حريّة الضمير في زمن الإرجاء


فئة :  مقالات

حريّة الضمير في زمن الإرجاء

 حريّة الضمير في زمن الإرجاء*


حريّة الضمير هي الحق في أن يختار الإنسان من داخل الآراء الدينية التي ترد ضميره معتقداً يؤمن به، حتى لو كان هذا الاختيار اختياراً لعقيدة عدم الاعتقاد، أو اختياراً لعدم الاختيار فيعلق الحكم ويكون لا أدرياً. الدعوة إلى حماية حرية الضمير دعوة إلى حماية حرية اختيار عقيدة ما، وهي أمر باطني يُفترض وقوعه في باطن الإنسان[1]. المفهوم الذي يُنطلق منه هنا هو مفهوم الإرادة المختارة. افتراض وجودها هو الذي يجعل الحكم على الإنسان بأنه حر حكماً صادقاً. ذلك أنّ الإنسان بافتراض كونه مريداً (أو مختاراً) يجعل من فعل اختياره فعلاً حراً لا إكراه فيه. ففي لحظة الاختيار ترتفع جميع الأسباب المجبرة على الفعل ويكتسب الفعل المختار قيمة مطلقة.

يبدو من التشريعات الحديثة التي تنص على حرية الضمير أنها تستند إلى رأي بعينه فُضِّل على غيره، واختارت تصوراً بعينه عن الإنسان يحاول أن ينسلخ من أي تصور ديني له. ذلك الرأي هو الذي يرى أنّ الإنسان حر وليس مجبراً لحظة اختياره. ويفترض هذا الرأي أنّ الإنسان في داخل نفسه يقيم مجلساً للتشاور ويخرج في الأخير بقرار حر لا يلزمه عليه أي طرف داخله، ومن باب أولى خارجه. الاختيار بيد الإنسان والآراء الدينية واختيارها شأن داخلي وأمر ذاتي. يتأسس هذا التصور على اعتبار الإنسان ذاتاً فاعلة حرّة، والدين تجربة ذاتية، ومعيار الصلاحية هو الصدق في التجربة. لا يمكن أن تعتبر تلك التشريعات اعتناق عقيدة أو تغيير عقيدة هداية من السماء وليس يعنيها ذلك. المهم هو ما يقع في قرار نفسك.

قد يبدو أنّ الأمر كان ينبغي أن يكون هكذا دائماً، قد يبدو أنّ الأمر اختيار حر من هذا العصر، فهو عصر عدم الإكراه. لقد صارت رعاية حرية الضمير مهمة من مهمات العصر. إلا أنّ المفارقة أنّ حرية الضمير صارت كالمكره عليها في هذا العصر. كأنما نطلب من هذا العصر ونكرهه على ألا تصير الآراء الدينية مكرهة. صارت الذات والحرية والضمير ألفاظاً تُحمّل بمعانٍ يتوهم الجميع أنه يعرفها وهنالك نحوٌ لاستعمالها، يسهل تعلمه بسهولة لننخرط في تكرار عبارات وأحكام. قد يبدو لنا أننا أحرار باستعمالنا لهذه الألفاظ وأننا باستعمالنا للفظ الحرية نكون قد ضمنا الحرية وضمنا رعايتها وحمايتها، وأننا باستعمالنا للفظ الذات نشير إلى معطى بديهي، وأننا باستعمالنا للفظ الضمير نحيل على هذا العمق المقدّس الذي يتولد فيه قرار مقدّس. إلا أنّ أحدنا يرى الجبر حيث يرى الآخرون الاختيار. للحرية دولتها التي تدول. ويستغرق الإيمان بالحرية زمناً ليترك لزمن الإيمان بغيرها المكان. استبّدت بالمعتزلة فكرة حرية الإنسان الخالق لأفعاله، وكان لهذه الفكرة مجال واسع لتترسخ ويُقتنع بها، لكن دالت دولتهم وجاء من اعتبر الحرية مجرد وهم. كذلك في هذا الزمان الذي ابتدأ بلغة الحرية إلى أن بلغتنا تلك العبارة التي علمتنا الإحساس بما لم نكن نحس به، وهي عبارة موت الإنسان. وإذا كنا نعتقد أنّ الذات معطى أولي بديهي نكتشف أنّ عبارة صناعة الذات لها الاعتبار أيضاً. وإذا كان الضمير ممّا يُعتقد أنه عمق طبيعي ننتبه إلى أنه مكان عولج من لدن السلطة ليصير المجال الذي رسمته ليُقرر فيه بدل أن يترك القرار لسلطة الدين، فلم يكن هنالك تحرر بل استبدال لسلطة مكان سلطة.

