ثنائيّة الدين والدولة بين التباس المفاهيم وغياب المرجعيّة


فئة :  قراءات في كتب

ثنائيّة الدين والدولة بين التباس المفاهيم وغياب المرجعيّة

ثنائيّة الدين والدولة بين التباس المفاهيم وغياب المرجعيّة([1])

تقديم كتاب الدين والدولة وتطبيق الشريعة لمحمد عابد الجابري

(مركز دراسات الوحدة العربيّة، 1996)


توطئة

الكتاب الذي نحن بصدد قراءته وتقديمه هو بمثابة عصارة لما سبقته من مشاريع فلسفية وفكرية جريئة ومتميزة أثرى بها المفكر المغربي محمد عابد الجابري المشهد الفكري والأكاديمي العربي الإسلامي، لا سيما أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه حول موضوع العصبية والدولة، التي صدرت قبل أكثر من ربع قرن من ظهور كتاب الدين والدولة وتطبيق الشريعة[2]؛ موضوع هذه القراءة. ثم مشروعه الفكري الرائد نقد العقل العربي بأجزائه الأربعة التي شرّح فيها العقل العربي بكيفية جديدة؛ منهجاً وتحليلاً واستشرافاً، لم يعهدها الفكر العربي في تلك الآونة، وقد ترتّب عن ذلك جدل فكري منقطع النظير ما انفكت تداعياته تمتد عبر الجغرافيا والزمن، ولم يبقَ ذلك الجدل حبيس أروقة الجامعات والمراكز الثقافية فحسب، وإنما انتقل إلى وسائل الإعلام ومحافل السياسة ومؤسسات المجتمع المدني. هذا بالإضافة إلى جملة من المؤلفات التي ظهرت بين العقدين الثامن والتاسع من القرن الماضي، مثل نحن والتراث، والتراث والحداثة، وإشكاليات الفكر العربي المعاصر، وغيرها.

وهذا إن دل على شيء، فإنّه يدل على أنّ أهمية كتاب الدين والدولة وتطبيق الشريعة تكمن في أنّ الجابري ألفه بعد أن كان قد أسس مجموعة من المفاهيم الفلسفية، وأرسى جملة من الآليات المنهجية، ما سوف يساعده على الغوص العميق في الإشكالات السياسية والتاريخية والدينية التي تعرض إليها في المرحلة اللاحقة من مساره الفكري، وهذا ما ينطبق بشكل كبير على مختلف قضايا الكتاب الذي نشتغل عليه، كالدولة والعلمانية والصحوة والطائفية والشريعة، وغير ذلك كثير، فهو لا يكتفي في معالجتها بالجانب النظري الصوري فحسب، وإنما يتجاوزه إلى الواقع العربي المعيش عبر التشخيص العقلاني والتنقيب في البنى العميقة والأسباب الخفية، كما أنه لا يقتصر على تحديد المفاهيم وتوصيفها فحسب، وإنما يتخطى ذلك إلى كشف الالتباسات المتنوعة التي تتخلل العقل العربي في فهم قضايا واقعه عبر "نقد الكائن" من المفاهيم و"طرح الممكن" من البدائل المناسبة للواقع العربي المعاصر، ولعل هذا هو مكمن جدارة هذا العمل الفكري وريادته، الذي جاء ليؤصل مفهوم الدولة بكيفية موضوعية لا انفعالية، ويصحح ما يتعلق بها من مفاهيم فلسفية وسياسية بطريقة عقلانية لا عشوائية.

إنّ الظرف الاستثنائي الذي يشهده الواقع العربي اليوم يقتضي إعادة قراءة وفهم العديد من الإنجازات الفكرية والأكاديمية التي ساهم بها مفكرون ومثقفون عرب ومسلمون، منذ تحرر المنطقة العربية من قبضة الإمبريالية الغربية إلى قيام ما يعرف بالربيع العربي، ومنها مؤلف الجابري "الدين والدولة وتطبيق الشريعة"، خصوصاً أنّه يتضمن توقعات استباقية لما آل إليه الواقع العربي من جهة، ويقترح، من جهة أخرى، بدائل عقلانية لتأصيل مفهوم الدولة عن طريق العودة إلى المرحلة النبوية وعهد الخلافاء الراشدين، ومن ثم تجاوز آفة الطائفية الدينية والمذهبية والإيديولوجية التي تنخر جسد الأمّة الإسلامية المعنّى.

