المكان المقدس في الأسطورة: مقاربة مرسيا إلياد


فئة :  مقالات

المكان المقدس في الأسطورة: مقاربة مرسيا إلياد

طرأت على نظرة الإنسان إلى المكان تغيرات جمة، وكان لتطور الفكر العلمي الدور الأكبر في إحداث هذه الطفرات على مستوى تمثل الإنسان للفضاء المكاني، وقد حدث هذا في ظروف النهضة الأوربية التي انتعشت فيها أبحاث علمية بمناهج أكثر صرامة أسقطت الرؤى السحرية الميثية للطبيعة والمكان، وقد عبر عن هذا التغيير في رؤية الإنسان للمكان العالم الفيزيائي الشهير جاليلي جاليليو الذي اعتبر الطبيعة أشكالا هندسية قابلة للتعامل والضبط الرياضيين[1]، بمعنى آخر أنه نظر إليها بحياد تام رافعا عنها كل إسقاط ذاتي للقدسية أو رؤية شاعرية ذات بطانة وجدانية، أما قبلها فقد كان الفكران الفلسفي والديني يمتح من الأسطورة وينتهج نهجا رمزيا في النظر إليها، ففي فلسفة أرسطو مثلا نعثر على التمييز بين فضاءين مكانيين، ما تحت القمر وما فوق القمر، وحسب هذا الفيلسوف يتسم فضاء ما فوق القمر بالخلود والأزلية والثبات، وهو يتشكل من مادة الأثير، بينما المكان فيما تحت القمر فمتغير وفان ويتشكل من أربعة مواد سميت في الفكر الفلسفي القديم بالاسطقسات وهي: الماء والهواء والتراب والنار[2].

وبالمثل يمكن أن نعثر في الفكر الديني الإسلامي على تمثلات أسطورية للمكان، وكان دافعها الأساسي هو الجدال الكلامي الذي يمتح من القرآن الكريم، إن فكرة إنكار السببية والقول بالاقتران، وهي فكرة أشعرية معروفة، لها ارتباط مباشر برؤيتهم إلى المكان، فالأشاعرة الذين استمدوا بعض نظرياتهم "العلمية" من اليونان، مثل ما يسمى بالجوهر الفرد أو الجزء الذي لا يتجزأ، إنما كانت مراميهم هو إثبات محدودية المكان وقابليته للعد، وذلك مصداقا للآية القرآنية "وَ أَحْصَى كُلَّ شَيْء عَدَداً" [الجن: 28]، ومن هنا فالكون هو في قسمته الأخيرة عدد من الجواهر المفردة، على أن بين هذه الأجزاء خلاء، فهي غير متماسكة مترابطة، وبالتالي فلا شيء منها يؤثر في الآخر، ومن هنا نفس العلية والسببية أو تأثير الأشياء في بعضها البعض، وأمام مطب ملاحظة التأثير الذي تحدثه بعض الأشياء في أخرى، قيل بنظرية الاقتران، أي تدخل الله لإحداث شيء ما عندما يقترن فعل بآخر، ولهذا تمييزهم بين "الحدوث عند" و"الحدوث بـ"، فالإرواء يحدث عندما نشرب الماء بقدرة وإرادة إلهيتين، وليس بشرب الماء، بعنى آخر أن الفكر الأشعري ينفي الخواص الذاتية للأشياء[3].

ويشير مرسيا إلياد إلى هذه التحولات في النظرة إلى المكان عموما والمدخل العلمي الذي قاد إليها بقوله "[ثمة] تجريد بطيء للقدسية الذي تعرض له المكان البشري. لأن هذا السياق يشكل جزء لا يتجزأ من التغير الهائل الذي طرأ على العالم والذي اضطلعت به المجتمعات الصناعية، وهو التغيير الذي أتاحه تجريد الكون من القدسية تحت تأثير الفكر العلمي، وخصوصا الاكتشافات المثيرة في ميادين الفيزياء والكيمياء"[4].

