المفكر نور الدين أفاية: هناك سلط جديدة أصبحت لها قوة تأثير على الناشئة أكثر من الأسرة


فئة :  حوارات

المفكر نور الدين أفاية:  هناك سلط جديدة أصبحت لها قوة تأثير على الناشئة أكثر من الأسرة

يعتقد المفكر المغربي الدكتور محمد نور الدين أفاية أن عوامل داخلية وإقليمية ودولية مضادة لمبادئ الحركات الاحتجاجية ساهمت في تشويه وتحريف بعض حِراكات الشباب، لكن أسباب التعبير عن غضبهم ضد الفساد والاستبداد والاحتقار ما تزال قائمة. ولذلك، لا يمكن توقع توقف مظاهر الاستنكار، إلا إذا تغيرت نظرة النخب الحاكمة إلى طبيعة السلطة وأدوارها، وإلى نوعية السياسات الموجهة للشباب والمرأة. ويرى أيضاً، أن هناك فارقا بين الفترات المختلفة للشباب، فمعروف عن مرحلة المراهقة أنها شَكّية، تساؤلية وفيها يُعيد الشاب المراهق النظر في مختلف مظاهر السلطة الأبوية والمؤسسية وغيرها؛ وهي مرحلة ميتافيزيقية إلى حد ما، لكن مع تشكل الوعي يصبح الموقف من بعض المفاهيم أكثر نضجا، ومنها مفهوم السلطة وتجلياتها.

ويرى المفكر المغربي أيضاً، أنه لم يعد بالإمكان حُكْم أيّ مجتمع بإعادة إنتاج النماذج القديمة، مهما كانت المسوغات، أو بالاعتماد على نخب مشدودة إلى الماضي. لقد اعترف أصحاب القرار، بوضوح، بفشل الاختيارات الكبرى وخلل أنماط الحكامة التي أنتجت الفوارق والاستبعاد والاحتجاجات. فلا شك، كما يعتقد الدكتور أفاية، في أن التقدم غير المسبوق للتكنولوجيات والأدوات الرقمية، بواسطة الربط بالإنترنت عالي الصبيب والحواسيب والهواتف الذكية واللوحات الإلكترونية ومختلف أنواع التطبيقات ومواقع التواصل الاجتماعي، بصدد اجتياح كل مجالات النشاط الإنساني، بما لهذه الابتكارات التكنولوجية من قدرات على "صناعة" الروابط الاجتماعية الجديدة، ومن تداعيات واضحة على حياة الناس اليومية وعلى الديناميات الثقافية.

بل إن السطوة، حسب رأيه، والتي بدأت تمارسها هذه التكنولوجيات على حياة الشباب وغير الشباب، وعلى الروابط الاجتماعية، وما تحدثه من تغييرات على العلاقات جرَّاء الاستعمال المفرط لأدواتها، وبسبب الأشكال المختلفة للإدمان عليها؛ واعتباراً للمخاطر التي تتعرض لها الناشئة بسبب ما توفره المواقع المختلفة المشارب والمذاهب من مضامين ومؤثرات، وعما تتعرض له الحياة والمعطيات الشخصية من رقابة أو سهولة الكشف عنها، كل ذلك خلق نوعا من القلق حول الوجود والحقيقة والزيف والعبودية والاستلاب.

كما يؤكد الدكتور أفاية، أن هناك فارقا بين الفترات المختلفة للشباب؛ لكن مع تشكل الوعي يصبح الموقف من بعض المفاهيم أكثر نضجا، ومنها مفهوم السلطة وتجلياتها. ومن الطبيعي حصول اختلاف في تقدير الأمور بين الكبار والشباب بحكم اختلاف السياقات والمؤثرات والقيم؛ فشباب الزمن الرقمي، على سبيل المثال، لا يمكن الحكم على ممارساتهم وأنماط سلوكهم وتفكيرهم وأدوات اشتغالهم انطلاقا فقط من المعايير التي درج عليها جيل آبائهم، وحين يقوم سوء الفهم يولد سوء التفاهم وتنتج مواجهات وصراعات تكون، في بعض الحالات، مستعصية ومعقدة.