وبعبارة أكثر وضوحاً، إنّ الجابري يركّز بشكل مكثّف في كتابه على ثلاث مسائل جوهرية تمتّ بصلة وثيقة إلى ثنائية الدين والدولة وقضية تطبيق الشريعة، وقد سعى جاهداً منذ مبتدأ الكتاب حتى منتهاه إلى الإحاطة بأهمّ جوانبها وأحياناً بأدقّها، ومن ثم إماطة اللثام عن مكامن الخلل في تأويلها وفهمها وعكسها في الواقع العربي والإسلامي المشهود. وتتحدد هذه المسائل الثلاث في: هيمنة الخطاب السجالي، والتباس المفاهيم، ثم غياب المرجعية الأصل.

1- هيمنة الخطاب السجالي

يثبت الجابري في مقدمة كتابه الموسومة بـ"المرجعية المنفتحة" أنّ تناول ثنائية الدين والدولة في المشهد السياسي والإعلامي العربي يتخذ طابع السجال السطحي دون النفاذ إلى عمق هذه القضية الخطيرة، التي يتداخل فيها الإيديولوجي والديني، حتى أنّ أغلب الذين تعرضوا لها يظل نظرهم مشرباً بما هو إيديولوجي، وملتصقاً بطبيعة الإيديولوجيا التي يتبنون أفكارها. يقول في هذا الصدد: "وقد لاحظنا أنّ معظم ما اطلعنا عليه من المؤلفات والمقالات التي تتناول هذا الموضوع، من هذه الزاوية أو تلك، وبهذا الدافع أو ذاك، يكتسي طابعاً سجالياً صريحاً أو غير صريح. والخطاب السجالي خطاب توجّهه الرغبة في إبطال رأي الخصوم أكثر من أي شيء آخر. إنه خطاب الردود والردود على الردود، وبالتالي فهو لا يبني معرفة ولا يبرهن على حقيقة".[3] ثم يحدد بعدئذ خصائص هذه المعالجات أو التفسيرات المؤدلجة في العناصر الثلاثة الآتية:

  • الانطلاق من فرضيات ليس هناك ما يسندها في النصوص الدينية ولا في التجربة التاريخية العربية الإسلامية.
  • تأويل بعض النصوص تأويلاً يحمّل الكلمات والسياقات أكثر ممّا تحتمل.
  • إهمال التمييز بين ما هو معرفي وما هو إيديولوجي، بين ما هو حقائق تاريخية وما هو مجرد هوى ورغبات دينية.

وبناء على هذا، يظهر أنّ هذه السجالات تنطوي على خطأ منهجي خطير، ذلك لأنّ موضوع الدين والدولة وتطبيق الشريعة من الموضوعات التي تتأثر بالسياسة وتخضع لحاجاتها ومنطقها. "وإذا كان الباحث المعاصر نفسه ذا ميول سياسية يريد تكريسها، فإنّ الحقيقة ستتيه وتضيع من دون شك بين معارج سياسة الماضي ومتاهات سياسة الحاضر".[4]

ولا يقترن طابع السجال بمرحلة معينة من تاريخ الأمّة الإسلامية المعاصر، سواء التي سبقت ظهور هذا الكتاب أو التي ألف أثناءها، وإنما يتخلل أغلب أطوار تاريخها الحديث التي شهدت وتشهد نقاشاً محموماً على مختلف الأصعدة، وبين شتى التيارات والأحزاب والمذاهب، وقلما يفضي ذلك إلى نتائج ملموسة وعملية تترجم على أرض الواقع الاجتماعي أو التربوي أو الحقوقي أو الإعلامي. فما أكثر الندوات والمؤتمرات واللقاءات التي تعقد عبر خارطة العالم العربي والإسلامي، فيحمى فيها وطيس النقاش والسجال، وتختتم في آخر المطاف بتوصيات ومقترحات تحفظ على الرفوف إلى أجل غير مسمى! كأنّ الهدف من ذلك كله هو أن يستعرض المشاركون عضلاتهم الإيديولوجية أمام وسائل الإعلام والاتصال ليس غير! ومن الطبيعي جداً أن يؤثر ذلك على جنس الخطاب السياسي والفكري المهيمن أو المنتَج في المشهد العربي، ما دام أنّ المحصلات تتحد في الغالب الأعم بطبيعة المقدمات المعتمدة.

