المسلم المعاصر ورهانات العصر من سجن النصّ إلى سعة الحياة


فئة :  حوارات

المسلم المعاصر ورهانات العصر من سجن النصّ إلى سعة الحياة

المسلم المعاصر ورهانات العصر

من سجن النصّ إلى سعة الحياة

حوار مع الباحث الدكتور سفيان زدادقة


فرش معرفي:

استحالت الدراسات الفكريَّة في هذا الزمن الثقافي الخطير، في منطلقاته ونتائجه على الذات العربيَّة التي ما زالت تحتكم إلى رؤى تجاوزتها الأحداث الجسام، إلى مجرد رؤى تجري لاهثة وراء الأحداث، ولم تعد قادرة إلا على التعليق السريع الذي يحدث ضجيجاً وصخباً ولا يقدّم رؤية رصينة تفيدنا في فهم ذاتنا أولاً وفي استيعاب الآخر المتفوّق حضارياً ثانياً. إنَّ المشتغل على القراءات التي تقدَّم الآن في الساحة الثقافيَّة العربيَّة الراهنة يدرك جيداً أنَّ زمن التملّق في الحديث والاختفاء وراء الكلمات المخاتلة قد انتهى وولَّى، ولم يعد من الممكن أن نلعب على الكلمات أو أن نستعمل الجمل الكبيرة التي فقدت بريقها وتأثيرها على القارئ العربي.

على هذا المستوى من الحديث، يتنزَّل الحوار الذي أجريناه مع الباحث الدكتور سفيان زدادقة، والذي يُعتبر من الوجوه الفكريَّة التي تعمل في صمت وباقتدار معرفي بعيداً عن صخب الوجود الزائف، وهو بذلك يريد أن يفكّر مع ذاته، وأن ينخرط معها في حوار يوظّف فيه الكلمات دون مكياج مصطنع، فهو يُسمّي الأشياء بأسمائها ويتحاور مع النصوص، وفي ذهنه مقدرة كبيرة على الفصل بين الشخص والمؤسَّسة، والواقع التاريخي الذي يستند إلى الإيمان، والمخيال الذي احتلَّ وجداننا وأفسد علينا بهجة الحياة، وانكفأ على ذاته لأنَّه لم يستطع مواجه المكاسب البشريَّة التي أنجزت في الحداثة الغربيَّة.

يحتوي هذا الحوار على بعض المفاصل الفكريَّة التي تُعدُّ في نظرنا رؤية جريئة قلَّما توجد عند الباحثين العرب، فهو يؤمن بأنَّ الفكر ينمو ويربو في الفضاء الذي لا يوجد فيه أبوَّة نصيَّة، خاصَّة من جهة النصّ اللاهوتي الذي يستثمر في المجتمعات المغلقة ذات التوجُّه الهووي المتعالي، حيث يسكن العنف والقتل والإقصاء والتهميش وهجران الكتابة وتقديس الظواهر الصوتيَّة الشفهيَّة، وطمس كلّ النقاط المضيئة من تاريخنا العربي، مثل الحوار، والفرديَّة، والإبداع، والعقلانيَّة الرشديَّة والخلدونيَّة، والتصوُّف المنفتح على الإنسان، والمنابع الأولى للعلمانيَّة في تاريخنا العربي.

من هذا المنطلق الفكري، نرحّب بالدكتور سفيان زدادقة.

ربوح البشير: أصبح التديُّن المعاصر يعكس واجهة متأزمة، ما الأسباب الأساسيَّة التي أدَّت إلى هذا الانغلاق؟

ـ د. سفيان زدادقة: الفلسفة ازدهرت في المجتمع الوثني القائم على التعدُّد، واللَّامركزيَّة، ونظام المدينة/ الدولة، والحريَّة الفكريَّة، وقيمة المواطنة، ولم تزدهر أبداً في المجتمع الكتابي القائم على الوحدة، ونبذ الاختلاف، والدولة المركزيَّة، والرأي الواحد، والطاعة، والبيعة، والخوف، ولزوم الجماعة وكراهية الشاة القاصية، إذا كانت الكثرة ليست من أمارات الحقّ، كما يقول القاضي عبد الجبَّار، فإنَّ المنطق ذاته يقول إنَّ القلة ليست كذلك من علامات الباطل، فقد تكون الجماعة على خطأ ويكون الفرد على صواب، ألم تكن قريش كلها على ضلال وكان محمَّد وحده على صواب؟ ببساطة لقد تمَّ قمع صوت الفرد في تاريخنا لصالح الجماعة.

