حوار مع الأكاديمي سعود الشرفات


فئة :  حوارات

حوار مع الأكاديمي سعود الشرفات

حوار مع الأكاديمي سعود الشرفات[1]:

فقدان السيطرة على التكنولوجيا زوّد الشبكات الإرهابية بأدوات لا حصر لها

حاوره: نادر رزق

أكد الدكتور سعود الشرفات أن ثمة علاقة إيجابية وأثراً متبادلاً بين العولمة والإرهاب؛ "فالزيادة في ظاهرة العولمة تؤدي إلى الزيادة في ظاهرة الإرهاب، ولكن ليس بالضرورة بالمقدار نفسه".

وأضاف في حواره مع مجلة "ذوات"، أنه ليس ثمة تفسير محدد يمكن أن يجيب عن سؤال الإرهاب؛ "فهو ظاهرة إنسانية معقدة جداً، ولذلك فهو بحاجة إلى فهم وتحليل أوسع من أن يحصر بنظرية واحدة".

وأوضح مدير "مركز شُرُفات لدراسات وبحوث العولمة والإرهاب" في عمّان، أن هنالك "إرهابات" مختلفة وليست مقتصرة على الإسلام، ولكنه أوضح مستدركاً أن "هناك روحاً خائفة تسيطر على المجتمعات العربية والإسلامية، ولا تريد أن تعترف بوجود مشكلة في كيفية مقاربتنا للدين وأشكال التدين المختلفة".

وفي الوقت الذي نفى فيه أن تكون ظاهرة "الذئاب المنفردة" حكراً على المسلمين، حذر الشرفات من أن ملف المقاتلين العائدين اليوم، سيكون أصعب وأكثر خطورة وتعقيداً من ملف الأفغان العرب في التسعينيات؛ "لأن كم ونوعية الخبرات والتكتيكات والأساليب وتنوعها التي اكتسبها هؤلاء لا يقارن مع خبرات مرحلة الحرب الباردة، وخطورة هذه "الموجة الخامسة" من إرهاب العائدين أن عنوانها الإنترنيت والثورة الرقمية".

وانتقد الشرفات أنه ليس هناك على الصعيد العربي استراتيجيات واضحة لمجابهة التطرف، "فما هو موجود مجرد تكتيكات واستراتيجيات أمنية واستخبارية لمكافحة الإرهاب والتطرف الديني".

والدكتور سعود الشرفات باحث ومحلّل أكاديمي أردني متخصص في العولمة والإرهاب، وخبير أمني استخباري في مكافحة الإرهاب والتطرف الديني، والجماعات الإرهابية، والعلاقات الدولية، والاقتصاد السياسي الدولي، والإعلام وقضايا الهجرة الدولية واللجوء .متحصل على الدكتوراه في فلسفة العلوم السياسية من هولندا، وماجستير الاقتصاد السياسي الدولي وبكالوريوس الاقتصاد من جامعة اليرموك .وهو عضو رابطة الكتاب الأردنيين، ومُحكّم معتمد لدى وزارة الثقافة الأردنية في مجال نشر الكتب والدراسات في حقول دراسات الإرهاب والعلوم السياسية ونظريات العولمة، والإعلام الحديث. صدر له كتابان: "العولمة والإرهاب عالم مسطح أم أودية عميقة" الطبعة الأولى 2011 والثانية 2015، وكتاب "الإرهاب العالمي والتطرف: صراع الظواهر وتضارب المسلّمات في ظل العولمة" 2016

نادر رزق: عند التطرق لمستقبل الإرهاب، ما تزال الأسئلة المطروحة أكثر من الإجابات المطلوبة بالحديث دوماً عن احتمالات مفتوحة، ألسنا أمام "ظاهرة علمية" قابلة للتحليل والتنبؤ؟

سعود الشرفات: من الصعب القيام بالتحليل والتنبؤ بأحداث واتجاهات الظواهر الإنسانية بشكل عام؛ لأنها عصية على الضبط والتحديد، كالظواهر الطبيعية والفيزيائية الخاضعة للقياس والتحديد الكمي مخبرياً.