وقد ترتب عن هذه الوضعية المزرية أن تسيّس الإعلام وارتدى الفكر مسوح الإيديولوجيا التي أصبحت بمثابة "موضة" تتلون حسب طبيعة الإيديولوجيا الرسمية أو الشعبوية الطاغية (ماركسية، ليبرالية، إسلامية)، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد من التعاطي الإيديولوجي أو التبني الفكري، وإنما أسفر ذلك الوضع، كما يستكنه الجابري، عن ضياع الحقيقة "بين معارج سياسة الماضي ومتاهات سياسة الحاضر".

2- التباس المفاهيم

يكشف الجابري منذ مقدمة الكتاب عن جملة من المفاهيم الملتبسة في الواقع والفكر الإسلاميين المعاصرين، التي تنبني على التناقض الدلالي والتعارض المنطقي، إمّا مع المصدر الغربي الذي استمدت منه كما هو حال مصطلح العلمانية، وإمّا مع مرجعيتها التراثية الإسلامية التي أخذت منها كمصطلحات السلف والبدعة والدولة وغيرها. واللافت للنظر أنّ إشكالية الالتباس هذه تعتري مفاهيم أساسية لا يمكن الاستغناء عنها في وجودنا ومعرفتنا وتواصلنا مع الآخر، ومن شأن هذا الخلل أن يمتد أيضاً إلى مختلف مستويات الواقع والتفكير، ولعل هذا ما تعاني منه الأمّة العربية والإسلامية منذ عقود طويلة، إذ فشلت في صياغة مرجعية مفهومية وفلسفية ودينية مشتركة تحتكم إليها المذاهب والتيارات والفرق كلما طفت الاختلافات أو الخلافات على سطح الواقع. وقد تعرّض الجابري بالتحليل العميق لمجموعة من المصطلحات التي تلتبس مفاهيمها في السجالات والقراءات الفكرية والسياسية والإعلامية العربية، ليخلص بعد ذلك إمّا إلى طرح المفهوم السليم لبعضها اعتماداً على أصلها اللغوي أو التراثي الصحيح، وإمّا إلى اقتراح بدائل مفهومية أخرى تناسب الواقع العربي الإسلامي ذا الخصوصيات المختلفة عن الواقع الأوروبي أو الغربي.

ثنائية الدين والدولة

يرى الجابري أنّ مسألة "العلاقة بين الدين والدولة" لم تطرح في زمن النبي ولا في زمن الخلفاء الراشدين، ففي زمن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان الجهد متجهاً إلى نشر الدين والدفاع عنه، وكان "الأمر" كله في هذا الشأن لصاحب الرسالة: للوحي الذي كان ينزل عليه ولاجتهاده الشخصي واجتهاد صحابته".[5] ثم إنّ مصطلح الدولة بمفهومنا المعاصر ظهر لأول مرّة مع انتصار الثورة العباسية حين قال العباسيون هذه دولتنا، إشارة إلى انتقال الأمر إليهم من يد الأمويين. ومن هنا جاءت على لسان المؤرخين عبارات: الدولة الأموية، الدولة العباسية، دولة معاوية، دولة هارون الرشيد، وهي عبارات تفيد انتقال الأمر من أسرة إلى أخرى، ومن ملك إلى آخر، وهي مصطلحات تجد معناها الأصلي في قوله تعالى: "وتلك الأيام نداولها بين الناس". كما أنّ الصحابة لم ينظروا إلى الإسلام على أنه دولة بهذا المعنى، معنى الشيء الذي تتناقله الأيدي والذي يختفي بعد وجود. كلا، لقد كانوا ينظرون إلى الإسلام على أنه الدين الخاتم الذي سوف يبقى إلى يوم القيامة. ولذلك ربطوه بالأمّة ونسبوا الأمّة إلى الإسلام ورسول الإسلام: أمّة الإسلام، أمّة محمد.[6]

