لقاء حواري مع أ. منتصر حمادة

فئة :  حوارات

لقاء حواري مع أ. منتصر حمادة

لقاء حواري مع أ. منتصر حمادة

في معرض الرباط الدولي للكتاب 2025

حول كتابه "في نقد العقل السلفي: السلفية الوهابية في المغرب نموذجًا"

د. حسام الدين درويش:

مساء الخير مرة أخرى في سلسلة لقاءات مؤمنون بلا حدود ضمن المعرض الدولي للكتاب والنشر في الرباط للعام 2025. يسعدنا أن نستضيف اليوم الأستاذ منتصر حمادة، الذي نشكره على استجابته الطيبة وتفاعله الإيجابية مع الدعوة.

يُؤخذ أحيانًا على الفكر العربي أنّه ما زال يكرّر الأسئلة نفسها؛ بمعنى أنّنا ما زلنا نطرح أسئلة عصر النهضة ذاتها حتى اليوم. وعلى الرغم من أن كتابك موضوع حوار اليوم يبدو قديمًا نسبيًّا؛ إذ صدر قبل إحدى عشرة سنة، (2014)، بعنوان: في نقد العقل السلفي: السلفية الوهابية في المغرب نموذجًا"، عن مؤمنون بلا حدود والمركز الثقافي العربي، فما زال ذا راهنية، سواء من حيث الموضوع، أو من حيث الأسئلة المطروحة. فإلى أيّ حدٍّ ترى أنّ الكتاب ما زال راهنًا؟ وبأيّ معنى يمكن أن يكون موضوعه وأسئلته حاضرة للنقاش، لا مجرد تراثٍ من الماضي؟

أ. منتصر حمادة:

أوّلًا، مساء النور للمشاهدين الكرام، وشكرًا جزيلًا لك عزيزي الدكتور حسام الدين على الدعوة والتقديم، وأيضًا على هذا الحكم؛ لأنّ وصف العمل بأنه صدر منذ عقد بالضبط، والقول إنّه ما زال راهنًا، يعدّ مكسبًا كبيرًا من ناقدٍ من قامتكم. في رأيي المتواضع، الأمر كذلك إلى حدٍّ ما، وأتمنى أن يكون كذلك لعدة اعتبارات.

لعلّ ما جرى مؤخرًا يمثل نموذجًا دالًّا، إذا بقينا في الجانب السياسي؛ أي عودة الصوت الإسلامي بقوة عمومًا، بما في ذلك الصوت السلفي بانقساماته المتعددة التي تناولتُها في الكتاب. وقد برز ذلك بوضوح بعد السابع من أكتوبر، ليس فقط من خلال عودة الإخوان أو السلفيين، بل أيضًا بعودة تيارات أخرى. كما أنّ بعض القضايا التي تندلع هنا وهناك، في المغرب أو في المغرب العربي، أو في الوطن العربي، متصلة بتأثير ما كان يُسمّى بالصحوة الإسلامية أو اليقظة الدينية أو الإحياء الديني - بتعبير أستاذنا رضوان السيد - وخاصة بتأثير الخطاب السلفي أو السلفية الوهابية. فالكثير من القضايا التي نعيشها اليوم مرتبطة بتبعات هذا التأثير؛ لأنّه اتضح أنّه رغم انخراط الدول التي موّلت أو ساهمت في انتشار هذه الصحوة في مرحلة لاحقة من المراجعات، فإنّ تأثير الخطاب السلفي الوهابي ما يزال مستمرًّا، وسيستمر، بطبيعة الحال؛ لأنّ نتائج المراجعات لا تظهر بين ليلة وضحاها.

د. حسام الدين درويش:

إلى أيّ حد يمكن القول إنّ السلفية سلفيات؟ أقصد هنا بالخصوص السلفية الوهابية. لقد استضفنا منذ مدة في إحدى الندوات الباحث السوري القدير - محمد أمير ناشر النعم – الذي تحدث عن الفوارق الكبيرة بين السلفية الشامية أو السورية، والسلفية الوهابية. فإلى أي مدى يمكن اعتبار السلفية الوهابية في المغرب نموذجًا للسلفية عمومًا، أم إنّها سلفية مختلفةً، اختلافًا كبيرًا، عن السلفيات الأخرى؟ وبصيغة أخرى: ما المقصود بالسلفية عمومًا؟ وما المقصود بالسلفية الوهابية تحديدًا؟ وما الاختلافات القائمة بين السلفيات المتعددة والمتنوعة؟

أ. منتصر حمادة:

المسألة هنا تدخل في صلب التقسيمات المرتبطة بظاهرة الصحوة الإسلامية أو الحركة الإسلامية عمومًا. والتصنيف الشائع يقسِّم الحركات الإسلامية إلى ثلاثة أنماط:

-                   حركات دعوية، مثل جماعة الدعوة والتبليغ، أو ما يُسمّى بالسلفية العلمية أو السلفية التقليدية.

-                   حركات الإسلام السياسي (إسلام بوليتيك/إسلاميزم)، مثل حزب العدالة والتنمية في المغرب، أو تركيا أو ماليزيا، إضافة إلى جماعة الإخوان المسلمين.

-                   الحركات الجهادية، مثل تنظيم القاعدة والجماعات الإرهابية المسلحة، وهذا موضوع آخر.

د. حسام الدين درويش:

هل يعدّ كلّ هؤلاء من السلفيين؟

أ. منتصر حمادة:

هذا تقسيم قديم يشمل: تنظيم القاعدة، الحركات إسلامية دعوية، الحركات الإسلامية السياسية، والحركات الإسلامية الجهادية. السلفية الوهابية التي أتحدث عنها تندرج ضمن التصنيف الأول؛ أي الحركات الإسلامية الدعوية. فالسلفية الوهابية في المغرب – التي تناولتها في الكتاب – تعدّ حركة ذات طابع دعوي، ولا علاقة لها بالعمل السياسي، كما هو الحال مع حزب العدالة والتنمية، ولا بالعمل الجهادي، كتنظيم القاعدة.