والظاهرة الإنسانية معقدة ومراوغة جداً، وتعتبر ظاهرة الإرهاب العالمي المعاصر من نوع هذه الظواهر التي يصعب التنبؤ بمساراتها، لكن تطور العلوم ومناهج البحث خاصة في الغرب، مكّن الباحثين من القيام بدراسات مهمة في مجال استشراف اتجاهات الظاهرة خاصة من خلال استخدام المنهج الكلانّي (Holisticapproach)، وتكامل مناهج البحث الأخرى (Interdisciplinary Studies)، خاصة في مجال الاهتمام بالدراسات الكمية (الإمبيريقية) التي تم استخدامها في مجال بناء مؤشرات إرهاب، واتجاهات الإرهاب السنوية، وهي دراسات بدأت في أمريكا وبدعم مالي وبحثي من الحكومة ومؤسسات المجتمع المدني خاصة الجامعات ومراكز الدراسات.

وتشير معظم الدراسات الكمية خاصة إلى وجود ترابط وتأثير إيجابي متبادل بين ظاهرة الإرهاب وظاهرة العولمة، وأن ظاهرة الإرهاب في زيادة وتوسع يتماهى مع تسارع وتيرة سيرورة العولمة.

ولقد أجريت دراسة "إمبيريقية" حول تفسير تلك العلاقة وقمت بنشرها في كتابي "العولمة والإرهاب: عالم مسطح أم وديان عميقة؟عام2011، وتقوم فرضيتي على أنّ هناك علاقة طردية - إيجابية وأثراً متبادلاً بين العولمة والإرهاب، وهذا يعني أن الزيادة في ظاهرة العولمة تؤدي إلى الزيادة في ظاهرة الإرهاب، ولكن ليس بالضرورة بالمقدار نفسه، كذلك النقصان ولكن ليس بالضرورة بالمقدار نفسه أيضاً. وقد تعزز عمق هذا التحليل باستخدام "معامل الانحدار"، الذي بين حجم العلاقة الهيكلية الوظيفة بين الظاهرتين، وأثبت أن هذه العلاقة طردية إيجابية وذات دلالة إحصائية، حيث إنه لو زاد المؤشر العام للعولمة بمقدار وحدة واحدة فقط، فإن مؤشر الإرهاب العامّ سيزيد في المقابل بمقدار (47%) من الوحدة، وهذا يعبّر عن قوة هذه العلاقة.

أما على الجهة المقابلة؛ فقد تبيّن أن هناك علاقة طردية - إيجابية وأثراً متبادلاً بين الإرهاب والعولمة؛ إذ تبين أن الإرهاب يساهم في زيادة العولمة، لكن بمقدار حجم أقل من تأثير العولمة ومساهمتها بنشر الإرهاب. وقد تبيّن أنّ معامل الارتباط (ر) بين الإرهاب والعولمة يساوي (56%)، وهذا يدلّ على أن هناك ارتباطاً وعلاقة طردية - إيجابية، وأن حجم هذه العلاقة يبلغ (56%)، وهو ارتباط قويّ، وتبين أن معامل الانحدار يساوي 6%؛ بمعنى أنه إذا ازداد المؤشر العامّ للإرهاب بمقدار وحدة واحدة فقط، فإن ذلك يؤثر على مؤشر العولمة بمقدار (6%) من الوحدة.

نادر رزق: ظهرت عدة نظريات لتفسير ظاهرتي التطرّف والإرهاب، إلى أيّها تميلون؟ أم إنّ لكل حالة تفسيرها الخاص المستقل؟

سعود الشرفات: بالفعل هناك العديد من النظريات التفسيرية لظاهرة الإرهاب؛ منها السياسية، والاجتماعية، والسيكولوجية وكلها تحاول الإجابة عن سؤال الإرهاب من وجهة نظرها وزاوية تحليلها للظاهرة، وكلها مفيدة في النهاية لفهم كافة جوانب الظاهرة، لكن ليس هناك نظرية واحدة يمكن أن تجيب عن هذا السؤال. وكما أسلفت، فإن الإرهاب ظاهرة إنسانية معقدة جداً، ولذلك فأنا أعتقد أنها بحاجة إلى فهم وتحليل أوسع من أن يحصر بنظرية واحدة، هذا يعني أني أميل إلى استخدام "المنهج الكلّاني" الذي يعني (الناتج أكثر من مجموع الأجزاء) لفهم الظاهرة وتحليلها، حيث يتم توظيف كافة النظريات والمقاربات في عملية التحليل وعدم التحيز لأية مقاربة أو نظرية والبعد عن الأيديولوجيا والدوغمائية في ذلك.