لذلك فإنّ ثنائية الدين والدولة في الواقع العربي المعاصر طرحت بمضمونها الأصلي، الأوروبي، الذي يفيد المطالبة بفصل الدين عن الدولة، وهو طرح يختلف جذرياً عن المرجعية التراثية والتاريخية الإسلامية، التي لا تحتمل ثنائية دين/دولة، ومرد ذلك حسب الجابري إلى أمرين: أولهما أنه لم يكن هناك في التاريخ الإسلامي بمجمله دين متميز أو يقبل التمييز والفصل عن الدولة، فالتاريخ الإسلامي لم يشهد قط أنّ دولة قبلت أن يفصل الدين عنها، إذ لا أحد من الحكام استغنى عن إعلان التمسك بالدين لأنه لا أحد منهم كان يستطيع أن يلتمس الشرعية لحكمه خارج شرعية الإعلان عن خدمة الدين والرفع من شأنه. وثانيهما أنه لم يكن هناك في التاريخ الإسلامي مؤسسة خاصة بالدين متميزة من الدولة، فلم يكن الفقهاء يشكلون مؤسسة، بل كانوا أفراداً يجتهدون في الدين ويفتون فيما يعرض عليهم من النوازل أو تفرزه تطورات المجتمع من مشاكل.[7]

الديمقراطية والعقلانية بدل العلمانية

يذهب الجابري إلى أنّ العلمانية شعار ملتبس، فهو ترجمة غير موفقة لللائكية بالفرنسية، ذلك لأنّ كلمة لائيك لا ترتبط بأي علاقة اشتقاقية مع لفظة العلم. إنّ أصل الكلمة يوناني: لايكوس ومعناها ما ينتمي إلى الشعب، إلى العامة، وذلك في مقابل كليروس أي الكهنوت: رجال الدين الذين يشكلون فئة خاصة، وإذن فاللائكي هو كل من ليس كهنوتياً، من لا ينتمي إلى رجال الكنيسة. وتعضيداً لهذا الأصل الدلالي لمصطلح اللائكية/العلمانية يستلهم الجابري رؤية جان لاكروا التي مؤداها أنّ "فكرة اللائيكيّة ليست المقابل المعارض لفكرة الدين، ولكنها تستدعي على الأقل التمييز بين ما هو دنيوي وما هو مقدّس. إنها تفترض أنّ جانباً من الحياة البشرية لا يخضع لقبضة التعاليم الدينية، أو على الأقل يقع خارج سلطة رجال الدين".[8]

وتجمع أغلب الآراء التي تناولت قضية العلمانية على أنّ التمييز بين ما هو دنيوي وما هو أخروي بالكيفية المعتمدة في المجتمعات الغربية الحديثة والمعاصرة غريب عن الإسلام؛ ديناً وثقافة وتاريخاً، لا سيما أنّ العلاقة بين ثنائية الدين والدنيا في الإسلام متداخلة، بل ومتماسكة لا يمكن الفصل بينها. وهذا ما يعبّر عنه الجابري بقوله: "هذه الفكرة غريبة تماماً عن الدين الإسلامي وأهله: فالدين الإسلامي قوامه علاقة مباشرة بين الفرد البشري وبين الله، فهو لا يعترف بأي وسيط، وليس فيه سلطة روحية من اختصاص فريق وسلطة زمنية من اختصاص فريق آخر. وباختصار، فإنّ طرح شعار اللايكية، أي ما ترجم بـ"العلمانية"، في مجتمع يدين أهله بالإسلام هو طرح غير مبرر، غير مشروع، ولا معنى له".[9]

لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة في هذا الصدد هو كيف تسللت الإيديولوجيا العلمانية إلى العالم العربي، رغم غرابتها عن ذلك الواقع؟ وهذا ما يكشف عنه الجابري من خلال اعتباره أنّ نشأة العلمانية في المنطقة العربية جاءت بمثابة رد فعل على الحكم العثماني الذي كان يضطهد الأقليات المسيحية العربية، وذلك عندما طرح مفكرون عرب مسيحيون شعار العلمانية بديلاً للحكم العثماني، وذلك عبر "قيام دولة عربية في المشرق غير خاضعة للسلطة العثمانية". ما يعني أنّ هذه الدعوة إلى العلمانية "كانت مرتبطة ارتباطاً عضوياً بمشكله حقوق الأقليات الدينية، وبكيفية خاصة حقها في أن لا تكون محكومة بدين الأغلبية، وبالتالي فـ"العلمانية" على هذا الاعتبار كانت تعني بناء الدولة على أساس ديمقراطي عقلاني وليس على أساس الهيمنة الدينية".[10] لذلك "من الواجب، حسب الجابري، استبعاد شعار "العلمانية" من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري "الديمقراطية" و"العقلانية"، فهما اللذان يعبّران تعبيراً مطابقاً عن حاجات المجتمع العربي: الديمقراطية تعني حفظ الحقوق: حقوق الأفراد وحقوق الجماعات، والعقلانية تعني الصدور في الممارسة عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية، وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج".[11]