بالطبع، هناك قواسم مشتركة بين عموم الحركات الإسلامية، مثل الدعوة إلى "دولة الخلافة على منهاج النبوة"، كما تدعو إلى ذلك بعض الحركات الإسلامية في المغرب، بينما يسعى بعضها إلى ما يسمى أسلمة المجتمع والسلطة والدولة والنظام. وبالمناسبة، فقد اشتغلوا على أسلمة مخيال المجتمع. "l’imaginaire"؛ فهذه كلها قواسم مشتركة. لكن على مستوى الواقع العملي، تظهر الفوارق بوضوح؛ فمثلًا: جماعة الدعوة والتبليغ هي حركة إسلامية دعوية، لا علاقة لها بالعمل السياسي أو بالانتخابات، وما إلى ذلك، ولا علاقة لها بالحالة الجهادية، على الأقل من الناحية التنظيمية.

السلفية الوهابية التي أتحدث عنها تُصنَّف ضمن الحركات الإسلامية الدعوية، وفي الحالة المغربية مثلًا، وهي موضوع الكتاب الذي نتحدث عنه، وقد تجسّدت أساسًا في التيار الذي كان يقوده الشيخ محمد عبد الرحمن المغراوي في مراكش. وهذا هو الموضوع الذي اشتغلتُ عليه: تأثير هذا الخطاب؛ أي المنظومة السلفية الوهابية، على المجتمع والسياسات العمومية.

د. حسام الدين درويش:

إذا عدنا إلى التصنيف، نجد أنّك أدرجت السلفية ضمن التيار الدعوي، غير أنك تعلم أنّ هناك سلفية جهادية؛ فهل يمكن للسلفية أن تًنسب إلى أحد هذه التيارات الثلاثة التي تحدثت عنها؟

أ. منتصر حمادة:

طبعًا، السلفية الجهادية هي، في الأصل، تدينٌ سلفي وهابي، لكننا نعاين ظهور تيار جديد، يُسمّى "السلفية الحركية" التي كانت مرحلة وسطى نحو العمل الميداني، قبل بزوغ ظاهرة "السلفية الجهادية"، سواء في مرحلة سابقة مع تنظيم القاعدة، أو لاحقًا مع تنظيم داعش، انطلاقًا من أدبيات رموز السلفية الجهادية مثل: أبو محمد المقدسي، أبو قتادة، عمر عبد الحكيم الملقب بأبي مصعب السوري (صاحب موسوعة "المقاومة الإسلامية العالمية" التي تبلغ نحو 1600 صفحة، وأبو بكر الناجي (صاحب كتاب "إدارة التوحش" المترجم إلى لغات أجنبية منها الإنجليزية. هؤلاء هم رموز التنظير لما يُسمى "السلفية الجهادية"، التي كانت وراء أحداث 11 سبتمبر، ومجموعة من الاعتداءات التي ضربت المغرب، وجربة في تونس، السعودية، الأردن، ماليزيا (بالي)، ثم لاحقًا اعتداءات مدريد، لندن، فرنسا، وغيرها.

إذن، هذه سلفية وهابية، لكنها قتالية عملية وحركية جهادية. ما اشتغلت عليه في الكتاب هو السلفية الأولى، الدعوية الوعظية، المعترف بها من قبل السلطة، فقد قامت بأدوار معينة في زمن ما، لكنها بقيت بعيدة - كما قلت - عن النشاط السياسي الحزبي، وعن العمل القتالي أو الجهادي.

د. حسام الدين درويش:

هناك أسباب عديدة تدعونا إلى كتابة كتاب في هذا الموضوع. لكن ما الذي دفعك، انت تحديدًا، إلى اختيار هذا الموضوع؟ ولماذا رأيت أنه مهمٌّ، مفيدٌ وضروريٌّ، ومناسب لطرحه في السياق المغربي؟

أ. منتصر حمادة:

إحدى الإجابات نجدها في الفصل الثاني بعنوان: "مسؤولية المثقف والتحدي السلفي الوهابي". فقد لاحظتُ أن تعامل الكتّاب والباحثين والمفكرين – وأتمنى أن نكون منهم – مع هذه الظاهرة، على الأقل في الساحة المغربية أو المغاربية، كان متواضعًا أو قليلًا، بل نادرًا. هناك أعمال وكتب حول الإخوان وحول الجهاديين في المغرب، وفي المغرب العربي، وفي الوطن العربي عمومًا، لكن فيما يخصّ السلفية الوهابية، كان التعامل متواضعًا جدًّا لأسباب عدة؛ منها اعتبارات شخصية ومصلحية.

د. حسام الدين درويش:

لكن يبقى السؤال: ما الاعتبارات العامة التي يمكن أن تشجع القارئ على أن يرى في هذا الكتاب راهنيّة وأهمية، في الوقت الحالي؟

أ. منتصر حمادة:

لقد كانت لديّ بعض التأملات والملاحظات والنقاط والإشارات، ورغبة في أن أقدّمها للرأي العام، بما في ذلك صناع القرار، والباحثون والإعلاميون والرأي العام عمومًا.

وبالمناسبة، هذا الكتاب هو الثاني حول الموضوع نفسه؛ إذ سبق أن أصدرتُ سنة 2012 كتابًا عن دار توبقال بالدار البيضاء بعنوان "الوهابية في المغرب" (وكان العنوان الأصلي: "السلفية الوهابية في المغرب"، لكن اعتبارات تجارية دفعت إلى حذف مصطلح "السلفية" والإبقاء على "الوهابية"). ويبدو أن الكتاب حقق نجاحًا، حتى إنهم طلبوا منّي الاشتغال على موضوع آخر. لكن هذا ليس موضوعنا الآن.

