المساواة مطلب لتحقيق الإنسانية


فئة :  حوارات

المساواة مطلب لتحقيق الإنسانية

المساواة مطلب لتحقيق الإنسانية(1)

تنطلق نائلة السليني من فكرة أساسية مفادها أن المساواة الحقيقية لا تتحقق، إلا إذا انطلقت من قضية المواريث، وترتكز على جوهر أساسي يتمثل في تمكين المرأة من نفس حقوق الرجل، واعتبار الجنسين أفرادا أساسيين في التركيبة الاجتماعية.

وتوضح الباحثة التونسية، وأستاذة الحضارة الإسلامية، أن المواريث في المنظومة الفقهية من خلال تشريعاتها، عملت على تكريس دونية النساء وفرض البنية الهرمية في المجتمعات الإسلامية، وتقف الباحثة عند القوامة والولاية كمفاهيم أساسية، ترى أنها متجذرة في المخيال الجمعي، وهي أساس الرؤية الفقهية التي تعرف تغييبا لكينونة المرأة، وتجعلها مختزلة في شرف العشيرة أو الزوج، كما تعتبر أن القضايا المتّصلة بالمرأة كانت دوما ومنذ القرن التاسع عشر تتنزّل في مرتبة أقلّ أهميّة، وهو ما يجعل الجسم الاجتماعي غير مكتمل والمجتمع غير مستقيم.

وتؤكد نائلة السليني، أن البنية الذهنية للمجتمعات الإسلامية لم تعد تشبه ما كان سابقا. لذلك، فالنساء اليوم لا يبحثن عن تمييز إيجابي، وإنما يطالبن بمساواة تامّة دون قيد أو شرط تتحقّق بها إنسانيتهن، وأن يعترف لهن المجتمع بهذه المساواة دون خلفيات ذهنية.

وتثير نائلة السليني شخصية عمر بن الخطاب، الذي كانت له القدرة على تجاوز العمل بقطع يد السارق وفقا للنص القرآني، بل وكان أول من فرض ميراث الجد. وتفسر المقاومة الشرسة التي تثيرها مراجعة قوانين الإرث بكونه ركنا تنبثق منه جميع المنطلقات التي تكرس دونية المرأة وهرمية المجتمعات الإسلامية، لذلك فالقول بالتغيير في أحكام المواريث سيطيح حتما صرحا كاملا تنضوي تحته جميع الأحكام المتّصلة بالمرأة.

وتوضح نائلة السليني، أن الوصية في الميراث تجسد الحريّة المطلقة للمالك في توزيع ملكه لمن يشاء، لكن الوصية عرفت محاصرة من طرف الفقهاء والمفسرين كونها تضرّ بالأعراف التي نشأت عليها المجتمعات الإسلامية. لذلك تخلص الباحثة، إلى ضرورة مساءلة جديدة لجميع القوانين التي تتعلّق بالمجتمعات الإسلامية، وأن يكون قوام المراجعة الاقتناع الصارم أنّ ما بَلَغَنا من أحكام طيلة خمسة عشر قرنا، هي في مجملها ثمرة مقاربة بشرية لا غير، وتأويل بحسب ما اقتضته أوضاع المجتمعات الإسلامية في تلك العصور؛ فالباحثة ترى أن مشكلتنا اليوم تكمن في بقائنا أسرى مقاربات الأوائل وانقطاعنا عن مشاغلنا، ما خلف قطيعة معرفية بين قوانيننا، وانتظارات المجتمعات المعاصرة، وأحدث شرخا في البنية الاجتماعية التي لم تعد تستجيب لمبدأ الولاية والطاعة، واستبدلتهما الباحثة بمرجعية الفرد ودوره في المجتمع.

وتنهي نائلة السليني حديثها بما أثاره ابن حنيفة قديما، حين آخذوه على مخالفة السابقين، فقال: "هم رجال ونحن رجال"، واليوم الباحثة تقول: "هم رجال ونحن نساء ورجال".

وتجدر الإشارة إلى أن الباحثة التونسية نائلة السليني، حاصلة على دكتوراه الدولة في موضوع "في تاريخية التفسير القرآني والعلاقات الاجتماعية إلى القرن الثامن للهجرة"، وتشغل منصب أستاذة التعليم العالي في جامعة سوسة، وهي مستشارة دولية ببرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وعضوة في الفريق المركزي لتقرير التنمية الإنسانية "نحو نهوض المرأة في الوطن العربي" سنة 2005، وعضوة في الفريق الاستشاري لتقرير المعرفة العربي الأول، التابع لمؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم بدبي سنة 2009. كما شاركت في تحرير تقرير "التربية على المواطنة في الوطن العربي" تحت إشراف مركز كارنغي، بيروت سنة 2011ّ، وشاركت في تحرير تقرير "المرأة وصنع القرار في الدول العربية"، تحت إشراف الإسكوا، بيروت سنة 2011.

