تحوّلات المؤسّسة الدينيّة في زمن العولمة


فئة :  مقالات

تحوّلات المؤسّسة الدينيّة في زمن العولمة

تحوّلات المؤسّسة الدينيّة في زمن العولمة([1])


نرصد في مداخلتنا عددًا من التحوّلات في تونس والبلدان العربية والإسلامية، وكذلك في العالم المحيط بنا للوقوف على فهم أفضل لدواعي الفوضى التي تلاحظ في مختلف مظاهر التديّن. ومن أبرز هذه التحولات، عجز المؤسسة الدينية التقليدية عن مسايرة التقدّم المعرفي في شتّى المجالات، ممّا أفقدها المصداقيّة والإشعاع والقدرة على التأثير. فظهرت مرجعيّات أخرى ذات أبعاد سياسية ومجتمعية لكن دون محتوى معرفي صلب. وبما أنّ الخوصصة من مميّزات العولمة الاقتصادية، فقد انعكس ذلك في المجال الديني، وظهرت مؤسّسات جديدة تخضع لاعتبارات السوق والعرض والطلب. وكان انتشار التيّارات الإنجيلية ذا أثر في بروز مؤسّسات تعمل على شاكلتها في أساليب الدعوة والدعاية.

حضرات الإخوة والأخوات؛

أريد أولاً أن أشكر منظمي هذه الندوة لا فقط شكرًا بروتوكوليًّا، بل أشكرهم شكرًا صادقًا نظرًا إلى أنّ موضوع هذه الندوة من المواضيع المسكوت عنها بصفة عامة، ومن المواضيع التي عندما تثار قد يعترض عليها بعض المعترضين، وقد سمعنا في أكثر من مناسبة من ينكر إنكارًا تامًا وجود مؤسسة دينية في الإسلام.

وليس في نيتي، ولا يمكنني في هذا الوقت الوجيز، أن أتعرض إلى خصائص هذه المؤسسة الدينية في الإسلام، وأعتبر أنّها معروفة في مجملها على الأقل. لكن أريد أن أبدأ ببيان فرق مهم بالنسبة إلى عصرنا - لا أتحدث عن التاريخ - بين وضع المؤسسة الدينية في الإسلام وفي المسيحية بصفة خاصة، حيث إنّ هذه المؤسسة مهيكلة في الكنيسة الكاثوليكية بطريقة هرمية وواضحة. أريد أن أقف عند فرق أساسي في نظري في هذا المستوى، وهو أنّ هاجس الدولة الحديثة، في الغرب عمومًا وفي فرنسا بصفة أخص، هو التخلص من هيمنة المؤسسة الدينية. والصراعات التي كانت بين الكنيسة والنظم السياسية كانت تدور حول من له الأولوية في إدارة الشأن العام.

أما بالنسبة إلى المجال الإسلامي، والسنّي على وجه الخصوص، فالفرق كبير جدًّا، إذ إنّ السلطة السياسية قد نجحت إلى حد بعيد، ومازالت إلى يومنا هذا، في تدجين المؤسسة الدينية، سواء كانت هذه المؤسسة تابعة بصفة معيّنة للسلطة السياسية أو بصفة أخرى. ولذلك، فما نراه في عصرنا من صراعات هو على عكس ما يدور في الغرب ليس إرادة التخلص من هيمنة الكنيسة، من هيمنة المؤسسة الدينية، بل إنّ المؤسسة الدينية هي التي أصبحت تبحث في النطاق الإسلامي عن الاستقلال نحو السلطة السياسية. وهذا فارق مهم ويفسّر لنا إلى حد بعيد، فيما أرى، الصعوبات التي تجدها هذه المؤسسة التي ليست مهيكلة على نمط الكنيسة. وهذا بديهي على الصعيد السياسي، ولكنه واقع اجتماعي وثقافي بالأساس.

