حركة الترجمة في العالم العربي


فئة :  مقالات

حركة الترجمة في العالم العربي

حركة الترجمة في العالم العربي*


كانت المنطقة العربية وما زالت، ساحة معركة مستمرة في نظر الدول الغربية التي تتنافس من أجل السيطرة عليها. هناك العديد من الكتابات عن المنطقة قدمها الرحالة والمستشرقون ورؤساء البعثات الأجنبية متعددة الأهداف، ولكنها كانت بالتأكيد من منظور هذا الغرب. وربما كان أحد أهم الأسباب هو عدم قدرة العرب على ترجمة ما يختارونه هم عن حياتهم وتقديمها للعالم كما يريدون أن يراهم الآخرون. والسؤال: إلى أي مدى تغيرت هذه الحال؟

تحاول هذه الورقة الإجابة على هذا السؤال، وتبحث في أهمية الترجمة، وتاريخها في الشرق والغرب، وبدايات الاشتباك الحضاري المعاصر، ثم واقع الترجمة اليوم، ومشكلاته، وآفاقه.

لماذا الترجمة؟

كتب إديث غروسمان في (لماذا نهتم بالترجمة؟):

"الترجمة قضية حاسمة لإحساسنا بأنفسنا بوصفنا قراء جادين، ولأننا أشخاص متعلمون ومثقفون، فسنجد أن غياب الترجمة يجعل الدراسة والقراءة أمرا لا يمكن تصوره. هناك ما يقرب من ستة آلاف لغة موجودة في العالم. دعونا نفترض أن ألفا منها هي لغات مكتوبة. لا يوجد حتى لغوي واحد يمكنه قراءة النصوص الأدبية المعقدة في ألف لغة. ونحن نشعر بالرهبة من العدد القليل من الناس الذين يمكنهم قراءة عشر لغات جيدا، ومن الواضح أنه إنجاز مذهل، على الرغم من أننا يجب أن نتذكر أنه إذا لم تكن هناك ترجمة، فإنه حتى متعددي اللغات من شأنهم أن يحرموا من أي تواصل مع ما كتب بـ 990 لغة لا يعرفونها. وإذا كان هذا صحيحا عند اولئك الموهوبين لغويا، فتخيل أثر غياب الترجمة فينا. توسع ترجمتنا للأدب قدرتنا على استكشاف أفكار ومشاعر الناس من مجتمع آخر أو زمن آخر، وتسمح لنا بتذوق تحول الغريب إلى المألوف، وأن نعيش مدةً وجيزة خارج جلودنا، خارج أفكارنا المسبقة ومفاهيمنا الخاطئة. إنها توسع عالمنا، ووعينا وتعمقهما، بطرائق لا توصف ولا تعد ولا تحصى"[1]. وفي محاضرته "الترجمة والنهضة العربية الحديثة"، يرى الروائي والمترجم العربي جبرا إبراهيم جبرا، للترجمة منافع أُخرى؛ فهي وسيلة لتعزيز النهضة العربية الحديثة و"إعادة الأمة العربية إلى موقعها الأصلي الملحوظ في سياق الحضارات الواسع"[2]. هنا يضع جبرا الترجمة ضمن سياق ثقافي بحت، حين يراها وسيلة لاستعادة بناء الماضي المجيد.

الترجمة إذن، طريق التواصل والمعرفة، وبالتالي وسيلة للفهم والتفاهم الإنساني؛ بمعنى أنها وسيلة حاسمة لخلق التعاطف الإنساني والتفاهم الثقافي الأعمق. كما أنها وسيلة للنهضة وتبادل المعارف والعلوم، ولكن ليس من الصعب العثور على أمثلة مخالفة خصوصا من تاريخ المنطقة العربية وعلاقاتها بالغرب الاستعماري والإمبريالي للدلالة على أن أهداف الترجمة ليست خلق تفاهم وتعاطف، وليست للتنمية وتلاقح الحضارات، ولكن هناك أشياء أُخرى. في تاريخ المنطقة الحافل بالصراعات المتتالية مع الخارج لم تكن الترجمة من أجل أن نفهم بعضنا البعض فقط، وإنما من أجل أن نتعلم كيف نحارب بعضنا البعض، وكيف نعمق سوء الفهم والتباعد والصور النمطية المسبقة.

