حوار مع محمد جديدي: الفلسفة التطبيقية والبويطيقا؛ مصير الفلسفة المحتوم


فئة :  حوارات

حوار مع محمد جديدي: الفلسفة التطبيقية والبويطيقا؛ مصير الفلسفة المحتوم

حوار مع الباحث الجزائري الدكتور محمد جديدي:

الفلسفة التطبيقية والبويطيقا؛ مصير الفلسفة المحتوم

حاوره: خالد عبد الوهاب


الدكتور محمد جديدي، أستاذ الفلسفة بجامعة قسنطينة شرق الجزائر، وهو باحث أكاديمي، اشتغل بالفلسفة المعاصرة، خاصة الأمريكية؛ البراغماتية، الحداثة وما بعد الحداثة، الفلسفة التطبيقية (البيويتيقا) الترجمة وفلسفتها، حيث تمحور اهتمامه على وجه الخصوص حول مشكلات ومسائل الفلسفة في نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة، كالتجربة الفلسفية والسياسة، الأنوار، جدل الحداثة وما بعدها، مسألة العدالة والحرية وحقوق الإنسان، وكذلك (البيويطيقا)، والجماليات، والأيكولوجيا.

يشرف على العديد من المشاريع العلمية، منها تأطير تخصص ماستر بيويتيقا وأيكولوجيا، كما يشتغل كخبير ومحكّم لمشاريع الدراسات الجامعية، وكذا المجلات الفلسفية والفكرية، إضافة إلى إشرافه على رئاسة تحرير مجلة دراسات فلسفية للجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية.

من إنتاجاته العلمية؛ كتب ومقالات وترجمات منها:

"فلسفة الخبرة عند جون ديوي" (كتاب (2003 - "الحداثة وما بعد الحداثة في فلسفة ريتشارد رورتي" (كتاب (2008 - "الفلسفة الإغريقية" (كتاب 2008) - "ما بعد الفلسفة: مطارحات رورتية" (كتاب 2009) - "ماكس فيبر ومفارقات العقل الحديث" (ترجمة كتاب 2010) - "هابرماس والسوسيولوجيا" (ترجمة كتاب 2012).

في هذا الحوار، يتحدث الدكتور جديدي عن الفلسفة في الفكر العربي، الواقع والآفاق سواء أكانت مشاريع لمفكرين أم مشاريع لمراكز ومؤسسات بحثية. كما يتطرق بالتحليل لبعض قضايا الفلسفة التطبيقية كأهمية البويطيقا أو (أخلاقيات الطب) في الفلسفة المعاصرة، ويؤكد على أنها ستكون إحدى أبرز المجالات الفلسفية في المستقبل إلى جانب البيئة والجماليات، حيث ستثار جدلية العلم والدين أو العلم والأخلاق من منظور جديد يقتضي من الفكر الإنساني الحذر من تحول البويطيقي إلى قسيس جديد أو قاضٍ في هذا المجال.

خالد عبد الوهاب: باعتباركم من المشتغلين في الحقل الفلسفي، كيف تقيمون المشاريع الفلسفية في الفكر العربي المعاصر المطروحة ( الجابري وأركون وطه عبد الرحمن وحسن حنفي وغيرهم...)؟

الدكتور محمد جديدي: عرف الفكر الفلسفي العربي محاولات جادة – مشرقاً ومغرباً- لم تكتب وتنشر أفكاراً فلسفية بلغة عربية فقط، بل بتفكير وفي واقع عربي حتى وإن عاب عليها بعض النقاد لجوءها إلى منهجيات أجنبية واصطناعها آليات دراسية غربية، إلا أنها تمكنت – حسب رأيي- من طرح سؤال الهوية (هوية الفكر الفلسفي العربي الراهن) ومكانته ضمن مسارات فلسفية أخرى وأخرجت هذا الهاجس إلى حيز الوجود. يكفي هذه المشاريع الجريئة فخراً أنها بعثت هوية فكر من مرحلة تراثية ماضية إلى مرحلة حداثية، تريد أن تعيش حاضر العولمة والانخراط فيها دون الانغماس أو التفرج على منجزاتها. هذه المشاريع كانت مسكونة بهاجس الإبداع وليس مجرد التميز والاختلاف عن ثقافات أخرى، بل كانت على وعي كبير بأهمية التأصيل بدءا من لغة الفكر العربي إلى مشكلاته الأنطولوجية والسياسية ومن دون التفريط في مفردات اللغة الفلسفية الكونية.