وفي هذا النطاق، ليس هناك نمط أو مثال يمكن أن تنسج عليه المؤسسة الدينية في الإسلام تاريخيًّا، لا يمكن لها أن تستند إلى سوابق تاريخية. وعدم الاستناد إلى سابقة هو كذلك من أهم الصعوبات التي تجدها هذه المؤسسة في وضعها الجديد الذي تريد أن تستقل فيه أو أن تتخلص من هيمنة الدولة، من هيمنة الحكم السياسي، لا سيما وأنّ هذه المؤسسة قد فقدت في القرون الأخيرة، منذ ستة قرون على الأقل، منذ عصر ابن خلدون، السلطة المعنوية التي كانت لها، والتي كانت تستطيع بها أن تؤثر في الميدان السياسي. يقول ابن خلدون صراحة إنّ رجال الدين، العلماء في عصره؛ أي ممثلي المؤسسة الدينية، كان ”يُتجمّل بهم في المجالس“ لا غير، يعني أنّه لا يؤبه بهم في إدارة الشأن العام على الصعيد السياسي.

بالطبع، في مستوى تنظيم الحياة الاجتماعية والأحوال الشخصية تخصيصًا، كان نفوذهم كبيرًا، وكانوا مستأثرين بهذا الأمر. لكن في مستوى الحياة السياسية، انعدم تأثيرهم تقريبًا منذ ذلك التاريخ على الأقل، وأصبحت للسلطة السياسية مراجع أخرى غير المرجعية الدينية. وإذا ما كان رجال الدين يُكتفى بالتجمل بهم في المجالس، فمعنى ذلك أنّه يفقدهم جزءًا قد يكبر وقد يصغر من المصداقية والتأثير. وما كان يقوله الأستاذ احميدة النيفر منذ حين وذكّرت به ورقة تقديم الندوة صحيح؛ أي إنّ ممثلي المؤسسة الدينية كانوا يستأثرون، على الأقل بالنسبة إلى العامة، بتوفير المعنى، بينما كان تأثيرهم في الحياة السياسية منعدمًا. ولكنّ عدم تأثيرهم في الحياة السياسية وبقاءهم تحت طائلة السلطة السياسية لا شك أنّه يجعل تأثيرهم غير التأثير الذي كان لهم قديمًا.

وفي عصرنا، تفاقم هذا الفقدان النسبي للمصداقية والتأثير، حتى قبل شيوع وسائل الاتصال الحديثة. وقد تفاقم لسبب أساسي، وهو أنّ القانون الوضعي بدأ شيئًا فشيئًا يعوّض الأحكام الفقهية؛ أي إنّ جانبًا كبيرًا ومهمًا جدًّا من مرتكزات تنظيم الحياة الاجتماعية لم يعد في يد ممثلي هذه المؤسسة. أصبحت تزاحمهم البرلمانات والمؤسسات التي تسنّ القوانين بدون الرجوع، على الأقل من الناحية الجوهرية، إلى الأحكام الفقهية. شكليًّا يمكن أن تعود إلى مرجعية دينية، لكن في واقع الأمر أغلب القوانين التي تسنّ في البلاد الإسلامية هي قوانين وضعية باستثناء ما يهم الأحوال الشخصية. وهذا الاستثناء متفاوت هو أيضًا، من منطقة إلى أخرى ومن مجال سياسي إلى آخر. لكن في غير ذلك الشأن، فإنّ القوانين الوضعية هي التي أصبحت تزاحم بصفة جدية الأحكام التي كان يستأثر بسنّها رجال الدين وممثلو المؤسسة الدينية. هذا كله لا شك أنّه يزيد في تلك الصعوبة التي تحدثنا عنها في البداية، وهي صعوبة التخلص من هيمنة السياسي؛ أي لو كانت المؤسسة الدينية الإسلامية مازالت تستأثر بتنظيم الحياة الاجتماعية عن طريق الأحكام الفقهية لربما كان لها مجال من المناورة، ومن أن تفاوض السلطة السياسية مفاوضة الند للند، لكن هذا لم يعد قائمًا في عصرنا.

