المقاومة بالإبداع أشدّ المقاومات على الفكر الظلامي


فئة :  حوارات

المقاومة بالإبداع أشدّ المقاومات على الفكر الظلامي

المقاومة بالإبداع أشدّ المقاومات على الفكر الظلامي(1)

ذكر الباحث الجمالي المغربي موليم العروسي أن المقاومة بالإبداع أشدّ المقاومات على الفكر الظلامي، وأنه عندما تحط الحرب أوزارها يحتاج الناس إلى الحب والجمال لتضميد الجراح، ولهذا من الضروري مقاومة هذه الجماعات المتشددة بالفن والإبداع المعبرين عن الحياة والاحتفال، لأن كل ما تقوم به يسعى إلى تمجيد الفقر الروحي والجمالي.

وأضاف موليم العروسي، إلى أن تلك الأيديولوجية تصدت للأفراح والأعياد، وهي المناسبات التي يمكن أن ينتعش فيها الجسد ويحتاج لإنتاج الجميل والتمتع به والدعوة إليه، فتوصلت إلى إفقار مخيال الشعوب العربية والإسلامية، وخلقت لديها ردود أفعال أصبحت شبه غريزية ضد كل ما هو جميل، حيث أصبح جزء من الشعب يعتبر أن الدمار والانهيار والقتل والدماء هي المشاهد الجميلة. عندما يُهْدي إرهابيٌّ حبيبته أو ابنه حزاما ناسفا فماذا تنتظر منه؟

وأوضح الباحث الجمالي المغربي أن الأنظمة العربية لو كانت تريد فعلا القضاء على التيارات المتطرفة، لكانت وفرت للمثقفين نفس الإمكانيات التي توفرها للقنوات الرياضية والدينية، لكنها لم ولن تفعل، لأن المثقف الذي بإمكانه أن يواجهها، لابد وأن يفعل ذلك بتوعية الشباب التي تؤدي إلى وضعية أخرى، ألا وهي إحساسه بالمواطنة، وعلى هذه الأخيرة تترتب مطالبات أساسية أهمها الديمقراطية وحقوق الإنسان، لذا تفضل الأنظمة، وحتى تضمن بقاءها في السلطة، المراهنة على المقاربة الأمنية مع فتح كوات صغيرة للمثقفين يتحدثون من خلالها كوعاظ لا كفاعلين.

وأشار العروسي إلى أن الدين والفن ضرورة حيوية للإنسان، لا يمكن لأي كان أن يعيش بدون معتقد، ولا يمكن ألا يؤسس وجوده على رواية مقدسة يسقي من رحيقها روحه تماما كالفن، ولهذا فكلما ضَمُرَتِ العين، والأذن الروحية يستبد البؤس بالبشر، فيعمدون إلى تسطيح معتقداتهم وتحويلها إلى قواعد جافة ثابتة وإلى قوانين قاهرة؛ عندها تَنْسَدُّ الآفاق ويسود الظلام.

وأكد أن "الفن بما هو تجل للحقيقة لا يمكنه أن يتموقف بسهولة، لأننا حيثما كنا، ووفق الضفة التي نوجد عليها، يمكن لنا أن نعتبر أن الحقيقة ملك لنا، وبما أنه ليس بإمكاننا الوصول إلى من يتلاعب بخيوط العمليات الإرهابية، فإن الفنانين يضعون أنفسهم في ضفة الجمال والنقد الراديكالي لصناع القتل، أيا كانت أصولهم أو جنسياتهم".

وموليم العروسي مفكر وكاتب مغربي حاصل على شهادة دكتوراه الدولة في علم الجماليات بجامعة السوربون في فرنسا، ودكتوراه في الأدب الفرنسي بجامعة الحسن الثاني (الدار البيضاء)، يشتغل الآن كأستاذ للفلسفة وعلم الجماليات في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدار البيضاء.

ترأس الجمعية المغربية لنقاد الفن بالمغرب، وهو عضو في حركة "ضمير" المغربية، قدم محاضرات في مجال الفن وعلم الجمال بالعديد من الجامعات الدولية بفرنسا وبلجيكا وبولونيا والسينغال وغيرها، كان عضوا في لجان تحكيم العديد من الملتقيات والبيناليات الفنية العربية والدولية، كما أشرف على العديد من المعارض الجماعية، آخرها معرض التشكيل المغربي المعاصر بمعهد العالم العربي بباريس في عام 2014.

