تمظهرات الإرهاب الديني في الرواية العربية


فئة :  مقالات

تمظهرات الإرهاب الديني في الرواية العربية

تمظهرات الإرهاب الديني في الرواية العربية([1])

قراءة في رواية "أفاعي النار" لجلال برجس

بقلم: أ. د. مريم جبر

بات مصطلح "الإرهاب" واحداً من المصطلحات التي تطفو على سطح الواقع عالمياً وعربياً بشكل خاص، وأصبح يتّخذ أبعاداً جديدة، ويتلبس لبوساً ملتبساً لم يكن من محمولات المصطلح في أصله اللغويّ، أو حتى في تعريفه الذي أطلقته بعض المنظمات الدوليّة المعنيّة بحقوق الإنسان وأمنه وسلامه، وحدّدته بأفعال العنف أو التهديد مهما كانت بواعثه وأغراضه، وتتمّ من أجل تنفيذ مشروع إجراميّ فرديّ أو جماعيّ، يهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس، أو إلحاق الضرر بالبيئة، أو الأملاك العامة أو الخاصة.

وهو المفهوم الذي يوضّح طبيعة ذلك الفعل القائم على العنف والتهديد لتحقيق مآرب شخصية؛ غير أنه ما لبث أن جاوز أهدافَ إشاعة الرعب أو إلحاق ضررٍ ما، ليتشبّع بمحمولات سياسية واجتماعية ودينية تشكّل أداةَ خلخلةِ سكون العلاقات داخل المجتمع الواحد وخارجه، وفي ضوئها تتم قراءة مستويات الصراع الاجتماعيّ والسياسيّ والفكريّ فيها، ليبدو القمع والتسلط بدايات تمهد لمراحل أخرى من أفعال الإقصاء والقتل الذي يجد له في المكوّن الاجتماعيّ (أعراف وتقاليد) وفي المكوّن الدينيّ (الموجّه بالتعصب والتشدد) مسوّغاً وذريعة، لممارسات المجتمع ضد أفراده، كالمرأة مثلاً من خلال السلطة الذكورية المتحكّمة، إلى حدّ يمكن اعتبار الزواج في كثير من الحالات فعلاً إرهابياً، يكشف عن مستويات الفهم الفرديّ والجماعيّ للعادات والتقاليد وللدين، وارتباط ذلك كله بمستوى الوعي والتعليم والثقافة، ما يخلق أشكالاً من الصراع يبدو التطرف والإرهاب أحد تجلياتها التي جعلت العالم كله، والوطن العربي خاصة، ساحة مشرعة للعنف والقتل والتشريد.

فالإرهاب بالصور التي يظهر عليها في الواقع العربي المعاصر، اتسع مفهومه وتشعبت غاياته وأهدافه، لتمتد من الاجتماعي إلى الثقافي والفكري والديني، بما يجاوز صورته الأولى التي كانت تتصل بالسياسة وأهدافها. وقد هيأت تلك التحولات والمتغيرات حقلاً واسعاً خصباً للكتاب للتعبير عن رؤاهم ومواقفهم تجاه ما يحدث، وبدا ذلك واضحاً بشكل لافت في الفن الروائي، بوصفه الفن الأكثر رحابة لاستيعاب النماذج البشرية المختلفة التي أسهمت في تشكيل الواقع الراهن وتمثلات آثار العنف والإرهاب عبر أزمنة وأمكنة متباينة تباين مدى تغلغل الفكر الرجعي وسطوته فيها؛ إذ شغل هذا الموضوع حيزاً غير قليل من الخطاب الروائي في مختلف أقطار الوطن العربي، خلال العقدين الأخيرين من هذا القرن خاصة، فأعادت الرواية العربية طرح أسئلة هذا الواقع، لتكشف عمق المأساة التي آل إليها إنسان هذا العصر، وبخاصة الإنسان العادي المهمّش، والمثقف الذي وجد نفسه في مواجهة قاسية وغير متكافئة الأدوات مع قوى جمعت إلى الجهل والتخلف تمظهراً بالدين صوتاً يغوي العامة، ويجعل منهم درعاً داعماً لتنفيذ مآربها، وذلك هو المحور الأساس الذي بنى عليه الروائي الأردني جلال برجس روايته "أفاعي النار".([2])