هذا الكتاب الجديد هو تكملة للأول، وجاء انطلاقًا من ملاحظة وجود إقبال على الكتاب الأول. قلت: فلنتمم المشروع بالاشتغال على الظاهرة السلفية الوهابية، طبعًا من منظور نقدي. وهذا الحدث كان مفصليًّا؛ لأن قلة من الباحثين والكتّاب المغاربة كانت لهم الشجاعة في الاشتغال على هذا الموضوع بمنظور نقدي؛ وذلك لاعتبارات عدّة، منها الخوف من ردود الفعل. فكما تعلم، التعامل النقدي مع الحركة الإسلامية – بل حتى مع باقي الأيديولوجيات اليسارية والاشتراكية – أمر وارد، لكن في حالة الإسلاميين، فإنّ الحضور المقدَّس قويٌّ جدًّا، مما يجعل ردود الفعل ليست بالضرورة نقدًا معرفيًّا أو ثقافيًّا مضادًّا، بل قد تصل إلى الشيطنة، والشخصنة، والتكفير، وما إلى ذلك. ولا حاجة للتذكير بما جرى في حالات مشرقية في مصر، وسوريا، والعراق.

د. حسام الدين درويش:

طيب، إذا أردنا أن نعرّف القارئ بالسمات العامة التي تحدّد ماهية السلفية الوهابية في المغرب، وبالتالي تميّزها، فإنها بالطبع لا تُغني عن قراءة الكتاب، لكنها قد تشجع على قراءته. فما تلك السمات العامة، من وجهة نظرك؟ كما قلت: هناك تقاطع مع السلفيات الأخرى الدعوية، لكن ربما هناك خصوصية مغربية؛ إذ نستحضر هنا قول الجابري: "لكل بلدٍ خصوصيته".

أ. منتصر حمادة:

طبعًا، السلفية الوهابية في المغرب - مثل باقي السلفيات - تشتغل على الهمّ العقدي؛ أي سؤال العقيدة، خصوصًا العقيدة الطحاوية، وأدبيات ابن تيمية؛ فهذا الأخير شبه مقدس إن صح التعبير، كما أن الخميني شبه مقدس عند بعض الشيعة. فأغلبُ الجماعات لديها مراجع مبجّلة، حتى نتركَ التقديسَ جانبًا. وطبعًا، هناك الإمام أحمد بن حنبل، ورموز السلفية المشرقية الخليجية، وبالتحديد الإمام ابن باز، الشيخ العثيمين، وأبو بكر الجزائري. ترويج أدبيات هؤلاء الرموز حاضرٌ بقوة عند السلفية الوهابية في المغرب، حتى في الهندام وفي اللباس. فالسلفيون الوهابيون مختلفون عن الإخوان أو عن الصوفيين أو عن المغاربة بشكل عام، أو عن العرب. وفي العمل الميداني - كما قلتُ - هناك ما يُسمّى في المغرب "دور القرآن". هناك دور القرآن التقليدية؛ أي التعليم الأصيل، ولكن هناك أيضًا دور القرآن السلفية، وهي محسوبة على التيار السلفي. وطبعًا، السلطة تتابع الأمور، وهم يشتغلون بتراخيص، أو كما نقول "تحت الأضواء".

يمكن القول إن السلفية مهادِنة؛ بمعنى أنّها تشبه التيار المدخلي؛ فالسلفية المدخلية ليست في صراع مع السلطان على منصبه، ولا مع الحكومة، ولا مع صناع القرار، ولا مع أيّ حزب سياسي، إلا أنّها أحيانًا قد تكون لها مواقف نقدية تنطلق من القضية العقدية. كما نقول: "معركة النص". هذا كتاب صدر لأحد الباحثين في لندن. لكنهم يبقون بعيدين عن الاصطدامات، والاستجابات الأيديولوجية والسياسية والحزبية. إنهم يركزون على العمل الدعوي والوعظي والإرشادي في دور القرآن المرخّص لها، وبالمناسبة، أغلبها موجودة في الجنوب، خصوصًا في مراكش. وهناك نشاط أيضًا في العاصمة، حيث يقيم الشيخ محمد عبد الرحمن المغراوي، بالإضافة إلى مدن أخرى، مثل طنجة، وسلا قرب الرباط، ومدن أخرى.

د. حسام الدين درويش:

يمكن لإنتاج المعرفة عمومًا، ولا سيما في العالم العربي، أن يكون، من ناحية أولى، محفّزًا إيجابيًّا بأغراض معياريّة: "ما يجب أن يكون"، "نريد أن يكون هذا"، "لا نريد أن يكون ذاك"، "نريد أن ننتقد السلبيات ونحسّن الإيجابيات" ...إلخ. وربما لدينا الحوافز أكثر من غيرنا، لكي نكتب. ولكن، من ناحية أخرى، قد يؤثر هذا الخطاب المعياري سلبًا في موضوعية الوصف ودقة التحليل. ما رأيك؟

أ. منتصر حمادة:

بالمناسبة، لم يُقاطع النقد، بل حاول ممارسة النقد والتقويم والتقييم.