يذكر أن المفكر والباحث المغربي الدكتور نور الدين أفاية من الباحثين المغاربة الذين تميزوا في الساحة الفكرية، وأدلوا بدلوهم في مجال الشباب والتأكيد على النهوض بهذه الفئة المجتمعية التي تعتبر من أهم الفئات الفاعلة في المجتمع المغربي وباقي المجتمعات العربية. حيث كان كتابه المشترك مع الباحث المغربي إدريس الكراوي "الشباب والالتزام بين الخيبة والأمل" الصادر عام 2013، إضافة إلى كتبه السابقة في المجال نفسه من أهم الكتب التي ناقشت مشاكل الشباب وانشغالاتهم المتعددة في زمن متغير يوماً عن آخر.

محمد نور الدين أفايــة مفكر مغربي ولد بسلا سنة 1956، يشتغل أستاذا للفلسفة المعاصرة والجماليات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، وهو عضو سابق بالمجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري، وحاليا خبير باللجنة الثقافية بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. له مقالات فلسفية وسياسية بمجموعة من الصحف والمجلات الوطنية: الاتحاد الاشتراكي، العلم، أنوال، الحياة، دراسات عربية، الفكر العربي، الكرمل... فاز بجائزة أهم كتاب عربي لدورة 2015 التي تمنحها مؤسسة الفكر العربي ببيروت؛ وذلك عن كتاب "في النقد الفلسفي المعاصر، مصادره الغربية وتجلياته العربية". ومن كتبه "الهوية والاختلاف: في المرأة، الكتابة والهامش" و"الخطاب السينمائي بين الكتابة والتأويل" و"الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة: نموذج هابرماس" و"الثقافة والتحولات الاجتماعية" و"البقاء... للإصـلاح، عن العمل السياسي في زمن العولمة "... وغيرها. وفي هذا الإطار، أجرينا معه هذا الحوار:

عزيز العرباوي: صدر لكم عام 2013 بالاشتراك مع الأستاذ إدريس الكراوي عن "دار لارماتون" الفرنسية كتاب تحت عنوان "الشباب والالتزام بين الخيبة والأمل"، وهو خلاصة بحث ميداني سلطتم فيه الضوء على مختلف الأبعاد الرئيسة لمشكلة الشباب بالمغرب، انطلاقاً من فحص دينامية التغيير، فهل يمكن لكم تقديم خلاصة عنه؟

محمد نور الدين أفاية: يندرج هذا الكتاب ضمن انشغال يحركنا، الصديق إدريس الكراوي وأنا، بشكل دائم منذ عقدين؛ وهو الكتاب الرابع الذي يتخذ من قضية الشباب موضوعه المركزي. يحاول هذا الانشغال مواكبة ومعاينة التحولات التي تطرأ في المجتمع من خلال تشخيص وتحليل مواقف وآراء وتصورات الشباب لذواتهم، للمجتمع، للعالم، وللقيم المتموجة التي اعتمادا عليها ينحتون مساراتهم المختلفة.

احتوى كتاب "الشباب والالتزام بين الخيبة والأمل" على مقدمة إشكالية، وقسمين، الأول من طبيعة نظرية، والثاني يقدم نتائج دراسة ميدانية، وخمسة فصول وخاتمة. تناول القسم الأول موضوع الشباب وديناميات التغيير، انطلاقا من تساؤلات حول معنى أن تكون شابا اليوم، وحول الوضعية الصعبة للشباب المغاربة وغير المغاربة في مواجهة مختلف العوائق التي تعترضهم في مسار إثبات ذواتهم والاندماج في الحياة العامة. وقد تم استدعاء جملة اعتبارات نظرية تتعلق بموضعات الاستبعاد والحرية والمشاركة السياسية والمدنية، والأدوار التي تلعبها الثورة الرقمية ووسائط التواصل الاجتماعي، ووظائف الدولة في عملية تأطير وتدبير الوقائع الجديدة التي تشهدها الشرائح الشبابية.