صدر لها كتاب بعنوان "قضايا الأسرة في مصنفات التفسير المناكح، الرضاعة، المواريث" عن المركز الثقافي العربي سنة 2002، كما لها مجموعة من المنشورات العلمية الأخرى، نذكر من بينها: "المرأة والعنف المشروع: قراءة في الفتاوى المعاصرة" سنة 2008، و"الشريعة بين النص القرآني وتأويل الفقهاء" سنة 2012

هاجر لمفضلي: ما هي الدواعي التي تقف اليوم وراء المطالبة بإعادة مراجعة الإرث وفق مبدأ المساواة؟ وهل هذه الدعوة وليدة متغيرات المجتمع الرّاهن، أم هي مطلب قديم ملازم لتاريخ المجتمعات الإسلامية؟

نائلة السليني: المطالبة بمراجعة المواريث من منطلق مبدإ المساواة هي إدراك بأنّ مسألة المساواة الحقيقية لا تتحقّق إلاّ إذا انطلقت من قضية المواريث؛ فالمواريث في المنظومة الفقهية كاملة اختزنت جميع التشريعات التي تكرّس دونية المرأة. وظلّت هذه المنظومة عبر العصور حريصة على فرض البنية الهرمية في المجتمعات الإسلامية، حتى وإن اقتضى منها الأمر مفارقة النصّ القرآني والتضحية بدلالاته في سبيل الالتزام بقوامة الرجل على المرأة. ولذلك، فالقارئ لمدوّنات المواريث يجد نفسه وقد غاص في متاهات من الحيل الفقهية، وتواجهه منعرجات في التأويل ولا حضور للنصّ القرآني فيها، وإنّما كان الوفاء والالتزام بمقالات القدامى سيد المنهج في سبيل تكريس مبدإ القوامة لا غير.

لكن أشير إلى أنّ المجتمعات الإسلامية عبر العصور لم تكن تتحلّى بصفة التسليم التي نلاحظها في مقالات الفقهاء، وخاصّة المرأة، فرغم صمتها في مدوّنات الفقه، فقد كانت، ومن خلال النوازل التي يقلّبها الفقهاء رافضة، ولا نعثر على هذا الأمر في المواريث فقط، بل في مسائل أخرى مثل أحكام العدّة، التي تكبّل المرأة بقيود من التشريعات وتدكّها في خانة العبودية إن لم أقل الحيوانية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى شرط الوَلاية في النكاح، غير أن المرأة في عصرنا الحاضر صارت أقدر على التعبير عن هواجسها وأنضج في طرح القضايا.

هاجر لمفضلي: يرى البعض أن النقاش حول مسألة المساواة في الإرث هو مجرد زوبعة في فنجان، ومسألة ثانوية أمام التحديات السياسية والاقتصادية التي تواجهها الدّول العربية الإسلامية، فما قولك في ذلك؟

نائلة السليني: اسمحي لي بالقول: إنّ من ينطق بهذا الموقف هو إنسان يريد أن يرى الواقع من وراء حجاب؛ فالقضايا المتّصلة بالمرأة كانت دوما ومنذ القرن التاسع عشر تتنزّل في مرتبة أقلّ أهميّة، بدعوى أنّ المجتمعات الإسلامية تواجه ملفّات حارقة تعوقها عن التقدّم؛ فمنها المعارك المصيرية مع الاستعمار... ومواجهة الفقر... وعلى هذا الأساس يرجأ النظر في قضية المرأة عموما وقضية المواريث على وجه الخصوص إلى حين الانتهاء من ملفّات هي في نظرهم حارقة، ولا نجاة لنا إلاّ بالنظر فيها. وإن اعتبر أنّ للجسم الاجتماعي يَدَين، فقد غاب عنهم أن المرأة هي تلك اليد الثانية التي ظلّت عالقة في رقاب هذه المجتمعات عبر العصور... وإن كان للجسم عينان، فقد تعوّدوا على النظر إلى حاضرهم بعين واحدة وأغمضوا عينهم الأخرى بدعوى "الحفاظ عليها"، ولذلك كانت حلولهم عبر العصور "عوراء"؛ فالمجتمعات لا تنهض سوى بكامل مكوّناتها، والفرد امرأة كان أو رجلا هو أهمّ عنصر في بناء المجتمع، ولا تستقيم أحوال المجتمعات إلاّ بعمل جميع مكوّناته.