نظرة تاريخية:

يرجع الباحثون الترجمة في العالم العربي إلى الترجمات المبكرة للسوريين (النصف الأول من القرن الثاني الميلادي)، الذين ترجموا إلى اللغة العربية تراثا كبيرا ينتمي إلى العصور الوثنية[3]. ثم دفع انتشار الإسلام والتواصل مع المجتمعات غير العربية النبي محمد صلى الله عليه وسلم للبحث عن مترجمين وتشجيع تعلم اللغات الأجنبية. أحد المترجمين الأكثر شهرة في ذلك الوقت هو زيد بن ثابت، الذي أدى دورا حاسما في ترجمة الرسائل التي بعث بها النبي إلى ملوك البلدان الأجنبية من بلاد فارس وسوريا وروما واليهود، وأيضا الرسائل المرسلة من أولئك الملوك إلى النبي. ثم في عقود لاحقة ترجم المسلمون القرآن الكريم إلى لغات عدة[4].

شهدت الترجمة العربية تغييرات جذرية في العصر العباسي (750-1250)؛ مع الخليفة المنصور، الذي بنى مدينة بغداد، وتطورت في زمن الخليفة المأمون، الذي بنى "بيت الحكمة"، أكبر معهد للترجمة في ذلك العصر. خلال هذه الفترة، ركز المترجمون على الفلسفة اليونانية والعلوم الهندية والأدب الفارسي[5]. وكان الجاحظ (868-577)، واحداً من أكبر المنظرين في الترجمة، ولا يزال يستخدم نظرياته وكتاباته في الترجمة العديد من المترجمين العرب المحترفين حتى اليوم. وهناك مجموعة كبيرة من الأبحاث في مجال دراسات الترجمة، تسلط الضوء على الإسهام المفيد للمترجمين العرب في القرون الوسطى في التعليم الغربي والفكر بوصفها أعظم عملية نقل للمعرفة في التاريخ. ومع ذلك، تغيرت الظروف التاريخية التي أدت إلى مثل هذه الحركة في الترجمة في العالم العربي والإسلامي في العصور الوسطى بشكل كبير على مر القرون. كان أشد هذه التغيرات دراماتيكية هو سقوط بغداد على يد المغول. كانت بغداد مركزا مزدهرا للعالم الإسلامي، وظلت كذلك لأكثر من خمسمائة عام، حتى تم تدميرها على يد هولاكو عام 1258. وقد ترك تدمير بغداد والخلافة العباسية أثراً عميقاً على تعلم العربية وعلى الترجمة في العصور الوسطى، وكتب بذلك نهاية العصر الذهبي للترجمة العربية.

في السياق الغربي، يذكر الباحثون أن الترجمة في الغرب تعود إلى الرومان، ويقول إريك جاكوبسون إن الترجمة هي اختراع روماني[6]. ويشير إلى أن شيشرون وهوراس (القرن الأول قبل الميلاد) كانا أول المنظرين الذين ميزوا بين ترجمة كلمة مقابل كلمة والترجمة معنى مقابل معنى. وفي مرحلة لاحقة، تطورت الترجمة على يد سانت جيروم (القرن الرابع م) الذي ترجم الإنجيل من اليونانية إلى اللاتينة[7]. "ظلت ترجمة الكتاب المقدس تخضع لجدل كبير بين المنظرين الغربيين لأكثر من ألف سنة، ومع قدوم الإصلاح في القرن السادس عشر، وظفت الترجمة لاستخدامها سلاحا في كل الصراعات العقائدية والسياسية، حيث بدأت الدول القومية في الظهور وبدأت مركزية الكنيسة تضعف مع تراجع اللاتينية بوصفها لغة عالمية".[8] أدى اختراع آلة الطباعة في القرن الخامس عشر إلى تطوير الترجمة وبروز المنظرين الأوائل في الترجمة، واستمر تصاعد التطورات والاهتمام بالترجمة خلال القرون اللاحقة.