ويتبين من الكتاب، أن الشباب ليست "مجرد كلمة"، كما يقول بيير بورديو، وإنما يمثلون مسألة تعدّ قضية محورية بالنسبة إلى النخب، الحاكمة والمعارضة، في عملية وضع السياسات وإقرار أسس المجتمع ومستقبله؛ فهذه الفئة الاجتماعية، التي يصعب تملكها نظريا في الكثير من الأحيان، هي "منتوج خصوصي للحداثة"، كما ينعتها علماء الاجتماع، ولأن المجتمعات، كما هو حال المغرب، تجد صعوبات كبرى في استبطان قيم الحداثة في أنسجتها التربوية والثقافية والاقتصادية والسياسية، تبدو أنها لا تتمكن من فهم هذه الشريحة المجتمعية في تنوعها، وغالبا ما تعجز عن وضع سياسات عمومية دامجة؛ الأمر الذي يولد فوارق تزداد استفحالا في سياق "الشرخ بين الأجيال"، مع تفاقم هذه الفوارق مع الانسدادات المختلفة التي يعاني منها الشباب والنساء. هكذا تناول القسم الأول من الكتاب التجليات الجديدة لانفصام الروابط والانشقاقات وأشكال انفصال الشباب عن الأنسجة الاجتماعية والقيمية، مما ينتج أنماطا من الاختلالات ما بين عالم الاقتصاد والمال ومستويات القرار السياسي؛ وأمام إضعاف هذين الحقلين المحددين في مسار مجتمع يجد المسؤولون أنفسهم أمام العجز الفعلي على تكوين فاعلين شباب قادرين على إنجاح مبادراتهم وتحقيق تطلعاتهم. وهكذا نراهم يعيشون في اللا-يقين والهشاشة بحكم كونهم موزعين بين النزوع إلى المشاركة والخوف من الاستغلال السياسوي لقضاياهم، ولا سيما أن "المجال العمومي" محتكر من طرف فاعلين كبار يشوشون على الممارسة السياسية، ويُنَفرون الشباب من عوالمها.

بالإضافة إلى ذلك، تضمن الكتاب بحثا ميدانيا تعرض لتمثلات الشباب للالتزام ولقضايا التنمية وأولوياتها ولتحديات الإدماج الاجتماعي، والأمن الإنساني.

عزيز العرباوي: يتوزع الشباب، وفق هذا الكتاب/ البحث الميداني بين منظورين: الخيبة التي تستولي على الشباب بسبب الصعوبات الكبرى التي تعترض هذا الجيل، والتعلق بالأمل والتفاؤل المطلوبين لإثبات الذات، وانتزاع الاعتراف بهم من الناحية السياسية والمجتمعية، فكيف يمكن للشباب تجاوز هذه الجدلية من أجل بناء المستقبل والتحول إلى فاعلين في بناء التغيير؟

محمد نور الدين أفاية: كيفيات تجاوز جدلية الأمل والخيبة مسألة ليست هينة، كما هو حال وضع أسس جديدة تسمح للشباب بإثبات ذواتهم في الحياة والمجتمع؛ ذلك أنه لم يعد بالإمكان حُكْم أي مجتمع بإعادة إنتاج النماذج القديمة، مهما كانت المسوغات، أو بالاعتماد على نخب مشدودة إلى الماضي. لقد اعترف أصحاب القرار، بوضوح، بفشل الاختيارات الكبرى وخلل أنماط الحكامة التي أنتجت الفوارق والاستبعاد والاحتجاجات. فكل من له علاقة بالشأن العام والقرار يواجه أسئلة حاسمة من قبيل: ما هي السياسات المثلى لإدماج الشباب في الحياة المهنية والاجتماعية؟ كيف يمكن تجنيبهم السقوط في النزعات التشاؤمية والتيئيسية، أو في الإيديولوجيات التدميرية وفي براثن الأجيال الجديدة للعنف؟ وما هي الطرائق الممكنة لإعادة زرع الرغبة في المستقبل؟