التجديد بدل الصحوة

يرى الجابري أنّ كلمة الصحوة غريبة عن القاموس الإسلامي، فهي توحي "بأنّ الإسلام كان قبل ذلك "نائماً" أو غائباً، في حين أنّ الإسلام، عقيدة وشريعة، أو مثلاً أعلى للحياة لم "ينم" يوماً ولم يغب لا عن وجدان المسلمين ولا عن سلوك كثير منهم".[12] لذلك يقترح كلمة التجديد بدل الصحوة ذات البعد الظرفي والسطحي، في حين يشير التجديد "إلى عمل بعيد الأغوار ينزل بكل ثقله على المستقبل، ولذلك فهو يقع في أعماق التاريخ، في صلبه، يواكب صيرورته ويوجهها ويطمع في التحكم فيها".[13] فضلاً عن ذلك، فالتجديد بالنسبة إلى الرؤية الإسلامية جزء من الحياة نفسها، "وبما أنّ الإسلام لا يفصل بين الدين والدنيا، بل بالعكس من ذلك، يربط صلاح أمور الدين بصلاح أمور الدنيا، فإنّ تجديد أمور الدين يعني في الوقت ذاته تجديد أمور الدنيا. وبما أنّ أمور الدنيا تتغير من زمان إلى آخر، فإنّ مفهوم التجديد ومتطلباته لا بد من أن يتغير بحسب الظروف والأعصار".[14]

السلفية.. تجربة تاريخية

يطرح الجابري فهماً خاصاً به لمصطلح السلفية، بكونها كانت دائماً جزءاً من التجربة التاريخية للإسلام السنّي. فهي تحاول دوماً ترسيخ وجودها وحفظ استمراريتها، لا سيما عندما يفرز تطورها الداخلي ما يهددها بالاندثار. "فهي إذن نوع من المقاومة الذاتية لأمراض داخلية ذاتية المنشأ. وقد كانت كافية وناجعة عندما كانت الحضارة العربية الإسلامية هي حضارة العالم لعصرها، أعني غير مزاحمة ولا مهددة بحضارة أخرى معاصرة لها على صعيد الزمن...".[15] أما اليوم وقد أصبحنا جزءاً لا يتجزأ من حضارة إنسانية مشتركة وشاملة، فإنّ "النموذج ـ السلف" الذي يقدّم نفسه بصفته عالماً يكفي ذاته بذاته، لم يعد يجدي في عالم مشترك ومتداخل ومتطور، حيث نحن في حاجة إلى أنموذج يشمل جماع التجربة التاريخية لأمتنا مع الاستفادة من التجربة التاريخية للأمم الأخرى التي تناضل مثلنا من أجل الحفاظ على وجودها، أو الأمم التي أصبحت اليوم تفرض حضارتها حضارة للعالم أجمع.[16]

التطرّف.. يميناً ويساراً

يقدم الجابري أيضاً فهماً خاصاً للتطرّف، فـ"التطرّف في اليسار هو موجّه أصلاً ضد اليسار نفسه، كما أنّ التطرّف في اليمين موجّه ضد اليمين، وغالباً ما يكون الخصم اللدود للمتطرّف في إحدى الجهتين هو أقرب "الناس" إليه، على يمينه أو على يساره". وهذا ما ينطبق أيضاً على الجماعات الإسلامية المتطرفة التي "تتجه بالاعتراض والخصومة إلى التيار الإسلامي "الوسط" أو "المعتدل"، مثلها في ذلك مثل "الخوارج" في صدر الإسلام".[17] ويؤدي انعزال الجماعات المتطرفة يميناً أو يساراً إلى بقائها على الهامش وتكرارها للتجربة ذاتها مع نفسها، فتنقسم إلى جماعات تخاصم بعضها بعضاً، وتكفّر كلّ جماعة منها الأخرى، كما حدث في صفوف الخوارج، وهكذا تنتهي الحركات المتطرفة إلى التفتت والذوبان. وقلما نسمع بأنّ حركة متطرفة غيرت الوضع أو صنعت التاريخ، فالتاريخ تصنعه القوى المتصارعة في الوسط غالباً.[18]