إن مرسيا إلياد في كتابه "المقدس والدنيوي" يلقي الضوء على تمثل الإنسان البدائي، إنسان ما قبل الثورة الحداثية، للمكان؛ غير أنه يخص بالدراسة مجمل الفكر الديني الرمزي، والقدسية التي يضفيها هذا النسق الديني على بعض الأماكن، على أنه لا يغفل الإشارة إلى كون الإنسان المعاصر لا تخلو نظرته إلى المكان من طابع وجداني ينأى عن الصرامة العلمية ورؤيتها الموضوعية الجافة للمكان والخالية من أي نزوع ذاتي، نستطيع أن نلمس هذا الحضور الحقيقي لبقايا هذه التمثلات البدائية في نظرة الإنسان الحديث في مثالين على الأقل ذكرها مرسيا إلياد:

الأول: أن أيما إنسان إلا ويسقط شحنة أو هالة وجدانية على بعض الأماكن، مثل تلك التي كانت فضاءً احتضن لقاء حب ما، أو الأماكن التي رأى فيها الإنسان النور وكانت مسقط رأسه، وكذلك الأماكن الأولى التي صادفها إنسان في سفرياته، يقول ألياد أن هذه الأحاسيس التي تداهمنا في هذه الأماكن تلغي التجانس الذي ألقاه العلم على المكان والطبيعة، وتحدث بالتالي سمة اللاتجانس بأن تميز في الأماكن بين ما هو محايد وما يحمل في ذاته ذكرى تحرك شيئا ما بداخل الإنسان، وذاك هو بالضبط تصور الإنسان البدائي للأماكن التي يراها مقدسة، يقول مرسيا إلياد "في الخبرة الدنيوية للمكان تظل تتدخل قيم تذكرنا على هذا النحو أو ذاك باللاتجانسية التي تميز الخبرة المكانية الدينية، فهناك أمكنة تظل تتمتع بامتياز من حيث إنها تختلف نوعيا عن الأمكنة الأخرى"[5].

الثاني: هو الاقتباس من قاموس الإنسان البدائي، فتوظيف مفاهيم "ظلمات" و"فوضى".. إلخ، حين يداهم الإنسان شرا ما، ما هو في الواقع إلا استعارة غير واعية للمعجم البدائي للإنسان الذي كان يحتذي حذو الآلهة في البناء، بينما تقوم قوى أخرى معادية لهذه الإرادة التعميرية بالعودة إلى حالة العماء الأول Chaos.

بالنسبة لقراءة إلياد؛ تطغي على الفكر الأسطوري للمكان صفة اللاستمرارية، إن العالم كله عبارة عن عماء، إلا من بعض البقع التي تفتح فجوات نحو السماء والمتعالي، فعتبة الكنيسة، كما يرى مرسيا إلياد، تحل الاستمرارية وتحدث الانقطاع وتحقق اللاتجانس، وتجاوز هذه العتبة يدخلنا في عالم آخر مقدس يختلف على طول الخط عن المكان الآخر الدنيوي، ولهذا ترافق الدخول إلى هذه الأمكنة طقوسا خاصة يعبر بها الإنسان البدائي عن الخصوصية التي لهذه الأماكن بما هي بيوت للآلهة ومعابر لاقتحام القدسية وولوج عالم آخر، من هذه الطقوس ما يشير إليه إلياد بقوله "يرافق اجتياز العتبة كثير من الطقوس، كأن تبذل له مظاهر الاحترام أو يسجد له أو يلمس باليد في خشوع"[6].