في ضوء ما سبق التقديم به من تعريف لمصطلح "الإرهاب"، عرض برجس صوراً من الإرهاب التي حفل بها فضاء الرواية الممتد من إحدى قرى الأردن إلى العاصمة عمان إلى باريس، عبر دورة أشبه برحلة يختلط فيها الواقعي بالمتخيل، والحقيقي بالحلم، والمعقول باللامعقول والأسطوري، تتداخل فيها الحكايات وتتناسل مؤكدة أن ألسنة النار التي لفحت الوجوه، وطالت الفكر أولها كان شرراً ينبثق من فوهات الاعتياد والارتهان للمألوف من مظاهر الاستقواء التي تطبع العلاقات الاجتماعية في ما يظهر من عنف الرجل تجاه المرأة: ابنة وزوجة وقريبة، والاستقواء على الآخر بالمال والجاه، لينتهي بالاستقواء بالدين الزائف سبيلاً للانتقام والثأر الشخصي ضد الحب والفكر والعلم والثقافة.

وتسعى هذه المقالة إلى تقديم إضاءات تكشف رؤية الكاتب لطبيعة هذا الصراع، ودور المثقف فيه وموقعه ومآله، إلى جانب الكشف عن المنظور الروائي لمفهوم الإرهاب الديني، وأسبابه وبيئته وتمظهراته، وآثار توظيفه في تحقيق المآرب الخاصة والعامة في مجتمع الرواية كنموذج مجتزأ من عالم كبير يمور بهذه الظاهرة، إلى حدّ تصير فيه الرغبة في تغيير هذا الواقع حلماً عسير التحقق، بل تغدو عواقبه وخيمة.

وفي ذلك ما يبرر إهداء الكاتب روايته لجماعة مخاطبين (إليكم) على غير تعيين لهويتهم، لكن كاف الخطاب اقترنت بإهداء مشروط (إن كنتم تحلمون) على غير تعيين ماهية الحلم وحدوده، ليبقى مفتوحاً على عوالم المقروء، بما تحمل من حلم بنقض هذا الواقع الزائف ومحاولة تغييره، وهو الشرط/الحلم الذي تنبني عليه فكرة الرواية وثيمتها المتأرجحة بين نارين: نار الداخل ونار الخارج، ومن بينهما ينبثق حلم يمتد عبر أزمان وأماكن تحتضن حكاية البطل علي بن القصاد، ذلك الذي تعثّر بحلمه الممتد منذ عشقه لفتاة، «بينه وبينها بنادق وخناجر، وزمن طويل من المحظورات»(ص117)، وحتى مغادرته مبعوثا للدراسات العليا في فرنسا، وعودته مشوّه الوجه مرفوض الفكر والوجود، فيما تظل العثرات الأولى تلاحفه مثل لعنة من ألسنة حارقة تطال وجهه وعقله وجسده، عبر دورة زمنية تبدأ من احتراق منزله الأول عند مغادرة القرية، وتنتهي باحتراق آخر وأخير لمنزله الثاني بعد عودته إليها عبر حلقات تنتظمها ألسنة النار، وتفككها الواحدة تلو الأخرى.

والقرية في رواية جلال برجس، تشكل نموذجاً مصغراً لحالة بعض المجتمعات العربية المعاصرة، بما هي عليه من نأي عن الحضارة وتمسك بالخرافات، واستلاب فكري هيأها لكي تكون مسرحاً لتمثّل وتمرير ناتج صراع القوى المختلفة التي تتوسل بالدين والغيبيات لتحقيق هيمنتها على تلك المجتمعات، والإبقاء عليها مستلبة خاضعة لشروطها، وليجعل منها البؤرة الحاضنة والمولّدة لبذور التطرف والإرهاب: «لماذا لم تقل أن سليم المشاي وجماعته كانوا في ذلك الوقت، نواة أولى لكل ما نراه هذه الأيام من حركات متطرفة، تقتل الناس وتقطع رؤوسهم، وتكفّر من تشاء. لقد فصلوا ديناً بعد أن انتهجوا تأويلاً خاصاً، وراحوا ينشرونه، مستغلين فقر الناس وجهلهم. هل خفت أن تقول بواضح العبارة، أن الدين الذي جاء في القرآن، مختلف عن الدين الذي تمارسه جماعات متطرفة، لا همَّ لها غير مصالحها السياسية».(ص194)