د. حسام الدين درويش:

من يقرأ الكتاب أو يطلِّع عليه، يرى أنّه، من ناحيةٍ أولى، يروم النزاهة المعرفية: أي أن يصف الواقع كما هو، وليس على طريقة صناعة "رجل القش"؛ أن أبني عدوّي على طريقتي، ثم أرمي سهامي عليه. في المقابل، لا يتوانى الكتاب عن المواجهة الصدامية مع السلفية. فأنت تحاول إعطاءها حقها في موضوعية الوصف، من دون أن تتردد في ممارسة النقد. ويتضمن خطاب الكتاب لغة صدامية وتحديًّا للسلفية، ولا سيما السلفية الوهابية. فكيف حاولتَ أن توازن بين هذين الأمرين: بين الموضوعية المعرفية - وهي جزء من مهنة الكاتب، في التعبير عن الواقع كما هو قدر المستطاع - والدور النقدي المعياري؟ وقد ذكرتَ أنّ هناك أحيانًا إحجامًا عن تناول هذه الموضوعات، ومع ذلك استخدمتَ لغةً نقدية صريحة وصدامية. فكيف وازنتَ بين بعدي الموضوعية المعرفية والسمة النقدية؟ ألا ترى أن هناك، أحيانًا، بعدًا ذاتيًّا مفرطًا أو ذاتويًّا في نصّك؟

أ. منتصر حمادة:

أتفق معك، وأزعم أنّ هذا السؤال أو الاعتراض الذي سمعته حول الكتاب مهمٌّ جدًّا. لا أنفي أنّ الاعتبارات الذاتية كانت حاضرة أثناء الاشتغال على الكتاب. طبعًا، كان هناك هاجس نقدي، ومواقف نقدية صريحة ضد المشروع السلفي، السلفي الوهابي، سواء كان دعويًّا سلميًّا، أو تقليديًّا، أو علميًّا كما اشتغلتُ في الكتاب. أما المشروع السلفي الجهادي، فهو مُصنَّف مع تنظيم القاعدة وداعش وباقي الجماعات الإسلامية القتالية. إذن الأسباب الذاتية حاضرة، ومنها المنظور النقدي، وأحيانًا لغة نوعًا ما صدامية. وهذا أمر صعب، وربما لم أنتبه في اللاوعي - حتى أكون صريحًا - إلى أهمية التوفيق أو أخذ مسافة ما بين الذاتي والموضوعي، هذا إضافة إلى أن الأصل هنا يحيلنا على قاعدة الحق في النقد والاعتراض. لكنني حاولتُ أن أُباعد بين الذاتية والأحكام المسبقة ضد المشروع. وكما أشرت سلفًا، الكتاب صدر منذ عقد من الزمن، والسياق الزمني آنذاك كان مؤثرًا جدًّا. فقد خرجنا من أحداث 2011، حين انتقل حزب النور السلفي في مصر من الدعوة إلى السياسة. وفي المغرب، أيضًا، ظهرت بعض الأسماء السلفية، دون أن تشتغل في إطار تنظيم معين، لكنها اتجهت إلى العمل السياسي. هذا السياق كان مؤثرًا في تحليل الكتاب. إذن حضور الذاتية وبعض الأحكام الطَبَاعية أمر لا يمكن إنكاره. وهذا يدخل في باب النقد، حتى إذا ما صدرت نسخة ثانية من الكتاب، فسوف تكون مزيدة ومنقحة تمامًا. وبالمناسبة، أكرّر شكرك على النقد.

د. حسام الدين درويش:

أشكرك على هذه الروح الطيبة في تقبل النقد. ودعني أقول هنا: في مسألة النقد، عادة تساعدنا اللغة العربية أكثر من اللغات الأخرى على التمييز بين "النقد" و"الانتقاد". ففي بعض اللغات الأخرى تستخدم الكلمة نفسها للدلالة على المفهومين، بينما في العربية نفرّق بوضوح: ﻓ "الانتقاد" هو ذكر السلبيات فقط. أما "النقد"، فيشمل الإيجابيات والسلبيات. ومن هذا المنطلق، أرى أن ما نحن بصدد مناقشته أقرب إلى أن يكون انتقادًا منه إلى كونه نقدًا.

أ. منتصر:

وهذا يعزّز سؤالك السابق. لديَّ رؤية نقدية. وبالمناسبة، أعتقد - وطبعًا لا أدافع عن خياري - أنّ العنوان كان صريحًا؛ فلم أقل مثلًا: "الظاهرة السلفية الوهابية: ملاحظات" أو "قراءات"، بل كنت واضحًا حين تحدثت عن نقد العقل السلفي.

د. حسام الدين درويش:

لذلك، فإنّ ما سُمِّي نقدًا هو، في رأيي، أقرب إلى انتقاد. ولحسن الحظ، تميز لغتنا العربية بين "النقد" و"الانتقاد": فكل نقد يتضمن انتقادًا، لكن الانتقاد قد لا يتضمن نقدًا بمعناه العميق. لكن إذا انتقلنا إلى مسألة أخرى، نجد أنّ المخاطرة تكمن في التعامل مع الحاضر؛ فالفكر أحيانًا يحتاج إلى مسافة زمنية كي تكتمل الرؤية، ولكن حينها قد يكون الأوان قد فات. فالتعامل مع الحاضر فيه مخاطرة. ومن لا يخاطر قد يتحول إلى ما يشبه المؤرخ الذي يتحدث بسهولة عن الماضي ويهمل الحاضر والراهن. وأنت ذكرت منذ قليل السياق التاريخي الذي نشأ فيه الكتاب، والسياق نفسه هو الذي دفعك إلى كتابة الكتاب في ذلك الوقت، بما في ذلك من مخاطر. أما الآن، وقد مضت فترة طويلة، على صدور الكتاب، إلى أي حد ترى أن المخاطرة كانت في محلّها لتناول الحاضر والآن؟

أ. منتصر حمادة:

فهمت هذا السؤال، وهو سؤال وجيه جدًّا، بدليل انه يزكي بعض الانطباعات والخلاصات التي توصلت إليها في مرحلة ما بعد صدور الكتاب، من خلال اللقاءات والحوارات وحتى انتقادات بعض الأسماء السلفية، التي زكّت بعض ما جاء فيه. وأذكر أنّ صحيفة مغربية تُسمّى السبيل، وهي نصف شهرية، خصص أحد الأساتذة صفحة كاملة فيها لنقد موقفي. وقد تعاملت مع ذلك بهدوء؛ إذ كنت أردّد دائمًا القاعدة النقدية المنسوبة إلى الإمام مالك: "كلٌّ يُؤخذ من كلامه ويُرد". وهكذا، أصبح الأمر بابًا للمراجعات على ضوء تلك الملاحظات النقدية. ولو افترضنا أنني سأصدر نسخة منقحة ومزيدة من الكتاب، فإنّ من بين الأمور التي سأركز عليها - والتي لم تكن حاضرة في النسخة الأولى- فتح قنوات الحوار مع المشروع السلفي الوهابي. وهذه نقطة أراها في غاية الأهمية، وعن قناعة، بل أراها أحد أهم مفاتيح التعامل مع هذه الظاهرة. فبدل المواجهة أو الصدام، تكمن الفائدة في التفاعل والحوار. هذا ليس خطابًا طوباويًّا مثاليًا، بل هو رأي متواضع آخذ فيه بالاعتبار حالة الاحتقان في المنطقة عمومًا، وليس في المغرب فقط. لا أرى أي مانع من الحوار مع أيّ طرفٍ.