غير أن ما يجعل هذه الأماكن على هذا القدر من القدسية هو أنها كانت في تصور الإنسان المثقل بالتمثلات الأسطورية تجليا للمقدس، ويضرب إلياد مثالا بالنبي يعقوب الذي رأى رؤيا في حران، حيث رأى في المنام سلما تصعد فيه الملائكة إلى السماء وتنزل، ويسمع الإله يقول "أنا الرب إله إبراهيم"، فما كان من النبي يعقوب إلا أن أضفى على ذلك المكان قدسية خاصة واستيقظ وهو يقول "ما أرهب هذا المكان"، وقد توجت تلك الرؤيا بمجموعة طقوس يرويها سفر التكوين "وبكر يعقوب في الصباح وأخذ الحجر الذي وضعه تحت رأسه وأقامه عمودا وصب الزيت على رأسه ودعا اسم ذلك المكان بيت إبل"، وهكذا فكل مكان كان فيه تجل للإله يصير مقدسا، لأنه يقطع الاستمرارية في المكان وينهي ذلك الوجود الدنيوي ويقيم مكانا آخر ينطوي على سمات مقدسة بما تفتحه من بوابة إلى السماء والعروج بالخيال إلى الإله، إنه يبعدنا عن هذا العالم الدنيوي الذي ينظر إليه الإنسان البدائي ببرود و"ينقلنا من نمط وجود إلى نمط وجود آخر"[7].

غير أن ميولات الإنسان البدائية إلى العيش في عالم غامض والانصهار في نسق من الرموز والأسرار، يحمله كثيرا إلى خلق أماكن مقدسة حين لا يسعفه المقدس المتعالي على إيجاد هذه الأماكن المقدسة، وهذا ما يسميه مرسيا إلياد بـ "تحريض المكان المقدس"، وكثيرا ما يكون هذا الذي يعين الإنسان البدائي على خلق أماكن مقدسة هو الحيوان، إن الحيوان هو الذي يكسر رتابة التجانس ويخلق أماكن مقدسة ويوجد للإنسان نقطة استناد مطلقة، إن الإنسان البدائي حين يطارد حيوانا أصهب، يتخذ من المكان الذي يقبض فيه عليه مكانا مقدسا ويبني فيه معبدا وبيتا أو غيرهما، يشير مرسيا إلى نموذج آخر لكيفية تحريض المكان المقدس بقوله "يرسل حيوان أهلي طليقا –ثور مثلا-، ثم يجري البحث عنه بعد بضعة أيام ويصار إلى التضحية به حيث يعثر عليه. ثم يقام المذبح وتشيد القرية حوله"[8]، بهذه الطريقة ينشئ الإنسان البدائي عالمه الذي يشبع توجهه إلى الأسرار، بل ومن خلاله يصنع توازنه النفسي، إن المقدس كما سبق أن أشرنا نقطة استناد، مكان معلمي يحتضن وجوده بعد أن يوقف زحف الأمكنة المتجانسة التي لا تشعره بأية حميمية تجاه الأرض، بقدر ما أنه يراها عماء ينتابه أمامها شعور بالتيه والعجز.

ويقودنا هذا الكلام إلى تمييز يستنبطه مرسيا إلياد حول الأماكن في تمثلات الإنسان الديني، فهو يميز تمييزا حاسما بين "الكون" و"العماء"، إن الكسموس هو المكان المأهول، عالمهم الذي يعيشون عليه، بينما الكاوس هو امتداد غير مأهول، وهو مكان مخيف ومجهول، وينظر إليها الإنسان بغرابة، لأنه مسرح تسكن فيه العفاريت والشياطين والكائنات الشريرة والضارة. إلا أن مرسيا إلياد لا يرى أن معيار التعمير، أي تعمير مكان ما، هو الذي يقيم هذا التضاد الحاد بين الكون والعماء؛ إن الكون قبل أن يكون عالمنا الذي نعيش فيه، هو مكان باركه المقدس قبل ذلك، فهذه القدسية التي يحملها هي التي جعلته مكانا قابلا للعيش، بعبارة مرسيا إلياد "إن الإقليم المأهول إن كان كونا فما ذاك إلا لأنه تقدس قبل أن يكون كذلك، لأنه من عمل الآلهة أو له صلة بعالمهم، على هذا النحو أو ذاك. فالعالم أو عالمنا هو عالم سبق وأن تجلى القدسي في داخله، وبالتالي أصبح فيه انقطاع المستويات ممكنا وقابلا للتكرار"[9].