هذه الجماعات هي نتاج أنظمة اجتماعية، تتمسك بتقاليد متوارثة، تصبح أقوى من الدين نفسه ومجانبة له، في ممارسات تقع سطوتها على المرأة بدءاً، قبل أن تمتد وتتسع لتفرض هيمنتها في نطاقات أوسع اجتماعياً وسياسياً. فتفرض حق الملكية على المرأة التي حاولت الانفلات من هذا القيد، لتنحاز لاختياراتها الخاصة وميولها في حب الكتب والقراءة والكتابة واختيار الشريك، ومن هذه النقطة انطلقت شرارة النار الأولى التي ظلت تتربص بهما، وتتخذ لها صوراً وأشكالاً وألسنة أخالها على امتداد الرواية تتعالى وتتلاعب، لتشكّل الخيط الناظم لسلسلة احتراقات تبدأ بحرق الكتب وتتواصل بحرق البيت ثم حرق الوجه والبيت مرة أخرى، لتنتهي إلى حرق الجسد، نتاجا لمواجهة متنامية بين حدي الفكر والثقافة والرجعية والجهل، تعكس واقعا بات ضاجاً بالتناقضات والمواجهات غير المتكافئة، ما أفرز أشكالاً من صور التعنت والتدمير وإشاعة الرعب، ليغدو المشهد الذي ظهرت عليه القرية صورة مصغرة من قرية كبرى هي العالم بأسره.

تقدّم رواية "أفاعي النار" تحليلاً لبنية الفكر الإرهابي الذي لا يظهر مصادفة، بل إن بذوره تجد لها أرضاً خصبة في مجتمعات يفرض فيها القوي سلطته على الضعيف، ويغدو التمظهر بالدين وسيلة لإقناع العامة بمشروعية كل فعل ورعايته اجتماعياً ودينياً، وإن كان في حقيقة الأمر فعل انتقامي شخصي، كذلك الذي أقدم عليه "يوسف النداح" الذي ينتمي إلى إحدى الجماعات الإرهابية الدينية، على الرغم من أنه كان بعيدا في أخلاقه وسلوكه عن الدين، بما يتصف من سوء الخلق وخيانة الأمانة وشرب الخمر والإفساد بين الناس، في الوقت الذي يطلق فيه لحيته ويقصر ثوبه متمظهراً بالدين سبيلاً لتحقيق مآربه، وبخاصة في إقصاء ابن القصاد عن طريقه، وإقناع أبناء المشاي لتزويجه من أختهم رغماً عنها، لكن خيوط حقده على الرجل ظلت تتشابك وتتنامى في داخله، إثر سماعه بارعة تهذي باسمه في المستشفى، وفي سرير نومهما، ما دفعه لتنفيذ محاولة حرقه انتقاما، مخالفاً الهدف الذي أرسلته جماعته لينفذ العملية لأجله (ص142)، واعترف بذلك أثناء تحقيق السلطات الفرنسية معه، بعد إلقاء القبض عليه إثر إقدامه، باسم جماعته، على إضرام النار ببيت ابن القصاد وهو نائم فيه، مما أدى إلى تشويه وجهه، وتحوّله لمخلوق آدمي آخر لا يشبهه.

ولا يخفى ما يحمل هذا التوجيه من تحليل لشخصية الإرهابي، وانتماءاته الحقيقية التي لا تجاوز مصالحه الخاصة، التي يتذرع بالدين، ويوظف انتماءه إلى الجماعات الدينية من أجل تيسير تحقيقها، فما كان له أن يصل لمكان إقامة ابن القصاد في فرنسا، بدون مساعدة جماعته التي اعتبرته هدفاً لها بسبب ما عُرف عنه من علاقات بالأوساط الثقافية والفكرية والسياسية في فرنسا، وفي كثير من البلدان العربية والأجنبية، وبسبب آرائه ومقالاته التي كان ينشرها في الصحف الفرنسية والعربية، بلغته الأم وبالفرنسية، معبراً عن رأيه، بمفهوم العيب من وجهة نظر البنى الاجتماعية المتشددة، والحرام من وجهة نظر الجماعات الدينية المتطرفة. إلى جانب نشره كتاب "العيب والحرام"، وتقديمه العديد من المحاضرات والندوات في كثير من البلدان العربية والأجنبية، شارحاً تلك التبدلات التي طرأت على هذين المفهومين، وما ألصق بهما من مفاهيم عطلت الحياة في الدول النامية (ص141). وكان ذلك مبرراً كافياً للانتقام منه، عن طريق ابن قريته، الذي وجدها فرصة مواتية تماماً لتفريغ حنقه وحقده الشخصي والانتقام لرجولته التي أهانتها زوجته بتعلقها برجل غيره.