اشتباك الشرق والغرب: الترجمة وسيلة للفهم المشترك أو سلاح في ساحات المعارك

في عام 1798، أرسل نابليون بونابرت حملة عسكرية فرنسية إلى مصر العثمانية. فشلت الحملة في تحرير المصريين من الاستبداد المملوكي كما زعم نابليون وفشل المصريون في صدها، ولكن أهم نتائجها الثقافية هي إعادة إحياء الترجمة في العالم العربي. وعلى الرغم من أن حملته استمرت ثلاث سنوات فقط، فإن آثارها الثقافية في مصر والعالم العربي تجاوزت القرن الثامن عشر. أدرك العرب عمق الفجوة بينهم وبين الغرب، من حيث القوة العسكرية والتقدم الفكري. مما دفع الحكام المحليين للبحث عن المعرفة بأوروبا في محاولة لسد الفجوة. وهكذا أنشأ محمد علي، حاكم مصر في القرن التاسع عشر، مدرسة الترجمة. والحقيقة هنا أن ما كان يحدث ليس ترجمة بالمطلق، بل نوع من استيعاب مواد منتقاة بعناية في الثقافة الغربية بغرض الترفيه، ومع ذلك، كانت تلك البدايات مقدمة لازدهار حفزه دخول الطباعة والصحف وعودة البعثات التي أرسلها علي إلى أوروبا، والتي أخذت الأدب الغربي على محمل الجد. وهكذا، فقد ترجمت أعمال لافونتين، كورناي، فيكتور هوغو، لامارتين، موسيه، فينيي، بودلير، شكسبير، ميلتون، كيتس، بتلر، شيلي وكيبلينغ، على سبيل المثال، في نهاية القرن التاسع عشر، وتطورت تقانات الترجمة وارتقت اختيارات المترجمين[9]. لم يبادل الغرب العرب هذا الاهتمام بثقافتهم من خلال كتبهم، فقد اقتصر الاهتمام على سرديات البعثات المختلفة الطبية والتبشيرية والتنقيبية والعسكرية والمهتمين من المستشرقين، الذين كتبوا العرب بعيونهم ومن وجهة نظرهم واستنادا إلى خلفيتهم الثقافية؛ ليعود العرب ويترجموا ما كتبه عنهم هؤلاء ليعرفوا أنفسهم من خلال عيون الآخرين (جوهر نظرية الاستشراق لإدوارد سعيد).

كانت بدايات تغيير هذا الوضع منتصف القرن العشرين، أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، وتقول ندى توميك "حول منتصف القرن العشرين، توقف اتجاه حركة الترجمة عن أن يكون من جانب واحد، عندما بدأ الغرب ترجمة الأعمال العربية الحديثة خصوصا إلى الفرنسية والإنجليزية". ولكن عدد الأعمال كان محدودا جدا، وبالكاد وصل عدد ما ترجم إلى 401 عملاً إلى اللغات الست (الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والألمانية والإسبانية والبرتغالية) بين عامي 1948 و 1968. تصدرت حكايات ألف ليلة وليلة معظم الأعمال المختارة، إذ ترجمت 275 مرة، في حين كان عدد النصوص الأدبية المعاصرة المتاحة بهذه اللغات 74 نصا، والكلاسيكية 52 نصا[10].

واقع الترجمة اليوم: ما الذي تغير؟

كانت الانعطافة الكبرى عام 1988، بعد فوز الروائي نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب، الأمر الذي لفت الانتباه في الغرب إلى الأدب العربي بقوة ودفع باتجاه الترجمة عن العربية. ليس هذا فحسب، بل إن فوز محفوظ نبه المثقفين العرب إلى قضية الترجمة من العربية وإليها، وإلى واقعها وطموحها، وأبرز مشكلاتها وعوائقها.

