تجربة "الإسلام السياسي" في المغرب بعد مرحلة "الربيع العربي"


فئة :  مقالات

تجربة "الإسلام السياسي" في المغرب بعد مرحلة "الربيع العربي"

تجربة "الإسلام السياسي" في المغرب

بعد مرحلة "الربيع العربي"[1]

تتطرق هذ المقالة لتجربة "الإسلام السياسي" في المغرب بعد منعطف أحداث الحراك أو الاحتجاجات الشعبية التي طالت بعض الدول العربية في المنطقة، والتي اصطلح عليها بأحداث "الربيع العربي"، أو "الحراك العربي".

وعلى غرار عدة محطات تاريخية مرت منها المنطقة خلال العقود الأخيرة، وخاصة منذ مرحلة الغزو السوفياتي لأفغانستان، بتفاعلاته وتداعياته على المجال العربي والفارسي والتركي، فقد كان للحركة الإسلامية بصمات جلية في التفاعل مع أحداث الحراك العربي الذي أصبح يُؤرخ له بين 2011 و2013[2]، والحال أن الحديث عن الحركة الإسلامية [islamisme] بالجمع، يتطلب أولاً الحسم في طبيعة الحركة الإسلامية المعنية هنا في هذا المقام، لأن هناك حركات إسلامية دعوية، من قبيل جماعات "الدعوة والتبليغ" أو تيارات "السلفية التقليدية" [quiétiste]، وهناك حركات وأحزاب "الإسلام السياسي" [Islam politique]، من قبيل الأحزاب السياسية المنخرطة في العمل السياسي في العديد من الدول العربية والإسلامية، وهناك في المقام الثالث، حركات إسلامية "جهادية" [djihadisme]، من قبيل تنظيم "القاعدة" أو تنظيم "داعش" ولائحة عريضة من الجماعات "الجهادية" في المجال الإسلامي.

واضح أن هذه المقالة تتوقف بالتحديد عند تجربة تيار "الإسلام السياسي" مع الحراك وتبعاته، ولو أنه يصعب فصل أداء هذا الفصيل مع أداء الفصيل الدعوي بشكل عام عند الحركات الإسلامية، بمقتضى التماهي النظري والعملي الكبير الذي يُميز العمل الدعوي والسياسي عند الحركات الإسلامية بشكل عام، ولذلك نفضل الحديث عن عمل إسلامي يتم تحت أُفُق "مَجَرة إسلامية حركية" [galaxie islamiste]، ذات تفرعات سياسية ودعوية وجمعوية ونقابية وإعلامية وثقافية وحقوقية ونسائية وطلابية وغيرها... إلخ، وبالنتيجة، يصعب على الباحث قراءة وتوقع أداء "الإسلام السياسي" خارج أداء عناصر المَجَرة [galaxie]، لأنها تشتغل وِفق مشروع مجتمعي محلي[3] أو إقليمي.

رُبّ معترض أنه يمكن الحديث عن مَجَرات فكرانية [إيديولوجية] وتنظيمية لمشاريع سياسية أخرى، كأن تنهل من المرجعية اليسارية أو الليبرالية أو غيرها، وهذا اعتراض وجيه نظرياً، ولكن عملياً، لا يأخذ هذا الاعتراض بعين الاعتبار مرجعية "المَجَرة الإسلامية الحركية"، سوءا كانت إخوانية أو سلفية وهابية[4].

نقف في هذه المقالة عند تجربة الفصيل السياسي من المشروع الإسلامي الحركي، مع أحداث "الربيع العربي"، ولأن الحديث عن الإسلاميين المغاربة، لا يخرج عن حتمية التدقيق بالمقصود من الإسلاميين، فإننا سنتوقف عند الإسلاميين الذين يمارسون العمل السياسي والدعوي، ويتعلق الأمر بفصيلين اثنين بارزين[5]: جماعة "العدل والإحسان"، وهي حركة إسلامية وازنة وغير معترف بها رسمياً، وحركة "التوحيد والإصلاح" بحليفها الاستراتيجي، حزب "العدالة والتنمية" الذي يقود العمل الحكومي منذ محطة انتخابات 11 نونبر 2011، وأيضاً منذ محطة انتخابات 6 أكتوبر 2016، مع الإشارة إلى أننا لن نطرق باب تفاعل الفصيل السلفي في شقه الساند للمشروع الإسلامي المنخرط في العمل السياسي، وهو فصيل يُجسده بعض الدعاة السلفيين في الساحة، وهم من الأتباع السابقين للداعية السلفي الشيخ محمد بن عبد الرحمن المغراوي، الذي يُعتبر أهم مرجع سلفي في المجال التداولي الإسلامي المغربي.