وبذلك تنظر هذه الرواية لنموذج "الإرهابي" بوصفه نتاج بيئة تتسم بالتخلف والإيمان بالخرافات والمعتقدات التي تحول دون أية محاولة للتغيير والتطور، كما تتسم بالفقر الذي أشار إليه ابن القصاد في محاضرة له في فرنسا، مؤكدا أنه أهم أسباب الإرهاب، «وأينما وجد سيكون بيئة خصبة لكل أشكال الإرهاب، لذا لم أتوقف عن القول بأن العالم أجمع مسؤول عن تنامي ظاهرة الإرهاب»(ص150)، كما أنه، إلى ذلك، نتاج ألوان من الفشل اجتماعياً ونفسياً، ما يدفع إلى القول بأن شخصيات رواية "أفاعي النار" ليست إرهابية محترفة، وإنما هي تمارس أشكالاً من الإرهاب الفردي، يغديه الفقر والتخلف والتطرف والتعصب وضحالة الفكر لتكون، من بعد، أدوات في يد جماعات أكثر تطرفاً، وأشد تعصباً، وأوسع مآرب، وأعظم خطراً على الحضارة والفكر والإنسانية.

وإلى ذلك، أبرزت الرواية الفرق بين الدين والتدين، في الخطبة التي ألقاها ابن القصاد في أهل القرية، من أجل حثهم على عدم تصديق بعض مدعي الدين، ودعوتهم إلى معرفة الدين من خلال مصادره لا من خلال ما يقول هؤلاء. كما ظهر ذلك، أيضاً، في مستوى آخر، يتعلق بماهية الجماعات الإرهابية، مما ورد في محاضرة للقصاد في فرنسا أجاب فيها عن سؤال «لماذا يتنامى الإرهاب في العالم العربي؟ ولماذا أصبح الإسلام يوصف بأنه دين الإرهاب؟»، فأوضح بأن هنالك جماعات، من مختلف الأديان، وليست إسلامية فقط اتخذت الإرهاب طريقاً لتحقيق مصالحها، وهي صنيعة جهات أخرى لتحقيق مصالح لها، وأن هذه الجماعات أساءت للإسلام دين العدالة والحرية، وجعلت المجتمع الدولي يرى المسلم إرهابياً.(ص149)

وفي مستوى الشخصيات تظهر شخصية «سليم المشاي لا يعرف من الدين إلا ما يراه هو، ديننا أكثر وعياً وأكثر سماحة من عقل هذا المنغلق»(ص124)، وبالمقابل نجد الدور الإصلاحي الاجتماعي متمثلاً في شخصية رجل الدين الذي يعمل على التوفيق بين الناس، وهو ما ظهر في موقف إمام المسجد الذي حاول إنصاف ابن القصاد ضد المتعنتين الرافضين لآرائه، فأتاح له أن يلقي في الناس خطبة بينت موقفه وأفكاره وتوجهه الإنساني التنويري، فنال رضاهم وحاز إعجابهم. كما أن هذا الرجل المتدين نفسه كان قد ساند ابن القصاد ورافقه إلى بيت المشاي من أجل طلب يد الفتاة التي أحب، بما يشير إلى إمكانية التقاء الفكر الديني والعلمي المعرفي المنفتح، ووقوفهما معاً في وجه تيار التشدد والتطرف والتعصب دينياً كان أو اجتماعياً، بينما لا يمكن استمرار اجتماع التطرف بالاعتدال والتسامح، ما يسوّغ انفصال "بارعة" عن زوجها الإرهابي "يوسف النداح"، على ما خلفه ذلك من تبعات دموية الأثر.