كيفما كانت الأجوبة المقدمة على هذا النوع من الأسئلة، التي قد تبدو سهلة في صياغتها، لكنها في منتهى التعقد إذا نظر إليها من زاوية المسؤولية، فلا يمكن تصور مشاريع وإنجاحها بدون المشاركة المباشرة للشباب في عمليات بلورتها كما في تطبيقها؛ ولا أحد يمكنه توقع نجاعة أية سياسة شبابية أو نموذج تنموي يستفيد من ثمراته الشباب، بدون خلق الشروط التي تجعل من الشباب عامل تغيير بالاستجابة لانتظاراتهم من أجل المزيد من توسيع دائرة الحريات والاعتراف والإدماج والعدالة والكرامة.

عزيز العرباوي: مع انتشار الإنترنت وهيمنة وسائل التواصل الاجتماعي، يجد الشباب أنفسهم وسط موجة من القنوات المزيفة التي صنعها إعلام مزيف، يخدم مصالح وأجندات مختلفة، ويتقوقعون على أنفسهم في عالم افتراضي بلغ بالبعض منهم حد الإدمان، فكيف يمكن في رأيكم استغلال الوسائل الحديثة في تنشئة سليمة للشباب؟

محمد نور الدين أفاية: لاشك في أن التقدم غير المسبوق للتكنولوجيات والأدوات الرقمية، بواسطة الربط بالأنترنت عالي الصبيب والحواسيب والهواتف الذكية واللوحات الإلكترونية ومختلف أنواع التطبيقات ومواقع التواصل الاجتماعي، بصدد اجتياح كل مجالات النشاط الإنساني، بما لهذه الابتكارات التكنولوجية من قدرات على "صناعة" الروابط الاجتماعية الجديدة، ومن تداعيات واضحة على حياة الناس اليومية وعلى الديناميات الثقافية.

ومعلوم أن السطوة التي بدأت تمارسها هذه التكنولوجيات على حياة الشباب وغير الشباب، وعلى الروابط الاجتماعية، وما تحدثه من تغييرات على العلاقات جرَّاء الاستعمال المفرط لأدواتها، وبسبب الأشكال المختلفة للإدمان عليها؛ واعتباراً للمخاطر التي تتعرض لها الناشئة بسبب ما توفره المواقع المختلفة المشارب والمذاهب من مضامين ومؤثرات، وعما تتعرض له الحياة والمعطيات الشخصية من رقابة أو سهولة الكشف عنها، كل ذلك خلق نوعا من القلق حول الوجود والحقيقة والزيف والعبودية والاستلاب.

لدرجة أننا نجد أصواتا تتكاثر تدعو إلى النضال ضد سيطرة التكنولوجيات، الرقمية منها على وجه الخصوص، على حياة الشباب لأنها تهدد العلاقات الإنسانية بسبب أشكال الفردانية التي تنتجها، وتدعو إلى التحرر من "الانبهار الرقمي" الذي يزج بالناشئة في نوع من "العبودية الطوعية" والإدمان، وما تمارسه من تأثير على القيم والسلوكيات والعلاقات وعلى الذاكرة.

وعلى الرغم من أن التكنولوجيات الرقمية ثورت "الممارسات الثقافية"، وأنتجت علاقات جديدة بالآخرين، بالإبداعية وبالمعارف، فإن المرء يجد نفسه أمام صعوبات متجددة في استخلاص أو إنتاج أفكار حول موضوع متموج من قبيل تأثير التكنولوجيات على عالم الثقافة والعلاقات التذاوتية، وبالخصوص على الشباب.