لفت فوز محفوظ إلى أن حركة الترجمة تسير باتجاه واحد تقريبا، من اللغات الأجنبية إلى العربية، وسلّط الضوء على أهم مشكلة تواجه الثقافة العربية؟ لماذا لا يهتم بنا الغرب، ولماذا لا نحاول نحن أن نوصل ما أن يعرفه عنا إليه؟ كتب إدوارد سعيد مقالته الشهيرة: (الأدب المحظور) في كتابه (سياسات الاستلاب)، زعم فيها أن هناك تعمدا وقصدية وربما عدائية من نوع ما للأدب المكتوب باللغة العربية في الغرب[11]. ولكن حتى لو اتفقنا مع سعيد في ما ذهب إليه، فلماذا لا نترجم نحن وننشر ونوزع ونسوق أدبنا في الغرب، في ضوء أننا نملك الإمكانيات المادية الهائلة؟ هل على الغرب أن يترجمنا هو ليقرأنا ويعرفنا؟ ثم ماذا عن الانتقائية، هل سنخضع لانتقاءاته ولخطابه المهيمن سياسيا واقتصاديا وثقافيا الذي يتوافق مع أهوائه ومصالحه وصورتنا النمطية لديه، وهو الذي لم يترجم عنا طوال عقود سابقة سوى رائعة (ألف ليلة وليلة)؟

خضعت الترجمة من اللغة العربية لاستراتيجيات تمثيلية ضمن إطار مؤسس بالفعل، بمفرداته الخاصة وكتاباته[12]؛ بمعنى خطاب الثقافة المهيمنة وجاذبيتها الطاغية. في هذا الإطار، فإن الغرب يكتفي بتمثيلاته الخاصة عن علاقات السلطة والمعرفة، ولا يرى أنه بحاجة إلى أية معرفة خارج هذا الإطار بالغ التنميط. يكتب مترجم غربي عن تجربته الشخصية في ترجمة الأدب العربي المعاصر إلى اللغة الإنجليزية، يقول بيتر كلارك: ".. كنت أريد أن أترجم شيئاً عن الأدب السوري المعاصر.... ظننت أن أعمال عبد السلام العجيلي - جيدة جدا وتستحق الترجمة إلى الإنجليزية. فالعجيلي طبيب في السبعين من عمره يكتب الشعر، والنقد، والروايات والقصص القصيرة. قصصه القصيرة على نحو خاص تثير الدهشة، تقع أحداثها في وادي الفرات، وتصور التوترات بين الأفراد أو الدولة الطاغية المستبدة... اقترحت على ناشري البريطاني قصص العجيلي. فقال لي: "هناك ثلاثة أشياء خاطئة في هذه الفكرة. إنه ذكر، وعجوز، ويكتب القصص القصيرة. هل يمكنك العثور على روائية شابة؟""[13]، والحقيقة هو أن هذا ما حصل بالفعل، إذ إنه منذ دخول الجوائز الممولة غربيا إلى سوق الثقافة العربية، إن جاز التعبير، أصبحت المواد المؤهلة للترجمة هي ما يروق للغرب، وتحول هم المثقفين إلى أن يكتبوا ما ينال الرضا والقبول (سواء من ناحية الجنس الأدبي، الرواية تحديدا، أو المحتوى) رغبة في ترجمة أعمالهم، واعتقادا منهم أن الترجمة إلى أية لغة غربية هي جائزة بحد ذاتها، وهي طريق الشهرة العظيم. وهنا بالذات ستستقبل الكتابات بحفاوة كبيرة؛ لأنها غربية المضمون ولكنها كتبت بقلم غير غربي، لتؤكد على (آخرية) العرب والمسلمين: المتخلفين الاستبداديين وتحتفي بالغرب المتمدن الديمقراطي. ويمكننا في هذا الإطار، أن نراجع كل ما يرشح للترجمة أو يفوز بجوائز ممولة غربيا لنتأكد من صحة ما ذهب إليه هذا البحث. هذا ليس غريبا طالما أن من ينتقي ومن يترجم ومن يسوق ومن يدفع هو المؤسسة الغربية ذاتها. علينا أن نتذكر في هذا السياق، أن هناك إحصائيات تقول إن ما يترجمه الغرب من الأدب العربي يفوق ما يترجمه العرب أنفسهم من ذلك الأدب، بمعنى أن ما يترجم لنا أكثر مما نترجم نحن.