ولم تغفل الرواية الإشارة إلى ضرورة تغيير بعض الأفكار النمطية السائدة التي باتت تطفو على سطح الواقع عالمياً حول الإسلام الحقيقي الرافض للخرافات والداعي لتحكيم العقل، وتحرير عقول الناس من رعب الخرافة، من مثل خرافة الغول الذي دب الرعب في أنحاء القرية، في حين ارتفع صوت رجل الدين يؤكد أن «ديننا لا يعترف بالخرافات»، رداً على القميحي، الذي استقر في القرية بعد غياب طويل في أفغانستان، يحارب السوفييت، فعاد يرتدي ثوباً قصيراً، ويطلق لحية كثة، فأرجع الأمر إلى أن ما يحدث هو عقاب إلهي، سببه بُعد الناس عن الدين. فرأى أن على أهل القرية، أن يلتزموا المساجد، ويدعوا الله أن يجنبهم هذه المحنة(ص184). وهو ما رفضه شيخ المسجد، ودعا لتحكيم العقل، وعدم تصديق ما يتهيأ لبعضهم من وجود الخرافة أو تعمد إطلاقها لإرعاب أهل القرية: «حكموا عقولكم، هل تصدقون حكاية الغول هذه؟».(ص82)

لكن، في الوقت ذاته، ثمة انتقاد لما آلت إليه وظيفة الأئمة في المساجد، الذين أبعدوا رسالة المسجد عن الواقع ومشكلاته ومعاناته من التسلط والفقر والبطالة، وتوجيه مضامين خطبهم نحو كل ما لا يسهم في إصلاح المجتمع وتنميته، واقتصارها على إشاعة الخوف والترهيب من عذاب القبر ومخاطر الاختلاط بين النساء والرجال، وهو ما عبرت عنه "لمعة" في حديثها مع ابن القصاد: «قلت ذات مرة للقميحي، وكنت حينها ما أزال زوجة له، لماذا لا تلقون خطباً في المساجد التي تسيطرون عليها، تستنهضون فيها الناس على أن يرمموا حياتهم بما أمكنهم من زراعة وتربية ماشية، ووسائل تعينهم على العيش، أليس هذا جهاداً؟ لكنني أدركت في ذلك اليوم أن لا مهمة للقميحي وأعوانه، إلا أن يستمروا بالحديث عن عذاب القبر، وعن مخاطر اختلاط النساء بالرجال».(ص182)

ويبدو لافتاً هنا إبراز الرواية للوعي المتقدم للمرأة، في مجتمع مطبوع على الذكورية وسلطة الرجل، بل إن شرارة المواجهة الأولى بين حدي الصراع انطلقت بسبب من وعي المرأة، وانفتاحها على التعليم والثقافة والإبداع، مما بدا في حب "بارعة" للقراءة وتعلقها بالكتب ورواية الحكايات، وحبها من ثم للرجل الذي يشترك معها في تلك الاهتمامات، فشكّلت للمحيطين بها من رموز التخلف والجهل مصدر تهديد لوجودهم ودورهم القمعي، مما يمكن الوقوف عليه في ما ورد ألسنة أخوتها:

- بعض الكتب تلوث العقل يا إخوتي، خاصة الكتب التي جاءت من الغرب الكافر.

- عدد البنات اللواتي يرغبن بالانضمام إلى المدرسة في تزايد. والله أعلم ما الذي سيحدث بعد سنين، إن بقي الأمر على حاله هذا. هنالك من يريد تبديل حياتنا، حتى تصير مثل حياتهم الماجنة، لكنهم يعملون بشكل تدريجي. اليوم ابتدأوا بالمدارس وتعليم المرأة، ولا نعلم غداً بماذا سوف يفاجئوننا.

- عندما رأيت الكتب، التي يعلّمون ما فيها البنات، صُعقت، وما كان مني أن أغضب، لو أن تعليمهن اقتصر على شؤون الدين، بل على العكس من ذلك، سأفرح لأن في ذلك خيرا لهن. وسأفرح أكثر لو أن امرأة تعلمهن.

- ما كان بيدنا أن نمنع أختنا عن الذهاب للمدرسة، كلمة أبي أقوى من كلمتنا.