ثمة مسألة أخرى يثيرها مرسيا إلياد حول المكان وعلاقته بالقدسية، إن مرسيا يرى أن الإنسان البدائي كان يعتبر كل ما هو ليس من عالمه عماء ليس بعالم، ولهذا فهو ينزع حين يستولي على أرض جديدة لتطويبها ومباركتها، إنه في ذلك يعتقد أنه يحاكي فعل الخلق الأول للألهة، فرغم أن هذا العالم كان مسكونا من قبل جماعات أخرى، إلا أنه لا يعتبره عالما حقيقيا يليق بسكناه إلا عندما يخلقه خلقا جديدا، ويضرب إلياد هذا المثل الدال، يقول "لم يكن المعمرون الإسكنديناف بعد أن تم لهم الاستيلاء على إيسلاندا وقاموا باستصلاح أراضيها، يعتبرون مشروعهم عملا أصيلا ولا عملا قام به الإنسان أو عملا من الأعمال الدنيوية، بل تكرارا لفعل بدائي، تحويل العماء إلى كون بفعل الخلق الإلهي"[10].

- الإنسان البدائي إذا يقوم بتطويب المكان، وله تقنيات ميثية مختلفة لخلق هذه القدسية لهذا المكان، إن بعض القبائل الأسترالية اسمها الأشلبا تعتقد أن المكان الذي تعيش فيه من صنع الإله ومباركته، وانه صنع من جذع شجرة عمودا يمثل محورا كونيا، وبعدها ارتفع الإله إلى السماء وتوارى عن الأنظار، والذي يلاحظه مرسيا أن هذا العمود كان يحدد الجهة التي يجب عليهم اتخاذها، فمن خلال توجهها إلى مكان ما تعتبر تلك القبائل أن تلك الأماكن هي امتداد لعالمهم، كونهم هم وليس مجرد عماء، وميزة هذه الأماكن أنها تخول الاتصال بالسماء وتفتح فجوة داخل هذا العالم للانتقال والعروج إلى إلههم المتعالي، وفي المقابل كانت هذه القبائل تؤمن أنه "إذا انكسر العمود فمعنى ذلك الكارثة نوع من نهاية العالم أو انكفاء في العماء"[11].

وتضفي الثقافات الدينة البدائية على بعض الأماكن سمة القدسية، فشموخ الجبال وتعاليها تجعل الإنسان البدائي يرى فيها أمكنة مقدسة، وقد يكون في تعاليها قربا من السماء التي يتوق إليها، إنها كما يقول مرسيا إلياد توطد الصلة بين السماء والأرض و"أننا لنجد كثيرا من الثقافات تحكي عن جبال أسطورية أو واقعية تقع في مركز الكون"[12].

العيش في "مركز الكون" مؤشر آخر على وجدان الإنسان البدائي، فهو لا يفتأ يرى في الإقليم الذي يعيش فيه مركزا للكون اختاره له الإله بعد أن باركه، ومركزية هذا المكان تجعله يبتعد عن الأرض ويقترب من السماء. وهكذا يرى مرسيا أن العقائد البدائية كانت تتطلع إلى أن تعيش في مركز العالم بسبب أن إنسان ما قبل الثورة الحديثة كان يعتقد في قرب هذا المركز من السماء، نقرأ لدى إلياد "كل هذه العقائد تعبر عن عاطفة واحدة، دينية بعمق: عالمنا أرض مقدسة لأنه أقرب مكان من السماء"[13]، ثم يضيف في موضع آخر "ثمة نتيجة يبدو لنا أنها تفرض نفسها، إن إنسان المجتمعات قبل الحديثة يتطلع إلى أن يحيا أقرب ما يمكن من مركز العالم"[14]، غير أن ما يتوارى خلف هذه العقائد الدينية الأسطورية هي رغبة نفسية دفينة للإنسان في العودة إلى المكان الذي هبط منه، إن المكان الذي يتواجد فيه على الأرض باهت الحضور، أشبه بقفص، يقتنص الفرصة تلو الفرصة لمغادرته ولو بشكل عابر للعودة إلى مكانه الأصلي الذي نزل منه، وبهذا فإن هذه الأماكن المفتوحة القريبة من السماء، تخول له هذه الإمكانية لإشباع حاجياته الدينية إلى المقدس والعيش في بحبوحته، وكما يقول إلياد أن "الانتقال إلى العالم الآخر، العالم المفارق، ممكن رمزيا".