تتوزع انشغالات موليم العروسي عبر عدة حقول: الفلسفة والأدب والجماليات، وتمتد إلى السياسة وعلمي النفس والاجتماع وتاريخ الأديان، صدرت له في الرواية: "مدارج الليلة الموعودة" 1993، و"ملائكة السراب" 2012. وله في الفن: "قناديل الليالي العشر" بالعربية والفرنسية، 1994، و"الفضاء والجسد" 1996، و"الفن التشكيلي في المملكة المغربية" عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بتونس عام 2015، كما صدر له بالفرنسية: "علم الجمال والفن الإسلامي" 1996، و"اتجاهات التصوير المغربي المعاصر" 2002، و"الهوية والحداثة في الفن المغربي - زوم على سنوات الستينيات من القرن العشرين" 2012، فضلا عن العديد من المؤلفات المشتركة والإنجازات السمعية البصرية في الفنون التشكيلية.

حافظ الباحث الجمالي موليم العروسي على ديمومة حضوره العربي والدولي عبر الندوات والملتقيات، ومن خلال الكثير من الدراسات والمقالات والحوارات، إذ يبرز باعتباره مفكرا عضويا ذا اتصال جذري مع الواقع المعيش بعلاقته مجريات الأحداث، إضافة إلى إصراره المستدام على التقصي والمتابعة والمشاركة لقراءة وتحليل القائم والمستحدث برؤية قاطعة ومستنيرة تعمل على خلخلة المناهج الجاهزة التي تحكم مختلف التعبيرات الإنسانية. ولعل مقولته: "أنا حكواتي في الفلسفة وفيلسوف في الإبداع"، تلخص نظرته المختلفة والفاحصة للقضايا الإشكالية، بالموضوعية التي ينحت لها لغتها وأدواتها، لتكون ذات جدوى في بناء الجديد وتحقيق التقدم.

بنيونس عميروش: لم تسلم المواقع الأثرية والمتاحف من امتدادات آلة الإرهاب التدميرية، ما يقحمنا داخل دائرة التنافر الحاد بين الدين والفن، بالرغم من كونهما متآلفين ومتواشِجَيْن على أكثر من صعيد يمس القيم الإنسانية بعامة، هل لك أن توضح هذه المفارقة؟

موليم العروسي: لا علاقة للإرهاب على الأقل في الشكل الذي نعرفه اليوم بالدين وبالإسلام كدين وكعلاقة روحية بين المسلم وخالقه. النصوص الدينية كما المتون الفنية هي موضوعات للتأويل وتنتج المعنى على مر العصور. لذا، فأنت ترى الناس وعلى امتداد التاريخ يتنازعون التأويلات، ويعيدون النظر فيما سبق من شروح أو يتبنونها بشكل أعمى. هذا في حد ذاته شيء محمود، لكنه عندما يلتقي بالتطرف والعنف يصبح خطرا على المجتمع وعلى الفرد نفسه.

الدين والفن كما تعرف، ضرورة حيوية للإنسان، لا يمكن لأيّ كان أن يعيش دون معتقد، ولا يمكن ألا يؤسس وجوده على رواية مقدسة يسقي من رحيقها روحه تماما كالفن، كما أنه لا يمكن للفرد أن يعيش دون الاعتكاف والصلاة حتى ولو تعلق الأمر بالتشبث بعبادة الأحجار أو الأنهار أو البراكين كما هو موجود على الأرض التي نعيش عليها، لكنها هي الروح التي تطلب ذلك. لكن كلّما ضَمُرَتِ العين، والأذن الروحية، يستبد البؤس بالبشر، فيعمدون إلى تسطيح معتقداتهم وتحويلها إلى قواعد جافة ثابتة وإلى قوانين قاهرة؛ عندها تَنْسَدُّ الآفاق ويسود الظلام. كل الشعوب معرضة لهذا الخطر، وخصوصا عندما تحسّ ببلبلة في الهوية الشخصية للأفراد والجماعات، عندما تحس أن هويتها مهددة نظرا لوهن ما أصابها أو لضعف شخصيتها الحضارية والمادية.