التطرّف.. عقيدة وشريعة

يطرح الجابري سؤالاً من الأهمية القصوى بمكان، وهو: "لماذا هذا التحول؟ لماذا مارس المسلمون قديماً السياسة على مستوى العقيدة ولم يختلفوا سياسياً في أمور الشريعة، ولماذا يجري الاختلاف بينهم اليوم، سياسياً على مستوى الشريعة، وليس على مستوى العقيدة؟"[19] يفسر الجابري هذا الأمر بأنه قديماً كان هناك اختلاف على مستوى العقيدة لأنه كان هناك تعدد في الأنظمة الفكرية الدينية. أما على المستوى الاجتماعي فقد كان هناك نظام اجتماعي واحد، على مستوى واحد من التطور، وهذا ما سوف يشهد تغيراً جذرياً، لا سيما في العصر الحديث خلال اصطدام المجتمع الإسلامي بنظم الحضارة الأوروبية الحديثة، الاقتصادية منها والسياسية والاجتماعية، فيترتب عنه اختلاف عميق في تنزيل أحكام الشريعة الإسلامية على القضايا المستجدة.[20] وإذا كانت التيارات المتطرفة القديمة قد تلاشت مع مرور الزمن تحت تأثير المذهب الأشعري الذي أعاد بناء علوم العقيدة والكلام، فـ"إنّ التيارات الإسلامية المتطرفة ستنسحب من الساحة عندما يقوم وسط الاتجاه السلفي المعاصر رجال يقومون بمهمة إعادة بناء الشريعة (الفقه) بتوظيف المناهج والمفاهيم المعاصرة، الآن، مناهج ومفاهيم علوم الاقتصاد والاجتماع والسياسة التي أفرزها تطور المعرفة وتطور المجتمع معاً، توظيفاً عملياً حقاً".[21]

3- ضرورة بناء مرجعية موحدة

يكرّر الجابري عبر مختلف فصول ومباحث الكتاب دعوته إلى بناء إطار مرجعي يوحد رؤية الأمّة الإسلامية المعاصرة حول شتى قضايا الدين والدولة والفقه. ترى ما طبيعة المرجعية التي يحلم بها الجابري ويدعو إليها بجدية صادقة؟ يقول بهذا الخصوص: "المرجعية الأصل السابقة على جميع المرجعيات، في التجربة التاريخية العربية الإسلامية، هي عمل الصحابة على عهد الخلفاء الراشدين، ذلك لأنه لما كانت نصوص الكتاب والسنّة لا تشرع لشؤون الحكم والسياسة، ولا تتعرض للعلاقة بين الدين والدولة بنفس الدقة والوضوح اللذين تناولت بهما قضايا أخرى كقضايا الميراث والزواج مثلاً، فإنّ المرجعية الأساسية، إن لم نقل الوحيدة، في مجال العلاقة بين الدين والدولة ومسألة تطبيق الشريعة هي عمل الصحابة. إنهم هم الذين مارسوا السياسة وشيدوا صرح الدولة وطبقوا الشريعة على أساس فهم أصيل لروح الإسلام".[22]

وهو لا يحكم من خلال هذا الاختيار على باقي المرجعيات التي شيدها أئمة مجتهدون بالخلل أو بالانحراف، بل يحترمها أيما احترام، غير أنه يرى أن تلك المرجعيات توخوا فيها أن تجيب على ما طرح في تلك العصور من مستجدات من جهة، وأن تنظم الاجتهاد وتضع له قواعد من جهة أخرى. ومادام أنّ عصرنا يختلف اختلافاً كبيراً فإنّ الحاجة تدعو إلى الرجوع إلى الأصل كما كان منفتحاً وغير مقنّن قبل ظهور الخلاف وقيام المذاهب والفرق، أي كما كان زمن الخلفاء الراشدين.[23]

غير أنّ السؤال الذي ظل يشغل بال الجابري وهو يصوغ رؤيته هذه هو: هل يجب الأخذ بالقواعد والأصول التي وضعها المجتهدون القدامى لتنظيم الاجتهاد في عصورهم على أنها ضرورية دوماً ومفيدة دوماً؟