عزيز العرباوي: يجني الشباب في وطننا العربي العديد من النتائج الإيجابية أو السلبية، التي يخطط لها الكبار في إطار العلاقة بين الطرفين، والتي تُبنى على عدم التكافؤ في الفرص وعدم المساواة في حق المشاركة وحق الاستماع للرأي الآخر واستحضار حاجياته الأساسية، فيؤدي كل هذا إلى الحرمان من حق الشغل وحق التربية والتكوين وحق التعبير والرأي وحق التجمع... هل هذا صحيح أم إن الأمر عكس ذلك تماماً؟

محمد نور الدين أفاية: مرة أخرى، لم يعد محتملا مفاقمة الشرخ الجيلي ولا قبول احتكار الكبار لقرارات تهم مصير الشباب، خصوصا حين تكون نتاج سياسات استبدادية تلغي كل مجالات القول والتفكير والمبادرة. لقد انتفض الشباب العربي في أكثر من بلد وما يزالون يحتجون على الأنظمة التسلطية؛ لأنهم اقتنعوا أنهم بانتفاضاتهم ليس لهم ما يخسرون، ولم يعودوا يطيقون الاستمرار في الصمت على سرقة حقوقهم الأساسية في التعليم والعمل والترفيه والحب، أو حرمانهم من الحياة ومن العيش الكريم. صحيح أن عوامل داخلية وإقليمية ودولية مضادة لمبادئ الحركات الاحتجاجية ساهمت في تشويه وتحريف بعض حِراكات الشباب، لكن أسباب التعبير عن غضبهم ضد الفساد والاستبداد والاحتقار ما تزال قائمة. ولذلك، لا يمكن توقع توقف مظاهر الاستنكار، إلا إذا تغيرت نظرة النخب الحاكمة إلى طبيعة السلطة وأدوارها وإلى نوعية السياسات الموجهة للشباب والمرأة.

عزيز العرباوي: إن الشباب العربي بحكم ثقافتهم وتكوينهم النفسي والاجتماعي الحالي يميلون إلى رفض مجموعة من المفاهيم وخاصة السلطة التي يمارسها الكبار عليهم، مما يؤدي إلى ما يسمى بصراع الأجيال، كيف يمكن رأب هذا الصدع بين الجيلين؟ وهل نحن في حاجة إلى شباب مستقل على المستوى الثقافي والاجتماعي والنفسي، أم إن شبابنا مازال في حاجة إلى المصاحبة والمراقبة من طرف الكبار؟

محمد نور الدين أفاية: هناك فارق بين الفترات المختلفة للشباب، فمعروف عن مرحلة المراهقة أنها شَكّية، تساؤلية، وفيها يُعيد الشاب المراهق النظر في مختلف مظاهر السلطة الأبوية والمؤسسية وغيرها؛ وهي مرحلة ميتافيزيقية إلى حد ما، لكن مع تشكل الوعي يصبح الموقف من بعض المفاهيم أكثر نضجا، ومنها مفهوم السلطة وتجلياتها. ومن الطبيعي حصول اختلاف في تقدير الأمور بين الكبار والشباب بحكم اختلاف السياقات والمؤثرات والقيم؛ فشباب الزمن الرقمي، على سبيل المثال، لا يمكن الحكم على ممارساتهم وأنماط سلوكهم وتفكيرهم وأدوات اشتغالهم انطلاقا فقط من المعايير التي درج عليها جيل آبائهم، وحين يقوم سوء الفهم يولد سوء التفاهم وينتج مواجهات وصراعات تكون، في بعض الحالات، مستعصية ومعقدة؛ فالصراع مسألة عادية ومنتظرة، لكن أمر تدبيرها يختلف من وسط اجتماعي وبيئة ثقافية إلى أخرى. أما حاجة الشباب إلى الاستقلال الذاتي، فذلك ما يدخل ضمن البديهيات؛ لأنه لم يعد ممكنا ممارسة الوصاية على عقولهم وأذواقهم واختياراتهم؛ قد يستسلم الشاب الذي يوجد في وضعية هشاشة ويذعن بسبب تبعيته المادية للأب، لكنه في دواخله تتملكه نزوعات الحرية والاستقلالية أكثر مما يمكن تصوره من طرف الجيل السابق؛ غير أن مشكلة الشباب في البلاد العربية، تتمثل أولا في كون الشباب شريحة غير معترف بها، باعتبارها قوى قادرة على المشاركة والمبادرة، اللهم إلا في بعض المجالات كالرياضة، وثانيا أن المنظومات التربوية والتعليمية لا تشجع الناشئة على التفكير اعتمادا على ذاتها أو تحفزها على مبادئ العمل والمشاركة، أو على استبطان قيم المجتمع الديمقراطي. ومعلوم أن مجتمعات تخاف من الحرية أو تستخف بالإبداع وبالعمل يصعب أن تنتج رأسمالا بشريا كفؤا ومبادرا.