بنيونس عميروش: بعد أن ظلت العديد من التماثيل شامخة وآمنة في دول عربية إسلامية كمصر والعراق وسوريا والجزائر وغيرها لعدة سنوات كعلامات حضارية، أصبحت قطعا فنية مُعَرَّضَة للتكسير والتلف بأياد التطرف خلال أحداث "الثورات العربية"، ما يجعلنا نستحضر مقولة "العقل الفقهي" عند المفكر محمد عابد الجابري في "تكوين العقل العربي"، وما يتبع ذلك من قصور في التجديد وفي تأويل "النص الديني" طبقا لتطور سياقات العصر، كيف ترى وضعية التراجع إلى نقطة البداية لمناقشة مسألة كراهَة الصورة والتصوير في عصر الشاشات؟

موليم العروسي: أولا، اسمح لي أن أقول لك إن فكرة العقل العربي والفقه هي فكرة ساذجة، وهي تخدم الاستبداد العربي أكثر ما تخدم ما يزعم البعض أنه الفكر العربي. الجابري والذي كنت وصفته في كتابي "الفضاء والجسد" (1996) بالمُتَموْقِعِ بين الفقه والفلسفة، يفكر بطريقة سطحية جهوية خدمت وتخدم في الحقيقة الفكر الأصولي والاستبداد السياسي أكثر مما خدمت ما كان يدعي هو وأتباعه أنه التجديد. العقل كوني لا يحتمل الجهوية، لأنه لو كان الغرب قد اعتبر أن عقله جهويا لما كان استفاد مما أسسه البابليون والسومريون والعرب والإغريق والرومان وجميع شعوب العالم، ولما كان توجه لغزو العالم لا على أساس عرقي أو ديني، وإنما على أساس العقل الكوني الذي كان يقول، إنه عقل البشرية وليس عقل الأوروبيين أو المسيحيين. لو أن الصين قدمت اليوم فكرها على أنه صيني محض: بودي أو كونفشيوسي، لما تقدمت ولما كانت لتغزو العالم اليوم. القول بأن للعرب عقلا خاصا يعطي الحق للاستبداد العربي للقول بأن للعرب مفهوما خاصا لحقوق الإنسان، ومفهوما خاصا للحرية، ولهذا فليس من الضروري الأخذ بديمقراطية الغرب، لأنها ليست منا. بسبب هذا النوع من الكلام، بقينا عقودا نجترّ تخلفنا، ولهذا أقول لك، إن كلاما كهذا يخدم الاستبداد أكثر من أي شيء آخر، والدليل على ذلك أن هكذا فكرا نشأ وترعرع برعاية الأنظمة العربية ذات التوجه القومي الاستبدادي (الناصرية والبعثية) قبل أن تتبناه الأنظمة الأخرى ولنفس الأهداف.

وعودة إلى أُسِّ السؤال، الأمر لا يتعلق بالتأويل الديني، بقدر ما يتعلق بفكر رُصِدت له الإمكانيات الكبيرة والأموال الطائلة بهدف إعادة العرب، على وجه الخصوص (وليس المسلمين بالضرورة)، إلى الوراء إلى القرون الوسطى الأوروبية التي كانت تُجَزُّ فيها الرؤوس بسبب التأويلات الدينية المتعددة والمتضاربة، وكان التشدد الديني هو الذي يحكم العلاقات بين الأفراد والجماعات. للأسف الشديد، شاركت دول عربية كبيرة وكثيرة في هذا المخطط الذي يهدف أيضا إلى محو كل الحضارة التي بناها سكان منطقة الجزيرة العربية والهلال الخصيب. بدأ المخطط بالعراق، وكان قبل ذلك في لبنان قبل أن ينتقل إلى باقي دول المنطقة، والغريب في الأمر أن نفس الجماعات التي تكسر وتدمر الصور تبني كل دعايتها على الصور (طالبان، داعش...).

