الوليّ الصّوفي والوالي الحفصيّ: قراءة في سيرة الشيخ أبي الحسن العبيدلي


فئة :  مقالات

الوليّ الصّوفي والوالي الحفصيّ: قراءة في سيرة الشيخ أبي الحسن العبيدلي

1- سيرة الوليّ المنقبض[1] أبي الحسن العبيدلي (ت 748هـ):

حاولت كثير من الدراسات إظهار التصوّف الشّعبي[2] ضربا من التّراجع الحضاري والنّكوص الفكريّ الذي شهدته الثّقافة العربيّة الإسلاميّة. وكانت منطلقات تلك المواقف، إمّا مفاضلة التصوّف العالم على التصوف الشعبي، أو المركزيّة العقلانيّة التي سادت نتيجة التأثّر بالفكر الغربي أو رؤية مذهبيّة فرضها الانتماء إلى فرق إسلاميّة تنبذ التصوّف وتكفّر علماءه. وقد التقت كلّ تلك المواقف في إدانة التصوّف الشعبيّ واعتباره تواكلا فكريّا واستسلاما للأمر الواقع وعجزا عن مواجهة ما اعترض العلماء من معضلات؛ جرّ العامة إلى الاعتقاد في الخرافة والتسليم بالبدع. ولكن سعت بالمقابل بعض كتب المناقب إلى اتخاذ مسار مختلف. فأثنت على أصحاب الكرامات من أعلام التصوّف الشعبي، وأشادت بخصالهم وورعهم، وبرّرت اعتقاد الناس فيهم وزيارتهم لزواياهم.[3] فقد بدت "حالة من الهرع الفطريّ باتّجاه التمسّك بالسّلف واستعطاف بركاته قصد تخفيف التوتّر الذي بات حضوره يؤرّق الضمائر ويغلق أبواب الأمل والتجاوز."[4] ونحن بين الرأيين لا نسعى إلى تغليب موقف على حساب الآخر، وإنّما البحث الموضوعي في سيرة بعض علماء الصوفية وأوليائها انطلاقا ممّا نقلته كتب المناقب عنهم واعتمادا على الروايات التي تناقلها بعض المؤرخين عن سيرتهم. وقد حاولنا التركيز في هذه المقاربة على نقطتين أساسيّتين تتّصل الأولى بعلاقة الولي بالسلطة. وقد شدّنا ما لاحظناه من منهج "الوليّ المنقبض" الذي رفض التّعامل مع السّلطة السياسيّة وأشاح بوجهه عنها واستطاع اكتساب سلطة موازية ذات رافد روحي وديني وآثار اجتماعيّة. وتتعلّق النقطة الثانية بعلاقة الوليّ بالعامّة وقدرته على إقامة نسق عقديّ جعل عدد المريدين يتزايد وعدد المنتقدين شبه غائب من أخبار الأولياء، والسبل التي اعتمدها الوليّ من أجل نسج متخيّل ضَخَّمَ من سلطته، وكان له أثره في توفير حماية أمنيّة وموارد اقتصاديّة ووظائف اجتماعيّة.

لقد آثرنا النظر في سيرة الشيخ "أبي الحسن العبيدلي" انطلاقا من مصدرين أساسيين، الأول هو "معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان" للدبّاغ وابن ناجي، والثاني للشّيخ محمود مقديش، وهو "نزهة الأنظار في عجائب التواريخ والأخبار"، وقد كفانا المصدران ما طمحنا إليه من بحث في خصائص الولاية الصوفيّة في العهد الحفصي انطلاقا من عيّنتي الشيخ أبي الحسن العبيدلي ومريده الولي إبراهيم بن يعقوب (ت 784هـ) المشهور "بصيد عقارب"[5] وهو ما سنعرضه في مقالين متتابعين.

لماذا اقترنت سيرة الولي إبراهيم بن يعقوب بسيرة الشيخ أبي الحسن العبيدلي؟ هل لأنّه فقط شيخه؟ أم لوجود رابط أقوى بين طريقة الوليّين؟

تبدو سيرة الشيخ أبي الحسن العبيدلي متقاطعة مع سيرة كثير من الأولياء في عصره؛ فهو يجمع بين النزوع الصّوفي والثقافة الفقهية التي عرفت صلحا مع المذهب المالكي في إفريقيّة وتجاوزت مرحلة الصّدام بين الأرثوذكسية السّنية والمذاهب الصوفيّة. ولكنّ أكثر ما يشدّ في سيرة الشيخ العبيدلي علاقته بالسلطة السياسيّة التي عرفت قطيعة رغم سعي الدولة الحفصيّة إلى استقطاب الأولياء والاستفادة من سلطتهم.

