تقديم كتاب "تاريخ الزّمن الراهن عندما يطرق المؤرّخ باب الحاضر" للدكتور فتحي ليسير


فئة :  قراءات في كتب

تقديم كتاب "تاريخ الزّمن الراهن عندما يطرق المؤرّخ باب الحاضر" للدكتور فتحي ليسير

صدر عن دار محمد علي للنّشر، وفي طبعة أولى (صفاقس – تونس 2012) كتاب في علم التاريخ الجديد بعنوان "تاريخ الزمن الراهن عندما يطرق المؤرخ باب الحاضر" للأستاذ فتحي ليسير، أستاذ التاريخ المعاصر بالجامعة التونسيّة، ويعمل حاليّا مدرّسا في قسم التّاريخ بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة في صفاقس.

ورد الكتاب في مائة وستّ وسبعين (176) صفحة من القطع المتوسطة، وحوى مقدّمة وثلاثة أبواب وخاتمة.

حوى الباب الأوّل ثلاثة مباحث، انتظمت تحت كلّ مبحث فصول وعناوين فرعيّة، وحوى الباب الثاني مبحثين قسّما إلى فصول وعناوين، فيما حوى الباب الثالث ثلاثة مباحث بفصولها وعناوينها. وذيّلت الأبواب كلّها بخاتمة وملاحق هي نصوص لمؤرّخين معاصرين غربيين في الغرض لكلّ من فرنسوا بيداريدا وروني ريمون وهرفي كوتو – بيغاري وفرنان بروديل. عرّبها المؤلّف بنفسه، ثمّ ختم الكتاب بقائمة مراجع طويلة تحت عنوان توجيهات ببليوغرافيّة باللسانين العربي والفرنسي.

في المقدّمة الواقعة بين الصفحات (7-11) يذكر المؤلّف أنّ اندلاع الثّورة في تونس كان إيذانا بـ"دخول التّاريخ بقامته الفارعة وهامته الأسطوريّة بيوت النّاس وغرف نومهم عبر الفضائيّات ووسائل الاتصال الحديثة" (ص7)، وكان ذلك عنده

مدعاة إلى أن يصبح التاريخ ليس ذلك الماضي الذي يروي، بل أن يصبح "هذا الحاضر الباذخ الذي يتابعه الناس بعيون شاخصة" (ص7)، بل لقد انتاب المشاهدين إحساس بأنّهم يشاهدون الراهن، وهو يتحوّل أمام عيونهم إلى تاريخ، في الوقت الذي يسجّل فيه ندرة المتخصّصين في تاريخ الزمن الرّاهن الذي أطلق عليه المؤلّف اسم التّاريخ ، هذا فضلا عن عدم توافر المكتبة التّاريخيّة العربيّة اليوم على مرجع حول تاريخ الزمن الرّاهن المعتبر ممكنا، بل ضروريّا. في الباب الأوّل الذي جاء تحت عنوان: كلام جديد في قطاع أسطوغرافي قديم ( ص ص 14-55) بحث المؤلف أسباب التهميش التي لقيها تاريخ الزمن الرّاهن أو التاريخ الفوري أو التاريخ القرين، منذ أن أصبح علما مع نهاية القرن التاسع عشر، وقبل أن يعاد إليه الاعتبار مؤخّرا مع مفتتح القرن الحادي والعشرين. وعزا ذلك إلى جملة من التحفظات، لعلّ أهمّها ما تعلّق بتهيّب المؤرّخين الأمريكيين من " الخوض في التاريخ الأمريكي لما بعد الحرب العالميّة الثانية، لا سيما حرب كوريا وحرب فيتنام، فاسحين المجال للصحفيين وعلماء السياسة للكتابة في تاريخ الفترات الفارقة والتركيز على أهمّ الفاعلين فيها" (ص 18).