خالد عبد الوهاب: شهد الفكر العربي ميلاً كبيراً الى فلاسفة الاختلاف، فأين موقع فلاسفة الحداثة في المشهد الفلسفي العربي من أمثال هابرماس؟

الدكتور محمد جديدي: ليس وحده هابرماس من حاز على موقع خاص في المشهد الفلسفي العربي، بما أنه عرف حضوراً متميزاً على مستوى ترجمة أعماله – شأنه في ذلك شأن فلاسفة مدرسة فرانكفورت – وإنما أيضا؛ لأنه حظي بنصيب وافر من البحوث والدراسات الأكاديمية التي قدمت حول فلسفته خصوصا في جامعات المغرب العربي. وكذا نجد لفلاسفة ما بعد الحداثة أيضا حضورا قويا في المشهد ذاته، ويكفي أن نذكر اسم الفيلسوف جاك دريدا أو ميشال فوكو، أتصور أن قائمة طويلة يمكن أن تضم أسماء غربيين حداثيين أو ما بعد حداثيين من فلاسفة التنوع والاختلاف تعج بهم الساحة الفكرية العربية.

وأرى أن هذا الأمر مرتبط بالاحتكاك بالفلسفات الغربية الذي تم في بداية القرن العشرين واستمر إلى غاية منتصفه، وأخذ شكلا مذهبياً مدرسياً، حيث كان تأثر المفكرين العرب آنذاك بتيارات بعينها كالوجودية والماركسية والوضعية والبنيوية، غير أن هذا الاحتكاك انتقل ومنذ ستينيات القرن الماضي وبفعل الأزمات الفكرية وردود الفعل التي صاحبتها في الغرب في بروز حركات التمرد والتحرر من قيود العقلانيات المفرطة وانتكاسة الأيديولوجيات الجماعية المحررة، فتحول الـتأثير إلى نطاق فردي، منهجي. وهكذا شاع هذا الحضور للفعل التواصلي أو التداولي أو التأويلي أو السياسي ضمن خارطة الفكر العربي الجديد.

خالد عبد الوهاب: الملفت للانتباه في باحة الفكر العربي المعاصر، ازدهار الإنتاجات الفلسفية في الجزائر، في رأيكم إلى ما يعود تأخر الكتابات الفلسفية بالجزائر، مقارنة بالمغرب وتونس؟

الدكتور محمد جديدي: نسبياً هذا الأمر صحيح وله أسبابه التي يمكن أن تلخص في قطيعة على ثلاثة مستويات:

أولاً قطيعة اللغة؛ حيث إن الازدواج اللغوي لم يكن ينظر إليه بنفس النظرة الموجودة في المغرب أو في تونس، باعتباره عاملا أساسيا للتثاقف والتواصل الفلسفي بين الداخل والخارج. فقد بقي الصراع محتدما بين أيديولوجيا تمجد التعريب، وأخرى لا تثمن إلا الفرنسة، ووسط هذا الصراع ضاعت الكتابة الفلسفية، بل إن بعض الأقلام الفلسفية شغلت نفسها بهذه المشكلة ونسيت الهاجس الفلسفي الأهم.

ثانياً: قطيعة التجايل الفلسفي؛ أي وجود هوة بين جيل أول من الباحثين والأساتذة الذين وجهوا عنايتهم للدين وبمعنى أكثر موضوعية في الاشتغال بالفلسفة الإسلامية من دون أن يكون لإنتاجهم أثر مهم على واقع الثقافة الجزائرية، وعدم تواصلهم الفلسفي مع الجيل اللاحق بما فيه الكفاية حتى يمكنوه من الاستمرار ومواصلة النشاط الفلسفي تدريسا وبحثا.

ثالثاً: قطيعة تداخل الحقول المعرفية ومحاولة الهيمنة لحقل معين خدمة لمصالح آنية أو أيديولوجية، وتتمثل هذه القطيعة في مزاحمة حقول التاريخ والأدب للفلسفة مع تهميش هذه الأخيرة واستبعادها من دائرة التأثير والنفوذ الثقافي لئلا تمارس دورها النقدي في الفكر والواقع.

هذه القطيعات في واقع الحال كرست جمود الكتابة الفلسفية ولا أقول انعدامها، لأنها بقيت موجودة منذ الجيل الأول للباحثين والأساتذة بعيد الاستقلال؛ أي في نهاية الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وهي الآن تنتعش وتحاول تجاوز تلك القطائع للمساهمة في تقديم ثقافة فلسفية جزائرية كمثيلتها التونسية والمغربية.