دائماً نعود إلى الوراء لنقارن زمننا الذي نعدّه زمن الحرية بزمن غابت فيه، لنحاكم تلك الفترة التي كان يصعب فيها الفصل بين التدبير السياسي والتدبير الديني، إذ كانت السيادة للدين في تدبير الحياة الاجتماعية، وسيادة دين جديد كان يعني السيادة السياسية أيضاً. من أعماق ضمائر أشخاص كانت تسمو آراء وتظهر فكان النبذ والنفي حتى يتحول الفرد إلى جماعة دينية جديدة بسلطة جديدة. أنبياء ومتنبئون، صادقون وكاذبون. هو قدر تاريخ الدين الذي يحاول أن يغالب ما لا بدّ غالباً، فالآراء والخواطر الدينية التي تتزاحم في الضمائر البشرية لا نحصيها، بعضها بَقي في ظهر غيب الضمائر لم يظهر، وبعضها يجد طريقه إلى الظهور، إلا أنه يتعرض للنبذ والنفي والتبكيت فيلغى، وقد يُذكر وقد لا يُذكر. ويجد بعضها طريقه للظهور، ويقوى حتى يتحول إلى دين بآراء واضحة وأفعال يدعو إليها فيصوغ جماعة ومصيراً مشتركاً. من داخل الدين الواحد تتولد الآراء وتتكاثر. وبمجرد أن يستظهر دين جديد تخرج منه مذاهب وعقائد، ولا ينفك التفرق عن الاجتماع والتكتل الجماعي من جديد. انظروا إلى تاريخ الإسلام كيف كانت العقائد والمذاهب تترى، وتكاثرت العقائد الفرعية داخل العقيدة الأصلية. ولكنّ الأمر كان جاداً، فدعوة دينية جديدة كانت تعني دعوة سياسية أيضاً وطلب إقامة دولة. والذين رفضوا دفع الزكاة في عهد الخليفة أبي بكر اعتُبروا مرتدّين عن الدين. وإذا كان الكثير الآن يستهجن قتل المرتد، وهو محق في ذلك، فعليه أن يضع نفسه في سياق زمن كان الدين أكثر من مجرد آراء تُرى، فهو أفعال يُلزم بها، والامتناع عن دفع الزكاة لم يكن مجرد رأي، بل هو تحد لما يلزم به الدين وما كان يُلزم به كثير. وإذا كان ما نتطلبه من الأديان هو ألا تكره فهذا ينقض ما تتطلبه الأديان من بعض الإلزام لكي لا يصير الأمر هزلاً. وأكثر من ذلك، فالأديان في فهمها للحقيقة أمر مصيري لها. أن نعتبر الأمر اختياراً من ذات فاعلة حرة هو مجرد تأويل، وهو التأويل الذي اختير في زماننا. ومن داخل الدين نجد تأويلاً يعتمد رؤيته لحقيقة الإنسان المشهودة في علاقتها بالحقيقة الغيبية. لو عدنا إلى كتب الكلام والثيولوجيا لوجدنا آثاراً لجدل طويل عن الاختيار، منهم من أنكره، واختلف النظار حول حقيقة الفعل الإنساني. وكان اختيار دين ما أيضاً ممّا شمله النقاش، فمنهم من جعل الدعوة الدينية باطلة من دون افتراض ملكة الاختيار لدى الإنسان، ومنهم من أنكر هذه الملكة فجعل الأمر المطلق لله، فأن يدخل إنسان الدين أو يخرج منه أمر لا يقرره الإنسان، فالإضلال والهداية بيد الله.