وإزاء هذه التحفظات أمكن للمؤلف رصد موقفي مدرستين تاريخيتين كبيرتين من التدوين التاريخي الراهن، هما؛ المدرسة المنهجيّة الوضعانية (في القرن 19 م)، ويتمثّل موقفها في "أنّ مهمة المؤرّخ تتمثّل أوّلا وأخيرا في البحث في الماضي بالمعنى الحصري: (ص 19)؛ ومدرسة الحوليات، ويقوم موقفها على الاهتمام الكبير بالحاضر في ربط محكم بينه وبين الماضي، باعتبار الغاية من البحث التاريخي جلاء الحاضر وتوضيحه" (ص 22).

وعزا المؤلّف الفضل في الانفتاح على التاريخ الساخن إلى علمين من مدرسة الحوليات، هما مارك بلوك (رأس المذهب) وفرنان بروديل. غير أنّ هذا الانفتاح لم يدم طويلا إذ سُجّل تراجع ملحوظ مع الجيل الثاني لمدرسة الحوليات، وتحديدا مع بروديل نفسه. ولذلك تساءل المؤلف عن أسباب تحوّل الموقف من التاريخ الجديد والتأخّر النسبي في إعادة الاعتبار له؛ فرأى الأسباب كامنة في "المتغيرات الكبيرة التي طرأت على العالم في نهاية ثمانينيات القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين". (ص 27)

لقد أوجبت هذه المتغيّرات مجتمعة رفع الحصار على تاريخ الزمن الراهن، وشاع في المقابل مصطلح "تسارع إيقاع التاريخ (...)؛ حيث أصبح التنبؤ بالمسار الذي سيتخّذه التاريخ أصعب من أيّ وقت مضى" (ص27)

والحاصل، أنّ مصداقيّة مؤرّخ التاريخ القريب قد تعزّزت بعد أن اتّضح للجمهور المتابع (...) أنّ حضور المؤرّخ المتخصّص من شأنه أن يساعد على استخلاص النواة الصلبة للحوادث من شوائب التقلّبات الطارئة" (ص 28)

وتحت عنوان عودة التاريخ السياسي وتجدّده، عزا المؤلّف عودة هذا التاريخ الجديد (مدرسة الحوليات) إلى سياق ابستمولوجي فعلي، بلوره إدغار موران في عدد من أعماله، وتمثّل في عودة فلسفة الذات بديلا عن فلسفات الريبة ونظريات الفعل التي حلّت محلّ حتميّة علاقات الإنتاج. وانتهى المؤلّف إلى "أنّ الأمر المهم والأصيل بالنسبة إلينا هو أنّ العودة إلى تاريخ السياسة والتاريخ السياسي قد لعبت دورا مركزيا من الناحيتين العلمية والفكرية في دعم تاريخ الزمن الراهن". (ص 32)

وسجّل في الفصل الثالث من هذا الباب تصريحا للمؤرخ الفرنسي روني ريمون (5 أفريل 2006)، يؤصّل به التاريخ الراهن في المشهد الأسطوغرافي الجديد "إنّ المعركة من أجل توسيع حقل التاريخ ليشمل الحاضر قد تمّ كسبها" . (ص 32)