ثمَّ للمسألة وجهها السياسي القاتم، السياسة تصنع المذهب وليس العكس، ولا شيء أخطر من التقاء السياسة بالدّين، أو ممارسة السياسة من خلال الدّين، ممارسة العنف بعد أن يصطبغ بالقداسة، وهذا المصاب بالهَوَس الدّماغي الذي يفجّر الحزام الناسف وسط الزحام في سبيل أن يمارس الجنس للأبديَّة مع سبعين امرأة من الحور العين، وكيما يعاقر الخمر، ويشرب اللبن والعسل في بستان أخضر...، أيّ بؤس أكثر من هذا.

الله ليس بحاجة إلى نصرتنا ولا إلى تعصُّبنا، ولا إلى الدخول في تحالفات معنا، ولا أن نشكّل له حزباً أو ميليشيا، أو أن نطلق الرصاص باسمه، الله قادر قدير وهو إله على الجميع، وليس بحاجة لنصرة أحد، وحاجته أقلُّ لعنف بغيض يمارس لحسابه. يمكنني أن أصف الحالة الانتحاريَّة للجهاديين الجدُد بأنَّها يأس من الحياة، ليس ما يُسمّونه بالانغماس إلا انتحاراً مقنَّعاً سببه الفشل العارم الذي يعانيه هؤلاء.

لاحظ أنَّ الفهم الديني للعالم الذي ينطلق منه هؤلاء هو فهم مستقطب، وبالتالي يغيب الفهم المتعدّد والمتشعّب والحيوي والمنتشر للأشياء والأفعال، إنَّ عالم الدين هو عالم بلونين فقط أسود وأبيض، وحتى دون وجود درجات بينهما، ليس ثمَّة منطقة وسطى بين ثنائيات الدين: حق وباطل، مؤمن وكافر، هدى وضلال، نور وظلمات... إنَّها ثنائيات حادَّة، تجعل رؤية العالم رؤية بسيطة لا تشتغل على تناقضات العالم وتعقيده، رؤية محكومة بعمى الألوان، ثمَّ لاحظ أنَّ الدين في عالمنا اليوم انتماء اجتماعي وشعوبي وإثني موروث أكثر من أن يكون اقتناعاً فكرياً مكتسباً، إنَّه أمر تفرضه المصادفة والمجتمع وليس المنطق أو الاقتناع العقلي.

لقد تسبَّبت الأديان والعقائد، كما قال المعري، في إثارة الحروب والأحقاد والنزاعات والفتن أكثر ممَّا تسبَّبت في الإصلاح، وهذا بخلاف ما أراده مؤسّسوها، لسبب بسيط جداً هو أنَّ كلَّ أتباع دين ما يحاولون فرضه كنظام وحيد أوحد على الآخرين فكراً وسلوكاً، ويسير بمنطق من ليس معي فهو ضدّي، ومن لم يتلوَّن بلون مذهبي فهو عدُّوي، ثم ينسحب الأمر من الدّين الواحد إلى المذهب الواحد إلى الرأي الواحد، لذلك بوش وبن لادن على المستوى الإيديولوجي سيَّان... واحد لا فرق في وظيفتيهما... كلاهما أصولي متعصِّب ينتج خطاباً دوغمائيَّاً مغلقاً ويمارسه برعونة...، الأصولي المتعصّب يؤمن إيماناً جازماً بأنَّ الله معه، وأنَّه وحده يملك الحقيقة والتفسير الصحيح للنصّ الديني، وأنَّه يحارب الشر بتفويض حصري منه، ولهذا يفهمان بعضهماً جيداً إذ يتكلمان لغة واحدة، ويحتاج كلاهما للآخر من أجل بقائه ونجاح خطابه، ففي النهاية المؤمن هو من اخترع الكافر، كما أنَّ المتدّين المتعصّب هو الذي اخترع الزنديق.