هذا الذي نشهده الآن من الدعوة إلى حرية الضمير لم يكن أمراً بديهياً، وهو ليس بالأمر البديهي للكثيرين ممن يلتفتون إلى جانب الالتزام من داخل دين بعينه. وإلى وقت قريب، ونقصد حينما كانت الحروب الدينية بين المذاهب في المسيحية: الكاثوليكية والبروتستانتية، لم يكن يخطر على الضمائر ما صار الآن دعوة كونية. لقد مُهد الأمر بجدل واسع بين علماء اللاهوت المسيحيين في القرن السابع عشر[2]. جدل شبيه بذلك الجدل الذي كان بين المتكلمين في بدايات تاريخ الإسلام. وافترق المسلمون فرقاً وكثرت الآراء عن حقيقة الإيمان، وظهر مذهب المنزلة بين المنزلتين ومذهب الإرجاء.

لم تكن الفطنة بحرية الضمير كما نعرفها الآن مباشرة. ومن داخل الضمائر تشخص الآراء على استحياء حتى نتجرّأ على قول ما لم نكن نستطيع قوله، ويتجرّأ بعضنا على ما لم يكن يتجرّأ عليه الآخرون. احتج بيير بايل Pierre Bayle(1647ـ 1704م) في خضم ذلك الجدل لحرية الضمير بحجة خاصة، ففرّق بين الضمير المتنور بنور الحق والضمير الضال. وجب منح الحرية للضمير الضال الذي لا يعرف أنه ضال، وهي الحرية نفسها التي يملكها الضمير المتنور بنور الحق. وواجب على الضمير المتنور أن يقيم الحجج والبراهين للضمير الضال ما دام حياً لينير له الطريق. [3] رأي شبيه لإبراهيم النخعي (تابعي) في حكم المرتد، وهو أن يستتاب أبداً.

لشاهد الواقع شدة على النفوس والضمائر. والحروب الدينية تكون ممّن لم يتعب من القتل وممّن لم يفطن إلى عدم الجدوى. أمّا النفوس التي تعبت والضمائر التي أُشربت الاقتناع بعدم الجدوى فستتخذ طريقاً أخرى، حينما بدأت السلطة الزمنية تشخص وتتقوى يوماً بعد يوم، وهي لم تتقوَّ إلا بالقبول العام من النفوس والضمائر، وألفى الأفراد طريقة جديدة لطرد الهم بالاشتغال بأمور الدنيا وبتحقيق الفوز فيها؛ ظهر أمام الجميع طريق للخلاص وانفتح أفق جديد وظهرت أرض جديدة يجرب فيها هذا الذي يُسمّى الآن حريّة الضمير.

صارت السلطة الزمنية لا تهتم بتفضيل دين على دين أو آراء دينية على أخرى. هي تضع الأديان جميعاً، مبدئياً، على قدم المساواة. إلا أن يكون التفضيل تفضيلاً فرضه تاريخ الواقع المدني ولمصلحة مدنية. وصارت الأديان كالسلع التي يختار بينها المستهلك فيختار إحداها اليوم ليغيّرها غداً، ويلتجأ إلى أنّ في الإنسان الضمير الذي يقع فيه ما يقع من اختيار بعد مشورة داخلية لتفضيل آراء دينية على أخرى. كأنما السلطة الزمنية ربأت بنفسها عن أن تختار، وجعلت هذا الاختيار بيد الأفراد وداخل ضمائرهم، وترسم، لما سيصير تعبيراً له من الأفعال والطقوس، فضاءات لها حدود، فكأنما هذه الفضاءات ضمائر هي الأخرى.

كأنما وصل زمننا إلى الاقتناع بعدم جدوى الحسم في الحقائق النهائية، كأنما عقد العزم على ألا تؤخذ الحقيقة الدينية مأخذ الجد، واصطبغ العصر بصبغة لا أدرية[4]، ويرفع الحكم، ويُرجِئ الأمر، ولكن لا يُرجِئه كما فعل مرجئة الإسلام إلى زمان آخر محسوم فيه هو زمان الآخرة، فالإرجاء الحديث إرجاء لا ينتهي، والتأخير مقصود إلى أن يُجعل مؤبّداً.

ولكن بماذا سيشتغل الناس في زمن الانتظار، ذلك الانتظار الذي جُعلت له أماكن خاصة، كلٌّ ينتظر على شاكلته وينتظر آخرته؟ يشتغل الناس بالعمل الدنيوي الذي يحقق فوزاً مشهوداً، هنا والآن. تلك حقيقة بينتها حنا أرندت حين قالت إنّ العمل صار مدار الأمر في العهد الحديث، وعولج الفضاء العام المشترك بين الناس، وأُعدّ ليعمل الناس بدل أن يلتقوا للفعل والقول الحرّين المدنيين. وتتبع ميشيل فوكو ما جرى من إعداد وعلاج للإنسان لتصنع منه تلك الذات العاملة.