- القراءة والكتابة لوثت عقل أختكم. فتيات المدرسة يتناقلن ما تكتبه عن الحب، وعن الله، وأصبحن يتداولن آراءها عن ضرورة تحرر المرأة من سلطة زوجها. أليس الرجال قوامون على النساء؟ أختكم تريد مخالفة ما أمرنا به رب العالمين، ولا يشجعها أحد على ذلك، غير معلم المدرسة علي بن محمود القصاد. الفتيات يقلن إنه يتحدث لهن ويخبرهن عن كتب وقصائد عن الحب وعن بلاد الفرنجة. (ص121)

وتلك الأفكار هي خلاصة موقف كثير من رجالات القرية، وتكشف ما هم عليه من ضيق الأفق وتحجر الفكر ورجعيته، ما دفع باتجاه مواجهة دامية بين ممثلي الانفتاح والاعتدال والتنوير الفكري، بدأت بدخول أخوة "بارعة" لغرفتها، فأخذوا كل الأوراق التي ضمت كتاباتها، والكتب التي جمعتها منذ سنين، دون أن يأبهوا بمقاومتها وبكائها، ووضعوها في باحة بيتهم الأمامية وأحرقوها، متذرعين تارة بالعيب الذي تحدث به الناس، وأخرى بالحرام الذي ما انفك سليم المشاي الحديث عنه. (ص122)

وبذلك الفعل، تبدأ فكرة الإرهاب تنمو ويتسع إطارها، في ممارسات إقصائية، تستهدف رموز العلم والثقافة والفكر، ويمثلها علي بن محمود القصاد الذي تتحول حياته بعد ذلك إلى رحلة أشبه بحلم أو كابوس مرعب ثقيل.

تمثل النار هاجساً يلاحق بطل الرواية حتى أحلامه، هنالك حيث تأكل النار جسده وتحيله رماداً، دون أن يملك إلا الاستغاثة (بالسماء)، وكأني به يدرك أن لا منجاة له من هذه الوحشية المدمرة إلا بقوة غيبية سحرية تشبه مطراً يطفئ هذه النار قبل أن تأكل جسده، وتطال نتاج فكره وتمتد إلى أحلامه المتمثلة في كتابة نص روائي يحكي سيرة وجوده على هذه الأرض الحافلة بالشرور من كل اتجاه، بما يشبه ناراً تصاب بالجنون «حينما لا تجد سبيلاً إلى ما نداريه في دواخلنا».(ص41)

ولعل في عبارة ابن القصاد هذه تكمن فكرة الحكاية وفلسفتها في التأكيد على فشل نيران الجهل والإرهاب في تغيير ما نحتفظ به في دواخلنا، من حب لم يجد له مكاناً في مجتمع مجرد من العقل والعاطفة معاً، بل ومن الحس الديني الصافي الذي يمكنه توجيه سلوك الأفراد نحو الحب، حب المعرفة وحب الجمال، بعيداً عن المصالح المادية والرغبات الذاتية الخاصة التي لا ترى ولا تسمع غير صوتها الإلغائي الإقصائي.

غير أن السؤال الذي يظل معلقاً في فضاء هذا الوعي الصارخ الذي امتلكه بطل الرواية وبعض من شخصياتها، هو سؤال المواجهة والسعي للتغيير، في واقع بلغ من التداخل والتعقيد ما يحوله إلى عالم من الغرائب والفانتازيا، يتداخل فيه سحر الحلم بسحرية المشهد، وجنوحه نحو المغيّب واللامعقول، بل والبدائي في تفسير الحوادث وفهم سلوك الشخوص. بما يؤشر على وجود خلل ما يطبع العصر كله، خلل تصنعه المفارقة بين التنظير والفكر المحشو في الكتب، دون أن يترك أثراً، أو يحدّ أو يمنع جرائم الإرهاب الوحشي: «كل هذه الكتب ونرى رؤوساً تجز بهذه الوحشية، ثمة خلل إذن! ثمة خلل كبير».(ص209)

ولعل التشويه الذي تعرّض له بطل الرواية علي القصاد، بما يحمل من فكر تنويري وعلم وفلسفة، وهو في حقيقة الأمر تشويه للفكر نفسه، وتعطيل لدور المثقف وسعيه للتغيير، وما حرقه في نهاية الأمر إلا محاولة لحرق كل المعاني التي كان يحملها، ووقف تأثيرها في مجتمع مضطرب تتجاذبه تيارات يطغى عليها تستر بصور من الدين زائفة، وبإرث بالٍ من الأعراف والتقاليد، وفكر هو نسيج من أوهام وخرافات.