نادر رزق: بصفتكم مديراً لمركز يعنى بدراسات العولمة والإرهاب، هل لمستم "نَفَساً استشراقياً" وافتراضات مسبقة تؤثر بطريقة ما في التعامل الغربي مع ظاهرة التطرف الإسلامي؟

سعود الشرفات: أعتقد أن هذا الاتجاه الذي رافق الاستشراق أو الاستعراب الكلاسيكي بشكل عام، سواء مناهجه الماركسية أو الرأسمالية - الاستعمارية، خاصة كتابات مكسيم ردونسون الذي سكَّ مصطلح "الفاشية الإسلامية" وبرنارد لويس الذي كرّس النظرة السلبية للإسلام في الدوائر الغربية والأمريكية من خلال كتبه الكثيرة حول الإسلام والحضارة الإسلامية، وإرنست غلنير صاحب كتاب "ما بعد الحداثة والعقل والدين" وغيرهم، قد خف بشكل كبير - لكنه لم ينته - في أدبيات مقاربة التطرف الديني الإسلاموي خاصة في الدوائر الرسمية. وأعتقد أن هذا يعود إلى تطور آليات العولمة التكنولوجية في الاتصال والتواصل والنشر وتبادل الخبرات، وتركيز أدبيات التطرف الديني الغربية الحالية على الأعمال الميدانية، وأرى أن هذا بحاجة إلى دراسات خاصة ومعمقة أكثر، بالنظر إلى الكم الهائل من الدراسات والنشر في اللغات الأخرى حول موضوع التطرف الديني الإسلاموي.

وللأسف الشديد؛ هناك قناعات شعبوية ومعرفية ومتطرفة في أوساط واسعة في الغرب، تصل حد المسلمات، أن العالم الإسلامي - إذا سلمنا بوجود مثل هذا العالم حقيقة- مصدر تهديد السلام العالمي والتطرف والإرهاب العالمي والفاشية الإسلامية حسب وصف (مانويلفالس) رئيس الوزراء (الفرنسي) 2015، ولا يشذ عن ذلك إلا القليل من خارج سيطرة المنظومة المعرفية للنظريات الوضعية السائدة في الغرب.

نادر رزق: "ليس كل المسلمين إرهابيين ولكن معظم الإرهابيين مسلمون"، مقولة طالما ترددت في المحافل الإعلامية الغربية، بعيداً عن مناقشة خلفيات مثل هذه التعميمات، ألم يأن الأوان لنتجاوز دائرة المظلومية إلى الاعتراف بأن ثمة خللاً ما في منظومتنا الثقافية والتاريخية التراثية أوصلنا إلى هذا الوضع؟

سعود الشرفات: نعم؛ أعتقد أن هنالك خللاً عميقاً وواسعاً في المنظومة المعرفية الإسلامية، وحالة من الإنكار المرضي، وهناك من ينكر أن معظم العمليات الإرهابية قام بها أفراد وجماعات يرفعون شعار الإسلام مثل؛ القاعدة وداعش وبوكو حرام، مع أن تاريخ ظاهرة الإرهاب يشير إلى أنّ هناك موجات متعاقبة للإرهاب منها الفوضوي، واليساري، والقومي ما بعد الاستعمار، ثم الديني الذي أخذ صبغة إسلامية منذ عام 1979، وأن هناك إرهابات مختلفة وليست مقتصرة وحِكراً على الإسلام، وهذا يتطلب الاعتراف بالمشكلة ومعالجتها وليس البقاء في دائرة مغلقة عنوانها الرئيس إنكار وجودها. فعلى سبيل المثال؛ فقد توسع نطاق إرهاب تنظيم داعش العالمي وانتشر، لينشط في 28 دولة من العالم عام 2015 بعد أن كان في 13 دولة فقط من العالم عام 2014. ويعتبر تنظيم داعش في حقبة العولمة المعاصرة الجماعة الأكثر إرهاباً وتوحشاً في العالم، حيث تجاوز إرهاب بوكو حرام عام 2015، إذ نفذ عمليات إرهابية في 252 مدينة من العالم، وكان مسؤولاً عن مقتل ما مجموعه 6141 شخصاً خلال عام 2015.