لقد جسّد الشيخ العبيدلي تضخّم سلطة الوليّ على حساب السلطة السياسيّة الحاكمة، حتّى صار السّاسة هم من يسعون إلى استرضاء الولي وتجنّب لعنته ودعائه[6]. ولعلّ من أسباب تضخّم سلطة الوليّ قدرته الروحيّة على التأثير في العامّة وصاحب السّلطة على حدّ سواء. إذ تذكر كثير من الأخبار خشية صاحب السلطة من الوليّ وسعيا إلى إجابة طلبه واسترضائه ولو بلغ الأمر حدّ طلبه إطلاق سراح سجين أو عزل قائد أو قاض.

وقد استطاع كثير من الأولياء تحقيق استقلاليّة ماليّة خوّلت لهم اكتساب نفوذ اقتصاديّ وتوفير موارد قارة تغنيهم عن التبعيّة الاقتصاديّة للحاكم. ويعد الشيخ أبو الحسن العبيدلي من أبرز النّماذج التي تجسّد القطيعة التامّة مع صاحب السلطة؛ إذ يذكر ابن ناجي والدبّاغ ومحمود مقديش أنّ الشيخ كان لا ينظر إلى وجه السلطان. وقد نقلوا روايات تؤكّد تلك الحقيقة. فأمير إفريقيّة "أبو يحيى أبو بكر" عمل على الاجتماع بالعبيدلي حين وُلّي منصبه. ولكنّه رفض الأمر. ولم يخرج له. وحين خاطبه الأمير يحثّه بالقرآن على طاعة وليّ الأمر[7] ردّ عليه الشيخ بآية قرآنيّة يذكّره فيها بواجبات الحاكم وبسلطة الله على سلطانه[8]. ويتواصل رغم هذا الصدّ إصرار الأمير على لقاء الشيخ العبيدلي، فاختار الأمير يوم الجمعة ليعترض طريق الشيخ وهو ذاهب إلى الصلاة. وتكشف الحكاية في هذا المستوى غاية الحاكم من لقاء الوليّ، وهو أن يدعو له. وفي ذلك دلالة على حاجة صاحب السّلطة إلى بركة الوليّ، إذ هي بمثابة السّند الميتافيزيقيّ لحكمه والضّامن لاستقرار ملكه، في عصر تميّز "بكثرة الصعوبات وتعرّض السلطة في الدّاخل والخارج لأخطار تكاد تكون متواصلة. فقد ظهر المطالبون بالعرش هنا وهناك، يؤيّدهم بعض الوزراء الطموحين أو خصوم السّلطان الألدّاء، وقد نجحوا أحيانا في الاستيلاء على العاصمة مدّة من الزمن. في حين تواصل القبائل العربيّة في الدّاخل ثوراتها المتجدّدة دوما واستمرارا، تتعرّض الأقاليم الغربيّة للدّولة الحفصيّة دوريّا لهجمات تلمسان المجاورة."[9] بيد أنّ دعاء الشيخ العبيدلي لم يكن في مستوى آمال الحاكم. فقد اكتفى بدعاء مزدوج الدّلالة هو في الأصل حديث للنبيّ "اللّهم من ولّي أمرا من أمور أمتي فشقّ عليهم فاشقق اللّهم به، ومن ولّي أمرا من أمور أمتي فرفق بهم فارفق اللّهم به."[10]

ويمكن أن نلاحظ بيسر من خلال هذا الخبر ضعف سلطة الحاكم أمام سلطة الولي. فقد شهدت العلاقة تغيّرا في موازين القوّة آل إلى الوليّ. وأمّا اعتماد الخطاب القرآني والحديث النبويّ، فهو ضرب من التّعالي الرّوحي الذي تجسّده الوسيلة اللسانيّة المقدّسة والمترفعة عن مخاطبة السائس. وأمّا إشاحة الوجه، فتأكيد على ترفّع الشيخ عن مجالسة السّاسة، بل مجرّد النظر إليهم ممّا قد يوحي بتزلّف أو تقرّب لهم. ولكنّ هذا النمط من التصوّف تراجع أمام امتزاج شرعيّة الوليّ بشرعيّة السلطة وتشابك المصالح بينهما.[11]