بنيونس عميروش: ما زال يصعب على البعض في الأقطار العربية، النظر إلى الممارسة التشكيلية بوصفها "مهنة" للعيش والتزاما اعتباريا، يسهم في تطور وتهذيب المجتمعات، بل هناك من يراها مخالفة للأعراف الأخلاقية والدينية، كما هو الشأن في موضوعة "الجسد" (تصويرا ونحتا) على سبيل المثال لا الحصر. كيف يمكن معالجة مثل هذه الانحرافات السوسيو- ثقافية التي تشكل بؤر التوترات بين الدين والفن، علما أن الفن يتقدم بروح الحرية الموصولة بقدر من الجرأة والحس النقدي؟

موليم العروسي: أولا عندما تكون الشعوب والحضارات واثقة من نفسها، ولا تحس بأنها في خطر داهم، لا تطرح مثل هذه الأمور، وعندما يحس شعب ما أن هويته في خطر وعندما يحس بالغبن والظلم يعود إلى مساءلة نفسه عما ارتكبه من أخطاء تجاه الملأ الأعلى. هل تذكر قصة الحيوانات المرضى بالطاعون؟ تلك الأمثولة التي يعود تأليفها لجان دو لافونتين (Jean de La Fontaine)، التي صاغها أحمد شوقي في قالب شعري جميل لقرّاء العربية. لقد اجتمعت الحيوانات تحت رئاسة الأسد لتنظر في سبب نزول الطاعون على الغابة، وكان أن أُنْزِلَ العقاب بالقتل على الحمار المسكين، لأنه أكل عشب أحد أديرة الكهّان، كما اعترف هو نفسه بذلك. عجزت الحيوانات عن حل لغز الطاعون، فكان لابد أن تجد حلا للمشكلة في موقف أخلاقي يقنعون أنفسهم أن من اقترفه هو الضعيف من بينهم. فكذلك نحن اليوم نتوجه إلى البحث عن حلّ للمشاكل التي تتجاوزنا بإنزال العقاب على ضعافنا الذين ليست لهم القدرة في الدفاع عن أنفسهم: النساء، الأطفال الشيوخ والفنانين، والأقليات.

عندما كانت الأنظمة الإسلامية واثقة من قوتها وقوة إيمانها، لم تكن تجد حرجا في أن يعيش الفنان والفيلسوف واليهودي والبوذي والملحد تحت سلطتها، لكن عندما وجدت الشعوب نفسها مستلبة، ضائعة لا تتعرف على نفسها في ما تنتجه، لأنها لا تستهلك إلا إنتاجات الآخر، ووجدت نفسها في نفس الآن غير قادرة على مواجهة هذا الآخر، ظنت أن السبب يكمن في المرأة والإبداع. حدث هذا أيضا في ألمانيا المنهزمة في الحرب الكونية الأولى، وكان أن خطط النظام النازي إلى هذا النوع من الأخلاق الجديدة، وتوجه لقمع وإبادة الأقليات العرقية والدينية، وحاصر الفنون ونادى بصفاء العرق. هذا بالضبط ما يحدث في البلدان العربية اليوم باسم الإسلام.

الفنّ لا يمكنه أن يوجد إذا لم يتأسس على مبدأ الحرية. الفنان يأتينا بما لم نكن نعرف، أي يشتغل على غير مثال سابق، بل يسحب كل ما يؤلف أو يصور من أعماق نفسه، ولا يعرف هو نفسه طبيعة عمله قبل إنجازه، فكيف يمكن أن نضع له حدودا وموانع وقوانين، ونطلب منه عدم تجاوزها؟

بنيونس عميروش: في الوقت الذي نسلم فيه بكون الدين في بعده المقدس وبوصفه رسالة، يواكب تغير وتقدم وتفاعلات المجتمع بما فيه الإبداع الجمالي، فإن أشكال التدين كممارسة اجتماعية تعمل على تقوية جيوب التصارع تجاه العديد من القضايا الموصولة بالإنسان الذي يتوق بطبعه إلى الإبداع والتجديد وتهذيب الذوق للانسجام مع ذاته وعالمه الطبيعي، ألا تتفق معي على أن النظرة الدونية للعمل الفني، والتي تجد صداها داخل مجتمع ما، إنما هي انعكاس ملموس لضغوط التدين كقاعدة تحتكم إليها مؤسساته؟