ونضيف إلى ذلك، أنّ المؤسسة الرسمية أصبحت تزاحمها مؤسسات أو هياكل أو بنى اجتماعية أخرى، من أحزاب وجمعيات ومنظمات مختلفة، هي كذلك تتحدث باسم الإسلام ولكنها تفتقر إلى المرجعيات نفسها التي تستند إليها المؤسسة الدينية الرسمية. كل الحركات التي نسميها "الإسلاموية" أو الإسلام الاحتجاجي وما إلى ذلك، كل هذه الحركات إنّما هي مزاحمة للمؤسسة الدينية الرسمية. ما أريد أن أؤكده في هذه النقطة هو الاختلاف الكبير عمّا كانت تتوفر عليه المؤسسة الرسمية التقليدية من معرفة دينية حقيقية، وإن كانت هذه المعرفة متكلسة إلى حد كبير. نحن نعلم أنّ علماء الأزهر وعلماء الزيتونة وعلماء القرويين قد كانوا، خلافًا لطلبة هذه المعاهد، متشبثين بنوعية من التعليم تكاد تقتصر على الشروح والحواشي، ولم تكن مستعدة لتجديد المناهج لا من ناحية المحتوى ولا من ناحية طرق التبليغ. لكن على الرغم من ذلك، فممثلو المؤسسة الدينية التقليدية الرسمية كانوا يتوفرون على معرفة دينية، وإن كانت تقليدية، وإن كانت إلى حد بعيد جامدة؛ أي ليس فيها إضافة إلى ما أنتجه القدماء، فإنّها كانت تسمح بتنسيب ما يعبَّر به عن الدين أو عن التدين. ولذلك، فإنّ مواقف هذه النخبة التقليدية كانت مواقف تتّسم في الأغلب بالتسامح تجاه الرأي المخالف، خلافًا لهذه البنى أو المؤسسات الجديدة التي نشأت مع حركة الإخوان المسلمين بالخصوص في عشرينيات القرن الماضي، والتي لا تتسم لا بالمعرفة العميقة للنصوص الدينية ولا بالمعرفة العميقة والمباشرة للعلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة، ولا بالقدرة على تنسيب الحقائق التي تدافع عنها، بل إنّها أبعد ما تكون عن روح التسامح الذي كان ديدن ممثلي المؤسسة الدينية التقليدية. هذا مهم جدا في نظري؛ لأنّه يفسر لنا التشظي الذي تعرفه المؤسسة الدينية في عصرنا.

هناك أيضا معطى آخر، وهنا أصل إلى جوهر الموضوع، وهو زمن العولمة، لأنّ ما ذكرته إلى حد الآن، يهم الفترة الحديثة والمعاصرة كلها. أما بالنسبة إلى الفترة الراهنة في زمن العولمة، فهناك ظاهرة قلّما ننتبه إليها، وهي ظاهرة الخوصصة. في القديم كما رأينا، كانت هناك السلطة السياسية من ناحية، والسلطة الدينية من ناحية أخرى، وعلى الرغم ممّا كان بينهما من تضامن أحيانًا ومن تنافر أحيانًا أخرى، فقد كان معترفًا للدولة بأنّها هي التي تستأثر بكل ما يتعلق بالإشراف على تنظيم الحياة العامة. لكن مع العولمة التي كانت في البداية اقتصادية ثم أصبحت تهم كل الشؤون، تهم التعليم وتهم الصحة وتهم الاقتصاد وتهم كل نواحي الحياة، مع العولمة أصبحنا نرى جهات أخرى غير الدولة، منها رأس المال، ومنها الشركات المتعددة الجنسية، ومنها القوى الخارجية سواء الإقليمية أو الدولية، تتدخل لتجعل من هذه المؤسسة الدينية ذنبًا لها أو على الأقل تطبق سياساتها. وهذا من شأنه أن يقلّص، أو أن يزيد في تقليص، المصداقية التي بدأت المؤسسة الدينية تفقدها قبل ذلك.