لقد كانت تلك المواقف ذات وظيفة تعليميّة ودرسا في عصر العبيدلي وبعده لكلّ الطّامعين في عطاء السّاسة والمتمسّحين بأعتاب الحكّام، ذلك أنّ الشيخ أبا العباس قد رجع عن صحبة السلطان ولزم المحراب، حتّى مات بعد أن عاين موقف العبيدلي وترفعه عن صحبة أمير إفريقيّة. ولم تكن تلك الحادثة يتيمة في سيرة الرّجل، بل تؤكّد أخبار أخرى رسوخ موقف العبيدلي من السّاسة على اختلاف مراتبهم، وعدم اكتفائه بالإعراض عن السائس الطامح في بركة دعائه وإنما اتّخاذ دور معلّم السّلطان ومؤدّبه. وقد طمح إلى تجسيد سلطته من أعلى منبر القيروان حتّى يكون سلطة دينيّة رقيبة على السلطة السياسيّة ويُسمع الحاكم ما يلزمه. ولكنّ الشيخ الرمّاح أبى ذلك طلبا للعشرة على حدّ عبارة مقديش[12] وربما خوفا من ردود أفعال العبيدلي الذي لم يكن يتوانى عن نقد السائس وفضح ظلمه.

ويورد صاحب "نزهة الأنظار" خبر إعراض العبيدلي عن زيارة صديقه القاضي الشيخ الورفليّ من أهل قابس في طريقه إلى الحج. فبعد أن تعوّد النزول عنده تغيّر سلوكه وصار يتجنّب زيارته والمرور ببيته. وكان السبب في ذلك تولّيه منصب القضاء. ولمّا ادّعى الورفلّي أنّه تولّى المنصب مكرها دعاه العبيدلي إلى العدل ليعزل. فما كان منه إلاّ أن أمر بجلد قائد. فكانت ردّة فعله الهجوم على القاضي. وحين بلغ الأمر مسامع العبيدلي خرج بأصحابه يدعون في مقابر القيروان على أبي يحيى. وقال لا أسكن بلدة جرى فيها منكر. فلمّا علم السلطان بالأمر أمر بعزل القائد وقتله وعزل معه الورفلّي.[13]

لقد أضحت سلطة الشيخ العبيدلي أعظم شأنا من السّلطة السياسيّة. فطبيعة الاعتقاد الصوّفي قائمة على مدرج يرتقي بالوليّ إلى منزلة قريبة من النبوّة فَيَصِلُهُ بالذّات الإلهيّة مباشرة، فضلا عن اعتقاد العامة والخاصّة في كراماته التي جعلت من الوليّ أعلى سلطة روحيّة يُحتجُّ بها ولا يُحتجُّ عليها. وقد اضطلعت الكرامات بدور مركزيّ في تدعيم تلك السلطة وتمتينها، وحمل الناس على الاعتقاد فيها وتجنّب انتقادها أو كسر شوكة أصحابها، بل إنّ تلك السلطة قد بلغت ذروتها حين تحوّل الشيخ العبيدلي إلى قبلة للتائبين "وكان من اعتقاد النّاس فيه تتوب البوادي على يديه ولا يقبل توبتهم حتّى يخرجوا ما عندهم في المظالم الذي عليهم."[14]

لم تكن السّلطة الرّوحيّة وحدها هي من تمنح الشيخ قوّته ونفوذه، بل إنّ له وظيفة حربيّة. فقد ذكرت المصادر أن الشيخ العبيدلي كان من المرابطين وأنّه كان ينتقل صيفا مع مجموعة يبلغ عددها الستين إلى المنستير ومعهم آلة الحرب. ولا يخفى أنّ لتلك الجماعات دورا مركزيّا في حماية الثغور من الأعداء الخارجيين وكذلك حماية القوافل من هجمات الأعراب. وتتأكّد هذه الوظيفة من خلال حكاية العبيدلي مع إبراهيم بن يعقوب الذي أغار قبل أن يتحوّل إلى وليّ صالح على قافلة يحميها العبيدلي، فما كان منه إلاّ أن استرجعها بكلّ متاعها من النحاس والجلد.