نتوقف بداية عند تفاعل الفصيل الأول والثاني مع أحداث "الربيع العربي" في نسخته المغربية، قبل التوقف عند معالم أدائهما في مرحلة ما بعد الحراك حتى اليوم[6].

1 ــ تفاعل "الإسلام السياسي" في المغرب مع "الربيع المغربي"

في سياق متابعة تفاعل تيارات "الإسلام السياسي" مع أحداث "الربيع المغربي"، لوحظ ارتفاع وتيرة الخطاب المتصلب في سياق استغلال أجواء الحرية من أجل نقد صناع القرار، محلياً وإقليمياً ودولياً، وهذا معطى متوقع بشكل أو بآخر، لأننا نتحدث عن حركات إسلامية وتيارات سلفية ترهن وجودها بالصراع على الإمساك بالسلطة الزمنية الحاكمة، ويُؤمن أغلبها[7] أن أحد أهم أبواب التغيير، يكمن في الإمساك بزمام هذه السلطة، على غرار باقي الفرقاء السياسيين والحزبيين، مع فارق أننا نتحدث هنا عن فاعل سياسي ينهل من مرجعية "إسلامية حركية"، وهنا مكمن الفرق الأساسي.

أ ــ جماعة "العدل والإحسان": مفاجأة "الربيع المغربي"

على غرار ما جرى في بعض النماذج العربية ــ وخاصة الحالة التونسية والمصرية ــ، لم تلتحق الحركات والأحزاب الإسلامية في أولى المحطات الاحتجاجية التي طغت على الساحة، وإنما انتظرت زمناً معيناً من باب تقييم الأوضاع، وهو التقييم الذي إن تطلب في الحالتين سالفتي الذكر، الخروج ضد النظام، أفرز على الخصوص، فوز هذه الأحزاب الإسلامية في أولى المحطات الانتخابية لحقبة ما بعد سقوط نظامي زين العابدين بن علي وحسني مبارك.

كان مأمولاً، من طرف أتباع جماعة "العدل والإحسان"، قيادة وقواعد، أن يتكرر السيناريو نفسه في الحالة المغربية، ولو أنه كانت أمامنا لائحة من الفوارق الجلية بين معالم "الربيع العربي"، كما تمت في بعض الأنظمة الجمهورية، وبين معالم أحداث "الربيع العربي"، كما جرت في بعض الأنظمة الملكية، لعل أبرزها، أنه بخلاف الحالات التونسية والمصرية والليبية، لم يتم رفع شعار: "الشعب يريد إسقاط النظام"، وإنما رفع الشارع المغربي، مُجسداً تحديداً في "حركة 20 فبراير"، شعار: "الشعب يريد إسقاط الفساد".

والملاحظ أنه قبيل اندلاع أحداث "الربيع المغربي"، مع الخرجات الأولى لـ"حركة 20 فبراير"، والتي سوف تتراجع حدتها فيما بعد، نشرت بعض أقلام جماعة "العدل والإحسان" مقالات رأي من باب عرض وجهة نظر الجماعة في الأحداث، وأيضاً من باب نقد أطروحة "الاستثناء المغربي" التي اتضح فيما بعد، أنها بشكل أو بآخر، مَيّزت أحداث "الربيع المغربي"، مقارنة مع أحداث "الربيع التونسي"، أو "الربيع المصري"[8]، وقد لاحظ متتبع إعلام وأداء الجماعة، أن موقع الإلكتروني الرسمي، ومباشرة بعد اندلاع أحداث "الربيع المصري"، عمد إلى إعادة نشر رسالة "الإسلام أو الطوفان" التي صدرت عن مرشد الجماعة، فيما يُعتبر استثماراً للرأسمال الرمزي الذي يحظى به مرشد الجماعة في الدعاية والشحن الفكراني [الإيديولوجي]، على هامش استعدادات الشارع المغربي للانخراط بدوره في أحداث "ربيع مغربي".