هل يكون الإرجاء الحديث ديناً جديداً بديلاً من الأديان القديمة، ومن جميعها؟ أن نسمي هذا ديناً جديداً حقيقة أو نسميه على سبيل المجاز، ذلك أمر مختلف فيه، فهذا الذي نشهده في زماننا متفرد وحرص البعض، من أجل ذلك، على ألا يختزله في الأمور المشبَّهة به (للحداثة عند بلومنبرغ Blumenberg شرعيتها التي منها تُستمد لا من غيرها). ولكن نجد في الوضع الجديد نوعاً من الإلزام يصل حدّ الإكراه أحياناً، فالمصلحة المدنية التي تحددها السلطة الزمنية بمعايير زمنية مدعومة بسلطة العلم هي الوظيفة العليا للحسم والإلزام. وهنا يحسم في ضرورة الحد من حرية الضمير أو من تجلياتها التي تتعدى حدودها. ماذا لو أنّ مصلحة مظنونة من داخل معتقد ما تعارض مصلحة مدنية؟ ينفتح للاجتهاد الفقهي والقضائي مجال واسع للرأي والحسم. وإنّ المصلحة مفهوم مشتبه، ويصل الاشتباه نهايته حينما يحدد دين ما هي (أحياناً)، فليس في تحديده لها يعتمد معيار الحس المشترك العام بين الجميع، بل يعتمد حدساً خاصاً يتعذر الحسم في صدقه. لأنّ كل المعنى ليس مستمداً من هنا بل من هناك، وهو يشرط كل ما هنا، ويصير ما يبدو لنا شراً أمراً مشروعاً وأكبر المصائب لطفاً إلهياً. قد يسعى المؤمنون إلى قلب النظام المدني وإفساده وإزعاجه، وهم يرون أنّ ذلك المصلحة عينها التي يقتضيها الإعداد لإحلال نظام ديني يرونه أفضل. أمّا من جانب السلطة الزمنية فالمصلحة المدنية هي المطلوبة بمعايير يفترض اتفاق الجميع حولها. لا يختلف المدنيون المنتمون إلى أديان شتى حولها كالسلم والصحة العامين. صارت المصلحة المدنية التي يحرص على جعلها غير مظنونة ذات قيمة مطلقة. تضمن حرية الضمير ما دامت لا تمس بالنظام العام وبالمصلحة المدنية. لا يتجاوز الأمر إلى أن يصير النظام المدني إنجازاً لتصور ديني. لا يُسمح بذلك، وهذا نوع من الإكراه لا يبوح باسمه، ممّا يجعل العيش الحديث وقد جُرد من العجيب والغريب الدينيين، لا أثر إلا للفاعلية الإنسانية، والفاعلية الإنسانية هي ذاتها تصطنع عجيباً وغريباً زمنيين. تطلب بدلاً للمشاعر الدينية مشاعر مدنية، تتوسل بالصناعات الجميلة لبناء عالم ساحر بديل.

المتطلب في حرية الضمير أو حرية المعتقد أن يُتمتع بالحرية في الالتزام بما يلزم به دين ما، ولكن ضد إكراه أديان أخرى. ففي الدفاع عن حرية الضمير دفاع عن الدين الذي اخترناه وعن الحرية به وفيه ودفع لإكراه الغير من الأديان في منع ذلك. ولذلك فحرية الضمير دفاع عن الدين، ولكن هي دفاع أيضاً ضده. ويواجه الجميع مشكلة الحدود، فإذا كانت الحرية هي ألا أكره على دين بعينه وأن أختار أي دين أشاء، فماذا بعد الاختيار؟ وماذا بعد أن ألتزم بما يأمرني به؟