2- كرامات الشيخ أبي الحسن العبيدلي:

اضطلع المتخيّل الشعبي بدور رئيس في صياغة كثير من الأخبار التي تمثّل كرامات الشيخ العبيدلي، وهي أخبار تؤكّد سلطة الوليّ الروحيّة من خلال آليّة الدعاء وتأكيد مسار العقاب الذي يلحق المارقين والبركة التي تنال الممتثلين لأمره. وقد مكّنته تلك الكرامات من اكتساب شرعيّة مزدوجة من السلطان والعامّة. ومن ضمن تلك الحكايات ما رواه أبو بكر بن يعقوب الضاعني من أنّ العبيدلي "خرج مع جماعة من أصحابه على جبل ماكوض، جرت العادة أنّه يتعبّد فيه ويجتمع فيه مع الأولياء... فغارت خيل عليه وعلى أصحابه فجرّدوا أبعضهم، فقال للخيل: هذا الشيخ العبيدلي. فاعتذروا بأنّه لا علم عندهم به وردّوا ما أخذوا. إلاّ رجلا لم يردّ سبعة دنانير فحلّت به لعنة دعاء الوليّ وقتل بها ثمّ أعيدت إلى صاحبها. فمال الشيخ وأصحابه حرام. وكلّ من تسوّل له نفسه خرق القانون المقدّس تلحقه اللعنة ويناله العقاب.

إنّ الشيخ هو من يهب الأرض التي يسكنها ويتنقّل إليها حرمة دينيّة وعسكريّة. فتصير حرما لا يتطاول عليها الإنس والجنّ ولا يتعدّى الأعراب على قوافل تجّارها[15]، ولا يتجرّأ الحكّام على ظلم أهلها. فقد كانت كرامات الوليّ وظيفيّة. ولهذا فهي تحقّق مصلحة مشتركة سيستفيد منها جميع الأطراف: الوليّ وصاحب السّلطة وعامّة النّاس وخاصّتهم.

وتتضخّم سلطة الوليّ في المتخيّل الشعبي؛ إذ تنقل بعض الحكايات قدرته على معرفة بعض أسرار الغيب من خلال الكشوفات والإشارات الإلهيّة التي تهبه القدرة على معرفة أجله مثلا. وينقل مقديش حكاية مرض العبيدلي التي ظنّ بعدها من عَادَهُ من أصحابه أنّه هالك، ولكنّه أكّد لهم يقينه من أنّه لن يموت إلاّ بعد أن يقوم بمناسك الحجّ. فكان ذلك كذلك.

إنّ هذا الاطلاع على بعض أسار الغيب يبلغ بسلطة الوليّ درجة لم يبلغها الأنبياء ويضخّم من صورته التي صارت تخرق حدود المعرفة الإنسانيّة بحسب الروايات التي تنقلها كتب المناقب، وهي التي ساهمت في رسم ملامح متخيّل شعبيّ يقدّس الأولياء.

وقد شهدت الدّولة الحفصيّة جمعا بين وظائف الوليّ والفقيه. فقد كان الشيخ العبيدلي إضافة إلى كراماته عارفا بالأحكام الشرعيّة. وينقل الدبّاغ بعض ما اختصّ به الشيخ في فقهه كاعتباره الهديّة أفضل من قبول الزكاة أو اعتباره إدخال السّرور على المسلم أفضل من الصوم. وكان له نتيجة هذه المواقف تأليف مستقل في الفقه وعقيدة في التوحيد.

وقد أتيحت للوليّ قدرة استنساخ الطاقة السّحريّة وتحويلها إلى الآخرين، وذلك عن طريق الوسائل السحريّة كالرّيق، ومن خلال طقوس التعميد التي مارسها مع تلميذه إبراهيم بن يعقوب المعروف لاحقا باسم "صيد عقارب".