عزيز العرباوي: إن تشكيل الشخصية الإنسانية يتم بفضل العلاقات المتبادلة بين الأفراد وتفاعلهم داخل المجتمع واحتياجهم لبعضهم البعض، سواء على المستوى الاجتماعي والمعنوي أم على المستوى المادي، فإلى أي حد نجد هذه المسألة حاضرة في مجتمعاتنا الشرقية المبنية على الوصاية والأبوية؟

محمد نور الدين أفاية: بهذا السؤال أنت تطرح قضية سوسيولوجية إشكالية عامة، وبدون أن ندعي الاقتراب منها بالشكل المطلوب، فإنني أكتفي بالإشارة إلى مسألة الأبوية الواردة في السؤال بالقول إن الشباب هم في طليعة ضحايا النظام الأبوي، كما المرأة. وليست الأبوية مجرد نظام اجتماعي واقتصادي يضبط العلاقات بين الأفراد بناء على نمط سلطوي محدد فقط، وإنما هو أيضا نظام رمزي له تجلياته النفسية والأخلاقية، ويعمل على ترجمتها بواسطة رسائل متعددة قد تكون مكشوفة وقد تكون متخفية وسرية، لا تتوقف عن التمدد والتواصل ضمن سياق التنشئة والتربية والعلاقات الإنسانية واللغة اليومية. وتمارس الأبوية سلطاتها انطلاقا من حالة دائمة من الخوف، المتخيل أو الحقيقي، من أن خصما ما سيتسلل من أجل الاستحواذ على مقومات سلطته، ولذلك يضرب عليها حصارا من الوصاية والتطويق وينهج سياسة مبنية على اللا-تكافؤ ومنتجة لاستبعاد والإقصاء، وكثيرا ما يكون الشباب هم ضحايا هذا الخوف.

تمارس الأنظمة العربية أبوية سياسية قاهرة، كما تتضايق من النقد والمحاسبة، ويصعب عليها الاعتراف بالقدرات الهائلة لشرائح الشباب، اللهم إلا إذا أُخضِعوا لبنياتها من خلال آليات الولاء والتسليم بسلطاتها. أما وأن مسلسل احتجاجات الشباب انطلق في اتجاه الخروج من مجتمع الاحتقار، فإن الأنظمة التسلطية تجد نفسها ملزمة بمراجعة وسائلها ولغاتها ومنسوب قوتها للمحافظة على توازن غالبا ما يبقى هشا ومؤقتا. فمبادئ الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة ليست مجرد شعارات تُقحم في ساحات الاحتجاج للمزايدة، وإنما أصبح الشباب العربي يعبر من خلالها عن مستوى راق من الوعي السياسي، فضلا عن أن احتكاكهم بتجارب العالم واستعمالهم للأدوات الرقمية تحول لديهم إلى سلاح في مواجهة الظلم والفساد والاستبداد ووسيلة للكشف عن تناقضات ومزالق السياسات المتبعة.