ومن العقائد الأسطورية التي ذكرها إلياد عن التمثل المكاني لدى الإنسان البدائي، هي تلك المركزية التي كانت لإقليمه عند الخلق الإلهي الأول للعالم، ففي مخيال الإنسان البدائي؛ الخلق تم على نحو بطيء، وأول ما خلق الله الإقليم الذي يتواجد فيه، وما باقي العالم إلا امتداد له، إنها كالموجات التي تتشكل بعد إلقاء حجرة في بركة، فالمكان الذي يقطن فيه الإنسان البدائي هو المركز، وما دونه موجات هامشية، يقول مرسيا إلياد حاكيا هذا التصور الميثي "يولد العالم من مركز، يمتد من نقطة مركزية هي منه كالسرة (...) يقول أحد أحبار اليهود: إن صخرة أورشليم تدعى حجر أساس الأرض"[15]. وهذا الحجر الأساس هو الذي انبثق منه العالم، ومن هنا تشبيهه بالسرة.

وعلى هذا الأساس، يرى الإنسان البدائي في كل بناء يقوم به إعادة لعمل إلهي، وهو الخلق الإلهي الأول للعالم، فالإنسان البدائي لا يعتبر البناء عملا دنيويا، بل إنها أشبه بنسك له طقوسه وعباداته الخاصة، يقول إلياد "إن كل بناء يشيد أو شيء يصنع يتخذ له الكون نموذجا مثاليا، وخلق العالم يصبح النموذج الأصلي أو البدئي لكل بادرة خلق يبتدرها الإنسان، كائنة ما كانت الخطة لتي يرجع إليها"[16].

وعلى النقيض من ذلك، فالإنسان البدائي يرى في كل غزو يتعرض له، أو مداهمة له في عقر دينه عودة لتلك القوى الشريرة التي قضى عليها الآلهة في أثناء اللحظة الأولى لبناء العالم، إن هؤلاء هم شياطين أو ثعابين أعداء للخلق الإلهي، وخصوصا كبيرهم التنين البدئي الذي قهرته الآلهة في بداية الزمن، ولهذا كما يقول مرسيا "كان الهجوم على عالمنا هو انتقام التنين الميتيقي الذي يتمرد على عمل الآلهة"[17].

ليست إذا الحصون التي تبنى حول المدن في قديم الأزمان يبتغي منها حماية الإنسان البدائي من الغارات البشرية، بقدر ما أنها موجهة لصد القوى الشريرة عدوة الآلهة التي كانت في أول الزمان تريد رد العالم إلى العدم، لهذا يلحظ مارسيا أن طقوسا حول المدينة تجرى عندما ينهش مرض ما عضوي الإقليم الذي يعيش فيه الإنسان البدائي، مثل رسم دائرة حوله مرفوقة بأذكار وتعزيمات، لمنع هذه القوى الشريرة الضارة من شياطين وعفاريت وأرواح الموتى من الاقتراب من الأقليم، يقول إلياد "إنما أعدت هذه الاستحكامات لكي تمنع غزو الشياطين وأرواح الموتى أكثر من منع الهجوم الذي تقوم به كائنات بشرية، بل إن الفكر الرمزي لا يلقى صعوبة في تشبيه العدو البشري بالشيطان وبالموت"، وتكون النتيجة أن هذا العدو البشري، مثل سلفه التنين الذي قضت عليه الألهة، هو من قوى الدمار والخراب، والعودة إلى العماء أو "الكاوس"، ومن هنا تلك الخصوصية القدسية لكل عمل بناء باعتباره احتذاء بالنموذج الإلهي الأول.