د. حسام الدين درويش:

تأييدًا لرأيك من زاوية أخرى، أنا لا أعرف لماذا لا نحاور طرفًا طالما أنّه سلمي. فمن حيث المبدأ، أنت حرٌّ في أن تدعو إلى ما تشاء أو تعتقد بما تشاء طالما إنك لا ترغمني أو لا تستخدم العنف لفرض آرائك. وأنت تتناول هنا طرفًا دعويًّا لا يستخدم العنف، ولا الإكراه، فالحوار يبدو بديهيًّا.

أ. منتصر حمادة:

ربما كان العنف اللفظي موجودًا، وحتى في الكتابات، ولكنني أتحدث عن أرض الواقع، حيث تبنّي الحوار مع الخطاب السلفي هو الخيار الأفضل. والسؤال هو لماذا لم يكن هذا الخطاب حاضرًا في النسخة الأولى؟ لأن ذلك مرتبط بعدة أسباب؛ منها السياق المحلّي بوصفه خلاصة تجربتي المتواضعة في "الإسلاميات"؛ فالكتابة في الشأن الديني في المنطقة العربية عمومًا تشبه السير في حقل ألغام؛ سواء تناولت المؤسسة الدينية، أو الطرق الصوفية، أو السلفية، أو الإخوان، أو الجهاديين. ولهذا قد يُنظر إلى التفكير في الحوار على أنه طرح شبه مثالي، على خلاف ما قد يكون طبيعيًّا في السياق الأوروبي.

أحداث 2011 أكدت ذلك؛ إذ قبلها كانت هناك ظاهرة "الحوار القومي الإسلامي" بين الحركات الإسلامية وبعض التيارات السياسية القومية واليسارية، وكان رائجًا وعُقدت حوله مؤتمرات في سوريا والمغرب وغيرها. لكن بعد 2011 انتهى هذا المشروع، وظهرت الانقسامات والاتهامات المتبادلة، حتى بين الإسلاميين أنفسهم، جهاديين أو سياسيين. ومن هنا، يظهر أنّ مؤشرات الحوار في منطقتنا لا تزال متواضعة جدًّا. ولذلك خلصتُ بعد صدور الكتاب، إلى أننا بحاجة إلى تشجيع قنوات الحوار، ليس فقط حول موضوع الكتاب (السلفية الوهابية)، بل مع الجميع.

د. حسام الدين درويش:

طالما أنّ الآخر يعبّر بالكلمة، فالكلمة تُجابَه بالكلمة. وفي النهاية، أرى أنّ كتابك نفسه هو أحد أشكال الحوار الممكن، بكل ما أثاره من انتقادات. فالحوار لا يعني فقط أن أقول لك الأشياء التي تعجبك، أو ترضيك، بل إن انتقاداتك، هي بدورها شكل من أشكال الحوار، سواء كان شفهيًّا أو كتابيًّا أو غير ذلك. أما إذا عدنا إلى الانتقادات الأساسية التي وجّهت إلى السلفية الوهابية: ما هي هذه الانتقادات التي وجهتها؟ وهل طرأ أيّ تغير من وجهة نظرك بشأنها؟ بمعنى: هل كانت أقلّ من اللازم، أم أكثر من اللازم؟ وهل تم تعديل سلوك هذه الجماعات أم لا؟ فما أهم السلبيات أو الانتقادات الموجهة إلى السلفية الوهابية في المغرب؟

أ. منتصر حمادة:

ربما يكون أهمها موضوع ترويج نمط التدين المعروف في منطقة المغرب، وهو نمط متشدد أو متصلب.

د. حسام الدين درويش:

بأي معنى؟ هل في التعامل مع الآخرين، أم في الأخلاق، أم في الخطاب؟

أ. منتصر حمادة:

لنقل في ملابسهم، وهم أحرار. لكن في الخطاب ثمة مشكلة، بدليل أن نبرة الخطاب السلفي الوهابي، تحديدًا، هي المشكلة. فالخطاب عندهم على شفا حفرة من التكفير، ويعج بالتضليل والشيطنة، ومواقف من هذا النوع، وهذه معضلة نجدها عند العديد من الإسلاميين، بمن فيهم أتباع المرجعية الإخوانية.

لنأخذ مثالًا بسيطًا: المغرب ليس استثناءً، بل شمال إفريقيا بشكل عام، حتى مصر والسودان، حيث نمط التدين فيها هو نمط متأثر بالتراث الصوفي، حتى غاية السنغال التي رئيسها الحالي من الطريقة التيجانية. وكذلك موريتانيا، المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، ومصر أيضًا؛ فالأولياء الصوفيون فيها بعضهم مغاربة، وكذلك السودان. كل هذا كان قبل مجيء الصحوة الإسلامية، وقبل الوهابية والسلفية، وقبل الإخوان.