انخرطت الجماعة في الحراك المغربي، وانتهت بعد أشهر قليلة من الانخراط إلى ضرورة تطليق الحراك، [9]لاعتبارات عدة، أحصى بعضها أحد الأعضاء السابقين في الجماعة، مُلخصاً إياها في "التكلفة السياسية"، لأن "انضمام الجماعة لحركة 20 فبراير جعلها عرضة لحملات تشويه، كما كان أعضاؤها موضوع متابعات قضائية لا تنتهي، ولم يجد كل ذلك في المقابل مساندة حقيقية من طرف المجتمع المدني، بل كان جزاء الجماعة على كل ذلك أن تُتَّهم بمحاولة الركوب على حركة العشرين حتى من حلفائها في الحركة"[10].

ب ــ"التوحيد والإصلاح" و"العدالة والتنمية": "هدايا الربيع"

كان "نداء الإصلاح الديمقراطي"، أهم العناوين التي لَخصت تفاعل حركة "التوحيد والإصلاح" وحزب "العدالة والتنمية" وباقي المؤسسات التابعة لهذا "المَجَرة الإسلامية"، مع مطالب الشارع المغربي، كما جسدتها على الخصوص "حركة 20 فبراير"، حيث كان موقف "المَجَرة" واضحاً، ومُنتصراً لرفض الخروج إلى الشارع، باستثناء موقف شبيبة الحزب، والذي سيعرف نوعاً من اللين فيما بعد، لينصاع في نهاية المطاف إلى موقف قيادات المجرة، حيث تطلب الأمر التدخل من أجل ثني شبيبة الحزب عن قرار الخروج للشارع، وفي هذا الصدد، هاجم قيادي في "المَجَرة"، شبيبة حزبه معتبراً أن مكتبها الوطني ارتكب خطيئة بإصداره بلاغاً يساند فيه مظاهرات 20 فبراير، مخالفاً بذلك قرار الأمانة العامة للحزب، وقال في "إن بيان الشبيبة خطأ واضح، وخطيئة وضربة في الصميم للمنهج العام للحزب، لأن الشبيبة هيئة موازية وليست هيئة تقريرية في الحزب، وهي بذلك ملزمة بقرار الأمانة العامة"[11].

أُطلق النداء يوم الخميس 17 مارس 2011، وطالب الموقعون عليه، بـ"ضمان إنجاز التعهدات المعلنة لإجراء إصلاحات دستورية عميقة، من أجل تكريس الخيار الديمقراطي، وإقرار الفصل الفعلي بين السلطات لجعلها متوازنة.."، كما طالب بتوفير "الضمانات السياسية والقانونية والمسطرية لتحقيق الإصلاح السياسي والمؤسساتي اللازم، والذي من شأنه أن يعيد الثقة في العمل السياسي والحزبي، ويضمن نزاهة وشفافية الانتخابات تشريعاً وتنظيماً وإشرافاً ورقابةً، وينهي كل أشكال التحكم والسلطوية والإفساد، ويحصن المغرب ضد أي نكوص أو تراجع عن الخيار الديمقراطي".

وواضح أن تاريخ توقيع النداء ـ أي أسبوع تقريباً على الخطاب الملكي المؤرخ في 9 مارس الذي أسَّسَ لتعديل موسع وشامل للدستور ـ جاء في إطار تحصيل حاصل، بحكم أنه يتفاعل مع مضامين الخطاب الملكي، إذ نقرأ في البند الخامس من النداء، المطالبة بـ"تعزيز الإصلاحات الدستورية والسياسية بإصلاحات في المجال الاقتصادي والاجتماعي، تقطع مع الاحتكار، وتنهي كل مظاهر استغلال النفوذ لكسب الثروة، وتتصدى لاقتصاد الريع، وتعمل على إقرار التنافسية والشفافية، وبناء مقاولة وطنية عصرية ومواطنة".