والمثير في الأمر، أن معظم المسلمين يقولون إن الإرهابيين لا يمثلون الإسلام الصحيح! أو إنهم خوارج العصر، لكن إذا تعرض لهم أحد بالانتقاد والهجوم ووصَفَ إرهابهم بالإرهاب الإسلاموي، هبّ الجميع للرّد والهجوم عليه وتصوير الأمر وكأنه هجوم على الدين الإسلامي!

هناك روح خائفة تسيطر على المجتمعات العربية والإسلامية، ولا تريد أن تعترف بوجود مشكلة في كيفية مقاربتنا للدين وأشكال التدين المختلفة، وهي ناتجة عن حالة عجزنا في المنافسة العالمية.

فليس لدينا اليوم من بضاعة إلا تراثنا وإمبراطوريتنا الإسلامية التي اندثرت كما الكثير من الحضارات والإمبراطوريات، ثم "يأتي من يريد أن يحطم هذا الإرث ويشكك فيه"؛ لذلك نهبّ هبة رجل واحد في وجهه بشكل متطرف سلوكاً، ثم قد يتطور الرد إلى الإرهاب.

نادر رزق: ذكرتم في حوار سابق، أن العولمة زادت من ظاهرة الإرهاب واتساعها، وأن الإرهاب الإلكتروني الأكثر تمثيلاً وتعبيراً عن العولمة، كيف السبيل لوقف هذا النمط الجديد من الإرهاب الذي يصطدم بمعضلات تقنية معقدة؟

سعود الشرفات: الإرهاب ليس حالة ارتكاسية للتطور التكنولوجي، بل هو أحد تجليات التطور والتسارع التكنولوجي، وأجزم أن هذه العملية غير قابلة للانعكاس؛ فالتسارع التكنولوجي والثورة الرقمية ما زالت حتى الآن في بداياتها. وعليه، فإن ظاهرة الإرهاب، حتى وإن لم تكن محايثة للتطور للتكنولوجي بالضرورة، إلا أنها ستكون متماهية معه، لكنها ستبقى محايثة للمقدس، وهنا يكمن المأزق البشري.

كنت وما زلت ومنذ عقد من الزمان، وبالدراسة والبحث الكمي (الإمبيريقي) أعتقد أن العولمة ساهمت في زيادة ظاهرة الإرهاب العالمي بشكل عام وليس الإسلاموي فقط. وسبق أن قلت وفي أكثر من موقع ومكان، إن هناك علاقة إيجابية متبادلة بين سيرورة العولمة والإرهاب، وأن العالم الحاسم في التأثير بين الظاهرتين هو تطور آليات العولمة التكنولوجية التي تتجلى الآن في الاتصال والمواصلات والتكنولوجية الرقمية والذكاء الاصطناعي الذي قد يتمثل في القريب العاجل عن تحول (فرانكشتاين الإرهابي) إلى (سوبرمان الإرهابي) الذي يتماهى مع سيرورة العولمة التكنولوجية في تجلياتها في التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي، فإذا استطاع الجيل الأول من الإرهابيين استخدام الطائرات التجارية والطائرات بدون طيار، والسيارات والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي كأدوات تدمير وتجنيد وتأثير ودعاية، فإنه حتما سيتمكن من البقاء والتطور والتهديد مستقبلاً.

لقد أدّى التطور في ميكانزمات العولمة التكنولوجية إلى التسارع التكنولوجيّ من خلال التوسع باستخدام مخرجات التكنولوجيا الحديثة، ورخص كلفة هذه المخرجات، الأمر الذي أدّى في المحصلة إلى نوع من فقدان السيطرة على التكنولوجيا، إذ زوّدت الشبكات الإرهابية عبر العالم بأدوات إرهابية لا حصر لها على الإطلاق، حيث أصبحت هذه الشبكات الإرهابية قادرة على ابتزاز الدول الكبرى، وخلقت مأزقاً لهذه الدول في كيفية مكافحة الإرهاب، وكيفية التعاطي مع ميكانيزمات العولمة التكنولوجية المتسارعة، الأمر الذي بات يطرح أسئلة كبرى حول مستقبل النظام العالمي ونقل التكنولوجيا في ظل العولمة.