وفي ما يصدر من القرارات القضائية ما يكون لصالح حرية الضمير، كما هو الشأن بالنسبة لقرار المحكمة العليا الأمريكية التي حكمت بحق الشركات ذات الاقتناعات الدينية في عدم تغطية تكاليف منع الحمل لموظفيها، في قضية ما يُسمّى Burwell vs Hobby Lobby[5]، وأحياناً يكون ضدها كما هو الشأن بالنسبة لقرار المحكمة العليا في كندا التي حكمت بشرعية ما قامت به المستشفيات من حقن توأمين بدماء (قرار صدر في 18 ماي 2007)، ضد ما يعتقده أبواهما، وهما من شهود يهوه الرافضين لأن يتبرعوا بدمائهم أو أن يُتبرع لهم بها، لما يحمِّلونه الدم من القداسة التي تحرم كل استعمال له أو استغلال، واستناداً إلى ما ورد من آيات في سفر التكوين وسفر اللاويين وسفر أعمال الرسل التي تنص على قداسة الدم الإنساني [6].

في العهد الذي نشهد فيه مثل هذا التناقض حيث الدفاع عن حرية الضمير، ولكن أيضاً تقييدها، يشعر المتدينون بالإحباط أحياناً إذ يجدون الدين الذي يعتقدون أنه يُبلغ عن الحقيقة النهائية غريباً في المجال العام. وفي غريزة المتدين الحرص على أن يصبغ العالم المشهود بصبغة غير المشهود فيرى في كل ما هو مشهود علامات لما هو غير مشهود. ويؤاخذ غيره على عماه وعدم إبصاره ما يبصر. ولكن يجعلهم أيضاً يسعدون من أنّ القانون والدولة تضمن لهم الحرية.

يختص زمننا بأنّ القضاء في الشؤون الدينية بيد السلطة المدنية حينما تتجاوز السلطة الدينية حدودها التي رسمتها لها الأولى. ولكن يتهدد فاعلية السلطة المدنية أن تتعدى حدودها، وتتحول إلى إكراه مدني ضد الدين، والأنظمة الشمولية نماذج لهذا الإكراه. لم تكن هذه الأنظمة محايدة بشأن الأديان، بل أكرهت الناس على أن يفعلوا وفق إيديولوجيا الدولة. آراء وضعت وقرنت بأفعال أُلزم المدنيون بإنجازها، ولم يُسمح بحرية مناقشة تلك الآراء، وإذا صدر من الأفعال ما قد يُتوهم فيه عدم موافقتها لما تقتضيه الآراء اضطُهد صاحبها. وبدل أن تدرأ الحدود بالشبهات درئت الشبهات بالحدود، ولم يفرّق بين جد وهزل.

لا فرق بين نظام إكراه ديني وبين نظام إكراه مدني، كلاهما نظام متشدد يقرأ النصوص الدينية أو النصوص الإيديولوجية قراءة حرفية ويكلف الإنسان ما لا يطاق، ويكلف الزمان والمكان والإنسان ما لا يستطيعون. يطابقان الدنيا والآخرة، يستعجلان، ويجعلان الساعة قائمة قبل أوانها ويجعلانها قائمة الآن وهنا. والحرية، على العكس، تُضمن بأن يحافظ على الفسحة بينهما ويجعل للإنسان فسحة للأمل والرجاء بالإرجاء والتوقي من الحكم على ما في الزمن الدنيوي بأنه إنجاز نهائي وكامل لما يرجى وقوعه بشكل كامل ونهائي في الزمن الآخر.

في زمن الإرجاء، ألم تعد حرية الضمير مجرد وسيلة لا غاية في حد ذاتها، يُلزم بها لما اقتضته المصلحة الزمنية، حيلة احتال بها الزمان ليهيمن بطابعه الخاص ويزيل كلّ ما في الدين من الجد؟ لا شك أنّ حرية الضمير معرضة لأن يفتك بها بجعلها مشروطة من السلط والمصالح الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. لن تكون حرية الضمير مبدأ لا وسيلة حتى يكون وراء احترامها احترام للحقيقة النهائية التي نبحث عنها، للسر الذي يُذاع في الضمير الإنساني. وإن كان عصرنا مكرهاً أو مختاراً، يقف موقف المنتظر والمرتاب، يرجئ أمر الحسم، فهل إلى ما لا نهاية؟

