مهتما، بمعرفة أماكن الأنس التي كتب لها وفيها أو بوحي من ارتيادها ومراودتها، الشاعر المصري مقطوعة الفالس التي غنتها أسمهان، ولكن عندما وصلت إلى فيينا شعرت وكأني أفي بوعد وعدته لذاتي بالكون يوما في فضاء الأغنية ..أما حين قرأت قصيدة صلاح عبد الصبور الأسرة، فقد ظلت حاضرة في ذهني وفي ليالي الشعر التي تمرنا عليها في النجف، بعد الإفطار والدعاء والقرآن، من مقطعها الأول "وقفت قربها .. أضمها، أشمها، أحسها ..النبض نبض وثني ...والروح روح صوفي سليب البدن ...يا جسمها الأبيض قل: أأنت صوت. فقد تحاورنا كثيرا في المساء". وبلغت القصيدة وبلغت معها قمة الدراما، عندما ختمها صلاح قائلا: ".. .تمتمت من دون صوت ...كأنها تسألني من أنت؟".

تحية لفيينا التي يرقى جسدها إلى مستوى الروح من دون أن يكون بديلا لها، وترقى الروح إلى مقام الجسد، لا تنزل ولا تتنازل، بل تتنزل عليه لتتوحد به ومعه ...وتذكرت أمل دنقل، واقفا في ميدان التحرير في العيد الألفي لقاهرة المعز يقول، أو يبكي، أو يدركه ذعر متذكر وذعر مبكر، فيحبط قائلا :"عندما تهبطين على ساحة القوم لا تبدئي بالسلام، فهم الآن يقتسمون صغارك فوق صحاف الطعام، بعد أن أشعلوا النار في العش والقش والسنبلة، وغدا يذبحونك بحثا عن الكنز في الحوصلة، وغدا تغتدي مدن الألف عام، مدنا لخيام، مدنا ترتقي درج المقصلة".

أليس الشعر قبسا من النبوءة؟ أليست هي الدرجة أو المرقى الأعلى من الشعر؟ حيث يدنو فيتدلى، فيكون (قاب قوسين أو أدنى)؟.