لقد أنهى المؤلّف المبحث الأوّل من الباب الأوّل بما يؤكّد "أنّ تاريخ الزمن الرّاهن استوى قطاعا أسطوغرافيا مستقلا له طرائقه ومتخصّصوه، تعقد له المؤتمرات، وتؤلّف له الكتب وتبعث المنابر وتؤسّس المجلاّت والجمعيّات". (ص 34) لكن هذا الاعتراف لم يخل عنده من صعوبات وعوائق تقصّاها المؤلف في المبحث الثاني من الباب الأوّل الذي جاء تحت عنوان مماحكات حول التسمية والتعريف؛ فبحث المؤلف تعدّد تسميات الجزء الأخير للتاريخ المعاصر أو تاريخ القرن العشرين واستتباعاته ليجلي تسميات من قبيل الزمن الرّاهن والتاريخ الساخن أو الفائر والتاريخ الفوري والتاريخ الآني والتاريخ القريب histoire proche والتاريخ قريب العهد H. récente. هذا في الغرب أمّا عند العرب، فإنّ استخدام عبارة التاريخ المعاصر أمر حديث الشيوع (...) ويعتبر عبد الله العروي من المؤرّخين القلائل الذين استوقفهم تاريخ الزمن الرّاهن فآثر عبارة "التاريخ الفوري حينا والتاريخ اللحظي حينا آخر"، وكان له موقف واضح في رفض هذا الضرب من التأليف التاريخي الذي نعته بتاريخ الصحفيين" (ص37) وعرض المؤلّف إثر ذلك للفوارق الدقيقة في المصطلحات الجارية، وما ارتبط بها من الدلالات والمعاني ليسجّل أنّها أخذت في الامّحاء مع التبدّلات الجارفة التي عصفت بالعالم في منتهى القرن العشرين، وأنّ "الإجماع ينعقد اليوم على اعتبار سنة 1989 نقطة النهاية للفترة التي دعيت على مدى خمسين سنة بالزمن الراهن" (ص 41)

انشغل صاحب الكتاب في الفصل الثاني من المبحث الثاني (ص ص 42-45) بالنظر في حدّ تاريخ الزمن الرّاهن، ليؤكّد أنّ تاريخ الزمن الراهن هو أوّلا وقبل كلّ شيء تاريخ خاضع لمراقبة الشهود. وختم هذا المبحث بسؤال صاغه على النحو التالي:"من ينتج هذا التاريخ، من يكتب هذا التاريخ الإشكالي مؤرّخ اللحظة أم صحفيّ الماضي"؟ (ص 46)

في المبحث الثالث من هذا الباب الموسوم بتاريخ الزّمن الرّاهن في الصحفي الاستقصائي والمؤرّخ المحترف، يذكّر المؤلف بأنّ نهاية القرن 19 قرن العلوم، قد شهدت مهننة كلّ من المبحث التاريخي والفعل الصحفي (...)؛ أي أصبح المؤرّخون محترفين، وكذا الصحفيّون و"تناظرت الفترة المذكورة مع تحوّل التاريخ إلى علم مستقل وقائم بذاته له حقله الخاصّ ومنهجيّته الدقيقة" (ص 47) رغم ذلك ظلّ المؤرّخون المحترفون يستخفون بالإنتاج الصحفي ذي الصبغة التاريخيّة، فقد ظلّ الرأي دائما "أنّ التاريخ بارد والصّحافة حارّة" (ص 47)، وهكذا استبان للمؤلّف أن بين الصحافة والتاريخ تقاطعا لا اختلاطا، وأنّ مجالات التكامل بين الصّحفي والمؤرّخ ممكنة، إذ الصحافة مسوّدة التاريخ الأولى، على أنّ التماهي بين النشاطين مستحيل، إذ يظلّ المؤرّخ مؤرّخا، والصحفيّ صحفيّا، ويختم المؤلّف هذا الباب بالقول:"وحده المؤرّخ يستطيع أن يضفي على وقائع الراهن وحوادثه سمكا تاريخيّا بفضل ثقافته التاريخيّة العميقة المتنوّعة" (ص 57)

في الباب الثاني الذي يمتدّ بين الصفحات (65-108)، بحث المؤلف إشكاليات تاريخ الزمن الراهن وخصوصياته نظرا إلى ما أثارته معالجة تاريخ الزمن الراهن من اعتراضات واحترازات، حتّى بعد اقتحام المؤرّخين هذا الحقل الاشكالي. وقد أمكنه حصر اعتراضات المناوئين لهذا التخصّص في أربع نقاط هي بمثابة عقبات تدور على مسألة القرب؛ أي عدم اتّخاذ مسافة من الأحداث أطلق على الأولى منها مصطلح "البِدونات الأربعة" تماشيا مع حدّ بعضهم للتاريخ الراهن بكونه من دون موضوع ومن دون قواعد ومن دون تعريف. وأضاف مؤرخون أخر "بِدُونات/من دونات" أخرى من قبيل من دون مصادر أرشيفيّة. من دون مسافة زمنيّةّ، من دون موضوعيّة، من دون اكتمال حلقات."