ربوح البشير: هل نجد داخل المنظومة الإسلاميَّة ما نفتح به الأسئلة الأنطولوجيَّة واسعاً على الحريَّة والانعتاق بدلاً من الانغلاق؟

ـ د. سفيان زدادقة: أزمتنا أزمة هيكليَّة، بنيويَّة، النصُّ القرآني على عظمته وانفتاح دلالاته أسر العقل العربي وأسر العقل الإسلامي في سجن مهما بدا كبيراً إلا أنَّه ضيّق، ليس بسبب النصّ نفسه، بل بسبب الانتصار التاريخي والاجتماعي للقراءات الحرفيَّة التبسيطيَّة القائمة على الثنائيات، فهذا العقل المأسور لا يتخذ موقفاً ولا يعبّر عن رأي إلا من خلال النصّ شرحاً وتفسيراً واستنباطاً وتأويلاً، وكأنَّه لا وجود للعالم خارج النص...، وهذه المشكلة لا حلَّ لها إلا بإعادة موضعة هذا النصّ ضمن تاريخيته، ضمن سياقه الزمني والحضاري، لم تصطدم المسيحيَّة بهذه المشكلة لأنَّ الإنجيل أو الأناجيل في الواقع ليست إلا تعبيراً بشرياً عن إرادة الله وتوجيهه بحسب من يؤمن بها، ليست الأناجيل إلا سرديات بشريَّة كبرى لقصَّة المسيح، سرديات تعدَّد فيها الرواة واختلفوا في وجهة النظر وفي طرق التعبير وفي سرد التفاصيل وفي تحديد سمات الشخصيات وأقوالها ومواقفها، وقد ترجمت من اللغة الآراميَّة واليونانيَّة إلى اللغات الحديثة، وليست لديها هذه القدسيَّة الحرفيَّة القاتلة باعتبارها كلام الله نفسه، كما هو حال القرآن. فأنت تجد المسلمين اليوم لا يناقشون موضوعاً ولو تعلق الأمر بأتفه الأمور دون أن يحشروا النصَّ في كلامهم...، ولهذا يتمطَّط النصُّ بفعل عمليات التأويل والتفسير وإعادة التفسير والحشر والتمحُّل من أجل إثبات قدرة النص على قول كلّ شيء في أيّ شيء، حتى في مواضيع معاصرة مثل الاحتباس الحراري والجاذبيَّة والنسبيَّة والبيولوجيا... إنَّها لمأساة أن يأسر نصٌّ قديم جاء بمثل عليا كالحريَّة والمساواة والكرامة البشريَّة شعوباً بأكملها طيلة قرون في حرفيَّة ما، رغم أنَّ النص نفسه يدعو مراراً إلى التفكير والتدبُّر والتأمُّل وإعمال العقل والعلم...، والعجيب أنَّه كلّما مرَّ الزمن زاد تحجُّر العقول وازدهرت عبادة النصوص.

إنَّ جزءاً كبيراً من هذه المشكلة يعود إلى كون القرآن قد تمَّ تثبيته بواسطة الكتابة في زمن سياسي مضطرب مفتون (زمن الخلفاء الراشدين...، والبقيَّة ماذا؟ خلفاء معتوهين؟)، على الرغم من أنَّ الأصل فيه هو المشافهة والذاكرة، وما تقتضيه الثقافة الصوتيَّة من تعدُّد واختلاف وسعة، الآيات كانت تقرأ بصيغ مختلفة بين قراءة وأخرى، ومصحف وآخر، وحتى تصوُّر للمعنى وآخر، قضايا مثل القراءات والأحرف السبعة ومشكلات الخط وتعدُّد المصاحف مغيَّبة عن وعي ما يسمّيه الفقهاء العامَّة أو العوَام، لماذا نرجع إلى مصحف زيد بن ثابت ولا نرجع إلى مصحف عبد الله بن مسعود مثلاً، على الرغم من قدم هذا الأخير وسابقته في الإسلام؟ هذا قرار سياسي أخذه الخليفة عثمان لأسباب مرتهنة لتاريخها. دعونا إذن لا ننسى أنَّ الثقافة العربيَّة أصلاً ثقافة شفهيَّة ومفتقرة للتقاليد الكتابيَّة حيث النص يتشكل دائماً وفق الظروف ومقامات الكلام.