هاجر لمفضلي: هل يمكن اعتبار المساواة في الإرث قضية تتمركز ضمن إشكاليات الإسلام السياسي؟

نائلة السليني: مرض هذا العصر الذي تمكّن من الجسم الاجتماعي الإسلامي مهما اختلفت به الأرض هو الإسلام السياسي، وهو منهج أيديولوجي استولى على الدين؛ أي العقيدة؛ أي إيمان الشخص العادي وأخذه رهينة بين يديه، وتحوّل كلّ من ينتمي إلى هذا الاتجاه إلى قاض يوزّع صكوك التوبة أو الإدانة، مع العلم أنّ هذه الظاهرة لم تبرز سوى في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأوّل من القرن العشرين مع انتشار هذا الاتجاه وازدهاره. والغريب أنّنا نجد مقاربات في الإسلام السياسي تدعو إلى مساواة المرأة بالرجل، لكن حذار فهي مساواة مشروطة ومقيّدة بقوانين: فلا مساواة للمرأة بالرجل سوى في مجال النشاط السياسي والحركي؛ أي إنّ المرأة والرجل على حدّ سواء، في هذا الاتجاه لا ينطقان سوى بمقالة الزعيم، وليس لهما حريّة المبادرة، ولذلك فإنّ النشاط الحركيّ مقنّن وملزم بقيود الحزب الإسلاموي. ولهذا السبب، فإنّ الدعوة إلى المساواة في المواريث تستبطن دعوة إلى مساواة حقيقية تنطلق من تمكين المرأة من نفس الحقوق التي للرجل، واعتبار الجنسين أفرادا أساسيين في التركيبة الاجتماعية، وهذه قضية خطيرة على حياة الإسلام السياسي، وإنباء بقرب أجله.

هاجر لمفضلي: هل يعتبر مبدأ تطبيق المساواة في الإرث بين الرجال والنساء انتهاكا للنصوص الدينية؟ وهل هذه النصوص قطعية وثابتة كما تذهب إلى ذلك بعض التيارات الدينية؟

نائلة السليني: أوّلا لنتّفق ما المقصود بالنصوص الدينية؟ وهل نعتبر أنّ ما بلغنا من روايات عن اجتهادات الصحابة في المواريث نصوصا دينية؟ وهل من ضامن يحفظ تناقل الرواية مشافهة كما هي؟ سيما وقد ظلّت حيّة في ذاكرة الحفّاظ سنوات، وانتقلت من فرقة إلى أخرى في رحلة دامت قرونا، ثمّ كيف لنا أن نجيب عن تعارضها مع النصّ القرآني، وقد أدركنا اختلافها معه في الدلالة؟ وهل نسلك سبيل الهروب من مواجهتها والاحتماء بمقالات القدامى، لنقول في النهاية: هذه نصوص قطعية الدلالة ولا يجوز النظر فيها؟ وهل مدوّنات الفقه التي غفلت عن النصّ القرآنيّ، حتى أنّك لا تكاد تعثر على سند منه في التشريعات التي أقرّتها، هي قطعية الدلالة، ويعتبر كلّ باحث وناظر فيها من أهل الزيغ والكفر؟

من هذا المنطلق، اعتبروا المساواة مصطلحا غريبا، ولا ينسجم مع قطعية الدلالة، ثمّ في الوقت نفسه سعوا إلى أن يوظّفوا هذا المصطلح، وقد ألبسوه ثوبا جديدا هو غير المعنى الاصطلاحي المتداول في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، فليس هو بلوغ الأفراد نفس الدرجة في الحقوق والواجبات، وإنّما هو العدل في احترام مبدإ التراتبيّة بينهم، ومراعاة المفاضلة. وظلّ هذا المفهوم قانونا ثابتا يحتكمون إليه في شريعتهم. وعلى هذا الأساس، نسألهم: إن كانت فعلا أحكام الفقه ملتزمة بقطعية الدلالة، فكيف نقرأ القدر في ديّة المرأة نصف قدر الرجل؟ هل ذُكِر هذا الحكم في القرآن؟ أليس قياسا على النصف في المواريث وتلك مساواة وعدل، ألا تستوي المرأة "المسلمة" في هذا الحكم مع الذمّي الذي يقاس قدره على نصف قدر الرجل المسلم؟ وقس على ذلك أحكامهم في القَوَدِ التي كان لها انعكاس مباشر على انتظام الأفراد في المجتمع، وحفظت الفوارق بين الرّجل والمرأة متظلّلة بمبدإ القوامة، فكان أن سقطوا في التناقض مثل قولهم في ديّة المرأة الّتي قطع أربعة من أصابعها أنّها تساوي الّتي قطع لها أصبعان.[2]