موليم العروسي: التدين كممارسة اجتماعية أقل ضررا من التدين الصادر عن تأويلات بعض الذين ينصبون أنفسهم فقهاء الدين، وهم ليسوا في الواقع إلا خَدَماً لسلطات سياسية تستعمل الدين لأغراض أيديولوجية. التدين كممارسة اجتماعية جزء من ثقافة الشعوب، تُدْخِلُ فيه ما هو روحي وما هو مادي (الموسيقى، الطبخ، اللباس، الأعياد والحفلات)، و(الحياة أو الموت)، كل هذه الأشياء ترتبط عند الشعوب بتدينها الخاص، ألا ترى أن أول ما يتوجه إلى تحطيمه من طرف المتشددين هي هذه المظاهر الاحتفالية والقول بتحريمها ومحاولة ضبطها؟ هل ترى الزوابع التي تثيرها قطعة قماش، وما هي الفتاوي التي تنتج من أجل هذا؟ ألا ترى أن الصراع بين العالم العربي والغربي اختزل في الصراع من أجل الحجاب؟ أتعلم أنهم يحرمون، حتّى زيارة قبر النبي محمد ومسجده؟

لقد نتج عن هذه الأيديولوجيا، وليس الفكر (لأنها ليست فكرا)، تَصَرُّفٌ يُمَجِّدُ الفقر الروحي والجمالي. تصدت هذه الأيديولوجية للأفراح والأعياد، وهذه هي المناسبات التي يمكن أن ينتعش فيها الجسد، ويحتاج لإنتاج الجميل والتمتع به والدعوة إليه، فتوصلت إلى إفقار مخيال الشعوب العربية والإسلامية، وخلقت لديها ردود أفعال أصبحت شبه غريزية ضد كل ما هو جميل. أصبح جزء من الشعب يعتبر أن الدّمار والانهيار والقتل والدماء هي المشاهد الجميلة. عندما يُهْدي إرهابيٌّ حبيبته أو ابنه حزاما ناسفا فماذا تنتظر منه؟

وعلى الرغم من ذلك، فإن المقاومة ضرورية، وهنا أستعير تلك الجملة الشهيرة للمفكر والمقاوم الفرنسي ستيفان هيسيل (Stéphane Hessel)، "أن تبدع معناه أن تقاوم، وأن تقاوم معناه أن تبدع". المقاومة بالإبداع أشد المقاومات على الفكر الظلامي، لأنه عندما تحط الحرب أوزارها يحتاج الناس إلى الحب والجمال لتضميد الجراح.

بنيونس عميروش: بعد أن أصبح الإرهاب والتطرف صيرورة مؤثرة بشكل سلبي للغاية على مجريات الأحداث في العال، فهل يمكن الحديث عن دور المفكر والسوسيولوجي والمثقف العربي بعامة، وكذا الفقيه المتفتح في الحد من هذه المعضلة والتصدي لها؟

موليم العروسي: لو كانت الأنظمة تريد فعلا الانتهاء من هذه الظاهرة والقضاء عليها، لكانت وفرت للمثقفين نفس الإمكانيات التي توفرها للقنوات الرياضية والدينية. الأنظمة تريد الانتهاء من التيارات المتطرفة، لكنها تعرف أن المثقف الذي بإمكانه أن يواجهها، لابد وأن يفعل ذلك بتوعية الشباب، وتوعية الشباب تؤدي إلى وضعية أخرى، ألا وهي إحساسه بالمواطنة، وعلى هذه الأخيرة تترتب مطالبات أساسية أهمها الديمقراطية وحقوق الإنسان، لذا تفضل الأنظمة، وحتى تضمن بقاءها في السلطة، المراهنة على المقاربة الأمنية مع فتح كوات صغيرة للمثقفين يتحدثون من خلالها كوعاظ لا كفاعلين.