نادر رزق: ما الحد الذي يفصل بين تحول المتطرف الفكري إلى إرهابي حركي أو بقائه محتفظاً بقناعاته بشكل كامن؟

سعود الشرفات: أعتقد أن كل إرهابي متطرف، وليس كل متطرف إرهابياً، هذا على فرض أخذنا بتعريف الإرهاب كفعل عملي ينتج عنه قتل أو جرح أو تدمير للممتلكات وخسائر اقتصادية، وقبله قد يبقى الفعل ضمن المعنى الفضفاض للعنف الرمزي الذي تتعدد أشكاله اليوم.

وقد يبقى الفرد في دائرة التطرف بأشكاله المختلفة، لكن نقطة التحول أو الاستدارة والقطع من دائرة التطرف إلى شفا حافة الإرهاب هي لحظة الإقدام على الفعل الإرهابي وتنفيذ العمل الإرهابي. المخيف في الأمر هو العملية المضنية في رصد حركة التطرف الفردي بين: حالة الكمون أو التفجر، وتوقيت هذا التفجر ودوافعه ومحفزاته.

وأعتقد أن هذه هي معضلة التعامل مع ظاهرة الذئاب المنفردة (حتى آخر عملية في جنوب غرب فرنسا 24 آذار 2018)؛ فمعظم الدراسات الكمّية الموثقة تثبت أن هؤلاء كانوا متطرفين؛ أو تطرفوا قبل تنفيذ عملياتهم الإرهابية بفترة قصيرة.

نادر رزق: تعد "الذئاب المنفردة" أكثر مظاهر الإرهاب تعقيداً وتحدياً، ماذا تخبرنا الخبرات الأمنية بهذا الشأن؟ وما سرّ انحسار الظاهرة حالياً؟

سعود الشرفات: بداية، الذئب المنفرد حسب تعريفي للمصطلح هو "أيّ شخص يرتكب عملاً إرهابياً بشكلٍ منفردٍ تماماً، بعيداً عن أية هيكلية أو أوامر قيادّية أو دعمٍ مادي من أية جهة، وإن كان قد يتأثر ويحظى بدعم جماعة أو تنظيم أو حركة أو أيديولوجية ما".

وتعتبر "الذئاب المنفردة" حالياً ظاهرة متخطية للأيديولوجيات والأديان؛ بعد أن كانت اتجاهاً فرعياً في ظاهرة الإرهاب بشكل عام منذ العقد الماضي، وهي مرتبطة وعلى علاقة مباشرة وقوية بسيرورة العولمة وآلياتها التكنولوجية والثقافية، ولقد تحولت لتصبح ظاهرة قارة وخطيرة جداً، خاصة بعد ظهور تنظيم القاعدة والاهتمام العالمي بظاهرة إرهاب وتوحش تنظيم داعش بعد 2014

وانتشرت الظاهرة في حقبة العولمة المعاصرة؛ لأنه بات من المعروف والمؤكد أن تنظيم القاعدة ومنذ عام 2011؛ ثم تنظيم داعش، مستخدماً سيرورة العولمة وآلياتها التكنولوجية قد حفّزَّ ودعا إلى حرب مفتوحة على كافة الأعداء دون انتظار التوجيه أو الأوامر من القيادة، حتى وإن لم يطلق على العمليات التي نسبت إليه أو نسبها إلى نفسه اسم الذئب المنفرد.

ويرى بعض الباحثين أن ظاهرة إرهاب الذئاب المنفردة يشكل "الموجة الخامسة" من ظاهرة الإرهاب العالمية، أو "العدو المرعب رقم واحد" في العالم، لقد انتشر استخدام مصطلح "الذئب المنفرد" عالمياً، وكثُرَ الحديث عنه في وسائل الإعلام، ولدى الخبراء والمحللين الأمنيين والاستخباراتيين بعد الموجة الحديثة من العمليات الإرهابية أواخر عام 2011 التي ضربت في بيروت، وتفجير الطائرة الروسية في سيناء، وعملية قتل المتعاقدين الأمنيين في مركز تدريب الشرطة في الموقر في الأردن، ثم العمليات الإرهابية المتزامنة في باريس، والنرويج، وأمريكا، وكندا، وألمانيا، وبريطانيا، وبلجيكا وإسبانيا، وفنلندا.