ما أتمناه هو أن يتحرَّر المسلم المعاصر وهو يواجه رهانات عصره من سجن النصّ إلى سعة الحياة، لقد ضيَّق عليه النصّ (الديني والفقهي والبلاغي والعقدي...) ومنعه من التطوُّر الطبيعي وإعمال عقله، فبقي مرتهناً إلى عالمه الخاص المعزول المقصى. النص الحقيقي هو الحياة وليس ما هو موجود بين دفتي كتاب، وإذا كان أرسطو قد ذكر أنَّ الإنسان حيوان ناطق بمعنى مفكّر باللغة وداخل اللغة، ففتح اللغة على العالم وفتح العالم على اللغة، فإنَّ الإنسان لا يعدو في حضارتنا أن يكون حيواناً دينياً نصوصياً بلا مزيد، لا ينشغل إلا بالنص ولا يتفكر إلا داخل النص، فانغلقت اللغة داخل النص وانغلق النص داخل اللغة، وبقينا خارج العالم وبقي العالم خارجنا.

جزء هام وحاسم من تراثنا سماع في سماع على سماع، حدَّثنا فلان عن فلان، ... أخبرنا فلان عن فلان...، سمعت فلاناً يذكر ...، قيل إنَّ...، يروى أنَّ...، كنا في مجلس فقال...، وهذا الجزء الصاخب والمشوش لا يؤسّس إلا للمخيال والأسطرة والمبالغات العاطفيَّة، كما أنَّ جزءاً منه تمَّت صناعته بأثر رجعي لحساب مواقف راهنة في زمنها.

حتى النبوَّة محدودة في الزمان والمكان، تنتهي بنهاية صاحبها، ولا تبقى إلا المأثورات النصيَّة (الشفويَّة في أصلها) تتناقل لتكون محلاً للتنازع البغيض المذهبي والسياسي، ويبقى أن نتساءل: لقاء الإلهي بالإنساني، أي النبوَّة، هل كان تجربة وحي أم تجربة وعي؟ وهو سؤال أراه مفصلياً، أمَّا العقل فمستمر، وهذا جوابي على سؤالك، لذلك كان العلماء ورثة الأنبياء وكانوا أحقَّ بخشية الله، فالعلم هو النبوَّة الدائمة التي لا تنتهي بختم، والذين مارسوا العقل في تراثنا كانوا قلة وعانوا من التشريد والقمع والمحنة: بشار بن برد، ابن المقفع، جابر بن حيان، ابن الهيثم، الرازي، ابن الرواندي، ابن رشد، أبو العلاء المعري، ابن خلدون.

التفكير العلماني يصحّح نفسه بنفسه من خلال النقد والنقض والتطوير، بينما الخطاب الديني يكرّس نفسه من خلال التكرار والتقديس والخوف من التغيير، فلا يتطوَّر ولا يتقدَّم، فلذلك تتقدَّم الأمم العلمانيَّة وتتخلف المجتمعات الدينيّة، وإن بدت أكثر تحمُّساً، غير أنَّه حماس عاطفي لا شأن له بحقائق الواقع وطبيعة الأشياء ومآلات الأمور. الكثير منَّا يفتتح خطابه بمقولة لاهوتيَّة مذهبيَّة طويلة ثمَّ يدَّعي بعد ذلك أنَّه مفكّر حر وعلمي، نحن نتناسى قيمة الشك في حياتنا، إنَّ الحياة التي يملؤها اليقين حتى الثمالة هي بالأحرى حياة تملؤها الأكاذيب.

ربوح البشير: هل يمكن أن نزعم أنَّ التجربة الصوفيَّة تحقق مخرجاً لعالمنا الرمزي الحالي؟

ـ د. سفيان زدادقة: أود أن أوضح أولاً أنَّ المتصوّفة الحقيقيين ربَّما هم أولئك الذين لم نسمع بهم ولم نعرف أسماءهم، لأنَّهم لم يتكلموا عن تجربتهم أصلاً لأنَّها ليست ممَّا يقال، فهي تجربة كاملة أوصلتهم إلى عالم تعجز فيه اللغة تماماً وتتبلد وتمسي الكلمات فيها بلا معنى...، مجرَّد هياكل ميتة، أمَّا الذين تكلموا فهم أولئك الذين بقوا على العتبات محتفظين بعقلهم ولغتهم كيما يبوحوا بما رأوا وسمعوا وأحسوا...، لكنَّهم لم يكونوا في واقع الأمر إلا على نصف رؤية ونصف سمع ونصف إحساس.