ونصل إلى السؤال: لماذا لا نترجم نحن أدبنا أولا، ثم آداب الثقافات الأخرى وعلومها؟

1-   تمثل الترجمة وجها خاصا من أوجه التردي الثقافي والاجتماعي والسياسي العربي. فمن انحطاط الثقافة المنتجة إلى تخلف العلوم والاختراعات، إلى ضعف الحجة النظرية وعدم المشاركة الفاعلة في الصياغة العالمية للمرحلة المقبلة، إلى الفقر والبطالة والحروب. كل ذلك يؤدي إلى حقيقة أنْ ليس لدينا ما نعرضه على الآخرين (هناك استثناءات لا ترقى لأن تكون حالة عامة يعول عليها).

2-   ضعف التعليم الأكاديمي، وبالتالي النقص الهائل في مهارات الترجمة الفردية، وتراجع دور الجامعات الريادي في البحث والترجمة وتخريج مهنيين قادرين على خوض غمار حقل شائك كالترجمة؛ فالأمر لا يتعلق بإجادة اللغتين فحسب، وإنما بالوعي بالدور الذي يقوم به ورؤية حضاريه منفتحة على ثقافته والثقافات الأخرى.

3-   الترجمة، من تجربة شخصية، جهدٌ منهك يستهلك من وقت المترجم وجهده الكثير، وفي المقابل، فإن دور النشر أو قل أغلبها تستغل المترجم، فهي تعلم أن سوق الترجمة هو الأنجع في ظل ضعف النتاج الفكري والثقافي والأدبي العربي، ولكنها تحجم عن تعويض المترجم مادياً بما يكافئ جهده ويتناسب مع مكاسبها.

4-   وعلى الرغم من أن مؤسساتٍ ومشاريعَ ترجمة كبيرة قد ازدهرت في السنوات الأخيرة، إلا أن ما نحتاجه لملاحقة ما يستجد في العالم، ونقل ما نريده من حضارتنا إلى اللغات الأخرى أكبر من ذلك بكثير، هذا فضلا عن عدم ضوح استراتيجيات هذه المؤسسات وآليات عملها؛ فالمطلوب هنا هو مأسسة الترجمة على أسس مهنية أولا تنحاز لثقافة المنطقة، وتبرزها بعيدا عن الإحساس بدونية المنتج العربي، مع عدم إغفال أن الترجمة جهد فردي أولا وأخيرا.

5-   أدى انتشار ثقافة البوب أو الثقافة الدنيا في عقود ما بعد الحداثة، إلى الاستسهال في توظيف اللغات، وفي القراءة والكتابة أيضا؛ فجمهور الشباب في العالم كله (مع فروق من بلد الى آخر) لا يهتم إلا بالثقافة السريعة الاستهلاكية التي تمنحها له الحضارة الرقمية التي غزت كل ثقافة. هذ الشخص لن يقرأ روائع الثقافة ولا جواهرها المكنونة إلا في ما ندر. يقودنا ذلك إلى البحث عن وسائل جديدة لتقديم المادة المترجمة بتوظيف أدوات الحضارة الرقمية التي تلائم الأجيال المعاصرة، وتطوير نظريات لغوية تنطلق من حقيقة أن اللغة تتطور في كل عصر عن سالفه، وأن تطورها لا يعني أبدا الإطاحة أو المس بالحضارة التي تمثلها. وربما أن اللغة العربية هي المقصودة دون غيرها في هذا السياق.