وعرض تحت هذا العنصر أربعة مطاعن لمنتقدي التاريخ الراهن ومناوئيه، وهي:

1.غياب المسافة الزمنيّة.

2.التعاطي مع تاريخ غير منته أو غير مكتمل الحلقات.

3.تعذّر الاطّلاع على المصادر الأرشيفيّة.

4.قضيّة الموضوعيّة.

ثمّ ثنّى بردود المشتغلين في هذا القطاع على هذه المطاعن الأربعة، تحت عنوان "اعتراضات وتحفظات لا تحول دون الاشتغال على تاريخ الزمن الرّاهن، فعرض ردّ هؤلاء على المطعن الأوّل بالقول: "قضيّة المسافة تبقى نسبيّة في نهاية المطاف" (ص 71)

وعلى المطعن الثاني بالقول: "إنّ البناءات التاريخيّة مهما بلغت من الإتقان والكمال توثيقا وصياغة فإنّها تظلّ في النهاية بناءات وقتيّة، وعلى المطعن الثالث بالقول: "إنّ الوثيقة غير موجودة في حدّ ذاتها بشكل مسبق عن تدخّل المؤرّخ".

وعلى المطعن الرابع بالقول: "إنّه لا توجد موضوعيّة وإنّما توجد تأويلات، ولا توجد وقائع، إنّما توجد تصوّرات". (ص 78)

في المبحث الثاني من هذا الباب، الوارد تحت عنوان: خصوصيات تاريخ الزمن الراهن بين الجديد منها والمتجدّد (ص ص 80-108) عزا المؤلّف هذه الخصوصيات إلى اللخبطة العامّة التي ميّزت بداية الألفيّة الثالثة، وفصّل فيها القول تفصيلا في حديثه عن المكوّنات الأساسيّة لتاريخ الزمن الرّاهن وبالذاكرة "وما أدراك ما الذاكرة "لأنّها تعود في الغالب إلى التاريخ الجارية وقائعه" (ص 80)

وثانيها الشاهد، هذا العنوان الأسطوغرافي القديم المتجدّد والمتميّز بوجود فاعليّة وشهود على قيد الحياة.

وثالثها: وقد وضع تحت عنوان: من السياسة إلى السياسي والعودة إلى الحديث، قد عالج فيه ثلاث قضايا، هي: قضيّة مصطلح العودة إلى السياسة، وقضيّة اللبس بين التّاريخ القريب والتاريخ السياسي، ثمّ قضيّة اختزال التاريخ السياسي في الحدث.

أمّا رابع المكوّنات الوارد بعنوان المؤرّخ الخبير: دور جديد لمؤرّخ اليوم؛ فيرى المؤلّف أنّ الدّاعي إلى وجود هذا الضرب من المؤرّخين فيه هو"ما عرفته العلاقات بين المؤرّخين والمجال العمومي من تغيّرات خلال السنّوات الأخيرة ... ومن شأن هذه التغيّرات أن تنيط بالمؤرّخ وظيفة اجتماعيّة جديدة، حتّى صار قدر مؤرّخ الزمن الراهن هو الاشتغال على حقول أسطوغرافيّة جدّ حسّاسة، حقول تقع في ملتقى كلّ من السلطة والمجتمع والعلم". (ص 96)

وقد أدّى هذا الاجتماعي المتعاظم في نظر صاحب الكتاب إلى "خلط في الأدوار إذ صار القضاة مؤرّخين، ويطلب من المؤرّخين اليوم أن يصبحوا قضاة" (ص 104)