لقد اضطلع الأولياء من أمثال أبي الحسن العبيدلي بدور مركزيّ في الحدّ من استبداد الحكّام. فكان نواة رقيب على السّائس يحتاجه الحاكم ليبارك سعيه ولا يحتاج هو إلى الحاكم. ومن آيات البركة الممنوحة له أن يلتزم الحاكم بالعدل والإنصاف وأن لا يظلم العامّة. وبذلك ساهم أمثاله من الأولياء في خلق مسافة نقديّة بين العالم والحاكم تظلّ درسا للذين امتهنوا التملّق للحكّام وباعوا ذممهم وضمائرهم من أجل مصالحهم الضيّقة. ولعلّ أمثال الشيخ العبيدلي قد يعدّلون من غلوّ التيّارات التي كان هاجسها تشويه صورة المتصوّفة وتهميش دور الأولياء الصالحين في حركة التّاريخ الإسلاميّ. فقد أثبتت سيرة الشيخ بما لا يدع للشك شجاعته في مواجهة الحكام وترفّعه عن أُعْطِيَاتِهم التي تلجم لسان الوليّ، بينما غرق كثير من علماء أهل السنّة والجماعة في الاضطلاع بدور فقيه السلطان وبرّروا استبداده ومنعوا الخروج عنه ولو كان ظالما مستبدّا. فأبّدوا الاستبداد وصيّروه شريعة للعالمين، بينما كان الأولياء الصالحون رقباء على المستبدّين يستغلّون سلطتهم المقدّسة من أجل تحقيق توازن اجتماعيّ أساسه حماية أملاك النّاس من نهب قطّاع الطرق، وإطعام الجياع الذين استبدّ بهم الجوع وغلبتهم الفاقة وإجارة الملهوفين ممّن ضاقت بهم السّبل وتقطّعت بهم الأسباب. وكم يحتاج ساستنا اليوم إلى أمثال الشيخ العبيدلي ليقفوا في وجوههم رقباء مترفّعين عن أعطياتهم غير عابئين بسلطتهم ليصيروا أعوانا للحقّ لا أعوانا للسّلطان. فهل يمكن للمثقّف أن يجد في سيرة الشيخ درسا له أثر يضاهي أثر العبيدلي في الشيخ أبي العباس الحضرمي؟

وما هي القوّة السّحريّة التي يمكن أن تهب مثقّف اليوم طاقة تضاهي بركة الولي وهيبته؟

إنّ في الدّين قوّة تضاهي قوّة النّار المحرقة التي تفتن الصغار وترهب الكبار؛ استطاع الأولياء الصّالحون امتلاكها وكسب معركة القداسة التي يسعى أصحاب السلطة إلى اكتسابها واحتكارها. فصارت في مُكنة الأولياء الصالحين كالنار المقدّسة التي ألهبوا بها الأنفس وجْدا وأرهبوا بها الحكّام خوفا من لعنة الدّعاء وطمعا في بركاتهم. فكانوا خير تجسيد لإرادة ربّ البيت حين أطعموا الناس من جوع وآمنوهم من خوف.


[1] المقصود بالولّي المنقبض: المعرض عن السلطة والرافض لمبدأ التعامل معها.

[2] "كان من نتائج المقاربة السوسيولوجيّة أن تمّ التمييز بين "دين شعبيّ" يتمثّل في الممارسات والتصوّرات الدينيّة الراجعة إلى فئات اجتماعيّة اعتبرت ممثّلة للشعب، والمتأثّرة بأوضاع هذه الفئات وبقاعها الثقافيّ، و"دين رسميّ" يتمثّل في جملة العقائد والطقوس والشعائر المنظّمة والمقنّنة بواسطة جهاز ديني رسميّ." زهيّة جويرو، الإسلام الشعبيّ، ط1، بيروت، رابطة العقلانيين العرب/ دار الطليعة، 2007، ص 7

[3] يقول محمّد بالطيب: "فالدّراسات العربيّة لم تخرج في الأغلب الأعم عن نزعتي المدح والقدح وهي على كثرتها متشابهة ينقل بعضها عن بعض. وهي في الغالب مليئة بأحكام على رجال التصوّف ترسل على عواهنها متراوحة بين التوقير والتحقير والتهويل والتهوين. فإمّا أن ينتصب المؤلّف منافحا عن التصوّف تحدوه رغبة جامحة في تأصيله في الإسلام فلا يعدو خطابه أن يكون مرافعة عن التصوّف وردّا على خصومه. وإمّا أن يكون تشنيعا على المتصوّفة وتصيّدا لسقطاتهم وطعنا فيهم حدّ التكفير في كثير من الأحيان. وهكذا التبست حقيقة الإسلام الصّوفي بين المادحين والقادحين." إسلام المتصوّفة، ط1، بيروت، رابطة العقلانيين العرب/ دار الطليعة، 2007، ص 6