نعم، التصوُّف ربَّما هو الصورة الجميلة التي أنجبها الدّين، التصوُّف الأندلسي تحديداً كما يمثله الرائع ابن عربي، هذا العقل الكوني الجبَّار الذي أعاد في الحقيقة تشكيل الإسلام ليخرج من قوقعته الإقليميَّة ليصبح مشروعاً كونياً يتمُّ فيه ليس فقط قبول الآخر بل استيعابه عبر الحبّ، لأنَّ التعايش أو التسامح فيه شيء من الافتعال والنفاق، أمَّا الحبُّ فلا، لذا عبَّر ابن عربي في بيته المشهور عن قبول كلّ صورة وليس تقبلها...، وهذا فرق كبير، ليقول بعدها: أدين بدين الحب أنَّى توجهت ركائبه...، فنحن حين نتدين بمعنى نحبُّ لا نسأل عن الاتجاهات والأشكال والألوان والظروف واللغات...، نحبّ فقط...، وصدقني... في عالم أجمل ... وفي بيئة أخرى أنظف وأنقى... ربما بعد ألف سنة من الآن. وإذا قدّر للحكمة أن تنتصر، وللعلم أن ينتشر، وللغرائز الشريرة أن تنكفئ، لن يكون للدين يومها إلا معنى واحد: الحبُّ... والحبُّ فحسب.

لاحظ أنَّ كبار الصوفيَّة دائماً يذكّروننا بأنَّ المعتقد الخاص في الدين ليس إلا رواية من جملة روايات...، ليس إلا وجهاً واحداً للحقيقة الدينيَّة المطلقة متعدّدة الوجوه والصور والألوان...، بينما عندما تقرأ مدوّنات السلفيَّة ضيقة الأفق تجد أشياء فظيعة من قبيل الردّ على اليهود والنصارى والمستشرقين، الردّ على الشيعة الروافض والباطنيَّة والبهائيَّة والقاديانيَّة، الردّ على العلمانيَّة والليبراليَّة والعقلانيَّة والعصرانيَّة والحداثة، الردّ على الصوفيَّة وأصحاب الطرق، الردّ على الشيوعيَّة والماركسيَّة والإلحاد والداروينيَّة، الردّ على الصهيونيَّة والماسونيَّة، الردّ على الأشاعرة والماتريديَّة والمتأوّلة، إذن الردُّ على العالم والوجود برمَّته وكأنَّ الكرة الأرضيَّة لم تخلق إلا لهم.

ربوح البشير: هل يمكننا إذن أن نتحدَّث عن إسلام كوني مقابل الإسلامات المحليَّة؟

ـ د. سفيان زدادقة: الله لم يتكلم بعد، وطالما بقي المفسّرون والمؤوّلون فسيبقى كلامه غائباً، لقد تكلَّم أصحاب المذاهب والفرق والطوائف والفقهاء واللغويون وكلُّ صاحب طريقة وكلُّ صاحب نظر...، لكنَّ الله نفسه لم يتكلم، وقديماً كان عليّ يقول: إنَّ القرآن بين دفتي المصحف لا ينطق وإنَّما يتكلم به الرجال.

القرآن كسرد عظيم صالح لكلّ زمان ومكان، لكن ليس بنصّه بل بخطابه، أي بتأويله عبر التمثلات والتنزيلات، وهنا نحتاج بشدَّة إلى تطوير أدواتنا وتوسيع آفاقنا لممارسة التأويل وتحقيق ما يسمّيه هايدغر والبوذيون قبله باليقظة، فالتفسير بمعنى القراءة الحرفيَّة الشارحة للنص تسير في طريق مسدود، وليس لها مستقبل. لكي يستمرَّ النصُّ في الوجود ويحافظ على طاقته الخلاقة في المجتمع علينا بتأويله تأويلاً رفيعاً ينسجم مع وعينا بحاضرنا، والتأويل هو في الواقع تأسيس لنصّ جديد.

إذا كان هناك في القرآن ـ وهو كلام الله ـ ناسخ ومنسوخ فكيف لا يكون في الحديث وهو كلام بشر؟ الله يقول شيئاً ثم يراجعه، ويوحي بآية ثم ينسخها أو يمحوها أو يأتي بغيرها أكثر إحكاماً، بينما الرسول وهو بشر يعتبرون كلَّ ما قاله نهائي ولا يمكن أن يتراجع عنه أبداً؟ هل كلُّ كلامه حجَّة؟ وهل كلُّ رأيه دليل وتشريع؟ وهل كلُّ ما يقال إنَّه قاله قد قاله حقاً؟ لا يجزم بذلك أحد، هناك فرق بين محمَّد التاريخي، ومحمَّد الفقهاء، ومحمَّد الشيَع والفرق والمذاهب والطوائف، وهناك أيضاً محمَّد الأسطورة، محمَّد صنعة واختلاق الرواة في السير الشعبيَّة، كما هو شأن كلّ الشخصيات العظيمة في التاريخ.