تتطلب الإحالة على الخطاب الملكي الذي دَشّن المغرب معه مشروع "الإصلاح الدستوري الموسع والشامل" ـ كما جاء في الخطاب ـ التذكير بمعطى تفسيري ضروري يساعدنا كثيراً على قراءات معالم تفاعل صناع القرار مع الحراك الشعبي، بما في ذلك حراك التيارات الإسلامية الحركية، وبالتالي أداء هؤلاء الفاعلين الإسلاميين الحركيين مع الحراك: واضح أن خطاب الملك المؤرخ في 9 مارس 2011، كان مُوجهاً تحديداً إلى الشارع أو العامة أو المعنيين بالحراك، ولم يكن موجهاً بالضرورة إلى النخبة، لاعتبارات عدة، أهمها أن صناع القرار أدرى بمواقف النخب السياسية والدينية والجمعوية، من موضوع الإصلاحات الدستورية والسياسية، ويكفي التذكير بأن الندوات التي كانت تُنظم سابقاً في الساحة المغربية حول موضوع "الإصلاح الدستوري"، قبل اندلاع أحداث "الربيع المغربي"، كانت ندوات نخبوية وتتميز بحضور متواضع لعدد المشاركين والجمهور على حد سواء؛ بل اتضح لاحقاً، أن النخبة السياسية، فوجئت بسقف الإصلاحات التي أعلن عنها الخطاب الملكي، وهو سقف لم تكن تتطرق إليه أغلب الخلاصات النهائية التي تُختتم بها المؤتمرات الوطنية لمُجمل الأحزاب السياسية، [12] أما الحزب الإسلامي المعترف به رسمياً، فكان موضوع الإصلاحات الدستورية آخر شيء يتحدث عنه، باستثناء ما كان يصدر عن القيادي مصطفى الرميد، والذي توج مطالبه في هذا الصدد، بأن حَصَدَ منصب وزير العدل والحريات العامة في النسخة الأولى من حكومة "الربيع المغربي"، قبل تعيينه وزير دولة مكلف بحقوق الإنسان في الحكومة الحالية.

وبحكم أن "الربيع المغربي" تَمَيّز بالمرور عبر محطة الاستفتاء على التعديل الدستوري الشامل والموسع، والذي تم في فاتح يوليو 2011، وفيما يعتبر ترجمة لمواقف "المَجَرّة الإسلامية" سالفة الذكر، أصدرت حركة "التوحيد والإصلاح"، مذكرة أكدت من خلالها أن "الديباجة الجديدة للدستور يجب أن تكتسب القوة القانونية لفصوله، وتتضمن عناصر واضحة في تأكيد الانتماء الإسلامي للمغرب واعتماده للخيار الديمقراطي، وذلك على أساس المرتكزات التي نقترح إدماجها بشكل صريح في ديباجة الدستور"، ومنها "إسلامية الدولة المغربية، التمسك بالنهج الشوري الديمقراطي في تدبير شؤون الحكم وسائر الشؤون العامة، مع الأخذ بمبدإ التطوير والتجديد المستمرين لآليات هذا الخيار ومخرجاته"[13].

2 "الإسلام السياسي" في المغرب و"كشف حساب" ما بعد الحراك

بعد مرور ست سنوات على تاريخ "الربيع العربي"، عاينا معها عدة تطورات محلية وإقليمية ودولية ذات صلة بهذا الحراك، ومنها تطورات طال أداء "الإسلام السياسي" في نسخته المغربية، سواء تعلق الأمر مع أداء الفصيل الأول المنخرط في العمل السياسي الرسمي، أو الفصيل غير المعترف به، والمصنف في خانة المعارضة السياسية والدينية على وجه الخصوص.

استجدت عدة معطيات في أداء فرع "الإسلام السياسي" المشارك في العمل الحكومي، حيث انتقل من مقام المعارضة برحابة آفاق العمل في فضاء المعارضة، نحو مقام التدبير الحكومي، بكل الإكراهات المُصاحبة للتدبير الحكومي، والتي تفضي إلى انصياع الفاعل السياسي، أياً كانت مرجعيته، للعديد من المقتضيات اللصيقة بالعمل السياسي الحكومي، والتي يمكن أن تكون مختلفة أو متباينة مع مواقف وآراء حقبة العمل في خانة المعارضة، بما يُفسر ما يُشبه حالة "الاصطدام" في المواقف والتوجهات بين مواقف حزب "العدالة والتنمية" مع منافسه على النطق باسم خطاب/ مشروع "الإسلام السياسي"؛ أي جماعة "العدل والإحسان"، وأيضاً مع باقي الفصائل السياسية المنافسة، سواء كانت في المعارضة أو حتى في الحكومة، بما يتطلب وقفات نقدية لا زالت مُغيبة من التناول لدى الفصيل المعني، بسبب إكراه التدبير اليومي الذي يستنزف الطاقات العلمية المعنية بـ"تأصيل" هذه المواقف المغايرة لحقبة التدبير الحكومي مقارنة مع مواقف حقبة المعارضة.