ولو كانت المواريث قطعية الدلالة كما يدّعون، لما احتاجوا إلى إنشاء "علم الفرائض" بديلا عن النصّ القرآني، ولو كانت قطعية في دلالتها لتحدّثوا عن الكلالة في القرآن، وتخلّصوا من الأدبيات الحافّة بالنصّ المقدّس، حتى يقدّموا تفسيرا غريبا عنه وناشزا.

هاجر لمفضلي: يرى بعض المعارضين لمراجعة الإرث أن هناك العديد من الحالات التي يتساوى فيها النساء والرجال في الإرث، وحالات أخرى ترث فيها النساء أكثر من الرجال، فهل يمكن اعتبار هذه الحالات امتيازا حقيقيا للنساء؟

نائلة السليني: هذه النقطة تندرج في سياق فهمهم لمسألة المساواة، وأعتبر المخرج الذي أوجدوه قصّة من قصص "ألف ليلة وليلة"، فما أن نطالب بها حتى يمطروننا بسيل من المعاني الفقهية للاستدلال بأنّ ما ورد في الفقه ناطق بالمساواة، بل يذهبون إلى الاحتجاج بأنّ المساواة في المواريث خيانة لما أمر به الله في آيه، وأنّ المرأة ترث أكثر من الرجل في 30 حالة... وغفلوا عن أنّ هذه الحالات لم ينطق بها نصّ، وأنّها كانت مسائل خلافية، وظهرت بوادر الاحتجاج بها عندما انتشرت المناداة بمراجعة المواريث لا غير. وعندما نقول مسألة خلافية، فمعناه أنّها لم تنطلق من إجماع الفقهاء ويجوز الطعن فيها أو الأخذ بغيرها. وزد على ذلك، أنّ المجتمعات لم تعد تستجيب إلى هذه البنية الاجتماعية القديمة القائمة على تعدّد الزوجات وملك اليمين... فالبنية الذهنية للمجتمعات الإسلامية اليوم لم تعد تشبه ما كانت عليه المجتمعات في القرون الخوالي، ولذلك عليهم بالاقتناع بهذه الحقيقة، والمرأة اليوم لا تبحث عن تمييز إيجابي، ترفض أن ترث أكثر مثلما رفضت أن ترث أقلّ، هي تطالب بمساواة تامّة دون قيد أو شرط، مساواة تتحقّق بها إنسانيتها، وأن يعترف لها المجتمع بهذه المساواة دون خلفيات ذهنية.

هاجر لمفضلي: شهد التاريخ الإسلامي العديد من الحالات التي تم فيها تعطيل العمل ببعض النصوص الدينية الصريحة، كقطع يد السارق مثلا مراعاة لبعض الظروف والسياقات الاجتماعية، فلماذا نجد مقاومة كبيرة فيما يخص مسألة المساواة في الإرث؟ وهل يمكن اعتبار هذه المقاومة ذكورية أكثر مما هي مسألة دينية؟

نائلة السليني: ما أثر عن عمر أنّه كان شخصية مدركة لقدرته على تجاوز النصّ، فهو لم يوقف العمل بقطع يد السارق فحسب، وإنّما كان أوّل من فرض ميراث الجدّ. ألم تحتفظ الفرائض بأمثلة من اجتهادات عمر تقيم الدليل على أنّه لم يلتزم بالنصّ، وأذكر "مسائل العول"، وهي زيادة الفروض على التركة، ولك في أمّ الفروج وأمّ الأرامل وخاصّة المنبرية أحسن مثال على ما نقول، إذ "صار ثمنها تسعا"، كما عبّر عن ذلك عليّ بن أبي طالب. وأثر عن ابن عبّاس أنّه قال عنه: "كان رجلا مهابا فهبته".[3]