خالد عبد الوهاب: فقد الفكر العربي من مشرقه ومغربه، قامات فلسفية كثيرة وركائز البحث الجامعي العربي في مجال الفلسفة منهم: محمد عابد الجابري، محمد أركون، المهدي المنجرة، فؤاد زكرياء، عبد الرحمان بدوي، نصر حامد أبو زيد، لكن هناك من الباحثين الشباب من يحاول أن يواصل الدرب، فكيف تستشرف مستقبل البحث الفلسفي في الوطن العربي؟

الدكتور محمد جديدي: فعلاً، إنه من الصعب تعويض تلك القامات الكبيرة في ميدان البحث الفلسفي، سيما هؤلاء الذين افتقدناهم دفعة واحدة كالجابري وأركون، فؤاد زكريا وبدوي، وكأنهم اتفقوا على موعد واحد للرحيل، بل وأيضا أولئك الذين رحلوا قبلهم من ذوي الكتابات الفلسفية الرفيعة والمميزة، لكنني متفائل بمن تبقى من الأعلام الذين ينشطون على الساحة الفلسفية العربية الحالية، بحثا ونقدا وتدريسا ومنهم على سبيل المثال لا الحصر؛ فتحي التريكي في تونس، طه عبد الرحمن بالمغرب، وحسن حنفي بمصر، وطيب تيزيني بسوريا، وعلي حرب بلبنان، وأملنا كبير في جيل جديد من شباب واعٍ بمهمته الفلسفية وتطلعاته اللامتناهية، للعب دور أساسي في مستوى كونية الفلسفية.

خالد عبد الوهاب: إن المتأمل في ساحة الفكر العربي، يلاحظ تعدداً في مراكز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية، لكن في المقابل لا يجد مراكز مختصة في الفلسفة. فحسب تقديركم إلى ما يعزى هذا الغياب؟

الدكتور محمد جديدي: يرجع هذا الأمر في نظري إلى عاملين:

أولاً: النظرة السلبية إلى الفلسفة من قبل الهيئات والسلطات القائمة على مراكز بحوث مختصة كأن تكون في علوم اجتماعية أو إنسانية، وكأني بهؤلاء يسايرون العامة بما يشاع عن الفلسفة، من إلحاد ومعاداة للدين، يكفي أن نذكر في هذا الصدد أن بعض البلدان العربية لا تدرس بها الفلسفة.

ثانياً: جزء من وضع الفلسفة في العالم العربي يتحمله المتفلسفة أو المشتغلين بالفلسفة في وطننا العربي الذين لم يعملوا بما فيه الكفاية لتصحيح النظرة سالفة الذكر، والتي لصقت بتراثنا منذ نكبة ابن رشد، ثم إنهم لم يغتنموا فرص التلاقي مع العلوم الاجتماعية والاستفادة من حياة جديدة للفلسفة، كما فعل مثلا فلاسفة فرانكفورت الذين وضعوا هذه العلاقة بين الفلسفة والعلوم الاجتماعية هدفاً لمشروعهم الفكري.

بيد أن هذا الوضع قابل للاستدراك وبالإمكان تحقيق وإنجاز مراكز فلسفية مختصة، إن تمكنت أقلام الفكر العربي مشرقه ومغربه من التعاون والتبادل في سبيل ذلك بفضل العمل الجماعي، ولكن من دون أن يعني ذلك قيام فلسفة مبدعة تأسيسيا وقوية فكريا، قادرة على مجابهة الطروحات الأخرى والتحاور معها – حتى وإن حصل يكون في حدود نسبية مرهونة بالعقل الفردي المبدع – إنما فائدة هذه المراكز أنها توفر الإطار المناسب والمحفز على مواصلة النشاط والتواصل الفلسفيين.

خالد عبد الوهاب: يبدو من خلال نشاطاتكم العلمية اهتمامكم -ميلكم الكبير- بقضايا ومسائل ''البويطيقا'' أو أخلاقيات الطب، ما الذي استدرجكم إلى هذا الميدان ذي الطبيعة ''الطبية العلمية''؟

الدكتور محمد جديدي: ليست المسألة مرتبطة بميل عفوي أو اعتباطي، ولكنها تنبع من تفكيرٍ متأن بقضايا الفلسفة اليوم ومستقبلاً، وحيث إن البويطيقا غدت منذ نهاية القرن العشرين إحدى أهم المسائل التي ينبغي الاعتناءُ بها وإيلاؤها المكانة المناسبة، تبعاً لما قدمته التطورات الحاصلة في علوم الحياة والطب. وفي اعتقادنا، فإن موضوع البويطيقا يندرج ضمن اهتمامات ما يعرف تحت اسم ''الفلسفة التطبيقية'' التي أضحت مواضيعها جد مهمة في فلسفات الحقبة المعاصرة.