فلو قمنا بمقارنة بين ما كان عليه الأمر منذ عشرين أو ثلاثين سنة لرأينا أنّه، سواء بالنسبة إلى المجال الإسلامي أو بالنسبة إلى المجال المسيحي، توجد جمعيات ومؤسسات دينية لها أموال طائلة، ولها وسائل تأثير حديثة تستعمل الأنترنيت وتستعمل كل وسائل الاتصال الحديثة ووراءها قوى اقتصادية. هذا واضح مثلاً بالنسبة إلى الحركات الإنجيلية في المسيحية. ففي أمريكا اللاتينية التي كانت من أهم معاقل الكاثوليكية أصبحت الحركات الإنجيلية تمثل 30 في المائة من نسبة المؤمنين في المسيحية، ووراءها الشركات المتعددة الجنسية واليمين الأمريكي في الولايات المتحدة الأمريكية. ويلاحَظ تأثير هذه الحركات الإنجيلية في إفريقيا أيضًا. وهي بطريقة من الطرق لا تؤمن بالدولة الوطنية، وإنّما هي في خدمة مصالح رأسمالية، وهذه المصالح لا تريد أن تعترف بالحدود الجغرافية والحدود الوطنية للدول.

الظاهرة نفسها نلاحظها بالنسبة إلى المجال الإسلامي، فنرى أنّ هناك حركات دعوية في العالم الإسلامي وفي خارجه، وليست هذه الحركات الدعوية إلا حركات خاصة بمعنى أنّها لا تتبع الدول بالضرورة. مثلاً: من أهم الأنشطة الدعوية الموجودة في إفريقيا الدعوة الوهابية، والآن لها تأثير متزايد في جنوب الصحراء، لكن الجمعيات الدعوية ليست دائمًا بتأييد مباشر من الحكومة السعودية، وإنّما هم رجال أعمال، هم أثرياء سعوديون وخليجيون يدعمون الجمعيات والمؤسسات الدينية بعيدًا عن المؤسسة التقليدية، وفي خدمة هذه الخوصصة وهذا التشظي للمجال العمومي. ولا يهم إن كان ذلك بصفة واعية أو غير واعية. وهذه الجمعيات هي كذلك لا تعترف في الحقيقة بالدول القائمة إلاّ اعترافًا شكليًّا، وتسعى عبر الحدود إلى التأطير حسب منهج خاص بها يبدأ من رياض الأطفال (الطريقة النورانية مثلاً عوضًا عن البرامج الرسمية) ويتواصل مع الدروس الدعوية في الكتاتيب والمساجد.

من أهم النتائج المترتبة على هذا الوضع ما أسميه "الترميق"، أي إنّنا نلاحظ، سواء في البلاد الإسلامية أو في الأنحاء التي تنتشر فيها دعوة هذه الجمعيات، أنّ أتباع هذه المؤسسات الجديدة يأخذون مما يقوله ممثلو المؤسسة الرسمية جانبًا، ويأخذون مما يقول لهم الدعاة ويأتون به جانبًا آخر، ومن خارج الفضاء الإسلامي أيضًا جوانب ثلاثة. وأشكال التديّن المترتبة على هذا الوضع هي أشكال هجينة، لم تعد أشكال التديّن التقليدية الواضحة المعالم التي يمكن أن نفصل فيها بين هذا وذاك. ويصاحب التنميطَ الذي تسعى إليه حرص على أداء الطقوس بطريقة مخصوصة وجماعية، وتخويف من عدم الالتزام بها التزامًا صارمًا، بصرف النظر عن كونها من العبادات الأساسية، كالصلاة والصوم، أو من مظاهر التدين الاجتماعية مثل طريقة غسل الموتى ودفنهم، ومثل إلزام النساء بتغطية شعرهن وفصلهن عن المجتمع الذكوري.