لكن ما جرى مع التدين السلفي الوهابي، الذي أصله من شبه الجزيرة العربية، أنه جاء سواء في العقيدة أو السلوك أو المذهب بخطاب مضادّ أو مصادم مع هذا الميراث الإسلامي الصوفي السني الأشعري. في المغرب يُسمَّى هذا التدين منفتحًا ووسطيًّا ومعتدلًا، وقد حظي بعد أحداث 11 سبتمبر بالاهتمام وتسليط الأضواء. وهناك تقرير "راند" الشهير الذي دعا إلى الدفاع عن التصوف وترويجه في مواجهة خطاب أسامة بن لادن وخطاب السلفية.

إذن، هذا النمط من التدين السلفي الوهابي المتشدد والمتصلب كان يصادم التدين الذي نشأنا عليه في المغرب والمغرب العربي. وهذه أهم المؤاخذات، وخصوصًا في الخطاب. وحتى في المنابر الإعلامية، وفي الأدبيات السلفية، نجد عناوين من قبيل: "الرد على كذا"، "الرد على الشيعة"، "الرد على الصوفية". هذه النزعة الصدامية في العناوين والمضامين تسببت لنا في مشاكل كثيرة.

د. حسام الدين درويش:

وأنت اقتديت بهم، ورددت عليهم بالأسلوب نفسه.

أ. منتصر حمادة:

هذا عمل متواضع، بما له وما عليه. وبخصوص سؤالك المهم، والراهن اليوم، عن المشهد السلفي بعد هذه الحقبة الزمنية، أعتقد أن البعض لم ينتبه إلى أن المنطقة تمر بتحولات جيوسياسية. بالنسبة إلينا في المغرب والمغرب العربي، كان أحد أسباب انتشار التدين السلفي الوهابي اعتبارات محلية، مثل استغلال السلطة له في إطار الصراع مع اليسار وغير ذلك. لكن أيضًا كان هناك اعتبار إقليمي وجيوسياسي.

لقد تحدثتُ في كتابي عن "تصدير السلفية الوهابية". على سبيل المثال، في سنة 2014 أقرت وزيرة الخارجية الأسترالية أن حوالي 150 شخصًا خرجوا من أستراليا إلى سوريا، وكان ذلك نتيجة عقود من تصدير السلفية الوهابية. لكن منذ منعطف يونيو 2013، وأحداث رابعة، والثورة الثانية في مصر التي أسقطت الإخوان، جرت مراجعات في الدول التي كانت تحتضن أو تروّج للمشروع السلفي الوهابي. قامت هذه الدول بما يسمى "المراجعات"، وبالتالي تم الحدّ من هذا المشروع. وعلى المستوى الإقليمي، لم تعد هناك ظروف تصب في مصلحته، بل بالعكس، هناك طلاق نهائي مع هذا المشروع، وأصبح الترويج لمشاريع فنية أو رياضية أو ترفيهية أو سياسية لا علاقة لها به.

إذن، السياق الجيوسياسي في المنطقة العربية لا يخدم السلفية الوهابية في المغرب. ونتيجة ذلك أن الخطاب السلفي تراجع كثيرًا في الساحة المغربية. هو لا يزال حاضرًا، لكن ليس كما كان. وأعطيك معطًى آخر من معرض الكتاب: منذ نحو عقدين مُنع تداول بعض كتبهم، وكان ذلك في الدار البيضاء وليس في الرباط. ومن بين ما كان يميّز القسم المخصّص للكتب الدينية آنذاك، هو حضور دور النشر التي تشتغل على التراث، خصوصًا تلك المحسوبة على التيار السلفي الوهابي. أمّا في السنوات الأخيرة، فقد أصبح هذا الحضور متواضعًا جدًّا، إن وُجد أصلًا. وهذا مثال بسيط يُعدّ مؤشرًا على تراجع الخطاب السلفي.

د. حسام الدين درويش:

جزء من تناول الحاضر في كتابك متعلق خصوصًا بما بعد الربيع العربي. فكيف رأيت أو قيّمت ممارسات السلفية في ذلك الربيع؟ فللربيع العربي أبعاد اجتماعية واقتصادية، وكذلك السلفية بوصفها، مثل الربيع العربي، حركة أو ظاهرة سياسية. ومع ذلك هي دعوية، فما الرابط النظري والعملي بين الطرفين: السلفية الدعوية والربيع العربي؟

أ. منتصر حمادة:

أتفق معك، هناك عدة أمثلة، وسؤالك يبدو مركبًا من سطرين أو ثلاثة، حسب اعتقادي، لكن في تفاصيله سؤال ضخم. ولكي لا أطيل، سأكتفي بنموذجين لتغذية ما أريد أن أقوله في الجواب.

السلفية الوهابية في المغرب وفي مصر انقسمت إلى تيارين اثنين على الأقل. نبدأ بالحالة المصرية، تحدثنا عن السلفية الوهابية الدعوية والسلفية الوعظية الإسلامية. أما في المغرب، فالنموذج الأول: السلفية الوعظية التقليدية، التي تفرعت إلى تيارين اثنين؛ التيار الأول بقي في العمل الوعظي فقط، دون أي علاقة بالعمل السياسي أو الانتخابات وما إلى ذلك. التيار الثاني هو الذي كان مفاجأة، وهو ما يعرف بالسلفية الإسكندرانية التي أنجبت حزب النور. حزب النور إلى جانب الإخوان المسلمين، وبمقتضى انخراطه في العمل السياسي الحزبي، أصبح مصنَّفاً ضمن حركات الإسلام السياسي الممارسة للعمل السياسي الشرعي، حسب الخطاب الإخواني. بذلك، أصبح حزبًا إسلاميًّا جديدًا، بمرجعية سلفية. وهذا يمثل التحول الأول في تعامل التيار السلفي مع أحداث الربيع العربي.

د. حسام الدين درويش:

هناك حديث عن المراجعات في الكتاب.