حسب اعتقاد الجابري "إنّ القواعد والأصول المنظمة للمعرفة هي، كالقواعد المنهجية بصورة عامة، مجرد وسائل. وإذا لم تتطور الوسائل بتطور العلم والمعرفة، وإذا لم ترقَ إلى مستوى تطور الموضوع الذي هي وسيلة إليه، فإنها تصبح قيوداً تجمد المعرفة عند حد معين فتكرس التقليد وتقتل روح الاجتهاد".[24] وهذا ما ينطبق كذلك على عصرنا اليوم، حيث تختلف المشاغل والحاجات عن العصور التي أملت على الفقهاء والأصوليين القدامى قواعدهم ومناهجهم، ما يعني أنّ معالجة مشاغل عصرنا ومشاكله تتطلب تجاوز القيود المنهجية التي قيدت بها المعرفة الدينية في الماضي.[25]

ولعل مبدأ المصلحة يشكل كنه هذه المرجعية التي يدعو إليها الجابري، فتاريخ النبوّة والخلفاء يحفل بنماذج تعضد الأخذ بهذا المبدأ الأصولي، "فكثيرة هي النوازل والحوادث التي كانت تعرض على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من دون أن يكون قد جاءه الوحي الذي يجيب عنها، فيستشير الصحابة، فيفتون بناء على خبرتهم بالأمور وعلى معرفتهم بوجه المصلحة، ويستحسن النبي ما أفتوا به ويصبح ذلك تشريعاً. وقد يأتي الوحي فيما بعد أو في الحين، لتقرير ما أفتى به الصحابة".[26] كما أنّ عمر بن الخطاب عرف باجتهاداته الصائبة، سواء أثناء حياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أم أثناء مرحلة خلافته، وهذا إن دل على شيء، فإنه يدل على "أنّ هذا المبدأ، مبدأ المصلحة، هو المستند الذي كان الصحابة يرتكزون عليه في تطبيقهم للشريعة، سواء تعلق الأمر بما فيه نص أو بما ليس فيه".[27]

والخلاصة من هذا، أنّ تطبيق الشريعة الإسلامية في عصرنا الحالي بكيفية تناسب تحولات العصر وتقلباته وإشكالاته يقتضي، حسب اعتقاد الجابري، "إعادة بناء مرجعية للتطبيق. والمرجعية الوحيدة التي يجب أن تعلو على جميع المرجعيات الأخرى هي عمل الصحابة. إنها المرجعية الوحيدة التي يمكن أن تجمع المسلمين على رأي واحد، لأنها سابقة على قيام المذاهب وظهور الخلاف، وهي أيضاً الصالحة لكل زمان ومكان لأنها مبنية على اعتبار المصالح الكليّة".[28]


([1]) نشر في ملف بحثي بعنوان "مفهوم الدولة، "الدولة الإسلاميّة"، "دولة الخلافة""، سنة 2014، إشراف بسام الجمل، تنسيق أنس الطريقي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود.

[2]- الجابري، محمد عابد، الدين والدولة وتطبيق الشريعة، (سلسلة الثقافة القومية 29، قضايا الفكر العربي 4)، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت لبنان، ط1/فبراير 1996

[3]ـ المرجع السابق، ص 7

[4]ـ المرجع السابق، ص 8

[5]ـ المرجع السابق، ص ص 19، 20

[6]ـ المرجع السابق، ص 21

[7]ـ المرجع السابق، ص ص 61، 62

[8]ـ المرجع السابق، ص ص 108، 109

[9]ـ المرجع السابق، ص 110

[10]ـ المرجع السابق، ص ص 111، 112

[11]ـ المرجع السابق، ص 113

[12]ـ المرجع السابق، ص ص 127، 128

[13]ـ المرجع السابق، ص 129

[14]ـ المرجع السابق، ص 130

[15]ـ المرجع السابق، ص 140

[16]ـ المرجع السابق، ص 141

[17]ـ المرجع السابق، ص 147

[18]ـ المرجع السابق، ص 149

[19]ـ المرجع السابق، ص ص 153، 154

[20]ـ المرجع السابق، ص ص 154، 155

[21]ـ المرجع السابق، ص ص 156، 157

[22]ـ المرجع السابق، ص 9

[23]ـ المرجع السابق، ص 10

[24] ـ المرجع السابق، ص ص 10، 11

[25]ـ المرجع السابق، ص 12

[26]ـ المرجع السابق، ص 39

[27]ـ المرجع السابق، ص 41

[28]ـ المرجع السابق، ص 53