6-   قلنا إن الترجمة أداة حضارية كما أنها وسيلة مهمة لتحقيق التكافؤ بين الحصارات؛ فتخلف العالم العربي ليس مبررا لتجاهله، فهو مهد الحضارات بكل تراثها الفكري وأساطيرها وأديانها، ولكن الصراع المستعر بين الشرق والغرب لألفيات خلق حالة من العدائية المتبادلة. ولا نزعم أن تنشيط الترجمة سيحل هذه العدائية ويوقف الحروب التي لن تهدأ طالما أن الغرب المستشيط سياسيا واقتصاديا لا يرغب في تحويل أطماعه عن المنطقة، إلا أن الترجمة قد تفيد في نقل وجهة النظر العربية للجماهير الغربية التي لا تسمع الرواية من جهة واحدة فقط، يتطلب ذلك استراتيجية فكرية وإرادة سياسية عالية ونزيهة في دعم الترجمة التي توضح حضارة المنطقة، وتطرح قضاياها من وجهة نظر أبنائها لا كما يريد الغرب أن يراها.

7-   في ظل انعدام الحريات المتصاعد في العالم العربي، وعودة الأصولية الدوغمائية، ومغازلة المستوى السياسي والثقافي لها لتحقيق مصالح بعيدة عن الانفتاح والحرية الفكري، لن تزدهر الترجمة أبدا بسبب اختلاف الثقافات والمنظور والأسس التي يقوم عليها الفكر الغربي، ولأن الترجمة لا تهدف إلا إلى المعرفة في جوهرها الكوني والانساني والحضاري، فإن مناخا من الحرية سيساعد على ازدهارها فضلا عن تحريك المياة الراكدة في بركة النقد العربي الذي سيثري حتما حوار الحضارت ويصل بنا إلى مفاهيم رئيسة مشتركة مع الآخر.


* نشرت هذه المقالة في مجلة ذوات، العدد 8.

[1] Grossman, Edith.(2010). Why Translation Matters. Yale University Press, New Haven and London

[2] Jabra, J. I. (1992). Mu‟aayashat al-namirah: wa- awraaq ukhraa [Living with the Tigress and Other Papers]. Beirut: Al-Mo‟asasah al-Arabiyya lid-Dirasat wa an-Nashr.

[3] Mohammed Addidaoui (2000) Atarjama wa Attawāsol [Translation and communication]. Casablanca/Beirut: Al Markaz Attaqāfi Alarabi, p. 83

[4] Mohammed Ben Chakroun (2002) Majallat Jāmiaat Ben Yousef [The magazine of Ben yousef University ], "qadāyā Tarjamat Ma‘ani Al koraān Al Karim" [Issues on translating the meanings of the Koran], 2nd ed. Marrakech: Fdala press, p. 39

[5] Ali Alkasimi. (2006) Torjomiāt [Tradictology], "Atar Attarjama Fi Ma’arifat addāt wa idrāk al akhar" [The effect of translation on the recognition of the other and the perception of the self]. Rabat: Edition of Racines , p. 83

[6] Bassnett-McGuire S. (1980). Translation Studies, London: Methuen , p. 43

[7] Jeremy Munday. (2001). Introducing Translation Studies, Theories and applications London and New York: Routledge, p. 4

[8] Bassnet-McGuire. S, op. cit., (1980), p. 46

[9] المصدر نفسه.

[10] Tomiche, Nada. La Littérature arabe traduite. Paris: Geuthner, 1978

[11] Said, Edward. “Embargoed Literature.” The Politics of Dispossession. New York Pantheon Books (1990; 1994) 372-378

[12] Said, E. (1993) Culture and Imperialism. London: Chatto & Windus.

[13] Clark, P. (1997) "Contemporary Arabic Literature in English. Why is so little translated? Do Arabs prefer it this way?" In The Linguist 36 (4), 108-110