لقد تأكد عملياً، أن أحداث "الربيع العربي" ساهمت في ضخ المزيد من أعضاء الفصيل الإسلامي الأول؛ أي الفصيل المعترف به رسمياً، في مؤسسات الدولة، بَلْه منظمات المجتمع المدني، وبالتالي ساهمت في اتساع رقعة "المجرة الإسلامية" الحركية، بشتى تفرعاتها السياسية والدينية والنسائية والطلابية وغيرها.

في حين بقيت جماعة "العدل والإحسان"، مرتهنة لواقع الانتظارية، بحكم عدم انخراطها في العمل السياسي "الرسمي"، ولو أن العديد من أعضائها منخرطون في العديد من مؤسسات الدولة، السياسية والجامعية والدينية.

ثمة خلاصات تأكدت في حقبة ما بعد الحراك، وذات صلة بموضوع أسال الكثير من المداد، ويتعلق الأمر بثنائية "العمل السياسي" و"العمل الدعوي" عند حركات ومشاريع "الإسلام السياسي"، حيث انتقل الباحثون من مقام متابعة الجديد في مقالات ودراسات أقلام "الإسلام السياسي" التي طالما تحدثت عن التمييز بين العَمَلين، أو الفصل بينهما، في مرحلة ما قبل "الربيع العربي"، نحو مقام معاينة معالم واقع، ومدى التطبيق العملي لما جاء في تلك المقالات والدراسات والأدبيات بشكل عام، وبالنتيجة، وإن كان مؤكداً أنه سواء تعلق الأمر بالحركات الإسلامية الدعوية أو السياسية، نعاين أنها أخذت مسافة نظرية واضحة من العمل الإسلامي القتالي أو قل "الجهادي"، ولكن في موضوع الفصل بين العمل الدعوي والعمل السياسي، ورغم ما سَطرته أدبيات هذه الحركات والجماعات والأحزاب الإسلامية، أكدت أحداث "الربيع العربي" أن هذا الفصل لم يتجاوز سقف التنظير أو البيانات الرسمية الموجهة للاستهلاك السياسي والإعلامي والأمني، لأن الواقع الذي لا يرتفع يصب في تأكيد الجمع بين العَمَلين، كما عاينا ذلك في عديد محطات سياسية واجتماعية ودينية وغيرها، لعل أبرزها محطات الاستحقاقات الانتخابية، البلدية [الجماعية] أو النيابية [التشريعية].

ــ لن تكون آخر هذه المحطات ترشيح الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، الرئيس السابق لحركة "التوحيد والإصلاح" لكي يظفر بمقعد في الأمانة العامة للحزب السياسي في مطلع شهر يوليو 2017، أو ترشيح هذا الأخير، وهو عضو في الحركة الإسلامية الدعوية، في الاستحقاقات التشريعية لـ 6 أكتوبر 2016[14]، في تعارض كلي مع مقتضى الفصل بين العمل الدعوي والعمل السياسي.

ــ ولن تكون آخرها أيضاً، ما يُعاينه الباحثون في تفاعل أعضاء "المَجَرّة الإسلامية الحركية"، المعنية في هذا المقام، مع الاستحقاقات الانتخابية بالتحديد، يحث يُصبح الخطاب موحداً لدى جميع أعضاء المجرة الإسلامية، سواء تعلق الأمر بالفاعل السياسي أو الدعوي أو النقابي أو غيره، بحيث لا يُفرق المتتبع بين أي اختلاف [افتراضي] بين خطاب الفاعل السياسي مع نظيره الدعوي أو النقابي.