ما هي النسب الحقيقية من الشعب التي تعرف المثقفين الحقيقين؟ وما هي البرامج الثقافية في الإذاعات والتلفزيونات العربية التي تبث على طول اليوم؟ هناك الترفيه والرياضة، وهناك الدين، نوع من الدين، ولا وجود للثقافة. قد تقول لي إن هناك برامج تثقيفية تلفزيونية عربية مميزة، هذا صحيح لكن كم عددها؟ ومتى تبث؟ وكم مرة في الأسبوع؟ بالوتيرة التي تبث بها البرامج الثقافية، يمكن أن ينتظر المثقف في بلده من أربع إلى خمس سنوات، لكي يحظى بإطلالة على الجمهور.

يجب أن تكون هناك إرادة سياسية ما دام القطاع الخاص في بلداننا خاضع بقوة الأشياء إلى السلطة، ولا يمكنه أن يتحرك بمبادرات فردية كما يحدث في العالم الأوروبي والأمريكي، أو كما يحدث في الصين من طرف الدولة. لا يعقل أن يتكون العالم العربي من أربعمائة مليون فرد، ولا يبيع الكاتب فيه أكثر من ثلاث آلاف نسخة من كتابه. كيف يمكن أن يؤثر المثقف في مثل هذه الوضعية؟

بنيونس عميروش: إلى أيّ حد يمكن ملامسة الوعي التنويري لدى الفنانين التشكيليين العرب تجاه الإرهاب، كمعضلة تستأثر بانشغالهم الإبداعي، ومدى حضورها في مقارباتهم التعبيرية؟

موليم العروسي: هناك من الفنانين العرب من يتفاعل مع حالات محددة، وهناك من يقاوم بإنتاج الجمال ضد البشاعة، وهناك من يأخذ مواقف ليست بالضرورة فنية، وإنما سياسية. كل هذا راجع بالأساس إلى صعوبة فهم ملابسات هذه الظاهرة، ومن يقف وراءها. الفن بما هو تجل للحقيقة لا يمكنه أن يتموقف بسهولة، لأننا حيثما كنا، ووفق الضفة التي نوجد عليها، يمكن لنا أن نعتبر أن الحقيقة ملك لنا، وبما أنه ليس بإمكاننا الوصول إلى من يتلاعب بخيوط العمليات الإرهابية، فإن الفنانين يضعون أنفسهم في ضفة الجمال والنقد الراديكالي لصناع القتل، أيا كانت أصولهم أو جنسياتهم.

بنيونس عميروش: يقيم العديد من الفنانين العرب في البلدان الغربية، بينهم من وجد نفسه مضطرّا للهجرة في ظل التوترات التي تعرفها أوطانهم الأم، فيما نجد آخرين اختاروا الأقطار الأوروبية والأمريكية عن طيب خاطر، بحثا عن الحرية التي تعد من الشروط الأساسية لكل مبدع. باعتبارك متابعا ودارسا للفن المعاصر في المهجر، إلى أيّ حد تَوَفَّق بعض هؤلاء الشباب الممارسين لفنون ما بعد الحداثة على اختلاف أشكالها وأسنادها، من اتخاذ مواقف نقدية تجاه التطرف الديني في تجاربهم؟

موليم العروسي: هناك أصناف من هؤلاء الفنانين:

1- هناك من هاجر فعلا هربا من الحروب، ومنهم اللبنانيون، والذين هاجروا في أواخر سبعينيات القرن الماضي، عندما قرر الأمريكان وإسرائيل مدعومين من بعض الأنظمة العربية القضاء على بيروت كنقطة ضوء في العالم العربي، بل والعالم كله، وهؤلاء نظرا لحداثة سنّي آنذاك لم ألحقهم، بل تعرفت عليهم في المهاجر.

2- ثم جاء دور الجزائريين الذين بدأوا بالمغادرة مباشرة مع بداية الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي، ولقد تابعت هذه الهجرات شخصيا وناقشتها مع أصدقائي وزملائي العرب والجزائريين أنفسهم. كانت هجرة الجزائريين، كهجرة اللبنانيين، قضية حياة أو موت، لأن النظام العسكري الجزائري الذي كان من المفروض أن يحميهم، كان يختبئ وراء الإرهاب الديني لكي يصفيهم جسديا، وهذا ما حدث بالضبط لعدد كبير من الفنانين والكتاب.