وحتى مسألة التدوين، هل تعتقد حقاً أنَّ ما قاله المدوّنون الأوائل هو فعلاً ما أرادوا قوله؟ لم تكن لديهم حريَّة تعبير ولا ديمقراطيَّة ولا حرّيَّة فكر، كانوا خاضعين لسُلطة السياسي الذي هو الخليفة أو السلطان أو الأمير أو الوالي...، وخاضعين لسُلطة الديني الذي هو القاضي أو المفتي أو إمام الجامع أو شيخ الجماعة...، وقبل هذا وذاك كانوا خاضعين لسلطة المجتمع وهي سلطة ساحقة تفوق باقي السلطات. لا أعتقد أنَّ أيَّ صاحب فكر من أعلامنا القدامى قال فعلاً ما أراد قوله، وحتى لو تجرَّأ وكتب ما يفكر فيه فعلاً، لم يكن الأمر يحتاج إلى أكثر من حرق النسخة أو النسختين اللتين تركهما المرحوم وراءه ليختفي كلُّ أثر لما كتب...، وكثيرة هي الكتب في التراث التي لم يصلنا منها إلا عناوينها.

من يتسمَّون بأهل السُّنَّة أرادوا الحفاظ على ما تصوروه الطابع الأصلي للإسلام، أي باعتباره نتاجاً عربياً خالصاً ابن البيئة البدويَّة الصحراويَّة، في بساطته وعفويته، أمَّا إسلام التشيع بفرقه الكثيرة والمتشعبة فواضح جليّ التأثيرات الفارسيَّة ـ الهنديَّة فيه، مذاهب معقدة مثل الفيض والإشراق والولاية والرجعة والغيبة والمراتب والعصمة والتأويل والعائلة المقدَّسة... كلها غرائب فكريَّة لا صلة لها بالإسلام المبكر العربي الأول، إنَّ مذاهب التشيّع نسخة معدلة كثيراً، بل هي إسلام جديد في الحقيقة متأثر إلى أبعد حدّ بالثقافات والمعتقدات الشرقيَّة القديمة، مزدكيَّة وزرادشتيَّة ومانويَّة، وبالتقاليد السياسيَّة العريقة للإمبراطوريَّة الفارسيَّة بأساطيرها وتراثها.

الدليل على هذه الإسلامات المتعدّدة هم علماء الإسلام أنفسهم، وهم يكّفرون بعضهم بعضاً، ويسفّهون بعضهم بعضاً، ويتهم كلُّ واحد منهم الآخر بالجهل والكفر والمروق من الدين والضلال والبدع، ولك في ما يقوله الوهابيَّة عن الأزهريَّة، وما يقوله الأزهريَّة عن الوهابيَّة، وما يقوله الإخوان عن الصوفيَّة مهازل كثيرة... كلُّ فرقة بل كلُّ واحد من هؤلاء الشيوخ يرمي زملاءه بل منافسيه الآخرين بالجهل والبعد عن صحيح الدين، وما هو صحيح الدين يا ترى؟ كلُّ شيخ يرى أنَّه هو الدين وهو الحق وهو الصحيح وغيره جهلاء وأغبياء ومبتدعون، وليس هناك من فرصة كوقوع الحوادث السياسيَّة والحربيَّة حتى ترى العجب العجاب، فيغدو الحلال حراماً والحرام حلالاً، وتنقلب القيم والمعايير، وتتقلقل القواعد الفقهيَّة، ويبيض الفقهاء فتاوى لا تفوقها غرابة إلا مشاهد الخيال العلمي... إنَّ الدّين كان منذ نشأته خادماً للسياسة، وبحسب رغبة الحاكم ينطق متعهدو الخطاب الديني، إنَّه يتلوَّن بتلوُّن المصالح والظروف والأشكال والأنواع والأسباب، رجال الدين المحترفون هم مثل المقاولين في الورشات أو اللاعبين في الميادين، لا يملكون إلا اتباع توجيهات المدرِّب الذي هو الحاكم بأمره. وليس للحكومات في واقع الأمر أيُّ دين... دينها الوحيد هو المصلحة، في الدول المتقدّمة تكون هذه المصلحة عامَّة، في الدول المتخلفة تكون هذه المصلحة شخصيَّة.