صحيح أنه يصعب التكهن بمآل الحركات الإسلامية المغربية المعنية بالانخراط في اللعبة السياسية، لأن المسألة أقرب إلى "الرجم بالغيب"، خاصة بعد المفاجآت التي خلفتها أحداث "الربيع العربي"، إلا أنه في الساحة المغربية، وقبل اندلاع هذه الأحداث، نجد العديد من المؤشرات التي تقترب إلى مآل التراجع، ليس بشهادة صادرة عن المنافسين السياسيين والإيديولوجيين لهذه الحركات والأحزاب الإسلامية، أو بناء على تقارير بحثية، محلية أو أجنبية، وإنما تصدر مثل هذه الإقرارات أو التوقعات على لسان أبناء العمل الإسلامي الحركي، كما عاينا مثلاً مع ثلاثية فريد الأنصاري الشهيرة، [15] ولعل استعارة دالة صدرت يوماً عن الباحث الأمريكي جوناثان براون، وتهم وقائع وأحوال ما قبل "الحراك العربي"، لا زالت ـ على الأقل في الساحة المغربية ـ صالحة للتداول اليوم، وتحمل الاستعارة عنوان "لعبة القط والفأر"؛ ونتحدث عن استعارة تقترح ما هو أكثر بقليل من "اللعبة المتواصلة بين حزب قوي مّا، وحزب ضعيف ولكن ذكي، القطة تلعب لتسيطر ولكن ليس لتقتل، فيما الفأر لا أمل له بالسيطرة، بل يندفع للحفاظ على البقاء فقط، والحصيلة الأكثر ترجيحاً هي ببساطة لعبة مستمرة؛ هذه الاستمرارية تحجبها الحركة المستمرة لكلا الطرفين: فالحركات الإسلامية غالباً ما تكون مُعوقة في سلوكياتها أكثر من صورة الفأر الرشيق وسريع الحركة، فيما الأنظمة ربما تكون أكثر ذكاءً بقليل، بطريقتها الخاصة، مما تتضمنه هذه الاستعارة".[16]

ليست أحداث "الربيع العربي" في نسختها المغربية من ستُقوض من دلالات هذه الاستعارة، لأن أداء أغلب الحركات والإسلامية في حقبة ما بعد "الربيع العربي" أكد أننا في نهاية المطاف أمام حركات وأحزاب إسلامية تنافس على حق مشروع في تدبير اللعبة السياسية، دون مشروع الرهان على "التجديد الديني" أو "تجديد الفكر الديني"، وهذا واقع يُميز بشكل لافت أداء إسلاميي الحراك المغربي، وإذا افترضنا جدلاً أن هناك مبادرات أو "مشاريع" تراهن على "تجديد الفكر الديني" فلا تخرج عن الانتصار للتديّن المُميز لهذا المشروع الإسلامي الحركي المغربي أو غيره، أي إننا إزاء مبادرات شبه دائرية وحصرية بالمشروع، حتى لا نتحدث عن مبادرات شبه طائفية، وليست مفتوحة على باقي الأطياف الإسلامية الحركية، فالأحرى الطيف الأكبر، أي المجتمع، لذلك لا يمكن قراء تواضع أحزاب "الإسلام السياسي" في المغرب، بَلْه في المنطقة، بعيداً عن مقتضى وثقل أعطاب ذاتية لم تنتبه إليها، أو فطنت لها ولكن التفاعل معها لا زال متواضعاً، ويحول دون الحديث عن تطور نوعي، في الشقين النظري والعملي.

[1] مجلة ذوات العدد 42

[2] وبالتحديد من يناير 2011، تاريخ اندلاع هذه الأحداث في تونس، ومنعطف 30 يونيو 2013 في مصر، مع إزاحة الرئيس المصري السابق محمد مرسي عن كرسي الرئاسة لأسباب مُرَكبة لا تشتغل عليها هذه المقالة.

[3] نقول هذا بصرف النظر عن موضوع الارتباطات الفكرية والتنظيمية مع الخارج، فليس هذا موضوع هذه المقالة.

[4] نتحدث عن المرجعية السلفية في نسختها الوهابية بالتحديد، وهي التي تطرقنا إليها في كتابين اثنين:

- الوهابية في المغرب، دار توبقال، الدار البيضاء، ط 1، 2012

- في نقد العقل السلفي: السلفية الوهابية في المغرب نموذجاً، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، الرباط، المركز الثقافي العربي، بيروت ـ الدار البيضاء، ط 1، 2014

[5] واضح أننا لن نتحدث عن باقي الفصائل الإسلامية الحركية، وبالتحديد، منظمة "الشبيبة الإسلامية"، حزب "البديل الحضاري"، وحزب "الأمة"، من منطلق أنها فصائل تتجه إلى الأفول، تنظيمياً، وأصبحت أشبه بما اصطلحنا عليه "حالات رقمية افتراضية"، أكثر منها تنظيمات إسلامية بقيادات وقواعد وأدبيات ومشاريع.