وعلى هذا الأساس، بماذا نفسّر هذه المقاومة الشرسة كلّما أثيرت مسألة مراجعة أحكام الميراث؟ المسألة بسيطة، لأنّ الميراث هو الركن الأساسي الذي منه فرّخت جميع المنطلقات التي تحفظ اختلال التوازن بين المرأة والرجل، واليوم الذي يتجاوز فيه المجتمع عقبة الميراث، تنهار جميع الأحكام التي تكرّس دونية المرأة وتبني هذه الرؤية الهرمية في مجتمعنا، فلا المساواة في المجال السياسي بضامنة لاعتبار المرأة مساوية للرجل مساواة كاملة، لأنّ مشاركتها داخل نظام حزبي يشترط انضباطها لاختيارات ذلك الحزب، ولذلك فلا حرج في أن تكون امرأة أو رجلا... ولا منع تعدّد الزوجات يفتح لها باب المساواة كاملا، لأنّها ستظلّ تتحرّك داخل منظومة تكفل للرجل مبدأ قِوامته عليها، ولذلك فمادام العامل الاقتصادي، مهما كانت قيمته، عنصرا أساسيا في المنظومة الفقهية، فإنّ الحديث عن المساواة سيظلّ تنويعا لا يمسّ الجوهر. لذلك أقول إنّ التغيير في أحكام المواريث سيطيح بصرح كامل تنضوي تحته جميع الأحكام المتّصلة بالمرأة، أحكام لا همّ لها سوى المحافظة على مبدإ القِوامة أو قل الوَلاية. ولهذا السبب، فإنّ الطريق صعبة ومليئة بالصخور الصلبة التي تحجّر عقولا هي حبيسة مقاربة قوامها المسلّمات التي تلّبست بالديني.

هاجر لمفضلي: هل يشكل مفهوم القوامة اليوم عائقا أمام تحقيق المساواة في الإرث في المجتمعات العربية عموما؟

نائلة السليني: القوامة مفهوم متجذّر في المخيال الجمعي، وأعتقد أنّ جميع العلاقات قائمة على هذا المبدإ؛ فالولاية والقوامة هما أساس الرؤية الفقهية؛ فالولي هو الأب بالنّسبة إلى البكر، له أن يُنكحها من غير رضاها، وهو الأب بالنّسبة إلى الولد الصّبيّ، إذا أراد أن يُنكحه، فيليه في دفع صداقه. والوليّ هو الأقعد في النّسب، إذا غاب الأب بالنّسبة إلى المرأة البكر، أخوها كان أو عمّها أو جدّها أو ابن عمّها، حتّى ابنها الصّبيّ، إن كانت ثيّبا. وإن غاب أصحاب القرابات في الولاية، فللمرأة أن توكل وليّا، وإلاّ فالسّلطان وليّها.

وتنتقل الولاية إلى الزّوج منذ أن يقبض الوليّ المهر، لكن لا تعتبر ولايته مطلقة، وإنّما فيها مع الأب أو الأخ أو الابن...، ويظلّ يتقاسم المرأة، وهي في بيت الزّوجية، سيادتان؛ أولى طبيعيّة، لأنّها تكسبها مكانة في مجتمعها، تدافع عنها، وتحفظ مهرها إن كانت المرأة من طبقة الأغنياء، وسيادة ثانية يمكن أن ننعتها "بالمؤقّتة"، وتتمثّل في ولاية الزّوج الّذي يتمتّع بقسط وافر من سيادته عليها: المطالبة بالإنجاب، وحفظ عرضه وطاعته، ويتصرّف في نصيبها من المواريث، ولا يسمح لها سوى بثلث مالها "إن عرف صلاحها".

غابت بذلك من مقالات الفقهاء المرأة باعتبارها كائنا حيّا، فتجرّدت من أنوثتها ونُظر إليها وقد اختزلت شرف العشيرة أو الزّوج، و"حفظت" في حجاب، واعتبر النظر إليها دنسا يلحق الزوج أو العشيرة، والغريب أنّ المرأة انصهرت في هذه الرؤية، وتقلّدت وظيفة الدّفاع عنها، ولم تر في تعامل المجتمع معها ظلما قد أُلحق بها، بقدر ما كانت مقتنعة أنّه طبيعيّ في خلقتها، وأنّ وجودها إنّما هو مكرّس في سبيل الأب أو الأخ أو الزوج أو الابن، وهو في الحقيقة مظهر من مظاهر البحث عن الحماية والاستقرار.