عزيز العرباوي: تلعب الأسرة دوراً حاسماً في حياة الفرد، بل يمكن اعتبارها بمثابة الوسيط الفعَّال الذي يتحقق من خلاله دور الحضارة والثقافة في تشكيل الشخصية الإنسانية... فهل تقوم الأسرة اليوم بدورها الحقيقي؟ أم إنها قد تنازلت عن بعض وظائفها لصالح مؤسسات أخرى داخل المجتمع؟

محمد نور الدين أفاية: لا جدال في أن سلطا جديدة أصبحت لها قوة تأثير على الناشئة أكثر من الأسرة، خصوصا حين تعرف هذه الأخيرة تناقضات وخلافات وتوترات داخلية، أما إذا كان أفرادها يتوفرون على ما يلزم من التدبر والحكمة، ويستندون إلى مبادئ وقيم بانية؛ ففي هذه الحالات ما تزال الأسرة تلعب دورا حاسما في البناء الذهني والنفسي والاجتماعي للأطفال واليافعين. ومن المؤكد أن المجتمعات العربية تعرضت لاهتزازات كبرى في بنياتها وعلاقاتها؛ لأسباب عدة منها: الانتقال الصعب من العائلة الممتدة إلى العائلة النووية، والاندماج السريع في مجتمع الاستهلاك، وصعود أشكال، أحيانا غير سوية، للفردانية، وسطوة الاعتبارات المادية، وتراجع دور منظومة التربية والتعليم في بعض البلدان العربية، واختلاف وتنوع المرجعيات الثقافية والقيمية لمؤسسات التكوين، واجتياح الأدوات الرقمية وغيرها من الأسباب الأخرى التي عرضت البنية الأسرية إلى الخلخلة، وبدا الآباء وكأن التحولات الجارية حولهم تتجاوز قدرتهم على التحكم في مسار تنشئة أبنائهم وبناتهم، وعلى نقل القيم الإيجابية واستنبات سلوكيات تستجيب، نسبيا، إلى انتظاراتهم.

لاشك أن مسألة الأسرة، اليوم، في علاقاتها بمؤسسات أخرى جديدة لها تأثيرات كبرى على الشباب لا يمكن تناولها بالسرعة المطلوبة؛ لأنها معقدة ومتشابكة وتتداخل فيها عوامل ومستويات تحليل متنوعة. فأشكال اللايقين التي تحف بأدوار الأسرة في تنشئة أطفالها يعود بلا شك إلى سطوة مؤثرات تتجاوز قدرتها على الضبط والتوجيه البناء، ولكن مع ذلك إذا كان أفراد الأسرة يملكون ما يلزم من الوعي بالمسؤولية التربوية والتكوينية، فإن الأبناء غالبا ما يتمكنون من إنجاز الاستبطان الإيجابي لما يتلقونه من خارج العالم الأسري مهما كانت قوة مؤثراته.

عزيز العرباوي: انخرط العديد من الشباب خلال العقود الأخيرة في موجة الإرهاب وممارسته بشتى الطرائق والوسائل، كما أن انخراطه القوي والملاحظ في إطار الجماعات المتطرفة أصبح بارزاً، ما هي أسباب هذا الانخراط القوي؟ وكيف السبيل إلى مواجهته ومعالجة الخلل؟