على الرغم من أن إرهاب الذئاب المنفردة لا يمثل إلاّ نسبة ضئيلة من عدد العمليات الإرهابية بشكل عام، حيث كان يشكل ما نسبته (1,28%) خلال الفترة 1968-2007 في أوروبا وأستراليا، إلا أن أهميته تأتي من حقيقة أنه أصبح خطراً يصعب منعه.

ثم أنه بات اليوم يشكل ظاهرة مرشحة للتوسع والزيادة، وحسب اتجاهات الظاهرة؛ لا أظن أنه في الطريق إلى الانحسار، فقد أصبح ظاهرة قارة ويتفرع عنها عديد الاتجاهات الفرعية والعظمى، وأثبتوا أنهم أكثر خطورة من إرهابيي الجماعات والتنظيمات الإرهابية، وأنهم أكثر إبداعاً في تنفيذ عملياتهم من الجماعات والتنظيمات.

وهناك إدراك متزايد لدى مختلف الأجهزة الأمنية في العالم، وبين باحثي الظاهرة أنها باتت تشكل خطراً داهماً، ومرشحة للزيادة في الغرب، وفي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ وذلك نظراً لصعوبة التنبؤ بهجماتهم ومكافحته بفعالية، وهو أمر تتفق عليه كافة الأجهزة الأمنية والاستخبارية في العالم مهما كانت هذه الأجهزة فعالة وقوية.

إن الذئاب المنفردة ليسوا مسلمين فقط ينتمون إلى جماعات وتنظيمات إسلامية؛ بل إلى مختلف الديانات والعقائد والإيديولوجيات، ومعظمهم من الذكور، ونسبة النساء قليلة جدّاً، حيث تشير الإحصائيات إلى أنه "ما بين عامي 1968 و2007 تم رصد أكثر من 5000 عملية إرهابية تنسب للذئاب المنفردة؛ واحدة منها فقط تنسب إلى النساء".

نادر رزق: ذكرتم في إحدى مقالاتكم أن ظاهرة الذئاب المنفردة لا تقتصر على المسلمين (الأمريكي تيموثي مكيفي، والنرويجي أندراس بريفيلك، على سبيل المثال)، لكن بماذا يختلف "الذئب الإسلامي" عن غيره؟

سعود الشرفات: صحيح؛ وذلك يعود إلى مسألة دراسة أنماط الذئاب المنفردة؛ فالظاهرة فضفاضة وولدت أصلاً في حضن اليمين الديني القومي المتطرف في أمريكا، والتنميط مسألة تخصص بها عدد من الخبراء والباحثين في أمريكا تحديداً، حيث تم تصنيفهم إلى فئات أو أنماط، والذئب المنفرد الإسلاموي يرتكب أعماله تحت يافطة فضفاضة لفهم التدين والإسلام، وهو حالياً يرفع شعار تنظيم داعش، أو يعلن بيعته للتنظيم، ثم بعد العملية يعلن التنظيم عن تبنيه للعملية، وأهم تنميط للمسألة هو للبرفسور والخبير الأمني الأمريكي جيفري سيمون الذي قسم الذئاب المنفردة إلى 5 أنماط، وهي: العلمانيون كتيموثي ميكفي، الدينّيون كداعش، ذئاب القضية المحددة كحماية البيئة، الذئاب المجرمون، والذئاب المضطربون نفسياً.

ولا بد من الإشارة إلى أن هذا التنميط تعرض للكثير من النقد والتحليل وتحديداً من جهة تقاطع بعض الأنماط مع بعضها البعض، خاصة بين العلماني والديني لأشخاص مثل ميكفي بريفيلك؛ إذ يصعب فصل الدوافع الدينية عن القومية عن العنصرية.

نادر رزق: سبق لكم أن حذرتم من تهديدات ملف المقاتلين العائدين من ساحات القتال بسوريا والعراق، هل يمكن أن يعيد التاريخ نفسه كما حصل بعد عودة "الأفغان العرب" بداية التسعينيات، وكيف يمكن الاستفادة من هذه التجربة المريرة؟

سعود الشرفات: أعتقد أن ملف العائدين سيكون أصعب وأكثر خطورة وتعقيداً من ملف الأفغان العرب؛ ذلك أن كم ونوعية الخبرات والتكتيكات والأساليب المتنوعة التي اكتسبها هؤلاء لا يقارن مع خبرات مرحلة الحرب الباردة، هذه "الموجة الخامسة" من إرهاب العائدين سيكون عنوانها الإنترنت والثورة الرقمية.