والسؤال: بماذا نفسّر هذا الرعب كلّما ظهر موقف ينادي بالمساواة في المواريث؟ ألهذه الدرجة تعتبر المواريث مرادفا للإيمان؟ وهل كان للقدامى مثل هذا الخوف من مقاربة المواريث؟

هاجر لمفضلي: كيف تفاعلت مختلف التيارات السياسية والمدنية مع دعوة الرئيس التونسي السيد الباجي القايد السبسي إلى إقرار قانون يقضي بتطبيق المساواة في الإرث بين الرجال والنساء؟

نائلة السليني: تنوّعت المواقف بحسب الاتجاهات، ويمكن إجمالها في:

- الموقف الرافض لعلم الفرائض، لأنّه واضح وخال من التعقيد؛ إذ يرى أصحاب هذا الاتجاه أنه لا فائدة ترجى من الرجوع إلى المقالات الفقهية حتى نردّ على الطابع الرجعي لمسألة الميراث، وأنّه مجهود مهدور ولا طائل من ورائه، وعلينا مقابل ذلك أن نركّز على المسألة الاجتماعية، والديناميكية التي تعيشها المجتمعات الإسلامية التي هي مثل غيرها من المجتمعات، صارت فيها المرأة كائنا حيّا له حقوق وعليه واجبات، وتبعا لذلك يجب التعمّق في هذه المقاربة لنصل إلى إقرار المساواة التامّة بين المرأة والرجل. هذه مقالة اليسار مجملة، اختزلت ما نطمح إليه وننادي به منذ سنوات، لكن، هل المجتمعات الإسلامية باختلاف انتماءاتها قادرة على أن تستوعب هذه المقاربة؟ وإلى أيّ مدى يمتلك المسلم القدرة على التخلّص من الوازع الديني والمتمثّل في الورع؟ وخاصّة إذا قيل له إنّ هذه المسائل هي ممّا أقرّه الله، وهي قطعية الدلالة، وأنّ كلّ من خالف أمر الله فمآله جهنّم ولن يغنم سوى غضبا من الله إلى يوم الدين... فحتى المثقفين من المسلمين تراهم متذمّرين إذا سمعوا مقالة تتجاهل المقاربة الفقهية، والسبب واضح، ويكمن في أنّ المسلم المعاصر لا يعرف النصوص، بل وعاجز عن فهم المقالات الفقهية التي تقتضي رياضة ذهنية لا يقدر عليها سوى من تمرّس بها. ولهذا السبب، كنت دائما أعتبر هذه المقاربة ناقصة، ومتنكّرة لواقعنا الحزين، واقع يجهل تاريخ النصوص والآليات التي تحرّكه، كما كنت أعتبر أنّ الانضواء تحت هذا الاتجاه لا يذهب بنا بعيدا، وأخشى ما كنت أخشاه أن تذهب مجهوداتنا سدى، ونصير محلّ نقد من المجتمع.

- أمّا الموقف الثاني، فهو الحامل للمقاربة التقليدية، وهي أشدّ خطرا في نظري، لأنّ المجتمع ينصت إليها حتى وإن تظاهر باللامبالاة، والسبب لأنّها تتجه مباشرة إلى الوجدان الديني القائم على التخويف من الابتعاد عن كلمة الله والترهيب من عاقبة الوقوع في المحرّم... وأعتبر أنّ عمل هؤلاء سهل ولا يحتاج إلى كبير جهد، فالأنفس تطمئنّ بطبعها إلى السائد الذي ولدت عليه، وكلّ تغيير يحرج ويقلق.

هاجر لمفضلي: أوضح الرئيس التونسي في خطابه أن مشروع القانون الجديد سيترك المجال مفتوحاً أمام اختيار تطبيق قانون المساواة في الإرث أو عدم تطبيقه، فهل هذه الخطوة في نظرك ضرورية في البداية لضمان الانتقال التدريجي نحو تبني المساواة في الإرث، أم أنها ستساهم في إبقاء الوضع على ما هو عليه؟

نائلة السليني: أعتبرها خطوة مهمة إذا سلّمنا بأنّنا نفارق النصّ، غير أنّ هناك حلولا فقهية أخرى أعتقد أنّها جذريّة وقائمة على النصّ، بل تجعله نصّا طيّعا لتحوّلات المجتمع، ولا يجهر بها سوى من كان مدركا حقّا أنّ هذا الحلّ لا يفارق النصّ، فيلتزم الجميع بحكم واحد لا غبار عليه.