محمد نور الدين أفاية: معلوم أن ظاهرة الإرهاب، أو التطرف العنيف ليس ظاهرة جديدة، وإنما أصبحت تعبر عن نفسها بطرائق مستجدة بعد الثورة الإيرانية سنة 1979، والحرب في أفغانستان، وتأسيس تنظيم القاعدة، وحروب الخليج، واحتلال العراق سنة 2003 إلى الأحداث الكبرى بمآسيها التي انفجرت سنة 2011 في بعض الساحات العربية التي شهدت إقامة دولة خلافة البغدادي، ومناطق يحكمها تنظيم القاعدة (النصرة سابقا أو هيئة تحرير الشام في سوريا). ولعل اللجوء إلى التطرف العنيف له أسباب كثيرة يصعب علي التوقف عندها بعجالة؛ وهذا ما سبق لي أن تعرضت إليه في كتابي "الوعي بالاعتراف" (2017)، وإذا ما اقتصرنا على ما تعرض له هذا الدين من استعمالات وتوظيفات من طرف مختلف الجهات والدول التي رعت ومولت وسمحت بانتشار التطرف العنيف، بما فيها تلك التي لا تكف عن ادعاء محاربته، فإنه يبدو لي أن الإسلام ضحية قراءات واستخدامات تحركها مُسبقات يتم ترجمتها وأحيانا تبريرها بأفعال عنيفة، حربية ومؤلمة تنتج مآس وأشكال متفاوتة من المعاناة، وهي إدراكات "متوحشة"، بل وأحيانا ناتجة عن أشخاص يصعب الإقرار بأنهم يمتلكون ما يلزم من القدرة على إصدار حكم سليم. فالجيش الكبير للدعاة، والمفسرين، والمؤولين، ونجوم القنوات الفضائية (هناك أكثر من 120 قناة دينية عربية)، والأمراء والخلفاء يتناسلون مع السلفية الجهادية الحالية، ومع مختلف أشكال الفبركة الخطابية والسلوكية التي تختزل الإسلام في مصدر "تشريعي" لإسناد دولة إسلامية متوهمة، يستبعد فيها هؤلاء الدعاة كل الاجتهادات ذات القوة التفسيرية للنصوص لفائدة منظومة من الأوامر والنواهي والإكراهات.

فخطابات التطرف العنيف ينتجها الكبار بإيعاز من جهات ودول لتوظيف فئات الشباب في محرقة الإرهاب والقتل حسب أجندات وحسابات يتداخل فيها القدسي بالديني بالسياسي بالجيو-استراتيجي. وازدادت الوضعية تعقدا، حينما استولت وسائط الاتصال على موضوعات الهوية والمذهب والطائفة وادعاء احتكار الحديث باسمها، أو تزدهر الشبكة العنكبوتية بآلاف المواقع المفتوحة التي تحرض على القتل وتعبئ الشباب الأبرياء للالتحاق بصفوف "المجاهدين" للتضحية بأرواحهم من أجل قضايا تختلقها الدول وأصحاب المصالح الكبرى في المنطقة العربية.

وتؤكد المعطيات المختلفة أمامنا أن الحيرة الفكرية هي سيدة الموقف في أوساط الكبار كما في أوساط الشباب، وبأن الإسلام، سواء اعتبرناه عقيدة أو أخلاقيات، طوبى أو سياسة، يبدو وكأنه مُحْتَجَز من طرف كل الأطياف الإسلاموية التي تختزل الإسلام في بعده السياسي الدعوي وتساهم، بعنف، في تحريف أسسه الروحية. ولا شك أن الشباب هم أكثر الفئات عرضة لهذه التجاذبات والاستقطابات.

عزيز العرباوي: كلمة أخيرة دكتور أفاية، كنصيحة لشبابنا العربي....

محمد نور الدين أفاية: اسمح لي بأن ألاحظ أن خطاب "النصيحة" لم يعد يجدي دائما في هذا الزمن الرقمي، ومن الصعب أن تجد آذانا صاغية بين الشباب لهذا النوع من القول، مهما كانت النية الحسنة التي تحركه. صحيح أن خطابات التطرف العنيف تجد "زبناءها" بين شرائح الشباب، نظرا لاستراتيجيات التأثير والتعبئة التي تعتمد عليها، لكن الظاهر أن للشباب انتظارات جديدة ولغات مختلفة وتقنيات ثورية لا يفهم فيها أو منها الكبار إلا القليل. ولذلك، فقد حان وقت إنتاج ما يلزم من آليات ومنصات الاستماع والتواصل مع هذه الانتظارات واللغات والتقنيات التي يحسن الشباب استعمالها، وخلق جسور التبادل والانخراط، بجدية، في سياسات إشراك الشباب في قضايا الشأن العام وفي المجالات التي تهمهم وتتعلق بمصيرهم.