[4] لطفي عيسى، أخبار المناقب في المعجزة والكرامة والتّاريخ، ط1، تونس، درا سراس للنشر، 1995، ص 20

[5] صيد عقارب، هو اسم وليّ صالح يقع في منطقة تسمّى "عقارب"، وهي تبعد عشرين كيلومترا غربيّ مدينة صفاقس. أمّا لفظ "صيد"، فيعني الأسد باللّهجة المحليّة. ويقام لهذا الوليّ مهرجان سنويّ هو من أقدم المهرجانات في تونس، ويعرف باسم "زيارة صيد عقارب" التي يفد إليها زوّار الوليّ الصالح. ومن أهمّ مقوّماتها "الزردة" وهي مأدبة جماعيّة غايتها التبرّك بالوليّ إكرام الوافدين والحضرة، وهي شطحات وأغان صوفيّة تذكر بمآثر الأولياء الصالحين. ولكنّ كثيرا من تلك العادات بدأت تنقرض ولم يبق من آثار الزيارة سوى "الحضرة" وألعاب الفروسيّة تذكيرا بمآثر الوليّ الصالح الذي كان فارسا يقود جماعة مقاتلة تحوّلت إلى جماعة من المريدين.

[6] "إنّ وفرة موارد الزاوية تشهد على مدى ما أصبحت المؤسّسة تحظى به من شعبيّة ومن تأثير ليس فقط عند العامّة بل حتّى لدى الحكّام الذين أصبحوا يهابونها ويقرّون لها حرمتها وبدؤوا يتودّدون إليها بالهبات والعطاءات." نلّلي سلامة العامري، الولاية والمجتمع، مساهمة في التاريخ الديني والاجتماعي لإفريقيّة في العهد الحفصي، ط1، تونس، منشورات كلّية الآداب بمنّوبة، 2001، ص 165

[7] خاطب الأمير الشيخ العبيدلي بالآية 59 من سورة النساء: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ." انظر: الدباغ، ابن ناجي، معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان، ج4، ص 123

[8] ردّ الشيخ العبيدلي على الأمير بالآية 41 من سورة الحجّ: "الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ." انظر المرجع نفسه، ص 123

[9] روبار برانشفيك، تاريخ إفريقيّة في العهد الحفصي من القرن 13 إلى نهاية القرن 15 م، (ترجمة حمّادي السّاحلي)، ط1، بيروت، دار الغرب الإسلاميّ، 1988، ج1، ص 175

[10] محمود مقديش، نزهة الأنظار في معرفة عجائب الأخبار (تحقيق علي الزواري ومحمد محفوظ)، ط1، بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1988، ج2، ص 308

[11] تعبر نللي سلامة العامري أنّ نموذج الوليّ المنقبض عن السلطان والمتورّع والرافض لأيّ تعامل معه ولأيّ عطاء منه والذي يمكن اعتباره من رواسب المرحلة السابقة للفترة الحفصيّة لكنّه بقي حيّا خلال المائة السابعة هجرّيا وأخذ بالتقلّص شيئا فشيئا لفائدة نموذج الوليّ المتعامل مع السّلطان يكاد يكون مثال العبيدلي الذي كان لا يرى وجه السّلطان ولا قائدا ولا قاضيا لما سمع عن القضاة من أخذهم مرتّبهم من القائد ظاهرة في تراجع." الولاية والمجتمع، ص 417

[12] انظر: محمود مقديش، نزهة الأنظار في عجائب التواريخ والأخبار، ج2، ص 309

[13] انظر: معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان، ص ص 125، 126

[14] معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان، ج4، ص 121

[15] "وبلغ تخوّف النّاس من سطو الأعراب على القوافل ولجوئهم إلى الأولياء لتأمينهم من هذا الخطر حدّا جعلوه معهم من سلامة القافلة التي يرافقها الفقير أو وليّ مقاسا لمدى نجاعة ولايته "إنّ الفقير الجيّد إذا كان في القافلة لم تُنهب." وأخبار الغازيات التي تسطو على القوافل وتنهبها وتتخلّل مصادر الفترة لدرجة أنّ بعضهم لبس "مرقّعة من خوف العرب." في طريقه من القيروان إلى تونس وقد يكون ذلك لإظهار فقره أو ولايته." نللي سلامة العامري، الولاية والمجتمع، ص 71