الدول أراها مثل البشر، هناك دولة أنانيَّة، وأخرى غبيَّة، وأخرى نزيهة، وواحدة كذابة، تجد دولة خسيسة حسودة بجانب دولة لا مبالية، واحدة خبيثة تتملق دولة على نياتها... دولة سمينة وأخرى نحيفة، هكذا هي الدول تماماً مثل البشر، ولا يوجد ما هو أسوأ من تحالف المصلحة بين العسكر الفاسدين والإسلاميين الفاسدين أو القابلين للفساد... إنَّها الوصفة الكارثيَّة لشعوبنا... القهر المقدَّس، توحيد الرأي وتوحيد الحاكم وتوحيد المجتمع وتوحيد العقل وتوحيد التاريخ وتوحيد الفساد وتوحيد الجهل وتوحيد الصنم وتوحيد التخلف... جنباً إلى جنب مع توحيد الله.

حتى الثورات العربيَّة خيبتنا ومسخت، بئس الثورة التي يتسبَّب فيها النظام الفاسد ويستفيد منها الغول السلفي، إذا كان الربيع العربي يعني سيطرة الفكر الإسلامي الأصولي على الحياة في عالمنا، فهو ليس ربيعاً، بل هو شتاء نووي جديد بعد شتاء العسكر الفاسد.

الماضي ـ كما قيل ـ يمكن أن يستفاد منه، أن يبحث فيه، لا أن يستعاد، الماضي ليس ذهبياً بالشكل الأسطوري الساذج الذي يتصوَّره البعض، يوتوبيا ورديَّة لا صلة لها بحقائق التاريخ، الجيل الأول أو الطبقة الأولى كان كبقية الأجيال والطبقات عبر التاريخ البشري مشحوناً بالصراع والتدافع على السلطة والنفوذ والمصالح.

لذلك لا تستقيم السياسة والدين إطلاقاً، السياسة خبث وخداع وكذب وهراء وتنابز وتآمر وطموح وغلبة وفساد، والدّين إذا ما أقيم على حقيقته العميقة أقيم على الزهد والأخلاق والتواضع والسماح. يقال إنَّ عبد الملك بن مروان كان أفقه رجال مكة وأكثرهم تعبُّداً وتقوى، وكان لا يفارق المصحف، فبلغه يوماً موت والده الخليفة مروان بن الحكم وتعيينه خليفة للمسلمين، فأطبق المصحف وقال له: "هذا فراق ما بيني وبينك"، وتوَّلى الخلافة بيد من حديد ونصَّب الحجاج أميراً واشتغل بحرب أعداء خلافته وقطع رؤوسهم واحداً واحداً حتى مات وقد ترك دولة قوية موحَّدة، لقد أدرك الفرق جيداً بين رجل الله الذي كانه وبين رجل السياسة الذي سيكونه.

هل نحتاج فعلاً في عزّ الأزمة لبناء مسجد بملياري دولار حتى نعبد الله؟ هل هذا من أعمال السياسة أم من عمل الدين؟ ما هذه المساجد الرخاميَّة العملاقة التي تبنى في كثير من بلاد المسلمين؟ ما علاقتها بالعبادة؟ أليست مجرَّد تفاخر سلطوي بالمال والنفوذ والقدرة على الإنجاز؟ أليست مجرَّد إرضاء لغرور الحاكم؟ أن يشعر أنَّه دخل التاريخ وأنَّه سيترك من ورائه أثراً خالداً شبيهاً بالأهرامات والعجائب السبع؟ يكفيك ركن بسيط لتختلي فيه بنفسك وتعبد ربك، ألم يجعل سبحانه الأرض مسجداً؟ لا علاقة لهذا الأمر الروحي الخالص والنبيل والرائع الذي هو الصلاة بنوعية المرمر ولا بزخارف الرخام ولا بالقباب الزجاجيَّة ولا بالزرابي النفيسة ولا بالمقابض الذهبيَّة ولا بالمآذن العالية التي تنافس ناطحات السحاب وكأنَّها صرح هامان، الشعور نفسه يراودني عندما أرى قصور الفاتيكان الرخاميَّة الفخمة المذهبة أتساءل ما علاقتها بذلك اليهودي الفقير المضطهد الذي كانه المسيح؟

ربوح البشير: من أين يبدأ إصلاح الخطاب الإسلامي المعاصر؟

ـ د. سفيان زدادقة: أن يُطلب من مؤسَّسة دينيَّة عتيقة استمرأت السُّلطة طويلاً (كالأزهر مثلاً) القيام بإصلاح وتجديد الخطاب الديني هو كمن يطلب من الكنيسة الكاثوليكيَّة في القرن الثاني عشر أن تستضيف مؤتمراً لتشجيع ومؤازرة أفكار البروتستانت، إنَّه لعمل يدخل في دائرة المستحيل.