أما من حيث الاستفادة من تجربة هؤلاء، فأنا أشك كثيراً في عملية إصلاحهم؛ لأن الحرب دمرتهم خلال العقد الماضي، لكن لا بد من المحاولة في استيعابهم وإعادة تأهيلهم، والاستفادة من التجارب الموجودة حالياً في السعودية والمغرب والأردن وإندونيسيا، رغم التكلفة الباهظة مادياً واجتماعياً في هذه المسألة.

هناك عدد من التجارب الموجودة حالياً في عدد من الدول الأوروبية في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وهولندا، لكن نتائجها ضئيلة ومشكوك بفائدتها النهائية، خاصة أن المنسق المكلف بمكافحة الإرهاب في الاتحاد الأوروبي جيل دي كيرشوف كان قد قدر عدد المقاتلين الأوروبيين الموجودين حالياً في ساحات القتال بما يتفاوت ما بين 2000 و2500 مقاتل، يتوقع عودتهم إلى أوروبا.

ولا أعتقد أن الدول العربية التي لديها الأعداد الأكبر من المقاتلين قادرة وحدها بمعزل عن المجتمع الدولي على تحمل التكاليف المالية الباهظة، وتأمين والخبرات الكافية في مجالات الرعاية النفسية والإدماج الاجتماعي للعائدين.

نادر رزق: يضرب الإرهاب اليوم في معظم الدول بما فيها مناطق كانت تعتبر محصنة ضده، أين أخطأ العالم في التعامل مع هذه الظاهرة، حتى وصل إلى هذا الوضع غير المسبوق؟

سعود الشرفات: سجل العام 2014 الاتجاه الأسوأ في تاريخ مؤشرات الإرهاب؛ حيث تعرضت 93 دولة من العالم (أي ما نسبته 57% من دول العالم) للإرهاب. ويعتبر هذا أعلى معدل للعمليات الإرهابية خلال الـ16 عاماً الماضية، وراح ضحيتها ما مجموعه 32765 شخصاً، وهذا يعني أن أكثر من نصف دول العالم تعرض للإرهاب، ويعني كذلك المدى والنطاق الذي وصل اليه الإرهاب كظاهرة عولمية متخطية للحدود الوطنية.

كما بلغ العدد الإجمالي لقتلى العمليات الإرهابية عام 2015 ما مجموعة 29376 شخصاً، ومع ذلك فهو يشكل انخفاضاً بنسبة 10% عن 2014، وهو أول انخفاض منذ 2010، وذلك نتيجة عمليات مكافحة الإرهاب ضد داعش في العراق، وبوكو حرام في نيجيريا.

لكن رغم ذلك، يبقى الإرهاب ظاهرة غير جديدة أو حديثة، وقد ولد ونشأ محايثاً للمقدس كما يؤكد الكثير من الباحثين، ومنهم مؤرخ الأديان المقارنة مرسيا إلياد، ولا أعتقد أن المسألة قضية خطأ ارتكبه العالم بقدر ما هو تطور طبيعي للمخاطر وانعدام الأمن المرتبط بتسارع ظاهرة العولمة، ومسألة إدراكنا كبشر لهذه المخاطر، حيث تعمل ميكانزمات العولمة المختلفة على توسيع مفهوم الأمن، إذ تؤدي العولمة إلى توسيع دائرة المصالح المترابطة والمشتركة لمختلف الدول، وهو ما يجعل عدد الأهداف قابلة للتعرض للخطر من جانب شبكات الإرهاب، فاتساع قاعدة المصالح الأمريكية والأوروبية -على سبيل المثال- في العالم بفعل العولمة جعل منها مساحة هدف أكبر للشبكات الإرهابية، وهو ما يسّر عملها من ناحية، وساعد الدولة في الدفاع عن هذه المساحات من ناحية ثانية، ومن هنا تصبح المعادلة على النحو التالي:

زيادة العولمة----> زيادة مساحة ميدان الصراع ----> تسهيل العمليات الإرهابية وزيادتها.