وفي زمن العولمة هناك شيء آخر، وهو ضياع المعنى؛ أي إنّ هذا التشظي الذي ذكرته هو في تفاعل، هو أحيانًا نتيجة وأحيانًا سبب، مع فقدان المعنى بالنسبة إلى فئات اجتماعية عديدة، وخاصة من النازحين نحو المدن والحواضر الكبرى، من الذين لم تعد تربطهم الروابط التقليدية، ولم يعودوا خاضعين للرقابة الاجتماعية التقليدية التي كانت المؤسسة الدينية من أهم العاملين عليها، أو المتشبثين بها باعتبارها إحدى مكوّنات شخصيتهم. وضياع المعنى هو الذي يفسر الانخراط في حركات ومؤسسات جديدة. إنّ تعددية الآراء والمواقف وأشكال التعبير عنها بفعل الثورة الرقمية، وشيوع وسائل الاتصال الحديثة، مما يؤدي ضرورة إلى الترميق بصفة غير واعية، وإلى فوضى في أذهان الشباب وضياع في خضم تزاحم المتناقضات، ومما يؤدي في الحالات القصوى إلى الانخراط في الحركات الكليانية العنيفة، ولا سيما الدينية منها.

فداعش، على سبيل المثال، مؤسسة من هذه المؤسسات التي لا صلة لها بالمؤسسة الدينية الرسمية. هذه المؤسسات الاحتجاجية، التبشيرية، الثورية، سموها ما شئتم، بعيدة كل البعد في أهدافها وفي ممارساتها عما كانت تتسم به المؤسسة التقليدية، سواء الرسمية أو حتى المعارضة. ولعلنا لا نبالغ إذا اعتبرنا ما يقوم به المنخرطون في ما يسمّى بالدولة الإسلامية من إقامة للحدود بشكل همجي، ومن تنكيل بالمخالفين وقطع رؤوسهم واستعباد نسائهم، وما إلى ذلك مما يقتضيه الجهاد في نظرهم، دينًا جديدًا متفرعًا عن الإسلام، كما إنّ البهائية على سبيل المثال متفرعة عنه، ولكنّه أبعد ما يكون عن مؤسسات الإسلام التاريخية. ولا أدل على ذلك من أنّ نسبة كبيرة من المنضوين تحت لواء هذه ”الدولة“ ليسوا من أبناء المسلمين بل جاؤوا إليها من مشارق الأرض ومغاربها، للتخلص من حالة الضياع والتهميش التي يشعرون بها في بيئاتهم الأصلية.

والخاصية التي أراها جديرة بأن ننتبه إليها في هذا الشأن هي أنّ كل هذه الحركات، مثلها في ذلك مثل المؤسسة الدينية التقليدية، تفضّل التركيز على البعد الجماعي، على ما تراه مصلحة المجموعة والأمّة الإسلامية برمّتها، أكثر مما تركّز على قيمة الفرد، على صدق الشعور الفردي في المجال الديني. ومعنى ذلك أنّ هذه المؤسسات من حيث طبيعتها هي إفراز مضاد للاتجاه العام في عصرنا نحو الفردانية، الذي هو غير الأنانية. فهي من هذه الناحية قوى مضادة لما يقتضيه العصر من التركيز على قيمة الفرد وعلى اختياراته وعلى القبول بالاختلاف الذي يتسم به العصر.