[6] على الأقل حتى تاريخ تحرير هذه المقالة، أي نهاية يوليو 2017

[7] إن لم نذهب إلى أن الأمر يهم جميع المشاريع الإسلامية الحركية، الدعوية والسياسية والقتالية ["الجهادية"].

[8] وضمن هذه المقالات، ما حرره حسن بناجح، الكاتب العام لشبيبة الجماعة، حيث اعتبر أن "الترويج لخطاب استثناء المغرب مما يجري في محيطه، كمن يحاول أن يقنعنا بالعافية التامة لذي سكتة قلبية مسجى منذ زمن طويل".

انظر: حسن بناجح، نعم الوضع مختلف في المغرب، موقع هسبريس، 4 فبراير 2011 على الرابط الإلكتروني التالي: http://hespress.com/opinions/27712.html

[9] بتاريخ 18 دجنبر 2011، سوف تصدر الأمانة العامة للدائرة السياسية لجماعة "العدل والإحسان"، بياناً تعلن فيه عن الانسحاب من الحراك المغربي، ويأتي البيان ثلاثة أسابيع بعد إجراء الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها، والأولى في حقبة الحراك المغربي، وتميزت بفوز حزب "العدالة والتنمية" بالرتبة الأولى، بما خَوّلَ له دستورياً، أن يقود حكومة "الربيع المغربي"، بعد أن استقبل الملك محمد السادس، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، من أجل تكليفه بتعيين الحكومة.

[10] محمد الهداج: تجلٍّ في انسحاب، موقع بوابة إقليم أزيلال، 21 دجنبر2011 على الرابط الإلكتروني التالي: http://www.azilal-online.com/inf-ar/articles-action-show-id-2322.htm

ويضيف الباحث أنه من الأسباب أيضاً، ذلك المرتبط بقيادة حزب العدالة والتنمية للحكومة، ليس بمعنى مساندة الجماعة للحزب الإسلامي، ولكن للحرج الواقع في بنية الصراع السياسي المغربي لما بعد انتخابات 25 نوفمبر 2011، فقيادة حزب إسلامي للحكومة هو نجاح للدولة ولاشك، والتفاتة ذكية له لاجتناب مصير الأنظمة في البلاد العربية، ولكن انتصار الدولة يمتد أبعد من ذلك، لأن الذين سيعارضون الحكومة المقبلة، سيفعلون ذلك لأسباب يشوبها بدورها تعارض يستلزم وقفة من الجماعة لتقدير الموقف حق قدره، فمن المعارضين من سيحاول بكل الوسائل "شيطنة" حزب العدالة والتنمية، ليس لفشله في الاستجابة لانتظارات الناخبين ولكن لإسلاميته، ومن ثم سيكون الإسلام هو هدف المعارضة وليس الحزب الإسلامي (حسب المتداول في قواعد الجماعة). وبالتالي، فإن تفكير الجماعة في مخرج للمأزق الذي وضعتها فيه الدولة و"العدالة والتنمية"، يلزَمه رجوع إلى الخلف من أجل امتلاك رؤية في مستوى تعقد الواقع السياسي والاجتماعي الحالي، والانسحاب من هذا المنظور قرار في محله حسب العدليين [أتباع الجماعة التي تدعو إلى "دولة الخلافة"].

[11] حسن حمورو، [محمد] يتيم يعظ شباب 20 فبراير عبر الفايسبوك، موقع هسبرس، 19 فبراير 2011

[12] باستثناء حالة حزب "اليسار الاشتراكي الموحد"، والذي يُجسد رقماً تنظيمياً متواضعاً في المشهد الحزبي.

[13] أنظر: مذكرة حركة التوحيد والإصلاح بشأن الإصلاح الدستوري، التجديد، الرباط، 20 أبريل 2011

[14] انظر: وكلاء لوائح جديدة للمصباح لانتخابات 7 أكتوبر 2016، موقع حزب "العدالة والتنمية" [http://pjd.ma]، 2 سبتمبر 2016، على الرابط المختصر التالي: goo.gl/6rVERD

[15] والإحالة على ثلاثية: "البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي"، و"الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب"، وأخيراً، كتابه "الفطرية.. بعثة التجديد المقبلة من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام".

[16] أنظر: ناثان ج. براون، المشاركة لا المغالبة، الحركات الإسلامية والسياسة في العالم العربي، ترجمة سعد محيو، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط 1، 2012. ص 132