أعتقد أن هناك علاقة وارتباطاً قويين بين وجود الإرهاب في دولة ما ومستويات الصراعات والعنف السياسي، والشعور بالظلم في تلك الدولة، حيث إن ما نسبته 90% من العمليات الإرهابية في العالم تقع ضمن نطاق الدول التي تعاني من تلك المشاكل، وهناك علاقة وارتباط قوي في الدول النامية بين: وجود الإرهاب، ومستويات الفساد، الصراعات السياسية مستويات قبول الآخرين، وعدم المساواة بين مكونات المجتمع والجماعات المكونة له.

نادر رزق: ما تقييمكم للجهود "الرسمية" العربية في مجابهة التطرف والإرهاب؟ وهل نمتلك رؤية واستراتيجية واضحة تتجاوز الحلول الأمنية التقليدية؟

سعود الشرفات: للأسف الشديد، فإن معظم الدول العربية لا تفعل الكثير لفهم هذه الظاهرة في العمق، جلّ ما هو موجود هو حملة علاقات عامة ومنافسة الجماعات والأحزاب الدينية المتطرفة على كسب الفضاء العام للدين وأشكال التدين، وبالتالي ليس هناك استراتيجيات واضحة لمجابهة التطرف الديني، بل تكتيكات واستراتيجيات أمنية واستخبارية لمكافحة الإرهاب والتطرف الديني.

قبل البدء بمجابهة الأصولية المتطرفة والفكر التكفيري الإرهابي، أرى أن العالم الإسلامي في معظمة تقريباً يعيش كما أسلفت، ما يسمى بحالة "إنكار الذات"، ولا يريد أن يعترف بمشكلة أو مرض التطرف، وينصرف في حمى البحث عن الأعراض ومعالجة أعراض المرض الحقيقي متمثلاً بالفكر و"الأيديولوجيا" القادرة على إنتاج هذه المتوالية من "فيروسات" المرض، وأرى أنه لا بد أن نأخذ بعين الاعتبار عدداً من الأفكار الأولية كمدخل لمحاولة الفهم، وهي:

1- ضرورة التركيز على أهمية الفكر والإيمان المطلق والأعمى بالفكرة والاستماتة في الدفاع عنها عن وعي وتخطيط وفهم تام واضح وعميق.

2- أهمية عدم الاستخفاف والاستهانة والحط من شأن حملة هذا الفكر؛ ثم محاولة شيطنة أصحابه.

3- ضرورة التأكيد على الاحتمال الكبير بفشل الحوار مع أصحاب هذا الفكر؛ وفي النهاية لن يفضي إلا إلى نتائج بسيطة في مقابل فوائد أكبر لأصحاب هذا الفكر؛ أقلها إثبات الوجود والتوسع بالتجنيد والانتشار، حتى خارج حدود الفضاء الإسلامي أو ما يطلق عليه العالم الإسلامي.

4- لمحاربة هذا الفكر والقضاء عليه لا بد من وجود مقاربـة موازية له وليس مواجهة له أو معارضة أو منافسة له، تقوم على بناء منظـومة واسـعة وعمـيقة ومقـنعة وذات جـدوى من المصالح والعلاقات والبرامج الاقتصادية والاجتماعية التي تعبر عن مصالح الناس وتدفعهم للدفاع عنها وحمايتها بدل تشتيت الجهد في منافسات طابعها اللعبة الصفرية، ثم خسارة كافة أطراف اللعبة.

5- أهمية الوعي بأن هناك قطاعاً طفيلياً واسعاً وعريضاً يتكسب من وراء الرطانة الواسعة حول محاربة التطرف أو مكافحة الإرهاب، يشمل: أطرافاً فاعلة من غير الدول، أهمها: الخبراء و)الأكاديميون( والشيوخ والوعّاظ والمحللون والكتاب والمنظمات غير الحكومية ومراكز البحث والدراسـات والـمرتزقــة وشـركات الحماية والمجمّع الصناعي، وبالذات شركات تصنيع الأسلحة والذخائر وتجارة المخدرات... وصولاً إلى الأطراف الفاعلة من الدول، وهي القادرة على بناء التحالفات الدولية وتحريك الجيوش والطائرات والصواريخ.. هذا القطاع الطفيلي الواسع له مصالح ببقاء هذا الوحش طليقاً؛ لأن وجوده مرتبط عضوياً ومصالحياً بهذا القطاع.

[1]- مجلة ذوات العدد46