أ. منتصر حمادة:

طبعًا، خاصة مع بعض الرموز الجهادية في مصر، سواء مع الجماعة الإسلامية أو جماعة الجهاد، التي كانت مرتبطة بأيمن الظواهري. نتحدث عن الفترة قبل 2011، حيث كانت هناك مراجعات، وأصدر هؤلاء سلسلة كتب بعنوان "نهر الذكريات"، تتضمن أربعة عناوين، من بينها كتاب شهير بعنوان "تنظيم القاعدة: الأخطاء والأخطر". وحرّر هذه كتب رموز الجماعة الإسلامية، مثل: أكرم زهدي وناجح إبراهيم إلى آخره، هم تسعة رموز. هؤلاء كانوا جهاديين سابقًا، لكنهم قاموا بمراجعات وألفوا كتبًا قبل 2011. ما الذي جرى بعد 2011 وأحداث ما سُمّي بالربيع العربي؟ انقسم تيار المراجعات إلى تيارين؛ كما حدث مع التيار الوعظي السلمي التقليدي أو العلمي. التيار الأول بقي مصرًّا على المراجعات، رغم أنه كما تعلمون، بعد الربيع العربي، أصبح البعض يحلم بالخلافة، بين قوسين، ونُظم في تونس بعد هروب بن علي، أكبر مؤتمر لحزب التحرير الذي مقرّه في لندن، والذي يدعو صراحة إلى إحياء الخلافة.

د. حسام الدين درويش:

لكنه سلمي.

أ. منتصر حمادة:

طبعًا، سلمي. على الرغم من هذا الإغراء وما جرى في مصر، صعود الإخوان وفوزهم، وفوز الرئيس مرسي، والفضائيات والقرضاوي وما إلى ذلك، رغم هذه الحماسة الدينية، بقي تيار المراجعات مُصرًّا على تبني المراجعات، وبالتالي ابتعد بشكل نهائي عن الخطاب الجهادي. ويعدّ ناجح إبراهيم أحد أهم رموزه، ولديه كتب، بالمناسبة لدي كتاب صدر عن دار مدبولي، بالاشتراك مع هشام النجار، مخصص لنقد المشروع الداعشي، هذا هو التيار الأول. أما التيار الثاني، فقد ارتدّ عن المراجعات، وعاد إلى خطاب ما قبل المراجعات؛ أي إلى الخطاب السلفي الجهادي، وتأثر بالحماسة الدينية. والحديث هنا أستاذي حسام الدين عن نموذجين اثنين حول بعض التحولات أو بعض التفاعلات للتيار السلفي في شقه التقليدي العلمي/الجهادي القتالي مع أحداث 2011.

د. حسام الدين درويش:

شكرًا جزيلًا. سأنتقل من الحديث عن الكتاب إلى الحديث حول الكتاب؛ دعني أذكر لك ملاحظة للتفاكر، وهي قابلة للمراجعة، وأرجو منك أن تصحح لي ما يبدو لك أنه فهم غير دقيق مني. إذا كان هناك دولة يمكن أن تسمى في العالم العربي دولة دينية، أو دولة إسلامية، فهي المغرب. وإذا كان هناك بعد ديني في الحياة السياسية للدولة، فهو في المغرب. يبدو أن الدين حاضر، أو أن الإسلام هنا حاضر بطريقة أو بأخرى، عند الحاكم أو الملك أو العاهل، عند، وحتى عند التيارات الصوفية والزوايا، وفي الإسلام السياسي.

أ. منتصر حمادة:

حتى في المسابقات القرآنية المغاربة يشاركون، والملك هو أمير المؤمنين.

د. حسام الدين درويش:

تمامًا، هو أمير المؤمنين والبركة وصاحب نسبٍ دينيٍّ، ويمكن أن يمنح البَرَكة ... إلخ. وحتى بعض الأحزاب السياسية لها بعد ديني/ إسلامي.

أ. منتصر حمادة:

يُلقب المغرب ببلد الأولياء، والمشرق ببلد الأنبياء.

د. حسام الدين درويش:

في ظل هذا الحضور القوي للدين، وهنا لا أقيّم هذا الحضور من حيث كونه إيجابيًّا أو سلبيًّا، إلى أي حد تتفق مع الجابري في قوله إن مسألة العلمانية ليست مطروحة أو ليست مهمة، وأنه ينبغي استبعادها من مفردات قاموس الفكر القومي العربي؟ يبدو أنه ثمة مفارقة، في هذا الخصوص: حضور هائل للدين يقابله استبعاد لخطاب العلمانية. كيف تفسر هذه المفارقة؟

أ. منتصر حمادة:

رحم الله الجابري، فقد كان يرفض الخوض في العلمانية، ويفضل الحديث عن الديمقراطية والعقلانية. وأعتقد أنه كان على صواب؛ فالملك هو أمير المؤمنين، والحضور الديني في المغرب، حاضر عبر الطرق الصوفية والحركات الإسلامية، كما أنّ المجتمع متديّن بشكل واضح، يظهر مثلًا في صلاة التراويح خلال شهر رمضان، حيث تمتلئ المساجد بمشاهد تكاد تقترب من الخيال العلمي، إن صحّ التعبير. ومن هنا، فإن الخوض في موضوع العلمانية في الساحة المغربية، يكاد يكون من باب الترف الفكري، وفي هذه الجزئية بالتحديد، كان الجابري ذكيًّا، حين دعا الباحثين والفرقاء السياسيين وغيرهم، إلى أخذ مسافة من الاشتغال على موضوع العلمانية.

الغريب أنّه في المنطقة العربية، وخاصة بعد أحداث 2011، كانت هناك فورة كمية ونوعية في إنتاج الكتب حول العلمانية؛ إذ صدرت كتب عديدة عن مؤسسات مثل مؤسسة مؤمنون بلا حدود، الشبكة العربية للدراسات، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فضلًا عن دور نشر عربية خليجية مشرقية وسورية، وهذه ظاهرة تستحق وحدها الدراسة.