في الباب الثالث: مصادر تاريخ الزمن الراهن: صعوبة تدبّر الوفرة (ص ص 109-158) يقرّر المؤلّف ثلاث ملاحظات تأطيريّة، أولاها "أنّ مصادر تاريخ الزمن الراهن سواء المكتوب منها أو المطبوع المصوّر أو السمعي البصري لمن الوفرة؛ حيث خلقت مشاكل عويصة للباحثين وجعلت التصرف فيها (...) اختبارا مكدّا بقدر ما هو مرهق، وأنّ السيطرة على الكم الهائل من المادة المصدريّة لهو من أبرز التحديّات التي تعترض الباحث في التاريخ الجاري". (ص 110)

ثانيتها :"أنّ المادة التوثيقيّة حول هذا التاريخ ليست كلّها مؤسّسة على المكتوب (...)، ذلك أنّنا نسجّل اليوم حضورا متعاظما للصوت والصورة". (ص 110)

ثالثتها: أنّه بقدر ما أنّ الباحث في هذا الحقل محروم من الأرشيفات الرسميّة (...) هو محظوظ بما يضعه المجتمع المدني بكلّ مكوّناته تحت تصرّفه من مادة مصدريّة عظيمة الفائدة.

قام هذا الباب على تصنيف مصادر تاريخ الزمن الراهن إلى أربع مجموعات هي التي كانت حديث المباحث الأربعة التي ضمّها الباب الثالث؛ فعرض المؤلّف أوّلا للمصادر المكتوبة والمطبوعة (ص ص 112-121)، وفصّلها إلى الوثائق الرسميّة ناظرا في العوائق التي تحول دون الوصول إليها أحيانا والنتائج المترتّبة على ذلك. ثمّ ثنّى بذكر الأرشيفات الخاصّة، إذ هي "تتيح للمؤرّخ تعقّب الممارسات الفرديّة لبعض الفاعلين السياسيين أو الاجتماعيين أو إعادة بناء الأفعال الجماعيّة أو حيوات المؤسّسات أو الجمعيات". (ص 115)، ثمّ عرض في الفصل الثالث للصحافة، ممثلة أساسا في الصحف السيارة، سواء كانت صحافة رأي أو صحافة حزبيّة.

-في المبحث الثاني الموسوم بالمصادر الشفويّة (ص.ص 112-136)، أقرّ المؤلّف بصعوبة استغناء مؤرخ الأزمنة الراهنة عن هذا الضرب من المصادر، ذلك أنّ أهميّة الشهادات والروايات الشفويّة في التدوين التاريخي لا تنكر. وسعى في فصل أوّل من هذا المبحث، وتحت عنوان: إيضاحات لا بدّ منها إلى إيضاح مصطلحات كلّ من التاريخ الشفوي والأرشيفات الشفويّة والمصادر الشفويّة نشأة وتطوّرا ومآلا، وهو ما شكّل عناوين هذا الفصل الثلاثة.

أمّا في الفصل الثاني من المبحث الثاني (ص ص 129-131)، فقد نظر في أهميّة المصدر الشفوي وإضافاته في المشهد الأسطوغرافي خلال العشريات الثلاثة الأخيرة، مثنيّا بذكر حدود المصدر الشفوي في الفصل الثالث، داعيا إلى "الاحتراس من عمليّة إنتاج الذاكرة" (ص 132) نظرا إلى الطابع المعقّد للشهادة الشفويّة، حينما ننزل بها إلى مستوى التطبيق الميداني.