نحن إذن في هذه الظروف أمام وضع معقّد، أوّلا ليس فيه تلك البساطة، وذلك التقسيم الذي كان موجودًا في القديم، وهو بالخصوص علامة على الصعوبة التي تجدها المؤسسات الدينية في الانخراط في مقتضيات العصر، مقتضيات ما يسمى بالحداثة؛ أي ذاك النمط الحضاري الذي لا فصل فيه بين القيم الجديدة، قيم حقوق الإنسان مثل الحرية والمساواة والديمقراطية وما إليها من جهة، والمنجزات المادية لهذه الحضارة من جهة أخرى. هي مؤسسات تقبل بدون نقاش، وأحيانًا بدون وعي، المنجزات المادية، ولا أعرف فيما يخصني اعتراضًا من هذه المؤسسات على منجزات الحضارة الحديثة، ولكنّها في الآن نفسه ترفض رفضًا يكاد يكون مطلقًا المقتضيات المعرفية والقيمية التي هي جزء لا يتجزأ من هذه الحضارة الحديثة. وهذا الرفض، بدعوى مقاومة التغريب وبدعوى التصدي للعلمانية والدفاع عن الهوية وما إليها، لا أريد أن أدخل في تفاصيل هذه التهم التي تعرفونها، من الواضح أنه ينمّ عن عدم تبنّ عن وعي لما يقتضيه عصرنا من انخراط في هذه القيم وفي هذه المنجزات المادية في الآن نفسه.

أخلص من ذلك إلى نتيجة مهمة، وهي أنّ الصعوبات التي تجدها المؤسسات الدينية، سواء منها الرسمية والتقليدية أو المؤسسات الأخرى، هي نتيجة لما يعانيه الفكر الديني في الإسلام منذ قرنين من صعوبة في تجديد مقولاته؛ أي إنّ مرتكزات التدين التقليدي مازالت قائمة. هناك صعوبة كامنة تجدها كل هذه الأطراف في أن تُراجع عددًا من المسلّمات، أي أن تقوم بنقد بنّاء لما هو موروث، سواء من عصور الانحطاط أو من سلوك ما يسمى بالسلف الصالح. وهذه الإطلاقية في تمجيد جزء من الموروث الديني، بما فيها من انتقائية مفضوحة، هي التي تؤدي إلى أنّ المؤسسة الدينية الإسلامية بمختلف تنوعاتها في عصرنا لا تجد لدى الرأي العام في عمومه التجاوب الذي كانت تجده المؤسسة الدينية التقليدية. فهي تستقطب فئات قد تقل وقد تكثر، ولكن بالنسبة إلى مجموع المؤمنين المسلمين، فإنّها تبقى حركات ومؤسسات فيما بينها اختلاف وتضارب أحيانًا لا محالة، ولكن بالخصوص عاجزة عن أن توفر للمسلمين في مجموعهم الأنموذج الذي يجدون فيه صدى للمقتضيات القيمية والأخلاقية والمعرفية الجديدة وغير المسبوقة، التي هي من أهم سمات العصر.

وبذلك، فإنّ تحديث الفكر الإسلامي هو الذي ربما من شأنه أن يكون العنصر الفعال في التخلص من هذا الوضع المتشظي نحو وضع يكون فيه المسلم العادي بصفة عامة راضيًا عن نفسه، يكون في طمأنينة نفسانية، ويتخلص من الوضع المتأزم الذي يشعر فيه بأنّه مهدّد، وبأنّ إيمانه يمكن أن يضيع في كل لحظة أمام التيارات القوية المدعّمة بالعولمة الجديدة. ونحن مدركون أنّ التحديث المرجوّ في المجال الديني في علاقة جدلية بتحديث البنى الاقتصادية والسياسية والتعليمية وغيرها، إلاّ أنّه لا مناص من مواجهة التحديات والصعوبات في هذه الميادين جميعًا دون فصل مجال منها عن المجالات الأخرى، وإلا بقي التحديث مبتورًا ومحدودًا وفاشلاً إلى حد بعيد، على النحو الذي عرفته المجتمعات العربية والإسلامية في القرنين الماضيين.


[1] المداخلة الافتتاحية (مستخرجة من الشريط المصور) التي ألقاها عبد المجيد الشرفي في إطار ندوة "المؤسّسة الدينيّة في الإسلام... أيّ دور؟"، المنعقدة بتونس يومي 29 و30 نونبر 2014، تنسيق: بسام الجمل. مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.