د. حسام الدين درويش:

إذا عدنا إلى السؤال: هل من المعقول الحديث عن علمانية في المغرب؟ لماذا؟ وكيف يمكن تفسير رفض هذا النقاش، في ظل الحضور القوي للدين بهذا الشكل؟

أ. منتصر حمادة:

إنّ أحد المفاتيح العملية، لا النظرية، هو أنّ الملك في المغرب ليس فقط أمير المسلمين، بل أمير المؤمنين جميعاً؛ إذ يشمل هذا الإطار حتى غير المسلمين. والدليل على ذلك وجود طائفة يهودية في المغرب، بل إنّ أحد مستشاري الملك يهودي، إضافة إلى أنّ بعض المهاجرين الأفارقة اليوم من المسيحيين. وهذا ليس مجرد صدفة؛ فالمغرب هو البلد المسلم الوحيد في محور طنجة- داكار الذي زاره بابا الفاتيكان في مناسبتين: الأولى مع البابا يوحنا بولس الثاني في عهد الملك الحسن الثاني، والثانية مع البابا فرنسيس الذي توفي قبل يومين. والمغرب هو تقريباً الدولة المسلمة الوحيدة التي استقبلت البابا مرتين؛ ربما فقط البحرين والإمارات فعلتا شيئًا مشابهًا. السبب في ذلك لا يعود إلى سلطة سياسية عابرة، بل إلى كون الملك، كما ذكرت، يحمل سلطة دينية بصفته "أمير المؤمنين"، وهي سلطة تمتدّ إلى حماية غير المسلمين أيضًا. ومن ثَمّ، فهناك ممارسة علمانية نوعًا ما في هذا اللقب، ممّا يجعل العلمانية غير مطروحة للترويج أو التنظير لها في المغرب.

د. حسام الدين درويش:

إذن، أنت ترى أنّ لا حاجة للحديث عن العلمانية أو التنظير لها أو التحزّب لها في المغرب؟

أ. منتصر حمادة:

أنا مع طرح محمد عابد الجابري، رحمه الله، الذي كان في رأيي مفكرًا ورجلاً صاحب رؤية، وكان مستبصرًا. المغرب في غنى عن هذا النقاش حول العلمانية، والأفضل هو التركيز على قضايا العقلانية، والخصوصية، والديمقراطية.

د. حسام الدين درويش:

سأختم بسؤال أخير: ما بعد هذا الكتاب، ما الآفاق المقبلة؟ في ماذا تبحث؟ ما الذي تهتم به حاليًّا؟

أ. منتصر حمادة:

أشتغل على نقد أنماط التدين، خاصة: النمط الإخواني، الجهادي، والسلفي. لكن هناك أيضًا نمط من التدين يستحق أعمالًا نقدية، ليس الانتقادية بل النقدية، وفق مقاربة تبرز ما له وما عليه على حد تعبيرك، وأنا أتفق معك وأشكرك مرة أخرى على ملاحظاتك النقدية التي استفدت منها. السلفيون ينتقدون نمط التدين الصوفي أو ما يسمى بالعمل الصوفي أو الخطاب الصوفي، غير أن الأعمال النقدية حول هذا الموضوع قليلة جدًّا، باستثناء ما يصدر عن التيار السلفي من ردود على الصوفية والطرقية والقبورية. لديّ عمل أنجزت ثلاثة أرباعه تقريبًا، وسأعلن عنه لاحقًا.

د. حسام الدين درويش:

نتطلع إلى عملك، وأتمنى لك كل التوفيق. السؤال الأخير: حدّثني عن علاقتك بمؤسسة "مؤمنون بلا حدود"؟

أ. منتصر حمادة:

أنا تشرفت بأن أكون من النواة المؤسسة. أذكر أنّ البداية كانت سنة 2012 أو 2013 تقريبًا، حيث جرى أول لقاء في إحدى المقاهي خلف مسرح محمد الخامس، أكبر مسرح في الرباط، ثم كان اللقاء الثاني في أحد فنادق العاصمة. وبعد ذلك مباشرة جُهّز المقر الرئيس الأول وسط الرباط قرب محطة القطار، قبل أن يُنقل لاحقًا إلى حي أكدال. وكان شرفًا لي أن أكون من مؤسسي مشروع بحثي يحمل همومًا إصلاحية. شأنه شأن كل المشاريع، له ما له وعليه ما عليه. وأذكر جيّدًا حسرة العديد من الأصدقاء على ما واجه المؤسسة من صعوبات، سواء بسبب بعض الخلافات أو المشاورات التي جرت. لكن هذه أمور طبيعية جدًّا. وكما قلت قبل قليل، كان الحوار مع الآخر مهمًّا. والتجربة، الحمد لله، أفادتني كثيرًا. فقدّمت ما استطعت تقديمه مع الأصدقاء، سواء في العمل البحثي أو الإداري؛ وذلك لمدة سنتين تقريبًا.

د. حسام الدين درويش:

لديك العديد من المقالات والأبحاث المنشورة مع مؤسسة مؤمنون بلا حدود.

أ. منتصر حمادة:

صحيح أنّني لم أنشر سوى كتاب واحد، لكنني نشرت مقالات ودراسات عديدة، وساهمت في مواد بحثية مختلفة. كما تواصلنا مع باحثين مغاربة وعرب للمشاركة إمّا في ندوات، أو عبر استكتاب كتب، أو ضمن أشغال المؤتمر السنوي الذي كانت تنظّمه المؤسسة في مراكش أو المحمدية أو مدن أخرى. لقد أنجزت المؤسسة أعمالاً بحثية تستحق التنويه، رغم ما لها وما عليها، شأنها شأن باقي المؤسسات البحثية في العالم العربي.

د. حسام الدين درويش:

شكرًا جزيلًا، وباسمي وباسم "مؤمنون بلا حدود" أشكرك على هذا اللقاء، ونأمل أن يكون هناك لقاءات مستقبلية أخرى.