خالد عبد الوهاب: ما هي أهم التساؤلات التي أصبح المشتغل في الحقل الفلسفي يطرحها إزاء هذا التقدم الطبي المذهل؟

الدكتور محمد جديدي:إنها بالأساس تساؤلات تمس الكائن الحي بشكل عام، والبيئة التي يحيا فيها، وأيضا الكائن الإنساني منه بشكل خاص، لا سيما فيما يتصل بالتجارب التي تمس كرامة الشخصية الإنسانية بدءا من التساؤل حول الشخصية الإنسانية ذاتها: ماذا نعني بها؟ وكذا فيما يتصل بمختلف التجارب والدراسات العلمية الهادفة إلى معالجة مرضٍ ما أو بغرض تحسين حياة الفرد الإنساني في مختلف مراحل نموه وحتى قبل تكونه جنيناً أو في تجريب نوع معين من الدواء قبل إثبات فعاليته وتسويقه.

خالد عبد الوهاب: إذا نظرنا إلى البويطيقا من زاويتي جدل الدين والعلم، وجدل الفلسفة والعلم، فإننا نلاحظ تدخل رجال الدين في هذا الميدان بمبرر السعي لوضع الخطوط الحمراء للبحوث العلمية الطبية، ومنعها من انتهاك كرامة الإنسان، فما الذي يبرر تدخل رجال الفلسفة في هذا الحقل العلمي؟

الدكتور محمد جديدي: موضوع البويطيقا لا يهم الفقيه فحسب، ولا الفلاسفة فقط، وإنما هو فرع تتعاون فيه جهود مجموعة من الباحثين والمختصين، من فروع متعددة ومختلفة منها؛ القانوني والاقتصادي والفيلسوف والفقيه والطبيب والبيولوجي، وهي على شاكلة ما هو موجود في بعض الهيئات والمجالس العالمية، مثل ''المجلس الدولي للبويطيقا''.

خالد عبد الوهاب: في نظركم، هل يمكن أن تكون كلمة لرجال الفكر والفلسفة في تهذيب البحوث العلمية الطبية، وكيف يمكن أخلقة هذا الفضاء المعرفي في ظل تنامي جموح المتخصصين في هذه المسائل إلى إجراء المزيد من الأبحاث فيها؟

الدكتور محمد جديدي:إذا كان التطور الجاري في البيولوجيا والطب قد أفرز -وما زال- حالات جديدة خاصة -قد تبدو استثنائية- لا تتصف بالعموم الذي تنطبق عليه قواعد الأخلاق وضوابطها، فمن الواجب على البويطيقا أن تلتفت إلى مثل هذه القضايا، وتساهم بالتفكير حولها على أكثر من صعيد؛ أخلاقي، جمالي، اجتماعي. غير أن ما ينبغي التنبيه إليه، ومن ثمة تفادي الوقوع في مزالق وأخطاء العلميين، هو أنه لا ينبغي أن يقع الفيلسوف والأخلاقي ورجل الدين والمشرع في فخ الباحثين الذين لديهم نهم علمي برفع الحواجز والمحظورات عن جزء مهم متعلق بالتجارب عن الإنسان، ويريدون من وراء إشراك فرع البويطيقا توريط الأخلاقيين وتحميلهم جزءاً من مسؤولية أبحاثهم ونتائجها. مثلما أنه لا ينبغي أن يشعر البويطيقي أنه يلعب دور القاضي أو القسيس الجديد الذي يوقع صلاحية البحث ويباركها، فهذا دور مرفوض.