ولهذا ففي الهند، يلحظ مرسيا إلياد، أن عملية البناء التي يباشرها البناؤون يسبقها عمل المنجم الذي يطلعهم على بؤر ومراكز تواجد الثعبان المختبئ في الأرض، وهو قوة مخربة من قوى العماء والفوضى، وبعد "سحق رأس الثعبان: "يوضع حجر الأساس، بحيث يكون موقع حجر الزاوية في مركز العالم تماما"[18].

وفي لفتة ارتدادية، يعود إلياد ليشير إلى حضور مفاهيم من الثقافات البدائية بشكل لا واع في التداول المعاصر، فتوظيف مفاهيم مثل "ظلمات" و"عماء" و"فوضى" حين تطل حالة من اللايقين بتحقيق السلام والسعادة برأسها وتلقي بظلالها على العالم هي استعارة لقاموس بدائي، إنه معتقد ذلك الإنسان البدائي المثقل بالأساطير والأسرار الذي يؤمن بوجود أعداء للإله تصبو لإعادة العالم إلى حالة العمائية الأولى.

وينتهي مرسيا إلياد بتقديم تأويل لهذا التصور الميثولوجي لدى الإنسان البدائي للمكان، إنه في الواقع ظمأ أنطولوجي يرويه الإنسان بإضفاء هالة مكثفة من القدسية على مكان تواجده، فمن جهة يعتقد أن مكانه هو الأقرب إلى السماء وهو ما يتيح له الانتقال والعبور من هذا العالم إلى آخر مفارق بهيج، ومن جهة أخرى يرى الإنسان البدائي أن إقليمه هو حجر أساس العالم، وهذا التصور الميثي هو الوجه الآخر لتلك العناية الإلهية التي قدرت أن يبتدئ بخلقه ويجعل من عالمه كونا وما دونه مجرد عماء، أما أن يكون إقليمه هو المركز، والبؤرة؛ فحقيقتها أن يستشعر الإنسان البدائي أنه تحت عين الإله، لا يعزب ولا يسهو عنه، بل يراقبه ويحميه ويبارك أعماله، يختم إلياد الفصل فيقول "ملاك القول إن هذا الحنين الديني يعبر عن توق الإنسان إلى الحياة في كون طاهر ومقدس، كالذي كان في البدء، عندما خرج من يدي الخالق"[19].


[1] انظر بعض الاكتشافات المنهجية والعلمية للعالم الفيزيائي غاليلي في:

جاليلي جاليلو، اكتشافات وآراء جاليليو، ترجمة: كمال محمد سيد وفتح الله الشيخ، (القاهرة: كلمات عربية للترجمة والنشر، 2010).

[2] أرسطوطاليس، الكون والفساد. ترجمة أحمد لطفي السيد، الدار القومية للطباعة والنشر، [د.ت].

[3] حول رؤية النظام المعرفي البياني للمكان، انظر فصل بعنوان "الجوهر والعرض: المكان والزمان ومشكلة السببية"، في:

محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي: دراسة تحليلية نقرية لنظم المعرفة في الثقافة العربية. (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية. 2013)، ص ص 175-205

[4] مرسيا إلياد، المقدس والدنيوي: رمزية الطقس والأسطورة. ترجمة: نهاد خياطة، (دمشق: العربي للطباعة والنشر والتوزيع. 1987)، ص. 50

[5] نفسه، ص. 26

[6] نفسه، ص. 27

[7] نفسه، ص. 28

[8] نفسه، ص. 29

[9] نفسه، ص. 31

[10] نفسه، ص. 33

[11] نفسه، ص. 34

[12] نفسه، ص. 39

[13] نفسه، ص. 39

[14] نفسه، ص. 43

[15] نفسه، ص. 44

[16] نفسه، ص. 44

[17] نفسه، ص. 47

[18] نفسه، ص. 53

[19] نفسه، ص. 63