وأوضّح، نقول: "الأصل هو الوصية لا غير"، ولو كان القدامى ملتزمين بحدود الدلالة القرآنية وما أمرهم الله به في هاتين الآيتين، لما وجدنا هذه النصوص الوفيرة والحائرة في قسمة الفرائض، ولما وجدنا الفقيه يتقلّب يمنة ويسرة صعودا ونزولا وهو يقسم التركة ولا يستقيم له الأمر. فالتشريع للوصية أصلا في الميراث يحلّ مشاكل جمّة: منها حريّة المرء المطلقة في توزيع ملكه لمن يشاء، امرأة كانت أو رجلا، بنتا أو أختا، قريبا أو قريبة، بعيدا أو بعيدة. وهذا طبعا يضرّ بالأعراف التي نشأت عليها المجتمعات والبنية الاجتماعية التي ترتسم إليها، وبدل الوقوف عند مختلف الدلالات التي يحيل عليها لفظ الوصية، انبرى الفقهاء والمفسّرون على اختلافهم في العصور، يحاربونه ويحاصرونه، حتى وإن كان عن طريق أحاديث موضوعة ومطعون في صحّتها، من نوع "إنّ الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة ثمّ يحضرهما الموت فيضارّان في الوصية فتجب لهما النار". والنتيجة، أنهم حجبوا العبارة القرآنية بمثل هذه الأحاديث، ولعلّ أشهرها الحديث المنسوب إلى الرسول "لا وصية لوارث"، ولو تحمّلنا قليلا من التعب لاكتشفنا مخزونا معرفيا في شأن هذا الحديث، خلّده لنا القدامى في غير ما حرج. وننبّه أيضا، إلى أنّ القرآن لم يحدّد مقدارا معيّنا في الوصية، وإنّما ترك للمرأة والرجل بالتساوي الحرية والحقّ في التصّرف فيما يمتلكان من مال. وعلى هذا الأساس، لا أرى حرجا إن أوصى/ أوصت بجميع ما يملك الموصي لشخص: امرأة كانت أو رجلا، ابنة كانت او ابنا، قريبا كان أو قريبة.... فالوصيّة في القرآن هي الأصل والمنطلق في التشريع، إن لم نقل هي الكافية الشافية. وما احتوى عليه من أحكام غيرها، وحملت على أنّها الفرائض ليست في الحقيقة سوى إجابات نزلت في حالات خاصّة جدّا طلب المسلمون زمن الوحي أن يجيبهم الله عنها، ولهذا السبب فأنت تجد جزءا من الجواب لا الحديث كاملا في قسمة التركة... ولنفس السبب أيضا احتار الفقهاء في النظر في بقية التركة التي سكت عنها النصّ كما ورد في الآيات: (4 - 11- 12..) من سورة النساء، وللسبب ذاته اعتبروا الآية في الكلالة مغلقة.. لأنّهم نظروا إلى النص القرآني من خارج منظومة الوحي، وحتى الأدبيات التي أنشأوها، واعتبروها سندا نصيّا يوضّح الدلالة وينسّق بين المعاني القرآنية، لم تفِ بحاجة المشرّع. وجميع ما ذكرنا يؤول بنا إلى حقيقة هامّة، وتتمثّل في أنّ ما أنشأه القدامى من فرائض أدرجوها تحت باب "العلم" هي ملجأ أحدثوه، حتى يتّقوا من نار "الوصية"، وتحميهم من ردّة محتملة عن النصّ الأصلي.

وهكذا حاول القدامى تنكّب المزالق التي قد توقعهم وهم يقصون الوصيّة، باعتبارها الحكم الوحيد الواضح في النصّ، واجتهدوا في استقصاء آليات أخرى يستعيضون بها عن تعطّل الدلالة القرآنية التي كانت بعيدة عن الشمولية؛ فكان أن أنشأوا، وهم يقطعون مسافة في الاستنباط والتأويل، مشغلا بديلا عن المواريث وسمّوه بعلم الفرائض.

فمشغل المواريث هو وليد مشاغل وأعراف، وليس أمرا مقدّسا أنزله الله لإلزامنا به مهما اختلف بنا المكان وتغيّر الزمان. هاتان المسألتان هما: ميراث الولاء، وميراث الخنثى. مع التنبيه إلى أنّهما قضيتان رئيستان في مشاغل الفقه قديمها، بل والغريب حديثها أيضا.