خالد عبد الوهاب: هل تعتقدون أنه يجب توقيف التجارب العلمية في هذا الميدان للحفاظ على الكرامة البشرية وما تقتضيه من مبادئ وقيم إنسانية؟

الدكتور محمد جديدي:دخلت التجارب العلمية مرحلة حاسمة، وهي تعد بالكثير في مجال مكافحة الأمراض المستعصية، من خلال التحكم في الهندسة الوراثية وحل شفرة الجينوم ومن ثمة استنساخ -مثلاً - خلايا تعوض الخلايا المصابة في حالات مرضية، وهو ما يعرف بـ''الاستنساخ العلاجي''، ولا نتصور أن هناك ما يمس بكرامة الشخصية الإنسانية، ويكون مضمونه غير أخلاقي إذا كانت هذه التجارب تصب في مصلحة الإنسان؛ فالأخلاق تعني فيما تعنيه خدمة الفرد البشري ونموه ومنفعته بالدرجة الأولى.

خالد عبد الوهاب: ما هي في نظركم إسهامات الفلسفة التطبيقية في المجالس العلمية والأخلاقية، كمجالس أخلاقيات الطب والمشرعين القانونيين، في ميادين كنقل الأعضاء والاستنساخ والموت الرحيم وغيرها؟

الدكتور محمد جديدي: مما لا شك فيه، أن الأخلاقيات الطبية والحياتية بشكل أوسع تهم أكثر من تخصص أو هيئة أو مؤسسة، ولذا فهي بحاجة إلى مساهمة أطراف عديدة، تبدأ من المختص في مجال البيولوجيا والطب والإيكولوجيا، إلى علماء الإنسانيات والفلاسفة ورجال الدين والقانونيين والسياسيين، لأن التعامل مع الظاهرة البيولوجية يصبح حساساً ومثيراً للمخاوف، وقلقاً من نتائج تطبيق تقنية جديدة أو أسلوب جديد في العلاج أو جواز حالة إيتانازيا (الموت الرحيم) أو إجهاض أو أية مسألة أخرى، يرى فيها الطبيب أو الباحث المختص مصلحة أو راحة للكائن.

لكن من جهة أخرى، هذا الباحث يسعى إلى شبه إجماع يبعد به شبح تحمل الخطأ، ومن ثمة فهو بإشراكه البويطيقي، إنما يريد توسيع مجال التشاور والنقاش حول مسائل لا تمس مباشرة عمله العلمي كباحث بيولوجي أو طبيب مختص، لكنها تمس بالدرجة الأولى الفرد البشري في ذاته وأسرته وجماعته وقوانين الدولة التي يحيا فيها والديانة التي هو عليها. إنها منظومته الفكرية والعقدية التي تصبح ميداناً للنقاش، وليست فقط مسألة نقل عضوٍ من جسم حي أو ميت إلى جسم آخر.

خالد عبد الوهاب: يعتقد بعض المشتغلين في حقل الفلسفة التطبيقية بأن مشكلات البويطيقا ستصبح من أولويات قضايا الفلسفة، وستصير إحدى أبرز اهتماماتها خلال العقدين القادمين من الألفية الثالثة، فهل تشاطرونهم هذا الرأي؟

الدكتور محمد جديدي:ذلك في الحقيقة هو رأيي وقناعتي الشخصية، وأنا أدعو المشتغلين في حقل الفلسفة إلى الاعتناء أكثر بالبويطيقا، لأنها ستكون موضوع الفلسفة بامتياز في المستقبل إلى جانب البيئة والجماليات. إنها الرهان الذي يتوجب على دارسي الفلسفة إدراكه والوعي به، كما يتوجب على القائمين على أقسام الفلسفة عندنا إدراج فرع البويطيقا ضمن دراسات الفلسفة في التدرج وما بعد التدرج.

خالد عبد الوهاب: في مقابل ميل الفلسفة المعاصرة إلى قضايا البويطيقا، يتحاشى بعض المشتغلين بالفلسفة هذه المواضيع بحجة بعدها عن قضايا التأمل والتفلسف المعروفة ذات الطرح الميتافيزيقي، ما رأيكم؟

الدكتور محمد جديدي:الفلسفة اليوم هي فلسفة واقع الحياة بكل تفاصيلها ودقائقها، بما في ذلك معاناة الإنسان بجميع أشكالها، ومنها بوجه خاص صحته الجسدية والسيكولوجية، ليس صحيحاً أن البويطيقا منفصلة عن قضايا الفلسفة النظرية والأنطولوجية، حتى وإن بدا ذلك في الظاهر. إن الذين يرفضون البحث البويطيقي، ظنّاً منهم أنه ناتج ثانوي للبحث العلمي في الطب والبيولوجيا، مخطئون، لأن الفلسفة لا تقتات فقط، وهذه المسألة لم تحظَ بعناية فلسفية مهمة فلعلها، تكون كذلك من منظور بويطيقي وإستيطيقي.