أمّا الفصل الرابع من هذا المبحث، فصاغه المؤلف تحت عنوان التعاطي المشروط أو كيف يقع التصديق العلمي على المصدر الشفوي، وفصّل القول في الشروط الأربعة التي أبداها الباحثون الصفويون حيال المصادر الشفويّة، ليختم حديثه بالقول:"ومهما يكن من أمر الاحتياطات والاحتراسات المنهجيّة والنقديّة التي ينبغي على الباحث التسلح بها إبّان تعامله مع الشهود فإنّه يتعيّن عليه التحلّي بكثير من الصبر حتّى يسمح للرّاوي بتخطّي الخطاب العفوي "الخطاب-التصريح" أو الخطاب الموجّه إلى الآخر فيكتسب بذلك تدريجيّا ثقته واطمئنانه". (ص 136)

في المبحث الثالث: المصادر المصوّرة (ص.ص 137-158)، عرض المؤلف للمصادر السمعيّة البصريّة؛ فحدّثنا في فصل عن دور الكاريكاتير والصور الفوتوغرافيّة في توثيق مصادر المؤرّخ، ثمّ كان له حديث عن المصادر السمعيّة البصريّة، وأهمّها السينما لكونها وثيقة الصلة بالتاريخ منذ نشأتها إلى يومنا هذا ...". (ص 142)

وفي الفصل الثالث من هذا المبحث، عرض المؤلّف للأنترنيت والمصادر الرقميّة"، إذ لا يمكن للمؤرّخ أن يبقى على هامش الثورة المعلوماتية الهائلة التي يشهدها العالم اليوم" (ص 144)؛ فقد فرضت الأنترنيت نفسها أداة عمل ضروريّة وعمليّة سريعة للمؤرّخين، ثمّ خاض في أهمّ مظاهر القطاع الرقمي ممثلة في المواقع الرسميّة الوطنيّة والعالميّة ومواقع الصحف ومواقع المنظمات، ثمّ في أشكال تعبيريّة أخرى أهمّها في أشكال التواصل الحديثة، المواقع الشخصيّة والصفحات الشخصيّة ومواقع الدّردشة والمدوّنات.

في خاتمة الكتاب، نعى المؤلّف على التأليف التاريخي العربي ضعف مكانة تاريخ الزمان الرّاهن فيه، ومحدوديّة الوعي بجملة القضايا المنهجيّة والإبستمولوجيّة الملازمة لهذا العنوان الأسطوغرافي الجديد (التاريخ الساخن)، ورأى من الحلول لتلافي هذا النقص "أنّ معالجة هذا التاريخ مهمّة معرفيّة ضروريّة ترقى إلى مرتبة الواجب". (ص 158)

وتساءل في حيرة الباحث الصّادي: هل ينجاب الربيع العربي عن جيل من المؤرخين يكون مسلحا معرفيّا ومنهجيا؛ حيث يجيب باقتدار عن السّؤال: "لماذا حدث ما حدث"؟ وتنطوي كتاباته على جرعات من الإنذار المبكّر لما قد تجلجل في اللحظة الفارقة التي يعيشها العرب في المستقبل المنظور، تقديرات العلماء وليس تنبؤّات العرّافين وقرّاء الكفّ والفنجان".

والحاصل أنّ هذا الكتاب أثير في الدرس التاريخي الراهن، بحث في هذا العلم نشأة وتطوّرا ومآلا، وتعقّب عوائقه وإكراهاته، وبشّر بحوز قصب السّبق في الدرس التاريخي المعاصر، فهو كتاب عزيز علينا أكاديميّا ومعرفيّا، يتعيّن قراءاته وتدبّر ما يثيره صاحبه فيه من قضايا، نعتقد ـ كما اعتقد هو ـ أنّ المكتبة التاريخيّة العربيّة ما زالت مفتقرة إليه. ولم نجد فيما اطلعنا عليه في الغرض من وضوح الرؤية وحسن البيان وكدّ الرويّة وعفو الخاطر، ما وجدناه عند صاحب هذا الكتاب الأستاذ فتحي ليسير ، فهنيئا له به مبدعا، وطوبى لنا به كقرّاء مستمتعين.

*فيصل سعد / كلّية الآداب والعلوم الإنسانية في صفاقس / تونس