3- ثم جاءت الهجرة العراقية التي رمت بفناني هذا البلد إلى المنافي البعيدة وإلى بلدان لا يرتبطون بها في أيّ شيء. كان عليهم أن يؤسسوا كل شيء من جديد، حتى طريقة المشي ورد التحية...شتتوا في أرجاء الكون.

4- وأخيرا جاءت الهجرة السورية، والتي كانت أشد وقعا: كنت مرة في دبي مع أصدقائي الفنانين السوريين، وكالعادة في تلك الظروف الصعبة كانت الهواتف لا تتوقف عن الرنين. كنا نتوصّل بالأخبار التي أصبحت مع مرور الزمن عادية، كان الأصدقاء الفنانين والكتاب مهمومين بأخبار الموت والدمار، ولكن أيضا بكيفية الحصول على تأشيرات المغادرة لبلدان تقبل استقبال الفارين من جحيم الحرب. وهنا سمعت أغرب ما سمعت في حياتي. كان أحد الأصدقاء سعيدا، وهو يتحدث من دمشق أعتقد، لأنه حصل على موافقة الاستقرار بالصومال، فضل حالة الصومال على حالة سوريا. أوَ رأيت إلى أيّ حد وصل اليأس؟

عندما ترى كل هذا، وتقف على عمل أحد الشباب الذي ولد في المهجر أو الذي سافر من أجل الدراسة ثم استقر هناك، أو هاجر طلبا لحرية من تلك التي في بلدي الذي لا يعاني من حروب أهلية، عندما تقارن هذا بذاك، تفضل الصمت، وتنظر ذاك الذي يخبئه لنا المستقبل والتاريخ.

بنيونس عميروش: ما موقع التربية الفنية والجمالية في المؤسسة التعليمية العربية، باعتبارها مادة تدريسية تسهم بفعالية في التفتح واستيعاب قيم الجمال والاختلاف والتعايش وروح الإبداع؟ وهل تعي كليات ومعاهد الفنون الجميلة العربية بمهامِّها في توجيه الإنجازات والبحوث لفك الالتباسات السوسيوثقافية ذات صلة بالفن والممارسة الفنية؟

موليم العروسي: التربية الجمالية ضرورية كما الماء والهواء ضروريان للحياة. لا تعرف العرب أن نهضة الشعوب تبدأ أولا في الفن. الفنانون مجانين كالشعراء والروائيين. إنهم يتصورون عوالم لا يمكن للعقل أن يستوعبها بسرعة، إنهم يحلمون: حلموا بالطائرة فتوصل إليها العلم بعد طول سنين، بل بعد قرون طويلة، حلموا بالسفر إلى القمر، فتوصل العلم إلى ذلك، وأشياء أخرى لا داعي إلى التفصيل فيها. لذا، تجد اليوم عددا من المختبرات العلمية المهتمة بالابتكار في الغرب تضم في عضويتها فنانين. لا تظن أن الابتكارات الإلكترونية والجينية وغيرها من فعل العلماء فقط. وبالتالي، فإن التربية الفنية ضرورة وليست ترفا. لا زالت العرب تعتقد أن الفن متعة نتسلى بها بعد انتهائنا من العمل؛ وهذا خطأ حضاري، لأن النهضة الأوروبية بدأت بالرسم أولا قبل العلوم والميكانيكا. ومن هنا فالتربية الفنية ضرورية، ويجب تعميمها على جميع أصناف ومؤسسات التعليم.

أما فيما يتعلق بمؤسسات التعليم الفني على المستوى العالي، فإنه من الضروري أولا إنشاء مؤسسات (معاهد، كليات، جامعات) إذا نحن أردنا أن نتخلص من عقدة الأجنبي الذي لا يصنع لنا ما نلبس وما نمتطي وما نشاهد فقط، وإنما يصممه ويفكره على مقاسه قبل بيعه إلينا. وهذا هو الاستعمار الفكري والحضاري. لا يهم أن نكون حداثيين أو إسلاميين، الأساسي هو أن ننتج الرمز بِنَفَسِنَا الروحي، لا أن نتمسك بالروحي دون أن ننتج الرموز التي تتطلبها حياتنا.

[1] نشر هذا الحوار في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 57