هاجر لمفضلي: كيف يمكن برأيك أن يساهم إصلاح قانون الميراث وتطوير التّشريعات المتعلقة بالنساء في العالم العربي في تحقيق التنمية الاجتماعية وتطور المجتمعات العربية؟

نائلة السليني: أعتقد أنّ مراجعة جميع القوانين التي تتعلّق بالمجتمعات الإسلامية هي في حاجة إلى مساءلة جديدة، ونظر جديد وتأمّل واستقصاء، وأن تكون مراجعة قوامها الاقتناع الصارم، لأنّ ما بَلَغَنا من أحكام طيلة خمسة عشر قرنا هي في مجملها ثمرة مقاربة بشرية لا غير، وتأويل بحسب ما اقتضته أوضاع المجتمعات الإسلامية في تلك العصور، ولذلك نقلت لنا صورة لمجتمع منسجم في الظاهر، لكن نطقت النوازل المتولّدة عبر العصور، والتي احتوتها مصنّفات الفقه والفتاوى بغير ما في هذه الصورة الرسمية.

وأعتقد أنّه لكلّ مجتمع خصوصياته التي تحاور المشاغل المستحدثة، والتي هي في غالب الأحيان غريبة عن مشاغل السابقين. مشكلتنا اليوم أنّنا بقينا أسرى مقاربات الأوائل، وقد انقطعنا عن مشاغلنا فنشأت قطيعة معرفية بين قوانيننا وانتظارات المجتمعات المعاصرة، كما أحدثت شرخا في البنية الاجتماعية التي لم تعد تستجيب لمبدإ الوَلاية والطاعة واستبدلتهما بمرجعية الفرد ودوره في المجتمع، وعندما نقول فردا لا نميّز بين ذكر أو أنثى، وعندما نقول فردا نؤسّس منطلقات جديدة في مجتمعاتنا تستجيب لمفهوم الحداثة ووجوب استغلال ما وهبه الله للإنسانية من مقوّمات تضفي لحياتنا معنى التفكير والعمل وحبّ التغيير نحو الأفضل.

ولعمري تلك غايات لن تدرك ما دمنا نعتقد أنّ المرأة هي العضو المشلول في الجسد الإنساني، وأن حقّها لن يتجاوز نصف ما للرجل من امتيازات، لأنّنا نكرّس بهذه المسلّمة/ المقدّسة جيلا من النساء صفته الخذلان والاستسلام والتواكل والرضى بما توهمّن أنّ الله هو الذي أراد لهنّ ذلك؛ فأيّ مجتمع ننشد سوى جسم شلّ نصفه. أمّا النصف الآخر، فقدره أن يتحرّك بحمل غادرته الحياة، ولو أراد قطعه حكم على نفسه بالموت.

لذلك نحن مجتمعات ترزح تحت هذه القيود المكلّسة من قوانين تكتم أنفاس كلّ من أراد التطلّع إلى الحياة المدنية، فإذا به يرمى بحجارة من سجّيل... حجارةِ التكفير والزيغ والدعوة إلى الضلالة، بينما لو توقّفنا لننظر فيما بلغنا من نصوص لأدركنا أنّ هذه الشعوب، وعلى مرّ الأزمنة، كانت مستعبدة لرؤى طبقة نصّبت نفسها "الفاهمة الوحيدة للنصّ"، فإذا بها تعدل دون وعي عن نصّها القرآني لتتعبّد بما قاله هؤلاء.

آن الأوان لأن نعود إلى نصّنا، وأن نسائله من جديد حتى نعثر على دلائل تبعث فينا الاطمئنان والثقة من أنّنا نشرّع لقوانين جديدة هي ليست بالبدعة، وإنّما نابعة من طبيعة عقيدتنا، ثقة في أنّنا لا نفارق نصّنا وأنّ الأوائل ليسوا بأشدّ إيمانا منّا. وقديما ثار ابن حنيفة عندما آخذوه على مخالفة السابقين فقال: "هم رجال ونحن رجال"، واليوم أقول: "هم رجال ونحن نساء ورجال".


 

[1] نشر هذا الحوار في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 53

[2] ابن رشد، بداية المجتهد، ج2، ص459

[3] السطّي، شرح مختصر الحوفي، مصدر سابق، ص ص 544-545

ابن غلبون، التحفة، مصدر سابق، ص ص 169-170