ما تزال الضمائر الإنسانية حبلى بالخواطر والآراء والإلهامات. عصرنا كغيره من العصور يشهد ظهور أديان وطوائف جديدة. وعين السلطة الزمنية لا تنام، وتجعل لكل نشاط ديني إطاراً قانونياً. وميلاد طوائف جديدة مؤطر بقانون الجمعيات. وبعد ذلك تراقب أعمالها وتتدخل لتحييدها إذا ما صدر منها ما يخرق القوانين، كما يفعل جهاز المناعة في جسم الكائن الحي. ولكن إلى متى ستبقى عينها مستيقظة؟ وفي غفلة منها لا يُعلم ما أُخفي داخل الضمائر ويتهيأ ممّا قد يفاجئها ويبطل مناعتها. أليس في غفلة من السلطة في روما سما هذا الذي نقضها من أساسها وهو العهد الجديد؟

 

المراجع:

1)      Dictionnaire des droits de l’Homme, (Sous la direction de Joël ANDRIANTSIMBAZOVINA, Hélène Gaudin, Jean-Pierre MARGUÉNAUD Stéphane RIALS,, Frédéric SUDRE), PUF, 2008.

2)      Hannah Arendt, “Religion and Politics”, In Essays In Understanding, 1930-1954, Formation, Exile and Totalitarianism, Schocken Books, New York, 1994.

3)      Taylor Charles, Jocelyne Maclure, Secularism and Freedom of Conscience, Harvard University Press, Cambridge, Massachussetts, and London, England, 2011.

4)      Mario Turchetti, «A la racine de toutes les libertés: la liberté de conscience», Bibliothèque d’Humanisme et Renaissance, T. 56, No. 3(1994), pp. 625-639.


* نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون، العدد السابع، 2015، التي تصدر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.

[1] وهذا لا يعني أنّ المعنى في حرية الضمير فقط ما هو باطني، بل أيضاً ما يتجلى من التعبير عن تلك العقيدة ومن الأفعال التي تقتضيها. ونجد أنّ حرية الضمير تذكر بأسماء مختلفة وأحياناً مقترنة بغيرها ممّا ينتمي إلى عائلة واحدة: كحرية التفكير وحرية الاقتناع وحرية التعبير وحرية العبادة. هي حريات تنتمي للنوع نفسه لأنها تتصل بالدين كلها. فالحرية المتعلقة به قد تتصل بما يقع في الضمائر من الآراء التي يختار منها المرء ما سيعتقده، وحرية المعتقد تشير إلى ما يختاره المرء لاعتقاده. وحرية العبادة تشير إلى ما سيتلو الاعتقاد من القيام بأفعال العبادة. وحرية التفكير تشير إلى ذلك الجانب الذي يفسح للإنسان ليبدي آراءه الناتجة عن نظره في قضايا دينية. وحرية الاقتناع تشير إلى اللحظة التي يترجح فيها لدى المرء صحة عقيدة ما. ونجد في الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن نصاً على ضمان حرية الآراء حتى الدينية منها. ويفضل المجلس الدستوري الفرنسي استعمال عبارة حرية الضمير أو حرية العبادة. وفي لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة: تستعمل حرية التفكير مقترنة بحرية الضمير وبحرية الدين والاقتناع. وفي أحد قرارات المجلس الأوروبي لحقوق الإنساني ذكرت حرية التفكير والضمير والدين، باعتبارها من أركان مجتمع ديمقراطي، وهي خير سيستفيد منه أيضاً الملاحدة واللاأدريون واللامبالون.

ينظر:

Dictionnaire des droits de l’Homme, (Sous la direction de Joël ANDRIANTSIMBAZOVINA, Hélène Gaudin, Jean-Pierre MARGUÉNAUD Stéphane RIALS,, Frédéric SUDRE), PUF, 2008, p.636.

[2] Mario Turchetti, «A la racine de toutes les libertés: la liberté de conscience», Bibliothèque d’Humanisme et Renaissance, T. 56, No. 3(1994), pp. 625-639, p.634.

[3] Ibid, p.632.

[4] Hannah Arendt, “Religion and Politics”, In Essays In Understanding, 1930-1954, Formation, Exile and Totalitarianism, Schocken Books, New York, 1994, p.370.

[5] صدر القرار في 20 يونيو من العام 2014، وقد رفعت القضية للمحكم العليا من قبل شركة هوبي لوبي ذات الاقتناع الديني بحرمة الإجهاض.

[6] Taylor Charles, Jocelyne Maclure, Secularism and Freedom of Conscience, Harvard University Press, Cambridge, Massachussetts, and London, England, 2011, p.101.