منذ متى كان الإصلاح الديني يمًّر عبر المؤسَّسات الرسميَّة؟ أليست وظيفة المؤسَّسة الحفاظ على ما هو قائم بأقصى طاقة؟ وهل أنشئت إلا لهذا الغرض؟ ثم منذ متى صار الإسلام كدين يقوم على المؤسسة بالمعنى الوظيفي؟ هل الأزهر مثلاً كنيسة؟ هل الإمام الأكبر بابا؟ هل علماء الأزهر أكليروس؟ قال المسيح: لا يُجنى من الشوك العنب، لو أنَّ مارتن لوثر وهو يؤسّس ويصلح الكاثوليكيَّة بمطرقة ألمانيَّة ثقيلة قد طلب إذناً من البابا الإيطالي في روما لما وصله هذا الإذن ولو انتظر ألف سنة.

رجل الدين المعاصر الذي يستند إلى مرجعيَّة قائمة على أقوال ابن تيمية وابن حنبل وابن القيم وابن الصلاح ومحمد بن عبد الوهاب... هو كالأوروبي المعاصر الذي يستند إلى بابوات القرون الوسطى ممَّن كانوا يحرّضون رعايا كنيستهم على قتال وإبادة المسلمين دفاعاً عن الأرض المقدَّسة أو يدعون إلى حرق الساحرات. المشكلة أنَّه لا يوجد في الغرب اليوم من يؤمن أو يستعيد هذه الأدبيات العتيقة الكريهة المتعصبة، لكن في بلاد المسلمين هي جزء لا يتجزأ من الثقافة اليوميَّة السائدة، أوروبا قطعت مع خطاب التعصُّب المسيحي المتطرّف وصارت الكنيسة اليوم بلا أنياب ولا مخالب، صورة بلا روح، أمَّا الخطاب المتعصّب الإسلمجي فما يزال وحشاً طليقاً، وهو يمزّق المسلمين بالدرجة الأولى قبل أن يلحق شرّه الآخرين.

الغريب أنَّ بعض هؤلاء من الإسلاميين (وخاصة ممَّن يعتقدون أنَّهم متنوّرون) يدعون إلى حوار الأديان، وأنا لا أصدّق حكاية حوار الأديان هذه...، الأديان تاريخياً لا ولم ولن تتحاور، بل تصارعت وما تزال تتصارع، لأَّن الحوار ليس من طبيعتها، الدّين، أيّ دين، يزعم بالضرورة أنَّه يمتلك الحقيقة، وأنَّه يتكلم باسمها، ومن يمتلك الحقيقة ويتكلم باسمها يفترض أنَّه ليس في حاجة لأن يتحاور مع من لا يملكها ولا يمثلها، هو بحاجة فقط لتعليمه وهدايته وإدخاله في صفوف المؤمنين أو في حالة الرفض لعنه وطرده من الملكوت السماوي... الحوار يتضمَّن بالضرورة التنازل، وإلا لن يصل إلى نتيجة، الحوار يتضمن الاعتراف بالخطأ أو ـ على أقل تقدير ـ إمكانيَّة وجود خطأ ما، فما هو الدّين المستعد لتقديم تنازلات؟ وأيّ دين يقرُّ بإمكانية وجود خطأ فيه؟ لا يوجد إذن حوار، لا يوجد فقط حوار بين الأديان بل لا يوجد حتى حوار بين المعتقدات المتصارعة داخل الدين الواحد نفسه، لأنَّ كلَّ مذهب وكلّ عقيدة تدَّعي أنَّها الطريق القويم والعقيدة الصحيحة وهي غير مستعدة للتنازل عن هذه الصفة ولا للاعتراف بالخطأ، وهي ترفض مجرَّد مبدأ المراجعة، وفرق كبير بين حوار الأديان وبين فكرة وحدة الأديان الصوفيَّة المتطورة، فالأولى تقوم على التمايز والحدود والثانية على الدمج والقبول.