وجدير بالملاحظة هنا أن بطل رواية "أفاعي النار" لم يكتف بمحاربة رؤوس الظلم والتخلف في قريته، بل أسهم أيضاً مع الغرب، أثناء وجوده في باريس، في محاربة التطرف والإرهاب في العالم، لكنهم ما لبثوا هم أيضاً أن تخلوا عنه بعد تشوه وجهه، فعاد إلى عمان ليجد نفسه بمواجهة صور أخرى من الضياع والشعور بالعزلة، والتنكر والاحتقار، يتحول معها في نظر الناس إلى متسول، ما يدفعه لرفض هذا المآل، ولاتخاذ قرار العودة من أجل استكمال الدور الذي كان بدأه في محاولة التغيير، أو ربما لمواجهة مصيره في القرية التي كان غادرها مرغماً، ليعود إليها مشوه الروح والنفس، وليجد نفسه مرة أخرى يقف شبه وحيد في وجه تيار من قوى الجهل والرجعية والتطرف، دون أن يدري أنه إنما يسعى صوب اكتمال دورة الألم والتشويه.

ولعل انتهاء مواجهة البطل بالموت حرقاً، تمثل إشارة خطيرة إلى انتصار التخلف والتطرف على الوعي والعلم والتسامح والفكر المستنير، ليعلو صوت الدخيل والظلامي من الفكر، ويخفت صوت الأصالة والخير والحق، إذ يتحول هذا الشخص بكل ما يحمله من حصاد رحلته عبر مدن الشرق والغرب إلى رماد ربما ينبعث منه "قصادون" جدد آخرون، يعيدون الكرّة، لتظلّ فكرة المواجهة الفكرية والنفسية والمادية الجسدية قائمة في عالم يؤول بتسارع رهيب نحو الدمار، جرّاء سيادة الكره والتعنت والجهل والتطرف والعنف والظلم والثأر.

من خلال ما سبق، نجد أن جلال برجس في "أفاعي النار" عمد إلى تمرير رؤيته في ما آلت إليه الحال من امتداد الإرهاب في وطننا العربي، لحدّ أنه أصبح فيه ظاهرة تحتاج كثيراً من التأمل والتحليل والمواجهة، وإن لم يجاوز في طروحاته ما يطفو على سطح الواقع من آراء حول تهمة "الإرهاب" التي باتت لصيقة بالعرب وبالإسلام، وضرورة التفريق بين الدين ومظاهر التدين التي يتستر بها الإرهابيون أفراداً وجماعات، مما ليس له علاقة بالدين، وغير ذلك من القضايا التي أشرت إليها في هذه القراءة، حتى بدت الفقرات التي تضمنت ذلك أشبه بمرافعة دفاعية، قدّمها الراوي- بوصفه أحد شخصيات الرواية- إلى جانب بعض الشخصيات الأخرى. ولذا، فإن قيمة هذا العمل الروائي لا تكمن في ما قدمته من مضامين ومحمولات فكرية في موضوعها، بقدر ما تكمن في ما لم تعن به هذه القراءة من توظيف للأساليب السردية، والحبكة، واستثمار الكاتب لفنون الحكاية عبر تداخل فانتازيّ يتلاءم، حقيقة، وما آل إليه الحال في واقع يتنامى فيه الإرهاب، وما تبعه من مفارقات تصنعها ألسنة النار، وهي تلاحق المثقف المفكر في سعيه للتغيير والتنوير، رغم كل محاولاته في أن يلوذ بالغرب في المستويين الحقيقي متمثلاً في سفره لفرنسا، والمجازي الرمزي متمثلاً في جهة الغرب من القرية، وهي الجهة التي تكررت إشارات ارتباطه بها منذ طفولته، ثم شبابه، وحتى انتهائه حرقاً على أيدي المتشددين، كي يظل التغيير حلماً لا يتحقق بغير قدر عظيم من التضحيات لا يستطيعه غير قليل من الحالمين الذين خصّهم الروائي برجس في الإهداء الذي تصدّر صفحات الرواية.

 

[1]- نشر بمجلة ذوات العدد 38

مصدر الدراسة:

[2]ـ جلال برجس: "أفاعي النار"، المؤسسة العامة للحي الثقافي "كتارا"، الدوحة، 2016